يوميات امرأة لا مبالية: الأنثى كرمز للثورة والحرية في روائع نزار قباني- أسامة حمدوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

  تــقــديــم:

    يوميات إمرأة لا مبالية ديوان صغير بمعاني كبيرة من شاعر أقعد الدنيا وأقامها، وأخرج المرأة من عباءة الخنوع والخوف من أسر التقاليد البالية الأبيسية السطوية الذكورية، فالثورة والحرية والكرامة مفاهيم نزارية صرح بها على مدار مشروعه الشعري الكبير، فالقصيدة النزارية تحبل بعبارات أنثوية تثور وتتوثر وتصرخ بصوت وجع كل امرأة عربية تم جلدها بعنف ووحشية، يتضمن هذا الديوان عبارات ثورية لامرأة تتغدى وتتناسل وتتشكل في قواميس الأساطير وصناع التاريخ، فالشعر دفاعا عن قضية المرأة ليس فسحة جمالية عما تجيش به قريحة نزار قباني، بقدر ما هو قلق وجودي وصراخ رجل بلسان نساء تعبوا من السلطوية والظلم والاستبداد.

   رمزية المرأة في شعر نزار قباني. 

    إحتفى نزار قباني بالمرأة في أشعاره بشكل واضح، ولكن هذا لا يعني أنه شاعر للمرأة كما يتصورها البعض، في صورة تبخيسية وسياق جسدي، لكون حضور المرأة في ثلة من دواوينه إنما هو في صورة رمزية، وفي كل صورة يرمز بها إلى شيء آخر غير المرأة ذاتها، كآن تكون رمزا للوطن في سياق معين، وأم في سياق آخر، ويلبسها ثياب مدينته الأم دمشق، وتأتي في حلة المدينة حينا، وفي صفة قصيدة أحايين أخرى، وبعض المرات يقدمها كمحبوبة له، كما يقدمها على أساس أنها بيروت في قصائد أخرى، ومن ثمة فإن أشعار نزار قباني حابلة برموز المرأة في أشكال متنوعة.

   لعل ورود هذه الرموز في صورة امرأة في شعره، هو ما جعل الكثيرين يقولون عنه في عدة مناسبات شاعر المرأة، لكن مفهوم المرأة عند نزار قباني هو مفهوم موسع وشامل ينظر لها من منظور راق حيث هذه النظرة تجعل المرأة تشمل الحضارة والسيرورة والأنوثة والأم والحبيبة والوطن والمدينة، كما أنها سر الوجود. ولعل المتأمل في دواوين نزار يرى أنه جعل المرأة تصول وتجول بكل حرية في أشعاره، وهنا بيت القصيد الذي جعل لنزار بصمته الخاصة بين شعراء الأمة العربية، ولذلك فهو جعل المرأة بمثابة شمعة تموت ببطء لتنير ذلك الجانب المظلم والمسكوت عنه في الثقافة العربية.

   في حين يبقى السؤال المحير هنا هو ما الذي يجعل المرأة موضوعا خالدا للكتابة الأدبية - وبخاصة الكتابة الشعرية – بصور مختلفة متنوعة متجددة بين كل شاعر على حدة؟ كما يزداد هذا السؤال عمقا حين تتحول إلى ملهمة للشاعر دون سائر الكائنات الأخرى في الوجود ويزداد السؤال تعمقا حينما تصبح هما تذوب فيه شتى الهموم الأخرى، ونقطة مركزية في الكون كمفتاح سحري لا تنفتح سائر أبواب الدنيا بدونه؟

   ذلك هو شأن الشاعر نزار قباني الذي نشر أول ديوان له سنة 1944 تحت عنوان "قالت لي السمراء" ومنذ ذلك الحين وهو في رحلة بحث شاقة عما ستقول له السمراء أو ماذا ستقول المرأة؟ وما الإشارات التي يرسلها جسدها له؟ وذلك في جملة أشعاره ودواوينه.

   وبعد فترة من الزمن كما يقول الدكتور "أحمد حيدوش": "وبعد خمسين سنة من البحث هذه يعلن لسمرائه أنه رجل واحد وأنها صارت قبيلة من النساء، لا تحدها حدود جغرافية طبيعية، ولا تزاحمها في الوجود قبيلة أخرى عدا قبيلة الأعداء من الرجال. وذلك من خلال ديوانه الصادر سنة 1993 بعنوان "أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء" .... وذلك عن عمر تجاوز السبعين بقليل".

   إذن فما الذي جعل المرأة موضوعا لأولى قصائده وهي أيضا موضوع لآخر قصائده، وموضوع كذلك لكل شعره طوال ربع قرن، وموضوع لجل أشعاره طوال أزيد من نصف قرن؟ وما الذي جعله موضوعا مكرورا لكن دون أن يتكرر؟. وإذا كان الشعر رسما بالكلمات فما الصورة التي رسمها نزار للمرأة بكلماته؟....

   إذن فلماذا المرأة في شعره؟، هذا السؤال طرحه الكثيرون على نزار وقد طرحه هو على نفسه، وهو ما ينقله عنه الدكتور "أحمد حيدوش" حين كان يقول: "لماذا اخترت المرأة دون غيرها من الكائنات الجميلة، دفترا أكتب عليه أشعاري؟... لماذا احتلت المرأة تلك المساحة الشاسعة من أوراقي، ومدت ظلها على ثلاثة أرباع عمري؟ وثلاثة أرباع فني؟...، لماذا أكتب عن المرأة؟".....

   هذا، ويؤكد نزار أن تسعين في المئة من الاستجوابات الصحفية التي تجري معه حوارات تطرح ذلك السؤال الذي أصبح بالنسبة له صداعا لا يحتمل وهم يقولون له، لماذا اخترت المرأة موضوعا رئيسا لشعرك... ونسيت الوطن؟ ويجيب نزار وهو متضايق بسؤال بسيط يحمل سخرية منهم وهو يقول، ولماذا لا أكتب عنها؟!... وكأنهم لم يقرأو ما كتبه شعريا وهو يقول:

  "كُلَّمَا غَنَّيْتُ بِاسْمِ المَرْأَةِ / أَسْقَطُوا قَوْمِيَّتِي عَنِّي، وَقَالُوا: / "كَيْفَ لاَ تَكْتُبُ شِعْرًا لِلْوَطَنْ" / فَهَلْ المَرْأَةُ شَيْءٌ آخَرَ غَيْرَ الوَطَنْ؟ / آه لَوْ يُدْرِكُ مَنْ يَقْرَأُنِي / أَنَّ مَا أَكْتُبُهُ فِي الحُبِّ.... / مَكْتُوبٌ لِتَحْرِيرِ الوَطَنْ"..."

   إذن فجزء من هذا السؤال يجيب عنه في هذا المقطع، وهو يتبرأ من أن يقرأ على أساس أن شعره للمرأة قط، بل هو يكتب لتحرير المرأة الوطن، ولذلك فما كتبه عن المرأة، إنما كتبه عن الوطن، والمرأة عنده وطن، لأن من يحب المرأة يحب الوطن ويحب الآخرين، وأنه كما يقول: "الوطن قد يصبح في مرحلة من المراحل عشيقة أجمل من كل العشيقات، وأغلى من كل العشيقات" ، كما يؤكد في موضع آخر هذا الموقف قائلا: "إن شعري كله ابتداءً من أول فاصلة حتى آخر نقطة فيه، وبصرف النظر عن المواد الأولية التي تشكله، والبشر الذين يملؤونه من رجال ونساء، والتجربة التي تضيئه سواء كانت تجربة عاطفية أو سياسية هو شعر وطني".

   ومن ثمة يظهر أن المرأة عند هذا الشاعر إنما هي رمز لتفجير قضايا وطنية وسياسية تحاول رد الاعتبار للمرأة، وكذلك معالجة هذه القضية الوطنية الإنسانية عن طريق قضية أخرى وهي الأهم "المرأة"، إضافة إلى كون رمزية المرأة في شعر نزار قباني ليست بلواء الوطن فقط، بل هو يجعلها أصل الوجود وجوهره، وبدونها لا شيء مهم، وهو ما يعبر عنه شعريا حين كتب يقول:

"لَيْسَ عِنْدِي قَصِيدَةٌ ذَاتُ شَأْنٍ / لَمْ تَضَعْ رَأْسَهَا عَلَى رُكْبَتَيْكَ / أَنْتِ أَصْلُ الأَشْيَاءِ .. هَلْ ثَمَ شِعْرٌ...

جَيِّدٌ لَمْ يَمُرَ بَيْنَ يَدَيْكِ؟...

ويقول في موضع آخر:

"يَا امْرَأَةً أُحِبُّهَا / تُفَجِّرُ الشِعْرَ إِذَا دَاسَتْ عَلَى أَيِ حَجَرٍ"

   فهو يرى أن المرأة هي أصل الوجود وجوهره، كما أنه يعتبر كل قصيدة من قصائده لم تضع رأسها على ركبت المرأة، ولم تمر بين يديها، ليس بقصيدة شعر، فهي أصل الأشياء ولا وجود للشعر بدونها، كما أنه يذهب أبعد من لك حين يرى أنها أصل الأشياء فهي الحياة ولا حياة بدونها.

   علاوة على تقديمة المرأة في أشعاره في صور مختلفة فمرة تكون أم، ومرة تكون حبيبة، ومرات تكون أشياء أخرى، فهو في كل مرة يبحث عن امرأة ما يلبسها ثوبا معين، وفي إحدى قصائده يبحث عن امرأة تحبه لذاته حبا أموميا، وهو يقول شعريا ما يلي:

"َ"أَحْبَبْتِنِي شَاعِرًا طَارَتْ قَصَائِدُهُ / فَحَاوِلِي مَرَةً أَنْ تَفْهَمِي الرِّجُلاَ / فَحَاوِلِي مَرَةً أَنْ تَفْهَمِي مَلَلِي /

قَدْ يَعْرِفُ اللَّهُ فِي فِرْدَوْسِهِ المِلَلاَ"

   على هذا الأساس فإن نزار في كل مرة يورد المرأة في سياق مختلف، ومن خلال مجمل ما كتب نزار يمكن أن نحدد نوع المرأة التي أحبها والتي عاش علاقة معها، والتي يوردها في شعره كرمز لقضية يراهن على تبليغها للقارئ، فهو مرة يتحدث عن امرأته كأنها تشبه أمه، وهو يقول: "أولها أن تكون من أحبها تشبهني، وثانيها أن تكون أمي.. وثالثها أن يكون فني جزءا من عمرها كما هو جزء من عمري".

     كما يؤكد هذه الحقيقة مرة أخرى في حوار أجراه سنة 1987 وهو على مشارف الستين من العمر: "لم تتغير مطالبي من المرأة كثيرا.. فلا أزال أبحث عن أم في كل امرأة أقابلها... ولا أزال أبحث عمن ترضى أن تسكن معي أنا وشعري، تحت سقف واحد..." ، وحتى ما إذا توفر الشرطان في معشوقته أي أن تكون أمام ومحبوبة في آن معا، فإنه يسارع إلى البحث عن عذر آخر وكأنه يبحث عن امرأة ليست من عالم النساء ولا تشبههن في ملمح من الملامح.

    ولع نزار بالجمال السحري للمرأة جعله يبحث عن كليبواترا أخرى رسمتها له مخيلته الشعرية، ودأب كمحب عذري ينقب عنها في كل امرأة يصادفها دونما جدوى أو حل. وهذا المبرر هو ما كان يقول به نزار: "أبحث مثل شهريار، عن امرأة تحبني لذاتي، لا لكوني شاعرا معروفا تحيط به الخرافات والأساطير من كل جانب.

  عــلى ســبيل الـخـتام.

   يبقى على العموم القول إن حضور المرأة عند نزار إنما هو حضور متنوع ومختلف، كما أنها حضور لتفجير القضية – قضية الإنسانية قاطبة – ولذلك فهو يعتبرها كجواز سفر، وبطاقة هوية لتمرير رهاناته الشعرية والكونية، كما أنها هي كل تاريخه وماضيه وحاضره ومستقبله وأبرز ما يميز ثقافته، بل هي ذاته الحاضرة الغائبة دوما، تختزل عناصر الحياة الأربعة، تختزل الفصول الأربعة، وتختزل العالم كله بكل مكوناته في ملمح من ملامحها، ولذلك فهو يعثر عليها أحيانا وتضيع منه في معظم الأطوار، فتشكل بذلك الحضور والغياب بلغة محمود درويش في الوقت نفسه.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة