*تقديم
يشكل المدخل القيمي أحد المداخل الرئيسة المهيكلة للمنهاج الدراسي الحالي لمادتي التاريخ والجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي، بجانب المدخلين الآخرين الذين بني عليهما تجديد منهاج المادتين، وهما المدخلين البيداغوجي والتربية على الاختيار. ويمثل هذا المدخل القيمي في نفس الوقت إضافة نوعية للارتقاء بتدريسية المادتين في أفق مقاربة معايير التغطية الشمولية والتمثيلية الخاصة بمنظومة الكفايات، بالتقاطع المتكامل مع المكونات المميزة لشخصية المتعلم (معرفيا/مهاريا/قيميا)، وباستهداف معايير الجودة والتجديد والتحيين في المنتوج المقدم للناشئة المتعلمة. لكن المنظومة القيمية بحمولتها المتعددة الأبعاد المرتبطة بترسيخ قيم الهوية والمواطنة والانفتاح على المنجزات الحضارية العالمية وتقدير ميراثها، والتشبع بالحقوق والحريات وتحمل مسؤولية الواجبات، تبدو واضحة المعالم ضمن دروس مادة التاريخ، إلا أنها تأخذ أنساقا وأشكالا ومظاهر خاصة ضمن منهاج مادة الجغرافيا، بحكم الدينامية المجالية الزمانية التي تطبع تنظيم وتعديل الظواهر الجغرافية، والترابط النسقي للمكونات الإبستمولوجية والبيداغوجية والديداكتيكية المهيكلة لأسس المادة مع الأبعاد المنتظرة من قيم التربية المجالية (المرجعية الديداكتيكية للجغرافية المدرسية – مدخل المقربة بالكفايات)، وانفتاح آفاق الدراسات الجغرافية على إنتاجات العلوم الإنسانية الأخرى (الفلسفة – السوسيولوجيا – المنظومة القانونية...)، وهو ما يطرح إشكالية توظيف/ادماج جملة من المفاهيم القيمية الجديدة ضمن حقل الدراسات الجغرافية ذات المضامين المجالية كالعدالة المجالية، والعدالة الترابية، والعدالة المناخية، والعدالة البيئية... من خلال العمل على ضبط محتوياتها الدلالية، والأطر النظرية والمقارباتية التي أنتجتها، وسياقات استثمارها، وكيفية تدريسيتها ضمن دروس مادة الجغرافيا، وانتقاء الآليات الكفيلة بتدبيرها، وكيفية اكتسابها من طرف الناشئة المتعلمة والتشبع بمضمونها القيمي المجالي...
ضمن هذا السياق الاستهلالي يطرح على الباحثين والمؤطرين التربويين والأساتذة، ضرورة استحضار منظومة القيم المجالية المؤثثة لمنهاج الجغرافيا بالمرحلة التأهيلية، من أجل العمل على مقاربة استدماج معاييرها/مؤشراتها ودلالاتها لفهم كيفية تنظيم "المجال الجغرافي" في أبعاده المختلفة (من المجال المحلي إلى المجال الدولي)، استحضارا لمسار الانفتاح على أحدث الإنتاجات المقدمة من طرف الجغرافيا الجديدة، وخاصة تلك التي يمكن نعتها "بالجغرافية القيمية/الجغرافية الأخلاقية" ((géoéthique، وهو تيار جغرافي جديد يستهدف إدماج منظومة القيم المجالية/الاخلاقية ضمن المقاربات الجغرافية وطرح التساؤلات حولها ليس بمنظور فلسفي صرف ولكن بمنظور سوسيو مجالي باعتبار الجغرافيا "هي تفكير/تأمل حول التعبير المجالي الذي يأخذه الرابط الاجتماعي"[1]، أو حسب تعبير الجغرافي جيرارد هيݣوني (Gérard Hugonie) :"أصبحت الجغرافيا اليوم علما للفعل البشري ضمن المجال الأرضي، وبالتالي اندمجت تلقائيا ضمن حقل العلوم الاجتماعية"[2].
واستحضارا لأهمية البعد القيمي، عمل منهاج مادة الجغرافيا بالمرحلة التأهيلية من التعليم الثانوي على تبني منظومة القيم المجالية، والتي تم اختزالها في مفهوم محوري وأساسي، وغاية كبرى رئيسة (الهدف العام لمنهاج الجغرافيا) هو تحقيق : "التربية المجالية المسؤولية للناشئة المتعلمة، من خلال إدراكها لميكانيزمات المجال الجغرافي ودور الإنسان كفاعل فيه"[3]. إلا أن العديد من الإرغامات الإبستمولوجية والبيداغوجية والديداكتيكية قد تؤثر على الأبعاد/الأهداف العميقة لهذه التربية المجالية المسؤولة، خاصة مع تعقد وتشابك دلالات منظومة القيم المجالية، وتباين تدبير محتوياتها ضمن منهاج مادة الجغرافيا، وغياب الآليات الكفيلة بقياس مدى انعكاس مؤشراتها على سلوكيات الناشئة المتعلمة في تعاملها مع المجال الجغرافي بمتخلف مقاييسه وأبعاده.
بناء على هذا المنحى القيمي المتعلق بترسيخ أسس التربية المجالية المسؤولة، فإن جملة من المفاهيم القيمية ذات المضمون السوسيو – مجالي التي أصبحت تطرح بقوة ضمن الدراسات الجغرافية الحديثة، لعل أهمها هو مفهوم "العدالة المجالية" (la justice spatiale). فما المقصود بمفهوم العدالة المجالية؟ وما هي السياقات التي حتمت استثماره ضمن الدراسات الجغرافية الحديثة؟ وما مدى حضور هذا المفهوم القيمي – المجالي ضمن منهاج مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي؟ وما هي الآليات الممكنة من أجل التأصيل الإبستمولوجي لهذا المفهوم القيمي ضمن منهاج المادة بالتعليم الثانوي التأهيلي؟ وما هي المداخل البيداغوجية والديداكتيكية الممكنة من أجل إكساب المتعلمين مفهوم "العدالة المجالية" والتشبع به والاسترشاد به ضمن عمليات تنظيم المجال الجغرافي؟
المحور الثاني : حفريات تأصيل منظومة القيم المجالية ضمن منهاج مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي
في سياق استجلاء أسس منهاج مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي على مستوى منظومة القيم المجالية المستهدفة اكتسابها من طرف الناشئة المتعلمة، يواجه الباحث التربوي كثافة العدة الوثائقية المؤثثة/المهيكلة لبنية منهاج المادة، وبترابطاتها وغناها وتعقدها، وبتشعب وعمق مضامين ودلالات محتوى هذه المنظومة القيمية – المجالية. إن القراءة السياقية لمحتوى هذه العدة الوثائقية هدفه الأساس هو توضيح مكانة وأهمية وتراتبية مدخل التربية على منظومة القيم المجالية وموقعها ضمن منهاج مادة الجغرافيا، ودورها/مدى مساهمتها في إكساب وترسيخ الناشئة المتعلمة جملة من المبادئ والأسس التي تنبني عليها المنظومة القيمية المجالية التي بإمكانها ان تساهم في إنضاج تصورات المتعلمين حول قيم "التربية المجالية المسؤولة"، واكسابهم الاتجاهات الإيجابية والمواقف الرشيدة تجاه البيئة بأبعادها ومقاييسها المختلفة محليا ووطنيا وعالميا...
عموما يمكننا التمييز بين مستويين ضمن هذه العدة الوثائقية، من خلال طبيعة صياغتها لمنظومة القيم ومنها القيم المجالية المؤثثة لمنهاج مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي :
*العدة الوثائقية المستحضرة لمنظومة القيم بصفة عامة : تتصدر مقدمة هذه الحزمة الوثائقية ذات المضمون القيمي العام، مبادئ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مرورا بمحتوى الوثيقة الإطار، وصولا إلى مضمون الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015-2030). فإذا كان الميثاق الوطني للتربية والتكوين كإطار عام قد حدد الخطوط العريضة لمدخل التربية على القيم وسياق المراهنة عليه، ضمن القسم الأول المتعلق بالمبادئ الأساسية (المواد 1 – 19)، من خلال المرتكزات الثابتة والغايات الكبرى للمنظومة التربوية ومختلف حقوق الأفراد والجماعات[4]، فإن الوثيقة الإطار للاختيارات والتوجهات التربوية حاولت التخصيص النسبي/الجزئي لهذه القيم من خلال العمل على إحداث انسجام بين الغايات البعيدة لهذه القيم من جهة، والحاجات الشخصية للمتعلمين من جهة أخرى، محددة جملة من هذه القيم ومنها : القدرة على المساهمة الفعلية في تدبير الشأن المحلي والوطني، والتفاعل الإيجابي مع المحيط الاجتماعي على اختلاف مستوياته، احترام البيئة الطبيعية والتعامل الإيجابي مع الثقافة الشعبية والموروث الثقافي والحضاري المغربي...[5]. في حين خصصت وثيقة الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015-2030) ضمن الرافعة الثامنة عشرة تحت عنوان : "ترسيخ مجتمع المواطنة والديمقراطية والمساواة"، للتركيز على التربية على منظومة القيم وحقوق الانسان والمواطنة وفضائل السلوك المدني، باعتبارها خيارا استراتيجيا لوظيفة المدرسة المغربية من خلال عملية الأجرأة على المستويات الأربع التالية : المنهاج التربوي، البنيات التربوية والآليات المؤسساتية، ثم الفاعلين التربويين، وأخيرا علاقة المؤسسة بالمحيط[6].
*العدة الوثائقية المستحضرة لمنظومة القيم المجالية الخاصة بمنهاج مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي : احتراما للخصوصية القيمية/المجالية المميزة لمنهاج الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي، عملت مجموع العدة الوثائقية المؤثثة لمنهاج المادة على الإحاطة بمكونات هذه القيم المجالية، يتقدمها/يتصدرها منطوق الكتاب الأبيض في جزئه الخامس، وصولا إلى وثيقة التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، وانتهاء بالكتاب المدرسي لمادة الجغرافيا في صيغته التعددية...
لقد حاول واضعو الكتاب الأبيض في جزئه الخامس[7]، مقاربة منحى التدقيق والتخصيص لمضمون هذه المنظومة القيمية المجالية، من خلال التركيز على "الأهداف العامة"/الغايات الكبرى لمنهاج مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي قطب الآداب والإنسانيات، والتقاطع الحاصل بين المستويات المعرفية، والمهارية/المنهجية، ومستوى الاتجاهات من خلال "اكساب المتعلم التربية المجالية التي تمكنه من الاندماج وتبني المواقف والسلوكات الايجابية تجاه محيطه الجغرافي بمختلف أبعاده، في أفق تحقيق استقلاليته في تعامله مع المجال". وقد تمت إعادة صياغة محتوى هذا الهدف العام للمنهاج بنفس الدرجة من العمومية على مستوى الكفايات المرتبطة بالاتجاهات والتحويل، من خلال تمكين المتعلم من : "التعبير عن الاتجاهات الإيجابية تجاه المحيط، وعن وظيفية الجغرافيا في الحياة اليومية، بهدف توظيف المعارف الحديثة والمفاهيمية والأدوات المنهجية المكتسبة في وضعيات جديدة."
هذا المنطوق القيمي المجالي بصيغته العامة كما تمت صياغته ضمن محتويات الكتاب الأبيض في جزئه الخامس، تم تصريفه ضمن الهيكلة الأساس لمحتوى وثيقة التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي[8]، والكتاب المدرسي لمادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي في صيغته التعددية...
فإذا كان السياق المجتمعي وراهنية وظيفية مادة الجغرافيا قد حتما الانخراط الإيجابي ضمن هذا التوجه الجديد، من خلال العمل على التأثيث لمنظومة "القيم المجالية" في أفق ترسيخها ضمن سلوكيات الناشئة المتعلمة، باعتبار الجغرافيا منهجا للتفكير في "كيفية التنظيم المجالي"، وإذا كانت أبعاد المنظومة القيمية – المجالية تستهدف : "اكتساب المتعلمين قيم التربية المجالية المسؤولة بهدف تمكينهم من الاندماج وتبني المواقف والسلوكات الإيجابية تجاه المحيط البيئي بمختلف أبعاده"[9]، هي القطب القيمي المحوري/الغاية الكبرى لمنهاج مادة الجغرافيا بالمرحلة التأهيلية لهذه المنظومة القيمية – المجالية، فإن بقية الأبعاد القيمية – المجالية الأخرى تظل جد مرتبطة بهذا القطب القيمي الأساسي ومنها على سبيل المثال : اتخاد المواقف الإيجابية من البيئة، ثم التعامل النقدي مع أشكال استغلال المجال...
إن الملامح العامة لمنظومة القيم المجالية المراد إكسابها من طرف المتعلمين وترسيخها ضمن سلوكياتهم كما تم توثيقها ضمن هذه العدة النظرية الخاصة بمنهاج مادة الجغرافيا بالمرحلة التأهيلية (الكتاب الأبيض/ج5 – وثيقة التوجيهات التربوية والبرامج – الكتاب المدرسي للجغرافيا...)، ظلت طبيعة صياغتها ودلالات العميقة تتسم بالعمومية والضبابية والغموض وصعوبة التأويل والتداخل والتشابك، وبالتالي غياب عمليتي الضبط والتدقيق على مستوى المعايير والمؤشرات. وهو ما سيعقد من مسألة التدبير الإجرائي لعملية الترسيخ لدى الناشئة المتعلمة، في ظل غياب الآليات الوظيفية والمقاربات الواضحة لعمليات الاكتساب والترسيخ والتشبع بها وممارستها، إذا أخذنا بعين الاعتبار تعدد وتقاطع جملة المفاهيم المجالية المستعملة ضمن مناولة محتوى هذه "التربية المجالية المسؤولة" كغاية كبرى رئيسة للمنهاج الدراسي الخاص بمادة الجغرافيا، إلى حد التداخل والتنافر : "البيئة – المجال – المحيط – التعامل النقدي – المشاركة والتفاعل في التنمية المستدامة – أشكال تدبير المجال – المحافظة على الموارد...".
عموما تعتبر كراسة التوجيهات التربوية ومعها الكتاب الأبيض في جزئه الخامس، أن "التربية المجالية المسؤولة" : هي الغاية المحورية والأساسية لمنهاج المادة (الهدف العام للمنهاج)، وفي نفس الوقت تعتبرها بعدا رئيسيا مستهدفا على مستوى الاتجاهات والقيم. والتي تمثل أحد الأبعاد الثلاثة الرئيسة المنتظر تحقيقها لدى الناشئة المتعلمة من خلال تفعيل محتويات منهاج مادة الجغرافيا بالمرحلة التأهيلية من التعليم الثانوي على المستويات الثلاثة : المستوى المعرفي/المفاهيمي – المستوى المنهجي/المهاري – مستوى الاتجاهات[10]، كما توضحه الخطاطة التالية :
لقد عملت كراسة "التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بالتعليم التأهيلي" على استحضار قيم التربية المجالية وهيكلة تدرجها واشتقاقها، نزولا من مستوى الأهداف العامة/الغايات الكبرى لمنهاج مادة الجغرافيا، مرورا بالكفايات المرتبطة بالاتجاهات وترسيخ المواقف الإيجابية تجاه البيئة، ثم القدرات، وأخيرا شبكة الأهداف التعلمية الخاصة بكل وحدة (والتي تمت صياغتها وتدقيق محتوياتها بالنسبة لكل وحدة تعليمية ضمن الكتاب المدرسي حسب التقسيم الثلاثي المعرفي–المفاهيمي/المنهجي – المهاري/القيمي–المواقفي). كما اعتبرت هذه "الوثيقة التربوية" أن المدخل البيداغوجي المبني على الكفايات والقدرات وأهداف منهاج المادة، بأبعاده الفكرية والمنهجية والمهارية، يتضمن منظومة القيم المجالية[11]. مستحضرة تدرجية منظومة القيم المجالية من المستوى العام (الهدف العام)، إلى التراتبية حب توالي المستويات التعليمية الثلاثة المشكلة للتعليم الثانوي، والتي تتأثث ضمن شبكة الكفايات والقدرات انطلاقا من الجذع المشترك إلى السنة الثانية بكالوريا مختزلة شبكة الكفايات المرتبطة بالاتجاهات والمواقف الإيجابية تجاه البيئة[12].
الجدول التالي يوضح التصور والتدرج والهيكلة الذي تقدمه وثيقة التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي بالنسبة لمنظومة القيم المجالية والاتجاهات (التصور العمودي) :
أما الخطاطة التالية فهي توضح نموذجا لكيفية/طبيعة تدرج مستويات شبكة الأبعاد/الأهداف القيمية والمواقفية والاتجاهات[13] (التصور الأفقي)، من خلال الوحدة التعلمية الخاصة بالبرازيل الواردة ضمن منهاج السنة الثانية من سلك البكالوريا مسلك الآداب والإنسانيات (الوحدة 12 : البرازيل نمو اقتصادي واستمرار التفاوتات في التنمية البشرية).
معنى هذا أنه تم اختزال منظومة القيم المجالية بأبعادها المتشعبة والمعقدة ضمن هذا المنحى/المدخل البيداغوجي، بل والأكثر من هذا اعتبرت كتذييل أو كحلقة مصغرة وأخيرة ضمن شبكة الكفايات والقدرات المزمع اكتسابها من طرف المتعلمين. وهو ما جعل حتى منظور الكتاب المدرسي لمادة الجغرافيا للثانوي التأهيلي في صيغته التعددية، يحافظ ضمن هذا التدرج على شبكة الكفايات والقدرات الخاصة بالمجزوءات والمحاور، أو على صعيد شبكة أهداف التعلمات الخاصة بكل درس/وحدة تعلمية (الأهداف المعرفية – المفاهيمية//الأهداف المهارية – النهجية//الأبعاد القيمية والمواقفية). هذه التراتبية تحيلنا إلى أن منظومة القيم المجالية ما زالت بعيدة عن تأطير منهاجنا الدراسي في مادة الجغرافيا، وأننا لم نقتحم بعد الإشكالات الجغرافيا الجديدة بمنظور ورؤى جديدة، تخرج الجغرافيا من أزمة تدريسيتها الغارقة في الشكلانية المعرفية، والبعيدة كليا عن معالجة الأبعاد القيمية والمواقفية بمنظور وظيفي وعملي جديدين...
فهل يمكننا هيكلة وتصنيف وترتيب "قيم التربية المجالية"، بتعدد معاييرها وتداخل أبعادها وصعوبة اكتسابها وإدراكها والتشبع بها من طرف الناشئة المتعلمة، ضمن شبكة الكفايات والقدرات والأهداف التعلمية، كما هو الشأن بالنسبة للكفايات والقدرات والأهداف المعرفية والمفاهيمية مثلا؟ أم أننا أمام مكون قيمي يحمل أبعادا جديدة بمضامين وحمولات قيمية يصعب قياس مؤشراتها ومعاييرها ضمن سلوكيات المتعلمين، خاصة مع الغياب المطلق لنوعية الآليات المؤثثة لعملية اكتساب منظومة القيم المجالية والتشبع بها؟ وهل فعلا يتيح محتوى منهاج مادة الجغرافيا الحالي الذي تعتريه العديد من جوانب القصور وتطغى عليه الجوانب النظرية المطلقة هذا النوع من التربية المجالية للمتعلمين؟
لحل هذه الإشكالية المستعصية المتعلقة بالعلاقة بين مدخلي الكفايات والتربية على منظومة القيم، تحاول إحدى الدراسات تقديم تبرير له بقولها : "لقد تطور المنظور التربوي الذي ينتقد المدرسة السلوكية للتدريس بالأهداف لاعتماده على تجزيئ مجالات شخصية المتعلم من جهة، وتبنيه الربط بين القيم والكفايات من جهة أخرى؛ لهذا فإن التجزيئ لا يمكن أن يخدم العملية التعليمية، باعتبار أن التعلم يشكل صيرورة لاكتساب المعارف، وأن أي تعلم إنما هو استراتيجية لتنمية الذكاء والنمو المعرفي في علاقة وطيدة مع صيرورة النمو. إن العلاقة بين النمو والتعلم علاقة جدلية، إذ ينمو المتعلم، وينمي قدراته بقدر ما يتعلم، كما أنه يتعلم حسب قدراته ودرجة نموه البيولوجي النفسي – العقلي – الاجتماعي... كلها إذن متغيرات تتدخل في طبيعة الفرد وتوجيهه. ويبقى الجانب المواقفي/القيمي ذا اهمية قصوى في كافة الأنظمة التربوية لارتباطه الوثيق بغايات هذه الأنظمة... وهكذا إذن يتضح أن تنمية وتطوير الكفايات شكلا مدخلا أساسيا لمراجعة المناهج التربوية في ارتباط بكفايات التربية على القيم. وقد عملت اللجن الخاصة بوضع مناهج المواد الدراسية على بلورة كفايات وقدرات المراحل التعليمية : الابتدائية، الثانوية الإعدادية، الثانوية التأهيلية في افق أجرأة هذه الكفايات الخمس. وفي هذا الإطار تندرج ضمن منهاج مواد الاجتماعيات لسنة 2002، كفايات وقدرات مختلف هذه المراحل".[14]
وللإشارة فإن منظومة القيم تتميز بغناها وتنوع أبعادها، حيث تتقاطعها ثلاثة أبعاد أساسية وهي منظومة القيم المتعلقة بالحق، ثم منظومة القيم المتعلقة بالخير، واخيرا منظومة القيم المتعلقة بالجمال. وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان خندقة منظومة القيم المجالية ضمن أحد الأبعاد الثالثة لمنظومة القيم، حيث تتقاطع منظومة القيم المجالية مع الأبعاد الثلاثة لمنظومة القيم (على مستوى القيم المتعلق بالحق : الحق في التنمية المتوازنة/على مستوى القيم المتعلقة بالخير : التوزيع السوسيو مجالي المنصف للخيرات/ على مستوى القيم المتعلق بالجمال : جمالية التنظيم المجالي للتراب الوطني...)...
وإذا كان هذا المنظور التربوي – القيمي المتعلق بتشخيص الأهداف العامة لمادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي، كما تمت هيكلة اختزاله ضمن بنية المنهاج الرسمي لمادة الجغرافيا يخذ "طابعا أفقيا"، فإن الدراسات الأكاديمية تقدم "طرحا عموديا" لوضعية المنظومة القيمية ضمن النسق العام للمجال[15]، ولكيفية ترابطاتها مع بقة المنظومات المشكلة للنسق المكاني و المجالي (المنظومة الطبيعية – المنظومة البشرية – المنظومة الاقتصادية – المنظومة الثقافية...)
وفي ختام معالجة هذا المحور الأول لا بد من الوقوف عند مفهوم التربية المجالية المسؤولة، فما المقصود بمفهوم "التربية المجالية المسؤولة"؟ وما هي مكوناتها؟ وما هي الآليات الكفيلة بإكساب المتعلمين قيم هذه التربية المجالية المسؤولة؟ وما مدى حضور هذا المفهوم ضمن منهاج مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي؟ وحدود انعكاساته على تعديل قيم وسلوكيات الناشئة المتعلمة تجاه المجال بصفة عامة؟ وما هي علاقة التربية المجالية المسؤولة كغاية كبرى لمنهاج المادة/الهدف العام، بالبعد القيمي الجديد لمفهوم "العدالة المجالية" كقيمة سوسيو مجالية؟ هل يمكننا اعتبارها "كفاية قيمية"/خبرة، أو قدرة أو هدف تعلمي؟ وهل تستحضر المنظومة القيمية – المجالية عموما "عدالة التنظيم المجالي" في أبعاده ودلالاته؟ وما هي الآليات الكفيلة بتدريب الناشئة المتعلمة على الاندماج وتبني المواقف والسلوكات الإيجابية تجاه المحيط الجغرافي بمختلف أبعاده؟ وما هي المداخل البيداغوجية الممكنة لإكساب الناشئة المتعلمة ثقافة التعامل النقدي مع تنوع أشكال استغلال الإنسان للمجال؟ وما هي الأدوات العملية التي ستساعد هذه الناشئة على تقدير جهود المجتمع المدني في الحفاظ على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة؟
يقدم الدكتور "امحمد زكور" تعريفا مركزا وشاملا لمفهوم التربية المجالية : "التربية المجالية هي بمثابة منظومة من المبادئ والاجراءات المنهجية غايتها تقليص أو ترشيد الكلفة الذهنية المبذولة من لدن المتعلم للارتقاء بثقافته المجالية فكرا وخبرة. اعتبارا لقدرات المتعلم وحاجياته واعتمادا على بنية العدة التربوية المواتية لتلك القدرات والحاجيات، يتجلى ترشيد الكلفة الذهنية المذكورة في أفقين متكاملين ومتناغمين :
*الأفق الأول : يقتضي أن تعالج قضايا مجالية واردة ضمن وحدة تعليمية – تعلمية إلى أن تصبح على درجة من الشفافية تجعلها بديهية بالنسبة للمتعلم.
* الأفق الثاني : يقتضي أن تعالج قضايا جغرافية واردة ضمن وحدة تعليمية – تعلمية وفق هندسة بيداغوجية توفر فرص إشراك المتعلم في بناء ثقافته المجالية."[16]
وبجانب هذا يعتبر الدكتور "امحمد زكور" أن أساس "التربية المجالية" يرتكز على المكونات الخمس للفكر الجغرافي : ميدان التخصص/المفاهيم المهيكلة للخطاب الجغرافي/ النهج الجغرافي/وسائل التعبير/والانتاجات الجغرافية...[17]
[1] - Bernard Bret, 2016, « Découvrir la géoéthique à travers le territoire brésilien : justice et injustice spatiale», www.les cafés Géo. net.
[2] - Hugonie Gérard, 2007, «la géographie, de l’étude des lieux à celle de l’action des hommes sur la terre» éducation et formation, n°76.
[3] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، 2007، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مطبعة حسان، الرباط، ص : 5.
[4] - المملكة المغربية، اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين،1999، الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص ص : 8 - 13.
[5] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، 2002، الكتاب الأبيض ج1، لجان مراجعة المناهج التربوية المغربية، الوثيقة الإطار للاختيارات والتوجهات التربوية، ص ص : 11– 12.
[6] - المملكة المغربية، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، رؤية استراتيجية للإصلاح (2015-2030)، منشورات المجلس الأعلى للتعليم، ص ص : 55 - 56.
[7] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، 2002، لجان مراجعة المناهج التربوية للتعليم الابتدائي والثانوي الاعدادي والتأهيلي، الكتاب الأبيض ج5 المناهج التربوية لقطب الآداب والإنسانيات، ص ص : 251 – 254.
[8] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، 2007، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، الرباط، ص ص 5 – 14.
[9] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، 2007، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مرجع سابق، ص 11.
[10] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، 2007، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مرجع سابق، ص 11.
[11] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، 2007، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مرجع سابق، ص 11 – 14.
[12] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، 2007، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مرجع سابق ،ص 13 – 14.
[13] - المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مديرية المناهج، 2007، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مرجع سابق ،ص ص : 11 – 14 + كتاب منار الجغرافيا للسنة الثانية من سلك الباكالوريا، مسالك الآداب والانسانيات... ص : 184.
[14] - جماعة من المفتشين التربويين (تنسيق قادري محمد عز الدين)، 2007، الأسس الإبستمولوجية والمنهجية والديداكتيكية لتريس الاجتماعيات بالسلك الثانوي التأهيلي-الجذع المشترك نموذجا، الطبعة الأولى، منشورات TOP EDITION، ص ص : 29-30-31
[15] - محمد بلقيه، 2002، الجغرافيا القول عنها والقول فيها – المقومات الإبستيمولوجية، الطبعة الأولى، دار نشر المعرفة، ص : 408,
[16] - وزارة التربية الوطنية، الوحدة المركزية لتكوين الأطر، الجامعة التربوية لفائدة الاساتذة الباحثين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، الديداكتيك من منظور العلوم الاجتماعية التربية المجالية نموذجا، امحمد زكور، ص : 107
[17] - وزارة التربية الوطنية، الوحدة المركزية لتكوين الأطر، الجامعة التربوية لفائدة الاساتذة الباحثين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، الديداكتيك من منظور العلوم الاجتماعية التربية المجالية نموذجا، امحمد زكور، ص ص : 109 - 110.