الزّردة – قصة: حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تجمعوا عشاء في الزقاق المحاذي لبيت العريس. غمغم أحدهم مستنكرا قبل أن يمد يده لجيبه، ويدفع ثمن بضع قوالب من السكر ل"أعراب"، خامسهم الذي يملك الدكان كما يملك رقابهم كل آخر شهر. سحب أعراب من جيب سترته قارورة عطر يباهي بها بقية المفلسين.
ماذا لو أجّل عرسه لحين استلام الرواتب؟ غمغم ثانيهم مستنكرا، لكُنا أمطرناه عطرا وأشياء أخرى يُعز بها العريس عند الامتحان فلا يُهان!
لم يجدوا بابا ليطرقوه فتنحنح أعراب وتقدم. رائحة البخور امتزجت بروائح الدجاج المحمر والعطور الرخيصة. أزعجهم منظر الصبية وهم يلهون بأحذية الضيوف، لكن ما باليد حيلة. على أحدهم أن يتورد حياء وهو يسأل عن فردة حذائه قبل الانصراف.

أقبل العريس ببذلته السوداء متفرسا في تقاسيم وجوههم. يعلم جيدا أن خلف كل ابتسامة قصة عاش بعض تفاصيلها قبل دعوتهم للحضور. الرفاق هم الرفاق. يريدونك أعزبا لتظل سيرة الزواج مؤجلة. تماما كالديون التي سيطالِب بها فور استلام الرواتب!
احتضنوه ثم قبلوا وجنتيه. منهم من بارك له الزيجة، ومنهم من شد على يديه مؤملا له النصر على الأعداء. أما أعراب فبدا مبتهجا كصبي عائد من حديقة الألعاب. كيف لا والعريس سينضم إلى طابور زبائنه! مضت شهور لم يقتن فيها غير السجائر والعصائر بين فينة وأخرى. عانقه مجددا قبل أن يهديه قارورة العطر، تصحبها نظرات خزي ومهانة من المفلسين.
دارت كؤوس الشاي ثلاث جولات، بينما فرغت صحون الحلوى المجلوبة بعناية من مخبزة الحي المجاور. أصرت أخت العروس على أن تتولى شأن الحلويات والفطائر. أثنى ثالثهم على الحلوى فهمس العريس في أذنيه بأنها من أصابع تترقب خاتم النجاة. غمغم مستعيذا من حبائل الشيطان. في الشهر التالي تحديدا سيكون للشيطان رأي آخر!
أنهى مؤذن الحي تلاواته وابتهالاته، ثم مازح العريس بأنه لا يحتمل السهر شأنَ الذين ينتظرهم ليل طويل. ابتسم العريس خجلا، ثم أسرع إلى المطبخ لتُقبل على الفور صحون الدجاج المحمر.
غمغم رابعهم وهو يسحب فخذ دجاجة: ليت لي أمه! تطويني تحت جناحها كفرخ مبلول. لو كانت لزوجة أبيه ربع طيبتها لما سمح لابن حلّومة المهاجر أن يركن سيارته في الحي، ويطرق باب رقية.
رقية! من لم يُجرب الحب فلا داعي لأن يكتب عنه. وحدها آهات عبد الحليم حافظ، حين يرمي الورد ويطفئ الشمع، تحول ثورة جنونه إلى دمع ينساب في هدوء الحيّات كل ليلة. بكى بحرقة لأسبوع قبل أن ينجح أعراب في لملمة جرحه:
- دُنياك تلك، فإما أن تتغافل لتحيا وإما أن تتحطم ضلوعك تحت وطأتها! في كل حي رُقَية أخرى، وعلى قلبك أن يتمرن ليحتمل أسباب العيش. اِنسَ !
غالبَ زفرة تحتدم في صدره كي لا يلحظ أعراب شيئا، ثم مد أصابعه وانتزع من صدر الدجاجة لقمة. تناهى إلى الأسماع لغط من الغرفة المجاورة حول إلحاح أهل العروس على إتمام مراسيم الزفاف قبل العودة فجرا إلى القرية. فهم الجميع ما يقتضيه المقام، فتلا المؤذن آيتين ثم دعا بالبركة وحمل بلغته خارجا. أما خامسهم "أعراب" فأقبل على العريس يحتضنه، ثم أشار إلى البقية بالانصراف قبل أن يستأنفوا الغمغمة!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*الزّردة) الوليمة في التعبير المغربي الدارج

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة