المفترَق – قصة : البشير البقالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسخرج من باب البيت كالمتسلل، وانطلق مسرعا في مشيه كهارب عقد العزم على ألا ينظر إلى الخلف مهما حصل، وراح يطوي الدروب. خطوة تدفع خطوة.. والنعل الأسود الصيفي في قدميه يصير مع كل خطوة أثقل. الدروب رغم قصرها تبدو أطول،درب يقود إلى درب. وعيناه لا تمتدان أبعد من مدى خطوة. وبين لحظة ولحظة، كان يغمغم ردا على تحايا هامسة اعتاد عليها منذ سنوات، يشايعها بحركة من رأسه فتمنحه فرصة لتبرير ارتباك مشيته التي لا تستقيم إلا على مشارف الشارع الكبير.
     أخيرا لفظته الدروب إلى الشارع، وانغمس في سيول الراجلين..أجساد من كل شكل ونوع تتحرك في كل اتجاه. أصوات هنا وهناك، باعة ولاعنون.. دعوات وبذاءات.. وزعيق السيارات يعلو فوق الأصوات. كان الوقت ظهيرة، وشمس غشت القائظة تلسع الجباه الدسمة. كل الرؤوس مستنفرة أو شاردة، كأنها تحمل أحلاما تحن إلى منفى. والأجواء مناسبة للانخراط في المجموع.. لكل سجنه وأوهامه، لكل وجهته. هكذا خمن وفكر، فانطلق بتلقائية. رفع رأسه واستقامت مشيته، واستعاد أناقته التي تاهت في الدروب. لكنه ظل يواري كتابا في يده اليسرى.. يمشي بحذر.. يراوغ الحشود بخفة ورشاقة. لم ينس يوم داس بحذائه قدم سيدة في السوق، فأشبعته السباب وأوسعت كتابه اللعنات. ود حينذاك لو يبتلع كتابه الذي ضاعف له الإهانة. ومنذ ذلك الحين صار حريصا على طمسه قدر الإمكان كي لا يلعن مرتين.
     اقترب من محطة التاكسي، ورأى نفس المشهد اليومي، فهيأ نفسه لخوض المعركة الروتينية التي ما عادت تقلقه. حشود ممتدة على طول الرصيف سرعان ما تتحول إلى أمواج بشرية تتدافع كلما جاءت سيارة أجرة. أخذ مكانه بينهم، وبدأ يتأمل كيف تجرجرهم السيارات أمتارا قبل أن تتوقف، فيظفر من يظفر ويخيب من يخيب، وتتحالف الأفواه في السب واللعن. لم يدر من يسبون وماذا يلعنون، ووجد نفسه منخرطا بعفوية في لعن هامس دون أن يتبين ملعونا محددا.
     طالت وقفته دقائق وتمكن منه التذمر حين تزايدت الحشود، أطفال وشباب وكهول..ركاب ولصوص وملتصقون بأجساد النساء. رأى كل الأجساد مستباحة في الزحام، فكلها رطبة ورخوة، ولا فرق بين جسد فتي أو كهل، فالحلاوة نفسها إذا كانت من التحام مسروق، والأجساد المتحجبة أشهى، ولا ضير، فالشمس مكسوفة تكون أحلى...
    امتقع مما رأى، وابتعد عن الحشود المشبوهة إلى مكان تقل فيه الخلائق ولا تتوقف فيه التاكسيات إلا شماتة في الناس أو خوفا على الأبواب. وضع كتابه تحت إبطه ووقف ينتظر حظه، يخامره أمل في أن تشفع له الأناقة والثقافة. وجاءت التاكسي، رست على مقربة منه. واندفع الواقفون فاندفع هو الآخر. أصر على ألا يعود خائبا، فقد علمته التجارب أن مثل هذه الفرص لا تتاح كثيرا. تشبت بمقبض الباب رغم شدة التدافع. جرجرته السيارة أمتارا ولم يستسلم. فتح الباب وألقى بنفسه إلى الداخل غير عابئ بأي شيء. ولما استوى جالسا وامتلأت المقاعد، سمع أصواتا تلاحق الراكبين:
    - إخ...
    - الحلّوف!..
    - تفو... ألكلاب !!
    انشغل بمعالجة أطراف سرواله من كدمات الأحذية، وظل ينصح نفسه:« لا ترد. ابتلع لسانك..كأنك لم تسمع. اغنم بمقعدك واصمت.. ومن أدراك أنك المقصود؟ وافرض أنك مقصود، هل ستواجه الشارع وحدك؟؟ خير لك أن تصمت، فإنك خاسر خاسر...لحظات وينطلق السائق، فيتبخر السباب كما يتبخر كل شيء!..».
     تحركت السيارة، واسترق نظرة إلى الحشود الحاقدة. كان بعضهم ما زالوا غاضبين يشيرون بحركات التوعد والبذاءة. وساد بعض الصمت في الطريق، تكسره بين الفينة والأخرى تعليقات فردية من بعض الركاب حول مظاهر الشارع وفوضى السائقين وفداحة العراء، تلقى أحيانا تجاوبا بأنصاف وأرباع التعليقات أو بآهات كثيرا ما تغالبها الحاء. لكنه ظل صامتا، يسمع ويحاول ألا يسمع. لم تنته التعليقات إلا حين توقفت التاكسي عند إشارة حمراء في أكبر مفترق طرق في المدينة. صمت رهيب طوق الأفواه، أجساد تتلظى تحت القيظ، وعيون تترقب رحمة المصباح الأخضر. وفي الشارع صخب وزعيق وحشرجات، وصوت المغني يصدح في الفضاء׃
                    الليل يا ليلى يعاتبني           ويقول لي سلم على ليلى
                   الحب لا تحلو نسائمه           إلا إذا غنى الهوى ليلى
    كان الصوت صادرا من عربة بائع أسطوانات متجول، يخترق الشارع بإصرار ولامبالاة، يدفع العربة التي كانت في الأصل مخصصة للأطفال الرضع قبل أن يستبدل مهدها بصندوق خشبي.. يدفعها بتثاقل وإعياء كأنه يجر هموم الدنيا وهو ما زال شابا. اضطرت السيارات للتوقف، وحاولت سيارات المسالك الأخرى اغتنام الفرصة للتسلل، واتحدت رغبات التسلل من كل جهة، فاختنق المفترق نهائيا في رمشة عين. ازداد الضجيج، وتفاقمت الفوضى، وتعالت أصوات المنبهات واللعنات من كل جانب. لكن الشاب ظل غارقا في ليله وليلاه، غير مبال بأي شيء.
     وفي التاكسي كانت الوجوه تتلفت والأفواه تتأفف وتغمغم بالسباب وعبارات التذمر الفاحش. وحده ظل صامتا، مشدوها لا يفهم شيئا. فكر في أن وجهته غدت أقرب، وأن بإمكانه أن يخرج من علبة القيظ ويكمل الطريق مشيا. لم يتردد..فكر ونفذ. ليس عليه سوى أن يجتاز الحي الإداري ويتسلق عقبة. اخترق حشود السيارات والمترجلين اللاعنين. خطر له أن يستظل هنيهة بشجرة، لكنه وجد تحتها شرطيا فتابع سيره سريعا مندفعا يخطو بغضب ويستحث كوامنه عله يفهم: «لماذا المفترق؟ والقيظ؟ والليل؟ وما دخل الليل في عمق الظهيرة؟ يا الله !! اختلط الليل والنهار! واختلطت المسالك! وليلى؟ ما ذنب ليلى؟ ليلى الرائعة.. ليلى الغابرة.. ليلى الضائعة في المفترق!!والمفترق كالقيامة...».
    زادت سرعته وحيرته. كان شدق السؤال ما زال يلوك خواطره.. سؤال خلف سؤال، كالعلب الصينية.. علبة داخل علبة، فيعجز عن الغوص إلى قلب العلب جميعها...اجتاز الحي الإداري وانخرط في العقبة يطويها بعنف، والخاطر يعاتب زمن الخنافس، زمن النكوص والبطولات الزائفة، زمن الهروب والمطاردة، زمن الصخرة والقشور...وانتهت العقبة. أحس بهواء بحري بارد يلفح صبيب العرق في الوجه والعنق. تذكر أن عليه أن يمسح العرق. أخرج منديلا ووقف يمسح وهو يرنو إلى أسفل العقبة التي لم يتذكر كيف اجتازها. ثم دلف إلى محل تجاري، كان ما زال منشغلا بالمسح. نظر إليه البائع الهادئ باستمرار، وانتظر المطلوب، لكن لحظة الصمت طالت، كسرها البائع׃
كالعادة؟
كالعادة..
    ناوله ورقة مالية وتناول علبة سجائر وجريدة وحبة أسبرين ، وغادر. سلك زقاقا ضيقا ينتشر فيه سكارى ومشردون، يلتهمون علب السردين في هدوء كأنه الموت. خامره شعور بأن الدروب المبنجة أرحم. وأسلمه الزقاق إلى البولڤار، خطا فيه بضعة أمتار وابتلعه باب مقهى ” الواحة “. انطلق حثيثا فوق بساطه الأخضر الطويل، وتوجه إلى أبعد ركن في المقهى. جلس تحت مصباح خافت أشبه بمصباح الإغاثة، وتناول الجريدة وهو ينظر إلى الشارع من خلال مرآة تكسو الجدار.          

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة