لماذا يستمر هذا العبث بالمدرسة؟ هل نسير إلى الهاوية بتعبير الفيلسوف الفرنسي إدغار موران؟ ما الحل؟ وكيف؟ ومتى؟ وكم؟ ولماذا يجب التدارك الآن وليس غدا؟ أليس من حق المغاربة أن يعيشوا في وطن حر حداثي قوي جميل مبدع يتساوى فيه الجميع، ويسعد فيه الجميع حقيقة لا مجازا؟ أما آن للوطن أن يتأصل ويتكلم لغته؟
معلوم أن الأزمة التعليمية في المغرب لم تعد مجرد أزمة عادية عابرة، لقد استفحلت وتورمت لتصير طاعونا قاتلا. يشهد بذلك الجميع، الخبير العليم والجاهل الأمي، في الداخل والخارج، بالدراسات والتقارير والأرقام . الكل يندب حال المغرب في هذا القطاع الحيوي. لقد بلغ السيل الزبى، ونسير إلى الهاوية بخطى راسخة فيما يبدو. هذا ما يفصح عنه واقع الحال بدون مجاملة تحاول تغطية الشمس بالغربال. فلا تعويذات وتمائم السياسة قادرة على إشفاء بأوصاله الأسقام، ولا أراجيف التوهيم قادر على تسكين آلام شعب وإسكات أنينه، ولا مساحيق البلاغة تُواري إفلاس المنظومة بالتلطيف والمدح والمجاز والتورية، فقد نزع الغطاء عن سوءاتنا في القطاع، وأسفرت عن مجتمع يخبط خبط عشواء.
منذ الاستقلال إلى الآن، نفس المسلسل، بنفس الحلقات، كل حلقة فاشلة تفضي إلى حلقة فاشلة. من فشل إلى إصلاح فاشل، إلى فشل الإصلاح الفاشل، إلى إصلاح فشل الإصلاح الفاشل، وهكذا تتكوثر حلقات الفشل، دونما تحمل أدنى قدر من المسؤولية. فلمصلحة من هذا العبث بالزمن والتاريخ والإنسان والوطن؟ ومن المسؤول؟ وهل المغرب عقيم إلى درجة عدم وجود رجالات وعقول وخبرات وطنية قادرة على الخروج بالمنظومة التعليمية من هذا المسلسل العبثي؟ أليس بمكن المغاربة بلورة تصور وطني علمي واقعي حول إصلاح حقيقي يجيب عن أسئلة حقيقية؟ أين الخلل؟ أية مدرسة نريد؟ أي إنسان نريد؟ أي وطن نريد؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن؟ وبأي ثمن؟ وبأية لغة؟
في هذا السياق، سياق مناقشة معضلة التعليم بالمغرب في أفق إيجاد مخرج منها، وبعد فشل تنزيل ما سمي بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، والذي تجلت في بعض بنوده المتعلقة بالتمويل نية الدولة السير في اتجاه الخوصصة في أفق التخلي التدريجي عن التعليم كخدمة عمومية، والذي انتهى إلى فشل ذريع، كما وقف على ذلك التقرير التحليلي (التقويمي) الصادر 2008. وبعد فشل ما سمي بالبرنامج الاستعجالي 2009/2012، والذي تم فيه هدر أموال طائلة دون مساءلة، قامت الجهات المسؤولة ببلورة تصور لإنقاذ ما يمكن إنقاذه تحت مسمى الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2015/2030، ويظهر بناء على بعض المؤشرات أن مآلها لن يكون أفضل من مآلات الخطط السابقة عليها، لاعتبارات تتعلق بعدم توفير إمكانيات النجاح، سواء على مستوى البنيات التحية، أو الموارد البشرية والمالية، أو على مستوى نسبة نجاح تنزيل الأولويات حتى الآن. لقد شارفنا نهاية السنة الرابعة على بداية تنفيذ الخطة بأزمة حادة في قطاع التعليم خاصة على مستوى الموارد البشرية، بسبب ملف التعاقد وسياسة العناد وصم الآذان حيال مطالب الشغيلة التعليمية بجميع فئاتها، وبسبب الاستهتار في التعامل مع هدر الزمن المدرسي، وتدني المستوى والمردودية علميا ومعرفيا وقيميا، وتفشي واستفحال ظاهرتي الغش والعنف، وضعف الحكامة، وما إلى ذلك...
وفي سياق تنزيل هذه الخطة تمت بلورة القانون الإطار 51.17 من قبل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وذلك في إطار الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2015-2030، وهو القانون الذي سيشكل الإطار العام الذي سيحكم القوانين والقرارات والإجراءات المتعلقة بالتعليم كما تسجل ذلك ديباجته، والذي يسير في نفس توجه الدولة نحو تسليع التعليم، وبيع جزء من المدرسة العمومية على الأقل، والتخلي عن هذه الخدمة باعتبارها حقا لجميع المواطنين على قدم المساواة في تناقض مع الدستور الذي ينص على ضمان الحق في "الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة" (الفصل 31) ، وضمان تكافؤ الفرص بين جميع المغاربة (تصدير الدستور).
ويهمنا في هذا المقال مناقشة أحد البنود الملغزة الي تضمنها مشروع القانون الإطار غير المجمع عليه من قبل كل الأطراف، لاعتبارات متعددة ليس هذا مقام إثارتها، والذي تعذر التصويت عليه في البرلمان مؤخرا، بند يقضي باعتماد اللغات الأجنبية في تدريس بعض المواد، والذي أثار لغطا كبيرا في الساحة الوطنية، بين مؤيد متحمس له ومعارض متشكك فيه، ولكل دوافعه وحساباته الإيديولوجية والسياسية، والبعيدة غالبا عن الاعتبارات العلمية الموضوعية. وهو البند الوارد في الديباجة كرافعة تحت مسمى "اعتماد التعددية والتناوب اللغوي"، والذي مقتضاه بحسب شرحه بالباب الأول "أحكام عامة" ما يلي: "مقاربة بيداغوجية وخيار تربوي يستثمر في التعليم المزدوج أو المتعدد اللغات، بهدف تنويع لغات التدريس، وذلك بتعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد باللغات الأجنبية، قصد تحسين التحصيل فيها". والذي يجد تفصيلاته في المادتين 31 و 32، ومن بنوده:
- تمكين المتعلم من إتقان اللغتين الرسميتين واللغات الأجنبية، ولا سيما في التخصصات العلمية والتقنية، مع مراعاة مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص؛
- اعتماد اللغة العربية لغة أساسية للتدريس، وتطوير وضع اللغة الأمازيغية في المدرسة ضمن إطار عمل وطني واضح ومتناغم مع أحكام الدستور، باعتبارها لغة رسمية للدولة، ورصيدا مشتركا لكل المغاربة بدون استثناء؛
- إرساء تعددية لغوية بكيفية تدريجية ومتوازنة تهدف إلى جعل المتعلم الحاصل على البكالوريا متقنا للغة العربية، قادرا على التواصل بالأمازيغية، ومتمكنا من لغتين أجنبيتين على الأقل؛
- إعمال مبدأ التناوب اللغوي من خلال تدريس بعض المواد، ولا سيما العلمية والتقنية منها أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أو لغات أجنبية.
- تنويع الخيارات اللغوية في المسالك والتخصصات والتكوينات والبحث على صعيد التعليم العالي، وفتح مسارات لمتابعة الدراسة باللغات العربية والفرنسية والأنجليزية والإسبانية في إطار استقلالية الجامعات، وحاجاتها في مجال التكوين والبحث، حسب الإمكانيات المتاحة".
إن الذي يهمنا في هذا المقام ليس الوقوف عند هذه البنود لمناقشة خلفيتها وطبيعتها وتفصيلاتها المحتملة، وإنما مناقشة القضية الإشكال في بعدها الإجمالي. وفي سياق ذلك لا بد أن نشير إلى أن سؤال اللغة في شقه المتعلق بلغات التدريس، والذي يشكل موضوع جدال وأخذ ورد بين الأطراف السياسية غالبا، ليس سؤالا جديدا، بل سؤال جديد قديم، تعود جذوره إلى المرحلة التي تلت الاستقلال مباشرة، فقد تم تقديم مشروع لتعريب الرياضيات والفيزياء سنة 1962 من قبل بعض الأطراف وتم رفضه، واستمرت المنظومة التعليمية باعتماد اللغة الفرنسية في تدريس جل المواد إلى أن تم اتخاذ قرار التعريب خلال الثمانينات (1984) تحت شعار استكمال الاستقلال. وقد أثار ذلك في حينه لغطا كبيرا بين من يرون ضرورة مغربة التعليم، وتوطين العلوم باللغة الوطنية الرسمية الوحيدة آنذاك وهي العربية، ومن يرون أن التعريب قرار خاطئ سيؤدي إلى تخريب المدرسة، وانتشرت عند الكثير العبارة المشهورة "إذا عربت خربت"، والتي لا زالت تتردد إلى الآن على بعض الألسن الناقلة. وهكذا مر مسلسل التعريب بأشواط تم فيها تعريب المواد العلمية في الابتدائي والإعدادي والثانوي بشكل أساس، ولم يتم استكمال ذلك في التعليم العالي، وهو الأمر الذي خلق مشكلة كبيرة لأبناء المغاربة الذين يدرسون بالعربية إلى حين الوصول إلى البكالوريا، ليجدوا أنفسهم أمام عقبة حقيقية عند ولوج التعليم العالي، والمتمثلة في اعتماد اللغة الفرنسية عوض اللغة العربية التي درسوا بها طيلة مسارهم الدراسي، فيؤثر ذلك بشكل سلبي على تحصيلهم العلمي، ويكونون مضطرين إلى القيام بمجهودات مضاعفة للتكيف والمواكبة أو يغيرون الاتجاه. ورغم ذلك يستطيع عدد منهم تجاوز هذه العقبة والتفوق والنجاح بعد إعادة النظر في كفاياته اللغوية بما يتناسب مع السياق الجديد. لكن في كل الأحوال يؤدون من أجل ذلك ثمنا باهظا من الممكن استثماره في مضاعفة التحصيل والبحث. في مقابل ذلك استمر أبناء أولي الحظوة في تدريس أبنائهم باللغة الفرنسية، إما في مؤسسات متميزة داخل المغرب أو في الخارج، ليتوجوا بديبلومات تمكنهم من تبوؤ المسؤوليات الكبرى في المناصب الحساسة الاقتصادية والسياسية والخدماتية التي ظلت مرتبطة إلى حد بعيد بفرنسا في إطار السياسة الفرنكفونية التي لا زالت ترخي بظلالها على الكثير من القرارات في إطار التبعية، وإلا ما معنى هذا الارتباط بالفرنسية منذ الاستقلال إلى الآن؟ ولم هذا الحرص من قبل مهندسي السياسة اللغوية غير المتخصصين في المجال على اقتراف هذا الشذوذ اللغوي ما دامت جل الدول المتقدمة تستعمل لغاتها الوطنية في التدريس؟ ولأن المرجح والمقصود باللغة الأجنبية التي ستدرس بها العلوم هو اللغة الفرنسية، فلماذا الفرنسية بالضبط ما دامت هناك لغات أخرى أكثر غنى وتفوقا علميا ومعرفيا وتقنيا وثقافيا؟ وهل العربية قاصرة، بطبيعتها، عن تدريس العلوم واحتضانها والإبداع بها على غرار كل لغات العالم؟ وهل يستند قرار تدريس العلوم بالفرنسية إلى رؤية موضوعية علمية مستقبلية متبصرة حكيمة؟
تفاعلا مع هذه الأسئلة نرى أنه يلزم تحري الموضوعية، والنأي عن التحليلات والأحكام الانطباعية المسبقة، والمستندة إلى خلفيات إيديولويجية أو عرقية أو تاريخية أو سياسية غير موضوعية، والمستندة إلى عدد من الشبهات التي لا تصمد عند عرضها على النظر العقلي المنضبط للحقائق والاعتبارات العلمية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية من جهة، وللمنطق السليم من جهة أخرى. وفي سياق النظر في هذه القضية ومناقشتها، واعتبارا منا أن اللغة الأساسية المقصودة في إعمال مبدأ التناوب اللغوي هي الفرنسية، نقول ما يلي:
- أثبتت الدراسات اللسانية الحديثة، (ومنها الدراسة التي قام بها إدوارد سابير الأنتربولوجي اللساني الأمريكي على لغات بعض القبائل الهندية بأمريكا الشمالية)، ألا تفاضل بين اللغات البشرية من حيث الوظيفة الأساسية المتمثلة في التواصل المنبني على التسنين والإرسال وفك التسنين وفق نسق صوتي ما عند مجموعة بشرية ما. ولذلك فكل اللغات قادرة على التعبير والتواصل بنفس الدرجة. في هذا المنحى سار الفلاسفة العقلانيون (هومبولت /كانط /ديكارت)، والذين يرون أن الإنسان، كل إنسان، يولد مزودا باستعدادات قبلية لاكتساب اللغة، وهي الفكرة التي أوحت للساني الأمريكي صاحب مفهوم الإبداعية ورائد النظرية التوليدية نعام شومسكي بفكرة بإمكانية بناء نحو الكلي/عالمي. في هذا الاتجاه أيضا تحدث أب اللسانيات الحديثة فرديناند دي سوسير عندما فرق بين اللسان كنسق خاص بكل مجموعة بشرية واللغة باعتبارها ظاهرة بشرية تتجلى في القدرة على التواصل باستعمال أنسقة صوتية، والكلام باعتباره الإنجاز الفردي الخاص. وفي هذا الإطار نؤكد ألا أفضلية للغة على الأخرى إلا من حيث غناها العلمي والمعرفي والثقافي، وألا قداسة للغة من اللغات كما يزعم الجاهلون بحقيقة اللغة.
- أثبتت الدراسات التاريخية، وتمكن معاينة ذلك أيضا في الواقع، أن المغلوب الضعيف يميل غالبا إلى اعتقاد القوة والكمال في الغالب (كما عند ابن خلدون)، ولذلك فهو يميل إلى تقليده في جل مناحي الحياة. ومن جملة هذه المناحي اللغة، حيث ثابت، على سبيل المثال، ميل الأنسان الأوروبي خلال العصور الوسطى، ومن جميع البلدان، إلى تعلم اللغة العربية، والتحدث بها، والاستشهاد بأعلامها، والأخذ عنها، وحتى الافتخار بالتحدث بها كما حالنا اليوم إذا لكنا بعض العبارات بلغة أجنبية متوهمين التحضر. وبعد النهضة والاستقلال بالذات أصبحت تستعمل لغاتها الوطنية.
- أثبتت التجربة التاريخية أن اللغات البشرية قابلة للمرور من مرحلة الضعف والافتقار والانحصار والتقوقع إلى مرحلة القوة والغنى التمدد والتوسع، وذلك تبعا لحركية وفاعلية أهلها الناطقين بها. واللغة العربية واحدة من هذه اللغات، كما يشهد بذلك التاريخ في عصر بين العباس، حيث استطاعت أن تحتضن كل صنوف العلوم المنقولة من لغات أخرى، من رياضيات ومنطق وفلسفة وطب وفلك وغيرها، فضلا عن صنوف الفكر والآداب والفنون. ومنها نُقلت كثير من العلوم إلى اللغات الأوربية. وبالاطلاع على مؤلفات فقهاء الأنوار المسلمين العرب، وعلى رأسهم ابن رشد شارح أرسطو وصاحب نظرية الحقيقتين (الدينية والعقلية)، تمكن الأوربيون من بناء نهضتهم العظيمة، فيما غرقنا نحن في تكفير علمائنا ومثقفينا واضطهادهم والتضييق عليهم، وفي التناحرات المذهبية والطائفية والعرقية والسياسية، ولا نزال.
- أثبتت تجربة ترجمة العلوم الإنسانية، من فلسفة ولسانيات وعلم الاجتماع والنفس وتاريخ وجغرافيا ونقد، نجاعة ونجاحا ملحوظين في مختلف الدول المغاربية والعربية والإسلامية، كان من نتائجه بزوغ مفكرين عظام أغنوا الساحة الثقافية بالإنتاجات التي كان من الممكن أن تكون رافعة للنهضة لولا التضييق الي طوقهم، ولولا الردة الحاصلة الآن. ومعلوم أن ترجمة العلوم الإنسانية واستنباتها أصعب بكثير من ترجمة العلوم الحقة وتأصيلها باللغات الوطنية، وذلك بالنظر إلى طبيعتها التعيينية الأحادية الدلالة بالقياس إلى لغة العلوم الإنسانية المشحونة بالمعطيات النفسية والاجتماعية والثقافية المتعددة...
- الثابت من خلال ما سبق أن اللغات تتقوى بقوة أهلها وتضعف بضعفهم، وأن القول بقصور لغة وقدرة أخرى لا يصدر إلا عن جاهل بالعلاقة الانعكاسية بين قوم ولسانهم، وأن نعت اللغة بالضعف والعجز والقصور إنما هو على سبيل المجاز، وأنه في الحقيقة نعت لأهلها.
- أثبتت بعض تجارب التدريس باللغات الأجنبية فشلها الذريع، وتأكد أنها مجرد هدر للزمن الوطني. ويمكن في هذا الإطار استحضار التجربة الماليزية الحديثة التي حاولت تدريس الرياضيات والعلوم باللغة الأنجليزية، لكنها عادت إلى اللغة الوطنية الماليزية (المالوية) بعد مجرد ست سنوات، وقد اعتبر رئيس وزرائها مهاتير محمد في سياق حديثه عن ذلك في أحد المنتديات الاقتصادية الدولية أن ذاك القرار يعتبر من الأخطاء الاستراتيجية والتنازلات الكبرى التي قامت بها ماليزيا في مسيرة نهوضها. كما يمكن استحضار التجربة الفلبينة؛ فبعد 37 سنة من التعليم ثنائي اللغة عادت الفلبين إلى التدريس باللغة الوطنية عوض الأنجليزية. هذا فضلا عن أن الدول الفرنكفونية التابعة لفرنسا لم تحقق أي تقدم باعتمادها الفرنسية. وهو نفس ما أثبتته تجربة تدريس العلوم باللغة الفرنسية في الجامعات المغربية إلى حد بعيد، ومؤشرات ترتيبها دوليا برهان ذلك.
- صحيح أن الفرنسية لغة غنية معرفيا وعلميا وتقنيا، ويمكن الاستفادة من خيراتها العلمية والثقافية، في جل المجالات، إذا ما قيست بالعربية، وصحيح أن العربية ضعيفة وفقيرة إذا ما قيست بالفرنسية أو لغات أخرى متقدمة، وصحيح أيضا أن اللغة العربية الفصيحة بعيدة نسبيا عن لغة الحياة المعيشة على مستوى التداول اليومي الذي تهيمن عليه الدارجة/العامية. لكن صحيح أيضا أن الفرنسية ضعيفة وفقيرة إذا ما قيست بلغات أخرى، وعلى رأسها الأنجليزية، ولذلك كانت الدولة الفرنسية نفسها مضطرة إلى تدريس اللغة الأنجليزية لأبنائها، وكان الباحثون الفرنسيون مضطرين إلى تعلم اللغة الإنجليزية والقراءة والنشر بها في الدوريات العلمية العالمية الكبرى. وذلك دون أن تكون فرنسا مضطرة إلى استبدال لغتها الوطنية باللغة الأنجليزية في مدارسها، وتلقين العلوم بها، وذلك شأن كل الدول المحترمة ذات الاستقلال والسيادة والإرادة، (اليابان/الصين/روسيا/ألمانيا/ كوريا/اسبانيا/إيران/تركيا/ إيسلندا ذات العدد القليل جدا (34000 نسمة) / إسرائيل (كيان مستوطِن/حديث العهد/حوالي 4 ملايين نسمة/إحياء لغة ميتة)، وغير هذه الأمثلة كثير. وصحيح أيضا أن اللغة الفرنسية ليست هي لغة الاستعمال اليومي لدى جل المغاربة، وأن العربية أكثر تداولا منها وأكثر قربا من لغة الحياة اليومية إن لم تكن متماهية معها أحيانا، وقريبة أيضا من المازيغية كلغة وطنية. فمن أين تتأتى مصداقية ومعقولية دعوى نجاعة الفرنسية بالقياس إلى العربية إذن؟
- تجربة التعريب بالمغرب عليها مؤاخذات كبيرة جدا، ومنها أن القرار لم يكن متنزها عن بعض الأغراض السياسية لبعض الأطراف ربما، وأنها لم تستكمل في التعليم العالي، ولم يؤهل لها الأساتذة في العلوم، وأنها لم تنجز بالشكل اللائق والمطلوب من حيث الدراسة والإنجاز والتتبع والمواكبة والتقويم والتدخل والتنزيل، وليس في علمنا قيام دراسة أو تقويم علمي موضوعي لهذه التجربة لبيان أسباب فشلها الحقيقية، ومن هي مختلف الأطراف المسؤولة عنها، وبالتالي فإن دعوى فشلها دعوى باطلة ومتهافتة، فمعقولية الحكم على التجربة تقتضي توفير الشروط الأساسية لنجاحها، وعدم عرقلتها، فضلا عن ضرورة استكمالها.
- الثابت أن مردودية البحث العلمي ضعيفة جدا في الجامعات والمعاهد، وهناك دعوى يطلقها بعض المسؤولين دون تحمل المسؤولية؛ وهي أن اللغة العربية قاصرة عن أن تكون لغة للبحث العلمي. وهنا يجد المرء نفسه يتساءل باستغراب: هل هناك سياسة حقيقية للبحث العلمي؟ ما حجم الميزانية المخصصة له وما بنياته؟ وهل البحث العلمي في المغرب ينجز باللغة العربية؟ هل الأساتذة مؤهلون لذلك؟ هل عربت العلوم في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي؟ وأي مرتبة تحتلها الجامعات المغربية التي تدرس العلوم باللغة الفرنسية؟ وماذا قدم هؤلاء أنفسهم؟ ثم سؤال عن النظام الجامعي نفسه: ألا يعاني من التخبط والارتباك وعدم الاستقرار؟
- أثبتت التجربة التاريخية المعاصرة في الدول المتأثرة بالمد الفرنكفوني أن أطر النخبة الفرنكفونية المؤثرة في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لم تتأثر بالفكر الأنواري الفرنسي المنتصر للحرية والأخوة والمساواة والديمقراطية وسيادة القانون والتنافسية ومبادئ حقوق الإنسان والكرامة والعدالة الاجتماعية، وأنها لا تختلف في الجوهر عن نخب بعض التيارات العرقية العنصرية أو الدينية الرجعية أو القومية الشوفينية أو السياسية الانتهازية، وحتى هي جزء منها. وهو ما أدى إلى الفشل في قيام الدولة الوطنية المستقلة والمتماسكة والناهضة والقوية.
- أثبتت الوقائع، ويثبت الواقع الآن، أن كثيرا من الذين يدعون إلى اعتماد اللغة العربية درسوا باللغة الفرنسية، أو يدرسون أبناءهم باللغة الفرنسية أو الأنجليزية في الداخل أو الخارج، وذلك وعيا منهم ألا حظوة للغة العربية على مستوى الفرص الاقتصادية والاجتماعية، وربما السياسية أيضا، وينتج عن ذلك خطباء مرضى منفصمين لا مصداقية لهم إلا عند ذوي النزوعات العاطفية المرتبطة في عمقها بالدين كوتر حساس، وذلك ما يقوي من فرضية استعمال الورقة لأغراض سياسية بعيدة كل البعد عن الروح الوطنية والقومية، وعن التفكير في المصلحة العليا للوطن والأمة والمواطنين، وفي المستقبل.
- أثبتت بعض التجارب في تعريب العلوم في بعض البلدان نجاعتها ونجاحها، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى التجربة السورية في تدريس الطب.
- الثابت أن عدد المصطلحات العلمية الحاملة للمفاهيم العلمية الأساسية ليست كثيرة جدا، ويمكن إبقاءها كما هي في حال تعذر وجود مقابل دقيق لها، أو ترجمتها في حال الإمكانية، وأن نسبة استعمالها في التدريس ضعيفة جدا بالقياس إلى اللغة التعبيرية والإفهامية، وهي الوظائف التي تقوم بها اللغات الوطنية أفضل من اللغات الأجنبية. ولذلك فإن ما ينبغي العمل عليه هو إغناء اللغات الوطنية بالاقتراض والتعريب، وتوطين العلم والمعرفة فيها، في أفق تأصيل النهضة المجتمعية.
- الثابت أن اللغة، كمكون ثقافي، مقوم أساس، وربما جوهري، من مقومات الهوية الذاتية للمجتمعات والأفراد على السواء، والتشكيك فيها هو تشكيك في قدرة الذات نفسها، وبالتالي ترسيخ لفكرة النقص والدونية عند المحتقر للغته لدفعه إلى الاستسلام للعجز والضعف وإلى الاكتفاء بالتقليد والاتباع، وذلك ما عمل عليه الاستعمار الغربي من خلال وكلائه، ومن خلال الدراسات الاستشراقية والفنون والآداب، كما برهن على ذلك إدوارد سعيد في كتابيه "الاستشراق" و "الثقافة والامبريالية".
- الثابت أن اللغة العربية تحتل مكانة متقدمة في السوق اللغوية العالمية، باعتبار عدد الناطقين بها، وهي ثالث لغة مستعملة في العالم بعد الأنجليزية والصينية، والأولى في البحر المتوسط وفي إفريقيا، ورابع لغة على الأنترنيت سنة 2018، ولغة رسمية في الأمم المتحدة..
- الثابت أن للغة قدرة هائلة على التجميع والتكتيل؛ فما يجمع الدول الأنكلوساكسونية هو الأنجليزية، وما يجمع الدول الفرنكفونية هو الفرنسية، ولذلك فوائد سياسية واقتصادية هائلة. وبالتأكيد أن اللغة يمكن استثمارها كعامل توحيد لبناء كتل سياسية واجتماعية وأقطاب اقتصادية كبرى على المستوى الدولي. والعربية مرشحة للقيام بجزء كبير من هذا الدور الاستراتيجي، في إطار التنافسية الأممية العالمية. فإن قيل إن بعض التكتلات، كالاتحاد الأوروبي مثلا، لا تلعب فيها اللغة أي دور، وأن الأساس هو المصالح والتصورات المشتركة، قيل أنه لو انضاف إلى ذلك عامل اللغة لكان الاتحاد أقوى وأكثر تماسكا وانسجاما على المستوى الثقافي والاجتماعي فضلا عن السياسي والاقتصادي. هذا فضلا عن دورها التوحيدي والتلحيمي على المستويين الاجتماعي والثقافي. فأية حكمة في التفريط في هذا الكنز؟
- إذا كان بعض الإخوة المتعصبين للعرق المازيغي، ودفاعا عن الفرنسية ضد العربية، يستشهدون بما قاله كاتب ياسين عن الفرنسية باعتبارها غنيمة حرب، أليست العربية أولى وأحق بأن تكون كذلك، مادامت قد ازدوجت باللسان المازيغي وانصهرت معه تاريخيا وحضاريا وثقافيا، وتأثرت به وأثر فيها؟ ألا تمكننا اللغة العربية كمغاربة من الإطلاع على تاريخهم وحضارتهم وثقافتهم من خلال النصوص المكتوبة بالعربية؟ ألا تمكننا من قراءة آلاف الكتب في مختلف العلوم والآداب والفنون؟ ألا تمكننا من التواصل مع كتلة بشرية ضخمة لا تمكنهم منها ألسن أخرى في محيطهم الإقليمي، وربما الدولي؟ وهل المطالبة بطرد العربية من المغرب إلا كالمطالبة بطرد الأنجليز والبرتغال والإسبان من القارة الأمريكية؟ وهل هناك إمكانية لإعادة التاريخ إلى الوراء؟ وهل الاستعمار الفرنسي قدم إلينا الفرنسية ملفوفة في الورد والياسمين والحرية والحب والحياة في الوقت الذي جاء العرب والمسلمون بالخيل والسيف والعوسج والعبودية والموت؟ ثم، ألا يترافع هؤلاء الإخوة الكارهون للعربية عن قضيتهم، وهي قضية جميع المغاربة، وعن ثقافتهم، وهي ثقافة جميع المغاربة، وهذا حق ثابت مقدس لا يجوز أن يكون موضوعا للمزايدة، ألا يترافعون عن ذلك باللغة العربية نفسها؟ ألا تشكل لغة تداولهم اليومي بالدرجة الأولى؟ وأخيرا أليس من الحكمة التمييز بين العرب كعرق والعربية كلغة امتزجت فيها ثقافة أقوام وعناصر بشرية مختلفة مازيغية وفارسية وكردية وغيرها؟
- الثابت أن هوية الأفراد والشعوب كلما كانت منكفئة ومنحصرة، فإنها تحكم على نفسها بالموت، ولذلك بالخطاب الهُوياتي المنغلق والمتطرف عند بعض التيارات الدينية أو القومية أو العرقية ينبغي أن يكون متجاوزا لصالح خطاب ينتصر للهوية التي تتجدد وتتطور، تؤثر وتتأثر، تتقوى بكل ما هو إيجابي فيها أو في غيرها، وتتخلى عن كل ما هو سلبي فيها أو في غيرها. ولذلك يجب إعادة طرح سؤال الهوية للنقاش لإعادة النظر بها، لأنها فيما يؤكد ذلك الواقع هوية مهترئة تنخرها الأعطاب والأمراض المتعددة التجليات. ويمكن أن يشكل ذلك المدخل الأليق بالقرار اللغوي. وفي هذا الإطار لا بد من التأكيد على أن مطلب الانفتاح على اللغات الأجنبية المتقدمة والحاملة للثقافة المتنورة والعلم والمعرفة ينبغي أن يكون ضرورة استراتيجية لا نهضة بدونها.
- الثابت أن المشكل في تدريس العلوم أعمق من مجرد مشكل لغة، المشكل متعلق بسياسة تعليمية فاشلة منذ الاستقلال، وفي منظومة تعليمية فاشلة بالمؤشرات الكمية والكيفية، وفي أسلاكه كلها. المشكل يكمن في اختيارات سياسية وتنموية فاشلة. المشكل يكمن في ثقافة مجتمعية مهترئة عقيمة. المشكل يكمن في محيط إقليمي ودولي موبوء وقاهر. المشكل يكمن في عقل معطل وفاسد لصالح الخرافة والأسطورة والدجل والشعوذة واللاهوت...
- الثابت بالدستور، وهو أسمى قانون ينبغي احترامه والسهر على تطبيق مقتضياته من طرف جميع الأطراف، أن اللغتين الرسميتين للدولة المغربية هي العربية والأمازيغية، وأنه يجب حمايتهما وتنميتهما (الفصل الخامس). فما معنى الرسمية هنا إن لم تكن استعمالهما في التعليم باعتباره القلب النابض للدول والمجتمعات، وفي الصحة والإدارة والمؤسسات والشارع والاقتصاد والحياة؟ وما معنى الحماية والتنمية إن لم تكن بالاهتمام والدراسة والتطوير والإثراء والاستثمار والتمييز الإيجابي؟
- الثابت واقعيا أن اللغة الفرنسية متغلغلة في جل المرافق والمجالات الحيوية للدولة المغربية، وربما يكون من المتعذر مرحليا تجاوزها إلى غيرها، وربما تكون تكلفة ذلك باهظة معنويا وماديا، وهو الأمر الذي يقتضي المقاربة التدريجية. لكن ذلك لا يعني، بأي شكل من الأشكال أنها قدر المغاربة الأبدي.
- الثابت من خلال طبيعة نظامنا التعليمي، وأدائه، ومردوديته، في أبعادها القيمية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أن هناك غياب شبه تام لرؤية وطنية واضحة المعالم حول الدور المنوط بالمدرسة وبمنظومة التربية والتكوين، وحول الوطن الذي نريده، والإنسان الذي نريده، رغم أن الخطابات النظرية تذهب في اتجاه الحديث عن رؤية حداثية بشعارات فضفاضة، كلما ازداد منسوب فشل تحققها ازداد معه، بالاطراد، منسوب الإحباط لدى المواطنين، وتهششت الثقة بالمؤسسات والسياسات والمسؤولين. فأين منظومة التربية والتكوين، على مستوى الواقع، من صناعة الإنسان المواطن المتعلم المثقف الكريم الحر المفكر الناقد المميز المبتكر الصانع المشارك الإيجابي المتسامح المتعايش الغيور المنفتح المتنور المبدع. وهل توجّهات بعض المشرفين على شأن التعليم والتكوين والبحث العليمي تسير في هذا الاتجاه، ولا بأس من التذكير في هذا السياق بالتصريح المشؤوم لأحد الوزراء السابقين حول لا أهمية العلوم الإنسانية وتحقيرها، بينما ما فتئ المفكر الجزائري الكبير، والذي قضى عمرا بكامله في التدريس والبحث في جامعة السوربون في فرنسا باحثا في التاريخ والإنسانيات والإسلاميات، يُذكّر في كل مناسبة بأن توطين العلوم الإنسانية في الجزائر، وغيرها من الدول المغاربية والعربية والإسلايمة يمثل أحد شروط النهضة. وهل تتضمن منظومة التربية والتكوين تصورا حول دولة صناعية متقدمة، أو متطلعة إلى اللحاق بمجتمعات المعرفة التي يشكل فيها إنتاج العلوم والمعارف عملا وتجارة ومصدرا اقتصاديا مهما، وقل ذلك في غيرها من المجالات، أم أن أقصى ما نستطيع أن نتطلع إليه هو صناعة عمال خدميين لاستنزافهم من قبل الشركات الأجنبية، كما يتم استنزاف باقي الخيرات. وسؤال اللغة ليس بعيدا عن هذا، إنه على ارتباط وثيق بتأهيل العمال لاستغلال قوة عملهم بثمن بخس من قبل الشركات الأجنبية، وبصناعة السوق الاستهلاكية.
- الثابت أن هناك غياب ملحوظ للمثقفين والمتخصصين عن هذا المشهد، فباستثناء بعض الأصوات الصادحة هنا وهناك، والتي لا تشكل كتلة يمكن الالتفات إليها والاستماع لآرائها، يسجل عزوف شبه كلي عن الاهتمام بالقضية اللغوية، وغيرها من القضايا المصيرية للوطن، فيما تهيمن بعض الأصوات التي تحركها نزعات سياسية انتهازية أو عرقية عنصرية، أو وكيلة عن جهات، بعضها نعلمه، وبعضها لا نعلمه، فيما تبقى الحكمة هي الضحية لهذا الغياب اللامبرر واللامسؤول.
وبالنظر إلى كل ذلك؛ حيث اللغة العربية شأنها شأن جميع اللغات الكونية من حيث القدرة، وحيث إن اعتماد الللغة الأجنبية يتأطر ضمن اتباع المغلوب للغالب لتوهم الكمال فيه، وحيث أكدت بعض التجارب فشل التدريس بغير اللغات الوطنية، وحيث أكدت تجارب أخرى نجاعة التدريس باللغات الوطنية، وحيث أن المشكل في أهل اللغة وليس فيها، وحيث إن دعوى تدريس العلوم باللغة العربية هو السبب في ضعف المردودية دعوى باطلة علميا وواقعيا، وحيث أن الخطاب الهُوياتي المنغلق، أو الإيديولوجي العنصري، أو السياسي الانتهازي، غير مقنع ولا يمكن الاعتماد عليه، وحيث المشكل أعمق من مجرد لغة تدريس العلوم، وحيث قرار تدريس العلوم بالأجنبية غير دستوري وغير موضوعي، وحيث اللغة العربية كنز لا يمكن التفريط به لاعتبارات جيو- سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية مغاربيا وإقليميا ودوليا، وحيث كان لا بد من مراعاة الواقعية في التحليل والاقتراح، فإننا نعتبر أن قرار التدريس باللغة الأجنبية قرار متهافت تحكمه اعتبارات غير علمية وغير موضوعية وغير قانونية ولا تخدم المصلحة العليا للوطن في الحاضر والمستقبل.
وبناء عليه نقترح ما يلي:
- إعادة النظر في السياسات العمومية والتنموية عامة، والسياسة التعليمية خاصة، باعتبارها أصل المشكل، والانكباب عليها بالدراسة والتحليل العلمي الموضوعي، وبإرادة وطنية مستقلة، وعقلية مترفعة عن المزايدات السياسية والإيديولوجية والعرقية المتهافتة. فلا مصلحة يجب أن تعلو على مصلحة الوطن والمواطنين؛
- التنزيل الدستوري لرسمية اللغة العربية والأمازيغية، في جميع المرافق ومجالات الحياة؛
- بلورة سياسة لغوية حقيقية تهدف إلى النهوض باللغات الوطنية وتنميتها، وذلك من خلال تعميم التداول بها، وتمتيعها بتمييز إيجابي، وتأهيلها للقيام بالدور المنوط بها في احتضان العلوم والمعارف والتقنيات وتوطينها؛ ومن خلال ربطها بالحياة العامة بالاستعمال والتقريب والتبسيط، وإغنائها بما استجد من الكلمات والمصطلحات والتعابير التي ترتبط بحياة الناس؛
- التدريس باللغات الوطنية، وضمن ذلك تدريس العلوم بجميع صنوفها، الرياضية والطبيعة والإنسانية، وفي جميع الأسلاك، مع الاستعانة باللغات الأجنبية الممكنة. ومنها الفرنسية والأنجليزية والإسبانية؛
- تأهيل المدرسين في جميع الأسلاك للتدريس باللغات الوطنية؛
- تعزيز تعليم اللغات الأجنبية الحية، وعلى رأسها الفرنسية والأنجليزية، لضمان الانفتاح على الخيرات التي تزخر بها هذه اللغات في مختلف المجالات، والاستفادة منها واستنباتها وتأصيلها وطنيا، مع توجه تدريجي نحو تعزيز أكثر للأنجليزية لاعتبار غناها العلمي والمعرفي والتقني وحضورها الدولي بالقياس إلى غيرها؛
- دعم وتنشيط حركة الترجمة إلى اللغات الوطنية، وفق سياسة علمية ولغوية محكمة؛
- وضع خطة محكمة لذلك بالأهداف والمراحل والإمكانيات والموارد والمواكبة والتقويم والمراجعة والتدخل للتصحيح.
- تنزيل الخطة بتمثل مبادئ المواطنة والحق والواجب والحكامة الرشيدة والكفاءة والاستحقاق والتحفيز والدعم وربط المسؤولية بالمحاسبة...
وبعد؛
لا شيء مستحيل، نعم نستطيع إذا آمنا بذواتنا وقدراتنا، واستطعنا التخلص من احتقار الذات ومن عقدة الدونية، ومن النزوعات الشوفينية الضيقة. نعم نستطيع متى كانت لدينا الإرادة والعزم، وانخرطنا في العمل مسلحين بالروح الوطنية الصادقة، والوعي العميق بالماضي والحاضر والمستقبل، وبضرورة الانفتاح على الآخر والتفاعل معه، والتمكن من العلوم والمعارف ولغاتها ومناهجها واستنباتها في بيئتنا، وبالتفكير العقلاني، والالتزام والمسؤولية الفردية والجماعية، والتفاني والإخلاص والتعاون لصالح جميع المغاربة. نعم نستطيع متى وعى المثقفون المسؤولية الملقاة على عاتقهم، واخرطوا في الحياة الواقعية وانتضوا لأداء الدور العظيم المنوط بهم أخلاقيا وتاريخيا ووطنيا وإنسانيا بمنطق الواجب.
وأخيرا لا معنى لمزيد من هدر الزمن الوطني، ولا معنى لاستمرار هذا العبث.
وكلنا إيمان بأن الفجر آت غدا ما دمنا ننسجه بأحلامنا وأفكارنا وأيدينا.
وكلنا إيمان بأنه لا بد أن يتكلم الفينيق لغة الوطن.. لا بد أن يغني الفينيق للوطن...