ثورة عواصف الخريف – قصة : ذيميتر شوتريجي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسمن عاداتي أنني أفضّل السير حاسر الرأس، كاشفاً عن صدري حين تعصف الرياح أو يهطل المطر أو ينهمر الثلج متحدياً صفعة الريح أو لسع الثلج والمطر.‏
ولعلكم خبرتم رياح الشمال التي تحمل أجنحتها الغيوم. فهي تهب من ناحية البحيرة ناشرة نوراً بلون الرماد أميل إلى الزرقة، وكانت ندف الثلج تلوّن الطبيعة بالبياض متراقصة في الجو كأجنحة حمام البحر الأبيض المتوسط حين يواجه العاصفة وصراخها يملأ السماء.‏
ويكمل معزوفة البحر الهادر. والشجرة المستحيية ترسل ضفائرها كشعر لم يرجّل، يمتزج في أوراقها الخضرة واللون الذهبي كأنها جدائل شعر عذراء تتلاعب بها الريح وتبعث فيها حفيفاً شجياً. وكنت شغوفاً بالدنو منها والوقوف تحت أغصانها المسترسلة وسماع عزفها للريح.‏
يتراكم الثلج ويذوب على أذني وأنفي فأتخيل أنه هدية البحيرة لزائريها ، تقدمه من زبد أمواجها المتطايرة بصوت فراخ نوارس البحر التي لم تبرح بعد البيضة، ولم تكتس الزغب فوق العنق.‏
لا أدري لماذا يسمون هذه الشجرة المستحيية، لعلها سميت كذلك لأنها تخجل أن تعترض على صفعات الرياح فتتمايل كريشة طائر عجيب على ضفاف البحيرة راضية بدورها الراقص، وأنا أقف تحتها أتأمل بدء هيجان العاصفة، وكأن الطبيعة والبحيرة والسماء والشجر تبيّت لي أمراً ما، وتستهدفني.‏
قرأت عن العواصف كتباً عديدة، واطلعت على خصائص ثورات البحار والمحيطات التي لم أرها، عرفت ريح الصبا والشمال، وزوابع الصحارى، ودوارات الثلج في مناطق القطبين، وقرأت عن الرحالة العظماء، وتخيلت أنني أرافقهم في قلب العواصف والرياح الماحقة، وأنا أجلس قرب هذه ا لشجرة المستحيية، آلهة العواصف كانت تثيرها:‏
هبيّ يا عواصف ولا تخجلي.. ولسان حالي يقول: عمدني أيها المطر والثلج فأنا أحبكما.‏
كان اليوم قاتم الغيم، وكأن السماء استحالت بئراً ناضحة، وحجبت الغيوم ذرا الجبال، لكن الطبيعة لا تتخلى عن تألقها في قلب العتمة التي تنشرها السحب المتلبدة, وكان طائر الزاغ يجري تمارينه الرياضية برشاقة فوق مئذنة الجامع، ثم يلجأ إلى أغصان سروة كبيرة ترتفع في معبد القلعة دون أن ينطق أو يتحرك. والقمري يحضن بيضه وفراخه في أعشاشه فوق أغصان شجر البرتقال، وعصفورة بلهاء تبحث جاهدة بمنقارها في أصص القرنفل الأحمر والأبيض فوق الشرفات، وتيجان الأزهار تتعانق وتتراقص للريح.‏
سقطت قطرات المطر الأولى في شهر تشرين البارد وتسربت عبر مصاريع الدرفات الخشبية التي استعصت على الإقفال، وتسربت إلى أنفي وفمي، كان طعمها ملحاً لذيذاً كالجبن الذي أودعته شطيرتي وجلست ألتهمها فوق المتكأ وأسند جبيني إلى زجاج النافذة، وأنفاسي الرطبة تكدّر صفاء الزجاج وتتحول بالرطوبة إلى قطرات تجري على البلّور البارد، واقتحمت عصفورة زجاج النافذة وطرقته بمنقارها كأنها تطلب ملجأ، ونظرت إليّ بعينين متوسلتين، ثم تحوّلت للبحث عن طعامها في أصص القرنفل.‏
عجيب أمر هذه العصافير التي لا يرهبها المطر والثلج مع أن حجم إحداها لا يتعدى حجم كف يدي، وأنا الطفل الذي اكتمل نموّه وأمسى في الثالثة والنصف من العمر يغرق من المطر والثلج، ويصغي إلى نصائح جدته بالحذر منهما.‏
خرجت إلى رواق المنزل وهبطت فوق الدرجات الخشبية التي لا تصدر صوتاً لوقع قدميّ الصغيرتين فوقها. كان الباب مشرعاً والرياح تتلاعب بدرفتيه وكأنها تدعوني للتعلق بإحداهما والترجح فوقها، وشرعت قطرات المطر تلسعني في العنق والجبين وفوق الأذنين، وبدت لي شطيرة الجبن ألذ طعماً تحت المطر. لاحظت عش طير القمرية فوق شجرة البرتقال، وقبة الجامع وشجرة "اللييس"، كل ما حولي يتحرك إلا المئذنة الراسخة، حتى شجرة "اللييس" التي بدأت تنحني للريح تستقيم متحدية، فيلامس رأسها السحب، وتمنيت لو أنني مستقر فوق رأسها لأستمتع برقصها، وأجهزت على خبز الشطيرة بلا أدام، ثم تناولت الجبن المملح وحده فقد كان يمتعني مذاقه، وبدأت الصواعق تقذف سفح الجبل بعنف حتى بدا لي كأنها ستوقد ناراً هائلة فوق السفوح، وأطلّ المؤذن برأسه من ثنايا المئذنة كالضفدع، وإذا بعاصفة قادمة تتفجر راعدة فوق السفح وصوتها يرعب الشجر والبشر. وتحوّل المطر إلى سيل جارف، فأسرعت حتى دانيت باب القلعة، وغمرني الماء المنهمر من غربال السماء، وإذا بيد قوية تسحبني من الشارع وتقودني إلى حانوت للأحذية العتيقة، جلست بجوار أدوات ترميم الأحذية من مسامير ومطارق ومشارط ومدي. وجلس قربي هرّ ناصع البياض يتكوّر قرب المقعد، كانت اليد التي أنقذتني يد خالي "ستيفان" الذي وبخني بعنف:‏
ـ كيف أجزت لنفسك أن تكون كالدمية التي تطرد العصافير والطيور في هذا الجو العاصف؟ لِمَ غادرت المنزل في قلب العاصفة المدمرة؟‏
يالك من صبي شقي..!!‏
وخلع معطفي وعصره، فسال منه ماء يكفي لتشكيل بركة صغيرة تحت قدمي كمنافع مياه الشارع، ثم خلع خالي ملابسي كلها ولفّني بثوب جاف يستخدمه في عمله، وثياب أخرى، وأدناني من النار وعلّق فوقها ثيابي المبتلة التي أخذت تبعث بخاراً ساخناً من الحرارة، آنذاك شعرت ببرد قاتل وارتعد فكاي راجفين.‏
باستطاعتك ـ أيها القارئ ـ أن تتخيل ما حدث بعد ذلك في المنزل، كانت أول جلدة تلسعني في حياتي بسوط جدتي. وأين منها لسعات قطرات المطر؟ ومع ذلك شعرت بلذة المغامرة في مطر فصل الخريف لعام 1944م. آنذاك بلغنا نبأ تحرير مدينة (البسان) زفّه إلينا مفوّض مشفى الأنصار، وقال لي ولعروس (نوزت):‏
ـ أترغبان في إجازة أسبوع.. أنا موافق.‏
تبادلنا النظرات، وبدت زميلتي العروس مترددة، لم يكن في المشفى آنذاك سوى تسعة جرحى وعدد من المرضى وأربعة أطباء.‏
كانت (نوزت) تعاني من جرح أصابها في معركة تحرير مدينة (بوغراديس).‏
أما أنا، طبيب الأسنان، فكنت أمارس عملي على أكمل وجه، وطلبت إعادتي إلى لواء الأنصار مرات عدة، فرفض طلبي لأن المشفى بحاجة إليّ.‏
تطامنت (نوزت) أمام المفوض، فربت على كتفها مبتسماً ابتسامة تنم عن طيبته وحسن نيته، وكنت اتفقت معها لنذهب إلى مدينة "ألباسان" لتقوم خطيبتي أول مرة بزيارة أهلي للتعارف، وكأن المفوض عرف بحدسه رغبتي عندما اقترح علينا الإجازة أو سمع ما دار بيني وبين "نوزت" عند شجرة السنديان.‏
لم نردّ على اقتراح المفوض، وكان قلبي ينبض بعنف.. وأردف المفوض مخاطباً "نوزت":‏
ـ خذي البغل الصغير، ولا ترهقي ساقك المصابة بالسير .‏
أخذنا البطل وسلكنا الطريق إلى "ألباسان" كان البغل محدود الحجم مشاكساً شأن البغال، لكنه كان يألفنا ولا يعاندنا.‏
الطريق طويلة، والحرب تدور رحاها على مقربة من العاصمة "تيرانا" ودويّ قنابل المدافع تردد صداه الجبال البعيدة. وكنا طوال الطريق صامتين، فلم نتبادل الحديث إلا قليلاً حتى تجاوزنا السهل وارتقينا قمة الجبل وانحدرنا إلى السفح..‏
سألت "نوزت": ما العمل.. إذا رفضني أهلك ولم أعجبهم؟‏
لم أستوعب ما قالت.. وخاطبت نفسي قائلاً:‏
ـ يا له من سؤال غريب وعجيب.‏
ثم أجبتها: يرفضونك؟ كيف وأنا أعبدك.. وأحبك.‏
ردّت نوزت وهي على ظهر البغل المعاند بعد أن اعترض سبيله عقبة في الطريق:‏
ـ أنت لا تعرف النساء،.. وعقليتهن،‏
ـ ثم ماذا..؟‏
ـ ما أدراك بنيّاتهن ومشاريعهن حول مستقبلك؟‏
ـ إنهم يفضلون أن أتزوج "أغابيا" ابنة "فابخيل"‏
ـ أهي جميلة؟‏
لم تسعفني شفتي لأعترف لها بأنها ساحرة الجمال، وذهب ذهنها لصمتي وعدم الإجابة إلى أمر آخر، وأردفت:‏
ـ سيقولون، جاء ابننا بفتاة كعود حطب من الجبال، كما لو كنا بلا حطب هنا، ونحن نريد له فتاة مكتنزة من أجمل الفتيات. وضحكت من توقعاتها، لا سيما قولها "مكتنزة" لأن جسدها بعد النقاهة بدأ يكتسي وأعضاءها تكتنز، وأخذ لونها المتورد يعود إليها. لم تكن بدينة بل كانت رشيقة القوام، ولم تكن كعود حطب أجرد، كانت تدرس في العاصمة وتتعلم اللغة الإنكليزية، وتملك معزفاً في بيتها، وتتقن الخياطة والتطريز. واشترت جهاز العرس من "إيطاليا"، ولديها من المال ما يكفي لفتح عيادة طب أسنان لي. بل لتجهيز مشفى صغير لعمليات جراحية سنية.‏
إن جدتي التي تربطها بأسرة "فانجيل" رابطة نسب من أبيها وأمها أفصحت عن نيتها ذات يوم حين ألمحت قائلة ونحن على المائدة:‏
ـ ابنة فانجيل ساحرة الجمال، وهي وحيدة.. لا أخ ولا أخت لها.. و.. قاطعها أبي آنذاك بلباقة قائلاً:‏
ـ هلاّ ناولتني قطعة من هذه الفطيرة يا حماتي.‏
كفت جدتي وناولته القطعة، ولابد أنها فهمت ما يريده من قطع حديثها، وراحت تراقبه هل يأكل الفطير الذي طلبه؟ فأكله أمام دهشة الجميع وطلب قطعة أخرى..‏
أما أنا فابتسمت، كانت جدتي ترى فيّ محط أملها، وتعدّ لي فطائرة السبانخ اللذيذة.‏
كانت "أغابيا" قبل ست سنوات في الثانية عشرة من عمرها حين سافرتْ إلى فرنسا لمتابعة دراستها، كانت نحيلة ذات عينين سوداوين كحبتي زيتون، تتزين بقرطين من الذهب كبيرين لا ينسجمان مع عمرها، لتدلل أنها ابنة أسرة "فانجيل" وهي اليوم في الثامنة عشرة وعلى وشك إنهاء دراستها، وتفكر في زوج يناسبها، لابد أن يكون خريج جامعة يساويها علماً، ويلائم مستوى أسرتها الثرية، وقد رشحتني جدتي وربما والدتي أيضاً لها، لكن أبي الذي قطع كلام الجدة بلباقة لا يحب أن يتورط في الزواج، لقد كان فانجيل يتاجر بالأنسجة اليابانية، وربما يستوردها اليوم من إيطاليا، وثروته تتضخم كل سنة خلال فترة الاحتلال.‏
مرّت هذه الوقائع في ذاكرتي، كما تعبر مجموعة من الغربان في قلب عاصفة ثائرة، وكان الجرس المعلّق في عنق البغل يرنّ رنات تشوش خواطري، أما "نوزت" فكانت تسرح بعدها بالوهاد العميقة التي تتعانق في قاعها سوق أشجار لا تحصى، وكانت ابتسامة رقيقة يفترّ عنها ثغرها كما لو أنها في حلم، أما أنا فنسيت أنني لم أجبها عما سألت، فتناولت كف يدها ولثمت أناملها وقلت:‏
ـ سترى فيك أمي معجزة تذهل لها.. وستقول: ما أعظم هذه المقاتلة من الأنصار..! وستفاجأ جدتي أيضاً، وسترقص أخواتي مرحبات بعروسنا، وستكون أختي الكبيرة في المنزل قادمة من مدينة "دوروس" وهي تعلم أنني سآتي بك إلى الأهل، وربما سيغار خالي ويعترض قائلاً..‏
ـ لا يعقل أن يتزوج ابن أختي قبلي..؟‏
أما أخي فحين يعانقك قولي له: يا أخي العزيز.. وسيطبع أبي قبلة على جبينك محفوفة بالوقار بشفتين مضطربتين وسيقول لك:‏
ـ أهلاً وسهلاً يا ابنتي..‏
وستدق ساعة المدينة عند وصولنا معلنة وصول طبيب الأسنان وعروسه الجبلية "نوزت".. وسيشيع النبأ في مدينة ألباسان كلها.‏
وصلنا إلى مدينة "ألباسان" بعد الغروب، وقد أسدل الليل ستائره من جهة الجبل، كانت السماء محجوبة بالغيوم، ودوي المدافع يتردد في اتجاهات مختلفة بلا انقطاع. ولم أميّز من بعيد في الأفق سوى ضوء نجم منار من أجنحته فوق برج الساعة وكأنه طائر ناري يرقب المدينة من علٍ، وحجبت الغيوم قمة الجبل، وبدا كأن الريح العاصف وحفيف أشجار الزيتون وهدير مجرى نهر "شكومبي" يقدم معزوفة الطبيعة..‏
وأخذت قطرات المطر تصفع وجهينا مجدداً. كانت قطرات باردة لكنها عذبة.. وخيّل إليّ أنها ترش جرس البغل فتصفي رنينه. رددت:‏
ـ عروسي تحب المطر مثلي..‏
أمسكت يدها بحرارة كأنني أريد ألا أتخلى عنها.. فقالت:‏
ـ أشعر أن جسدي يتجمد فوق البغل.. أفضّل النزول .‏
ـ لا.. من المناسب أن تبقى راكبة..‏
لم تعترض، وسرت بجانب البغل بين أشجار الزيتون، على وقع حفيفها الهامس حيناً والصاخب أحياناً كسرب من الطيور.‏
قالت نوزت: سيبللنا المطر..‏
ـ لا أعتقد، فالمطر لن يهطل قبل نصف ساعة.. وسنكون في البيت. رفعت "نوزت" عينيها الدعجاوين نحو السماء فتألقتا تحت وميض البرق، وخلعت القبعة عن رأسها لأن الرياح كانت تحاول نزعها. وطارت خصائل شعرها في مهب الريح، وشكل مع أغصان الزيتون المتمايلة رقصاً مؤتلفاً تحت وميض البروق المتلاحقة.‏
مدت "نوزت" يدها فلامست كفي.. وقالت بصوت هامس:‏
ـ وإذا كرهني أهلك..‏
قاطعتها قبل أن تسترسل في الكلام.. وقلت:‏
ـ أتعلمين كيف سيتم الأمر يا حبيبتي.. مثلما تهب هذه الرياح العاصفة.‏
وأن الريح التي اختارتك واختطفتك، وهذا المطر القادم سيباركنا، وستقول أمي: الويل لي فقد بردت ابنتنا..‏
وستردد جدتي: كيف تبللتِ هكذا يا روحي..! وستضرب كفاً بكف، أما الباقون فستحملهم الرياح والأمطار وتذهب بهم.‏
سألت: وأغابيا بنت فانجيل..؟‏
ـ أغابيا الآن تستدفئ حول موقدها.. وتقرأ؟‏
قالت نوزت ضاحكة: لتقرأ ما تشاء.‏
وأدركنا المطر حين بلغنا المنحنى القريب من البيت.. وحين وصلنا كانت أمي وجدتي تستقبلاننا وترحبان بنا قائلتين:‏
ـ يا للمسكينة.. كم عانت في هذه الرحلة برداً وعذاباً. ادخلا وبدلا ملابسكما..؟‏
وبعد قليل سمعت طرقاً على باب الغرفة، كانت الجدة في الخارج تقول:‏
ـ هلاّ سمحتم لي بفتح الباب..‏
وبدت أمام الباب وهي تحمل طبقاً شهياً من فطائر السبانخ وقد غمرت الدموع عينيها.. وقالت:‏
ـ لابدّ أنك يا ابنتي تحبين أكل فطائر السبانخ أيضاً..!
 
ترجمة : عبد اللطيف الارناؤوط 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة