المدار و القرار، تأمل في الاختلاف – عبد الحفيظ أيت ناصر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"الهاجس المتمثل في البحث عن اسلوب جديد للتفلسف، يزيح التراتبية التقليدية بين الفلسفة والادب"
مصطفى لعريصة؛ مدارات الذات، ص 33
كيف يمكن للقارئ ان يتمثل النصوص التي ولدتها لحظة تخلخل النسقية؟ تلك النصوص التي تهرب وتنفلت من محاوله تجنيسها، هذا النوع من النصوص التي تمارس تطوافا وترحالا فوق كل الاجناس والانساق السردية، حيث كل نص سرد لكن ليس بالمعنى التقليدي بل بالمعنى المتجاوز والمنزاح، هذه النصوص الرحالة تستعير هذه الصفة فقط وليست مرتبطة بها.
ان الاستعارة شيء غريب فهي التي تعطينا تلك الإمكانية اللامتناهية للتفكير او لممارسه ما نسميه تفكيرا، تنزاح بنا الاستعارة الى الافاق التي لم تطرق بعد او التي لم تطرق بشكل كافي وتعطينا امكانيه التفكير في المحال اليه، الاستعارة قول يقال محيلا على مجموع صور وعلى التعدد والاختلاف و المهمش.

من الاستعارات الغريبة في لساننا الدارج اننا نسمي الاعمى "بصيرا" يصعب جدا الوقوف على الشروط التي تدخلت في بلورة هذه الاستعارة ولكنها تقول شيئا من حيث هي تخفيه ولا تبديه الا ثاويا خلف لفظه "البصير" هذه التورية هي ما نفكر حوله في الاستعارة واي امكانات يمكن ان نطرقها في اضرب التفكير هذه.
ان النصوص التي انجبتها الحاجه الى اشكال جديدة او اسلوب جديد للتفلسف اذن يتوجب على القارئ ان يدخلها مستعدا ليرمي خلفه كل الأبنية الدائرية والمغلقة في ذهنه والتي ترسبت لديه من القراءات الدائرية حيث البداية فيها نفسها هي النهاية، وكذلك الابتعاد عن اي خطيه قد توحي بها المسألة، تفجير الدائرة وكسر الخط من هنا يولد زمن القراءة وهو الشرطية المؤسسة للإبداع والابتكار
في علاقه الفكر باللغة او بين الفلسفة والشعر.
في هذه العلاقة لابد ان نستحضر العنصر الثالث او نستدعيه لأنه حاضر رغم غيابه القطب الاخر في العلاقة هو "الواقع" هو "الوجود" فكل ما يتحدد قبل وجودنا فهو "واقع" يسبق الوجود الفكر لذلك يصعب القول بان الفكر يدرك الوجود، لم تستطع اللغة في جميع استعمالاتها ان تستنطق الوجود لكن وحده القول الشعري تكفل بهذه المهمة الشاقة.
«ان يتكلم الانسان معناه ان يتكلم الكلام الذي يتحدد بواسطته كإنسان»[1] هذا هو الحد الذي يتم به تعريف الانسان انه كائن يتكلم وليس فقط تتكلم بل يلغو، لكن السؤال هو كيف يسكن الفكر هذا الكلام ان هذه اللغة تسبق في وجودها هذه [الذات] المتكلمة كيف يتمثل الفكر في هذا الكلام وكيف تكون هذه [الذات] المتكلمة مجرد وسيط يعبر من خلالها الفكر اذ تغمرها اللغة؟
«واللغة سابقه عن المتكلم، شرط لوجوده لكنها تشرط وجودها بفعله فهو الذي يعمل على اخراجها من حيز "الكمون" الى حيز "الفعل". واللغة سابقة ولكنها لا تتجسد الا عبر وساطة المتكلم؛ في محدوديتي كمتكلم تنكتب محدودية اللغة ايضا، فأنا شرط وجودها الفعلي انا شرط تحققها»[2] لتتمكن من حد اللغة بهذه المفهمة فإننا نحتاج او يجب علينا شطب احد عناصر الثالوث [الفكر- الوجود- اللغة] مع بقائه حاضرا متواريا، على احدهما [الفكر- الوجود] ان يكون هو نفسه الاخر او ان يكون مماهيا ومحايثا له، ليس كنوع من العقلانية الديكارتية حيث تحد الانا من حيث هي تفكر، ولكن كنوع من تأويل القول الشعري عند بارمنيدس « لقد حدد بارمنيدس هذه العلاقة في المقطع الثالث من قصيدته بقوله: ذلك ان الفكر هو عين الوجود»*[3]
هل ينظر الى الوجود من خلال الفكر وذلك كنوع الاستشراف ومحاوله للسبر والغور، لفظه "عين" يصعب ان تكون هنا تعني 'نفسه' اي العنصرين يحوي الاخر ويضمه وايهما يسبح داخل الاخر، نفكر انه على نفس النجد يسبح العنصران المتماهيان لا يلغي احدهما الاخر ويتناوبان في عمليه البزوغ والتواري وعلى احدهما في كل مره ان يكون شرفة يطَلُّ من خلاله على الاخر.
يسكن الوجود الشعر اذن، وكذلك الفكر عندما يحاول التحرر من اي نسق وبناء مسدود يحاول مصادرته ان الفكر الذي يعيش على تخوم المجاز والاستعارة والذي يرتفع بالقول الى مصاف اخرى حيث العمق والعلو بينهما الخيط الرفيع، قد يظهر ان اي خروج او سباحة فوق النسق او الجنس نوع من الفوضى، ان هذا الفكر الرحالة يعمل على ملء ذهن القارئ بالإحالات والالفاظ تقرا فيه كما تقرا اللوحة الفنية في كليتها وما تحيي به حيث الايحاء الى الفكر هو العبور الأصيل اليه، لا نبحث عن المضمون فيما هو مكتوب في حد ذاته بل في مقدار الاحالات التي يعمل على استحضارها وتكديسها، حتى النجد المشرف على اللانهائي يتم السباحة فوقه وعبره ان الشعر ليس جنسا ذلك اننا لا نستطيع ان نحدد ما هو شعر.

زرقاء اليمامة او فكر الاستشراف
"ابصر من زرقاء " قالت العرب، زرقاء اليمامة نوع من الاستشراف ومراودة الممكن عن نفسه القدرة على الفرز والتنبؤ والنبوة، ان نظر زرقاء هو الاستشراف والتطلع الى الما وراء ما وراء الحصن الذي اخذته بنفسه أوهام العصمة من كل اختراق، يقول الاستاذ مصطفى لعريصة «ميلاد الادب لا يرتبط بمساله الاستبطان اذن امر يتعلق بالأحرى باستشراف لبعد خارجي، لبعد الافق البراني بالمعنى الفلسفي، او حرفيا بالمرور الى الخارج مرورا يجعل اللغة الأدبية خصوصا تتركز وتترسخ بفضل الابتعاد المستمر عن ذاتها اقصى ما يكون الابتعاد»[4]، هنا تحضرنا زرقاء اليمامة كشخصية مفهومية نستطيع من خلالها ممارسه هذا النوع من التفكير المتداخل، ان هذه الشخصية المفهومية تعطينا القدرة على القبض على شيء زئبقي في وجوده لا نستطيع في الحالات العادية القبض عليه الا كما نقبض على الماء، الابتعاد الاقتراب تصل بنا زرقاء اليمامة الى النقطة التي يلتقي عندها العمق مع المتعالي او المرتفع.
لم تستطع الاجناس ان تصل الى هذه الحدود ومختلف اشكال القول الانساني ومنها الفلسفة في خطابها العقلاني الذي يعلي من شأن "الأنا" ذلك الا انه لم تتمكن هذه الاشكال من امتلاك الاستعارة الا بشكل باهت اما الترحال والتطواف فقد استطاع ان يتماها مع شعرية الاستعارة، غير أن الذي يملك الإستعارة حقيقه هو الشعر، والشعر ما نتذوقه ولا نعرفه وما الشخصية المفهومية الا استعارة وحيث توجد الاستعارة الحقيقية فهناك شعر حقيقي وحيث تنتفي ينتفي الشعر.

1 مصطفى لعريصة ؛. مدارات الذات، في اللغة والسلطة والتنوير، المطبعة والوراقة الوطنية، ط 1 / 2016 ص 13
2 المصدر نفسه ص 14
*ترجمة الاستاذان عز الدين الخطابي-إدريس كثير ص 44
3 عز الدين الخطابي-إدريس كثير في الحاجة إلى ابداع فلسفي ، منشورات الزمن عدد 48 ص 27
4 مصطفى لعريصة مدارات الذات، في اللغة والسلطة والتنوير ص 37

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟