تمهيد
إن واقعا بشريا يعيش تحديات ورهانات، في الآن نفسه، على جميع المستويات والأصعدة، معرفيا وقيميا وعلى مستوى مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية أيضا، بل وعلى مستوى مجالات الحياة كلها، لا يمكن أن نحسن تدبير شأنه والنهوض به إلا إذا سادت قيم الحرية والحق والعدالة والديمقراطية على الصعيد السياسي الاجتماعي، ثم قيم الحوار والتسامح والمحبة على الصعيد الأخلاقي الفردي، وهو الأمر الذي يمكنه أن يساعد على تحقيق الخير الأسمى المتمثل في تنمية البلد وازدهاره. غير أن الإقتناع بوجود أزمة حقيقية تتخبط فيها المدرسة المغربية لهو سبب كاف لتدشين مسلسل من الإصلاحات في المنظومة التربوية ككل، وهو ما جعل "البنك الدولي" يعطي تقريرا أسودا مخيبا للآمال، وبالتالي فإن الحديث عن الإصلاح هو بالأساس حديث عن رهان الاستجابة لحاجات المجتمع ومتطلباته، فعندما لا تكون المدرسة بمنتوجاتها المعرفية والقيمية والمهاراتية عند حسن ظن المجتمع وانتظاراته، أي حينما تعجز المدرسة على تلبية أغراض المجتمع وأهداف أفراده، وعلى رأسها الترقي الاجتماعي، حينئذ تشتد الأزمة وتستفحل، وهو نفسه ما يلح عليه "الميثاق الوطني" في توجهاته على أن المدرسة تمثل محركا حقيقيا للتقدم الاجتماعي وعامل من عوامل التنمية البشرية، كما أنها مجالا حقيقيا لترسيخ مجموعة من القيم من مواطنة وتسامح وسلوك مدني وقيم حقوق الانسان والحوار...لكن واقع الممارسة يثبت بالملموس عكس هذه التنظيرات ما يجعل العلاقة بين واقع المدرسة ورهانات المجتمع أو قل واقع المدرسة ورهانات التنظيرات الإصلاحية موضع تساؤل، فبأي معنى إذن نتحدث عن اللاتطابق بين المدرسة والمجتمع أو أزمة تنظير/تخطيط العلاقة بين المدرسة والمجتمع؟
1 - خطاب المدرسة
إذا كانت المدرسة المغربية لعبت دورا هاما بعد الاستقلال في تحقيق التنافس والترقية الاجتماعية بالإضافة إلى مجموعة من المطالب الأخرى التي رفعت حينئذ كالمغربة والتوحيد والتعريب والتعميم، فإنها اليوم وفي الواقع قد برهنت على فشلها، وذلك بعد أن بدأت تفقد مصداقيتها في المجتمع باعتبارها وسطا للاندماج الاجتماعي، إذ أضحى النظام التعليمي اليوم مجالا لإهدار ثروات المجتمع المادية وطاقاته البشرية، الأمر الذي ترتب عنه تدهور خطير لصورة المدرسة بأسلاكها المختلفة في الوعي الجمعي المغربي اليوم، بحيث لم يعد ينظر إليها كوسيلة للتكوين النافع والترقي الاجتماعي والمهني، وإنما باعتبارها آلية لتخريج جيش من العاطلين الشباب الذين غالبا ما يخيم عليهم جو من الإحباط والبؤس، نفسيا واجتماعيا، يصل في بعض الأحيان إلى مآلات عادمة للحياة.
إن هذا الوضع هو ما يجعل المدرسة المغربية تعيش حالة أزمة، أي وضعا مضادا لما وجدت من أجله، ولعل السلوكات المنتشرة في المدارس اليوم المضادة لمعنى التربية والتكوين مثل، المخدرات، الغش والعنف... لخير قرين على فشل المدرسة المغربية ذات الرهان القيمي، طالما أن محور القيم هو مقوم الموجود الانساني العاقل وبفقدانه يفقد الإنسان قيمته.
2 - خطاب المجتمع
إن ذيوع وشيوع سلوكيات متوارثة ذات طابع تقليداني كالانتهازية والوصولية ... لكفيل بأن تعوق مسيرة المجتمع وتقدمه إلى مرحة المدنية التي تتخذ من قيم الحرية والديمقراطية والعدالة.. مرتكزا لها بدل قيم العشيرة والقبيلة، ولا شك أن هذا الوضع له أثره على المدرسة والمجال التربوي عامة، وكما فقد المواطن الثقة في المؤسسة التربوية(وليس هذا إلا جزء من فقدانه الثقة في المؤسسة العمومية بشكل عام) فقد فقدها أيضا في المؤسسة السياسية، لأن الأمر يتعلق ببنية نسقية، إذا صلحت صلح النسق، وإذا فسدت فهو دليل فساد النسق بكامله.
وفي الحقيقة، إن هذا الوضع يجعلنا نحتاط من الحكم على مجتمع كهذا والقول بحداثته، اللهم على مستوى الشكل، أما مضمونا فلا ضير إن قلنا أنه لازال في فترة ما قبل الدولة، أي مرحلة العشيرة والقبيلة، إذ لا يزال يشتغل بآليات عتيقة تزكي هذا القول، كالزبونية والمحسوبية والرشوة والانتهازية، وتقديم المصلحة الخاصة على حساب الاستحقاق والكفاءة التي فيها مصلحة للشعب والوطن أجمع، بينما من ناحية حقوق البشر فيكفي أن تقترب من "القبة المباركة" حتى ترى ما ترى من حقوق مادية توزع بدون قيد أو شرط.
إن مجتمعا يتنفس هواء هذه الأجواء لبعيد كل البعد عن بناء ثقافة سياسية جديدة، أو ما يسمى بالعهد الجديد، يتكون في إطارها تربويا وسياسيا مواطن عضوي وفعال، منخرط في اهتمامات مجتمعه، بل إن هذه الأجواء تعمل، على العكس من ذلك، على بروز وتطور ثقافة مغايرة تكرس العنف والانحطاط السلوكي والأخلاقي على جميع المستويات، ولهذا السبب فلا مجال للحديث عن مجتمع مزدهر إلا من خلال مدرسة متطورة وبَناءة، لاسيما وأن المجتمع بكل مكوناته يمر عبرها، فهي الباب الأول والأخير للمرور من عالم التخلف إلى عالم التقدم.
3 - إصلاح المجتمع رهين بإصلاح المدرسة
إن هذه العلاقة الجدلية بين المدرسة والمجتمع توحي منذ البداية إلى أن أي عمل أو تخطيط يكون اهتمامه مقتصرا على واحد من طرفي المعادلة هاته سيبوء بالفشل لا محالة، وعليه فإن إصلاح المجتمع والذهاب به بعيدا في مسيرة التنمية المأمولة يجب أن يمر من خلال إصلاح بوصلته، التي هي المدرسة، وذلك من خلال تزويد المتعلم، أي مواطن المستقبل، بمجموعة من الكفايات والمهارات، بل والمعارف العلمية والتكنولوجية، من أجل الانخراط في التنمية الداخلية والخارجية، الوطنية والدولية، مع الحرص على إكسابه قيم إيجابية تجعل من قبول الآخر والاعتراف به كاختلاف ومغايرة غايتها ودعامتها الأساسية، بمعنى آخر لا مجال للحديث عن تنمية اجتماعية ومدرسية شاملة إلا إذا كان هناك نوع من الانسجام والتوافق مع تكوين المدرسة ومتطلبات المجتمع ورهاناته، يتوجب على المدرسة أكثر من أي وقت مضى أن تتصالح مع أبنائها، أن تتصالح مع المجتمع، وذلك من خلال معرفة الفرد أو الانسان الذي نريده في المستقبل من جهة، ومعرفة أية قيم وأي مجتمع نريده لأبنائنا، من جهة ثانية.
على أساس أن الإجابة على هذه الأسئلة تقتضي تطوير رؤية تشاركية فعالة بين كل من المدرسة والمجتمع، حتى وإن كان هناك مشكل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية عاملا رئيسيا في الشرخ الاجتماعي الذي يهدد تماسك المجتمع، أكثر من شئ آخر، فإنه يجب على المدرسة حتى في ظل هذا الوضع أن تعيد بناء الروابط الاجتماعية، وذلك عبر النهوض بمجموعة من المطالب على رأسها:
ـ مطلب الهوية الثقافية والحضارية بمعناها الإنساني الواسع
ـ مطلب التجديد المبني على الاقرار بالتنوع والاختلاف، والقائم على الترقي الاجتماعي والثقافي ونفي التفاوت بين الناس
ـ مطلب توظيف العمل البيداغوجي لتشييد مواطنة قائمة على مبد الحق والواجب والذات والآخر من أجل الصالح العام
ـ مطلب العلمية في بعديه المعرفي والاجتماعي
خاتمة
يتضح من خلال ما سبق، أن رهان المدرسة والمجتمع لا ينفصل بعضهما عن البعض، إذ أن المدرسة هي صمام أمان المجتمع، وعليه فإن التحديات التي تواجهها المدرسة لا يمكن اختزالها فيما هو بيداغوجي معرفي، بل هي تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية وقيمية أيضا، لطالما كان الأمر يتعلق بحرية المتعلم، مسؤوليته، ودوره الاجتماعي، واستدماجه لقيم كونية مثل المواطنة، وحقوق الانسان والحداثة والعقلانية والديمقراطية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل أن المعرفة لا تكتسب أهميتها وفعاليتها إلا داخل المجتمع، وفي هذا السياق يقول أندري جيوردانو " فإننا حينما نتكلم عن البعد الاجتماعي للمعرفة فنحن نعني اكتساب كفايات تسمح بالمساهمة في مشروع المدينة، أي في العمل على تحقيق ديمقراطية فعلية وعلى إبراز قيم التقدم والحداثة والتسامح"، وبالتالي فالمؤسسة التربوية لن تبق حبيسة إعادة إنتاج نفس الانتاج بتعبير بورديو، أي إعادة إنتاج نفس ثقافة المجتمع السائدة، بل ستكون مهمتها ابتكار طرق جديدة للتفاعل مع مستجدات العصر في زمن العولمة، فإلى أي حد يمكن أن يستوعب المشرع هذا الدرس ويدرك بالتالي أن الذي يخيف حقا ليس الوعي بل الجهل والمقدس منه بخاصة، هذا الذي لا يبقي ولا يذر.