هل يمكن إنضاج البحث التربوي في صفوف المعلمين على نحو يضمن انخراطهم في حل المشاكل الصفية التي تعيق أداءهم،وتحد من الجودة المرتقبة ؟
قد يبدو السؤال متقدما في ظاهره إذا عاينا الإطار الذي يتم وفقه رسم الخطة التكوينية للمعلمين. ذلك الإطار الذي يحصر أدوارهم في إدارة الفصل،و تيسير التعلمات،واللجوء إلى البدائل المتاحة (طرائق، وسائل ...) للحد من أية تعثرات أو صعوبات تكسر "القالب "المعد بإتقان لمخرجات منسجمة مع الوضع الراهن.إلا أن عالم اليوم الموسوم بالتعقد و التشابك و الاعتماد المتبادل بات يستهدف النظم التعليمية في شتى أنحاء العالم،ويضغط باتجاه إحداث تصويبات جادة في الممارسة التعليمية،وتعديل المناهج و الاستراتيجيات،وحفز الذاتية الثقافية على الاندراج في المتغير العالمي طوعا أو كرها ! وهذا المعطى يفرض حتما توسيع أدوار المدرسين،وتنمية مهاراتهم البحثية في المجال التربوي والنفسي و المهني لتمكينهم من تجاوز الصعوبات التي تعترض ممارستهم الصفية،وتطوير المؤسسات التي ينتمون إليها.
في منشور لمنظمة اليونسكو بعنوان " إعادة التفكير في التربية و التعليم-2015" تم التأكيد مجددا على أن تحقيق نمو كامل للفرد، ونموذج جديد للتربية رهينان ببقاء المعلم لاعبا أساسيا، مما يستلزم وقف نزعة تجريده من المهنية.هذه النزعة التي تتجلى في: تدفق المعلمين غير المؤهلين جراء النقص في الموارد البشرية،وتضييق استقلال المعلمين الذاتي،والفجوة بين أجور المعلمين ومهنيي باقي القطاعات.كما نص الكتيب على وقف الادعاء بإمكانية الإحلال التدريجي للتكنولوجيا الرقمية محل المعلمين،بالنظر إلى أن مهنتهم لا تزال ذات أولوية لإرشاد المسار التعلمي للصغار في ظل التوسع المعرفي الهائل.
إن التنديد بتضييق الاستقلال الذاتي للمعلمين،ينسجم حتما مع مطلب توسيع أدوارهم، لتسترد الممارسة التربوية فاعليتها وقدرتها على مجابهة التحديات.من هذا المنطلق يستمد الحديث هنا عن الأدوار البحثية للمعلم ضرورته لتطوير المدرسة من الداخل وزيادة المعرفة.
شكلت حركة الباحث-المعلم التي تزعمها لورنس ستينهاوس ببريطانيا خلال سبعينيات القرن الماضي،تطويرا لجهود كورت لوين المتعلقة بإعادة البناء الاجتماعي،ومواجهة المشكلات المتولدة عن مأساة الحرب العالمية الثانية.فقد دافع لوين عن وجهة نظر مفادها أن إحداث تغيير في ممارسات اجتماعية معينة لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إشراك علماء الاجتماع للممارسين بالفعل في المؤسسات الاجتماعية.وصمم نموذجا للبحث يتضمن خطوات حلزونية مكونة من : التخطيط ،الأداء ،تقويم نتيجة الأداء (1).أما ستينهاوس فقد عزز موقع بحوث العمل في منظومة الثقافة السائدة باعتمادها مدخلا لتطوير المناهج وتحديث الممارسة الصفية،وأصر على أن يُحتفظ للمعلمين بحقوق المشاركة فيها،لحفزهم على تحمل مسؤولية التفكر في ممارساتهم بشكل منهجي.
إن بحوث العمل أو البحوث الأدائية، ويُقصد بها كل دراسة يستعين من خلالها الممارس بأدوات بحثية لفحص أدائه الخاص، تختلف عن صيغ البحث المألوفة في المختبرات و الكليات و المعاهد، لأنها من جهة لا تلتزم بالمتطلبات المنهجية الصارمة للبحث العادي، ومن جهة أخرى فهي معنية بإيجاد حل لمشكلة قائمة بالفعل تؤثر في الأداء التعليمي داخل الفصل.
وتتجلى قيمتها في تطوير المدرس مهنيا، وتعزيز قدرته على مواجهة مشكلات الفصل باحترافية. فالمعلم الباحث كما تُعرفه غليندا بيسكس هو ملاحظ، طارح أسئلة، متعلم، ومعلم أكثر اكتمالا (1).
تتعدد نماذج إجراء بحوث العمل إلا أن الخصائص المشتركة بينها تفضي إلى تحديد أهم خطوات البحث الأدائي، والتي يمكن إجمالها كما يلي:
● بروز مشكلة أو تحد يثير القلق و الانشغال ويدفع المدرس للشروع في تصميم بحث عملي عبر طرح مبدئي للأسئلة.
● الشروع في التخطيط للبحث بإجراء مسح للأدبيات والدراسات ذات الصلة بالمشكلة، و استحضار الخبرات السابقة بالإضافة إلى تجميع قدر معين من البيانات عن طريق الملاحظة الميدانية أو حقائب التعلم أو غيرها من الاستراتيجيات المعهودة وتفسيرها.
● اتخاذ القرار بشأن الأداءات المطلوب، وصياغة أجوبة للأسئلة المطروحة وفق تصور تشاركي يُسهم فيه العاملون في المؤسسة التربوية. وهنا تظهر جلية تلك الصبغة "النسيجية " التي تميز بحوث العمل عن البحث الاحترافي الذي يرصد الظاهرة بمعزل عن عناصر ومكونات العملية التعليمية.
● رصد و تقييم التحسينات التي حدثت، وفي حال عدم حدوثها يتم تحديد التعديلات اللازمة للوصول على نتائج أفضل.
تحقق بحوث العمل إضافة نوعية حين تهتم بقضايا مشتركة بين العاملين في مؤسسة تعليمية واحدة، فتكتسي بعدا تشاركيا يتجلى في انخراط الإدارة إلى جانب هيئة التدريس لبحث سبل تجاوز مشكلة تنظيمية أو قضية ذات صلة بالمحيط السوسيو تربوي للمؤسسة.
إن تراجع اهتمام أولياء الأمور بأنشطة الحياة المدرسية، أو ارتفاع نسب الهدر المدرسي أو تدني مردودية المتعلمين في مادة دراسية معينة لهي أمثلة لما يمكن أن يوظف الممارسون خطوات البحث العملي لبلورة مخططات أداء كفيلة بحلها وتجاوزها، فهذا المدخل يكتسي صبغة عملية وجاذبية أفضل بكثير من عقد اجتماعات دورية تبقى محصلتها حبيسة الأدراج !
بيد أن السؤال الذي يفرض نفسه مجددا، وعلى نحو مؤلم، هو : هل بإمكان الوضع الراهن للمدرسة المغربية أن يستوعب رؤى ومبادرات من هذا القبيل ؟
سبق للمجلس الأعلى للتعليم أن أجاب على هذا السؤال في تشخيصه الموجع للمنظومة سنة 2008 بالقول: " إذا كان ما يُنتظر من المدرس هو أن يكون أكثر من مجرد ملقن للدروس ،أو مردد لها بوصفه مربيا، ومنشطا، وبيداغوجيا، ومدرسا متعدد الكفايات، فيحق التساؤل حول مدة التكوين الأساس للمدرسين، وحول محتوى هذا التكوين وجودته."(2)
تُطرح إذن مسألة التكوين الأساس و المستمر بوصفهما عائقا أمام أية مقاربة تعتزم تطوير الأداء ومواجهة وضعيات التعلم الصعبة و المتجددة، إلا أن بحوث العمل يمكنها، وبأسلوب فعال، أن تعزز فرص التنمية المهنية للمدرس وتثري خبراته. يقول الدكتور حمدي عطيفة:" إن عمليتي البحث و التفكير اللتين تمثلان سمتين أساسيتين من سمات بحوث العمل تسهمان في تعزيز ثقة المعلم بما يقوم بعمله. فمن شأن ممارسة بحوث العمل التأثير بإيجابية في مهارات التفكير، وفي تعزيز الإحساس بالكفاءة، وفي تدعيم الرغبة في المشاركة و التواصل، وفي تنمية الاتجاه نحو ضرورة إحداث تغييرات. كما أنه، من خلال ممارسة بحوث العمل يستطيع المعلمون أن يتعلموا أكثر عن أنفسهم وعن طلابهم وعن زملائهم، وأن يقترحوا وينفذوا أساليب أخرى أكثر فعالية في تحسين ممارساتهم اليومية وفي تطوير المناهج الدراسية و العملية التعليمية " (3).
وتشكل حساسية المدرس إزاء ممارساته اليومية داخل الفصل نقطة البداية لأي بحث عملي، فالتفكر المنتظم و الناقد يُمكنه من تشخيص جيد للمشكلة وسعي لمعالجتها. وكلما انشغل المدرس بتقييم أدائه وتجريب شيء جديد إلا واكتسى البحث العملي أهمية كبرى لما يوفره من خطوات منهجية وثيقة الصلة ببيئة التعلم. غير أن تلك الحساسية أو الانشغال يفرضان استعادة ثقة المدرس بدوره القيادي داخل المنظومة، وتعزيز مكانته داخل المجتمع.
ينضاف إلى الوضع الراهن للمدرسة المغربية جملة من الصعوبات التي تحد من فعالية البحث التربوي في صيغته المؤسسية، ولعل من أهمها : ضعف الاعتمادات المالية، وغياب إطار مؤسساتي متضمن لنصوص تشريعية واضحة الأهداف، بالإضافة إلى الافتقار لموارد بشرية مؤهلة. لكن من جهة أخرى لا يخفى على أي متتبع للإنتاجات و الأبحاث المتراكمة أن أغلبها ذو أثر ضعيف على الممارسة الصفية، لأن الباحث القادم من خلف أسوار المدرسة يجري بحثه في الغالب لتعزيز نظرية ومنحها مصداقية على أرض الواقع، في حين يهتم " المدرس الباحث " بفحص واقعه، وينطلق من بيئة التعلم التي يعمل فيها ليرصد المشكلات ويتفاعل معها لتحسين ممارسته، وبالتالي فإن هذا النموذج البحثي هو الأنسب لتقديم إجابات واقعية وعملية، و الارتقاء بالأداء التعليمي .
إن البحث حياة متجددة بما يوفره من استيفاء للنقص وتعمق في الممارسة. واستثمار المقدرة البحثية للمدرس من خلال بحوث العمل هو ترسيخ لثقافة تربوية تعترف للمدرس بدوره الآكد في تطوير المنظومة التربوية وصنع القرار .
ولله در القائل : ليست النائحة الثكلى كالمستأجرَة !
ــــــــــــــــــــــــ
1- جيزيل مارتن- كنيب : كيف تصبح معلما أفضل . السعودية 2006. ص 103
2- المجلس الأعلى للتعليم: حالة منظومة التربية و التكوين و آفاقها.ج1. 2008 .ص33
3- د. حمدي عطيفة : بحوث العمل. القاهرة 2007 .ص109