فن الاضحاك بين جدل الاقصاء والاعتراف - سمير ملاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

داخل واقع التحول الذي تشهده ساحة الإبداع والفن بعامة، حيث تزدهر الكتابة نسبيا في مجال الأدب بمختلف أجناسه وأنواعه، نجد أنفسنا أمام سؤال بعيد عن مجال التضخم الذي قد يميز شكلا من أشكال الكتابة على الآخر، يتمثل في مسوغات اختيار جنس أدبي دون غيره وكذا العناصر المتحكمة والمحددة لهذا الاختيار. بعيدا عن المسلمات واليقينيات التي وسمت جل الكتابات التي تقارب الإبداع الأدبي،فإننا في هذه الورقة لا نسعى إلى إثبات تصور معين أوتفنيد آخر، ولكن غايتنا هي بسط فكرة للنقاش واخضاعها للافتحاص، إن كانت جديرة بذلك، وذلك عبر مداخل إشكالية نحصرها في ما يأتي:
هل يعتبر الاضحاك فنا؟ وما مسوغات إقصائه أو الاعتراف به، وما الحاجة إليه؟
يرتبط في كثير من الأحيان الحديث عن موضوع الضحك بمسارات يصعب معها معالجته بادعاء إطار نظري تخصصي وحيد لأنه موضوع تلتقي فيه السوسيولوجيا والانتروبولوجيا والسيكولوجيا وغيرها ومن هنا يتأبى أمر تحديد التقاطع بين التخصصات المختلفة مما يستدعي الاقتراب بحذر من تمفصلات الموضوع المختلفة والمتشعبة في الآن نفسه والتي تخدم فكرتنا القائمة على اعتبار الاضحاك فنا قائم الذات يعيش جدلية الاقصاء والاعتراف.

ننطلق في تقديمنا لهذه الفكرة من الزخم الكبير الذي عرفه موضوع الضحك من حيث الاهتمام به من قبل الدارسين والباحثين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم العلمية،فتحقق بذلك تراكما نوعيا وكميا في الثقافتين العربية والغربية، وحسبنا أن نشير إلى أهم التصورات التي تؤسس للموضوع وتنير درب الباحث فيه، ولعل أبرزها  تصورات أرسطو حول مفهوم الضحك في كتابيه فن الشعر وفن الخطابة وإيمانويل كانط وهنري بيرغسون اللذان ربطا الضحك بدراسة النكتة وهو الأمر الذي خصه أيضا سيغموند فرَويد باهتمامه بالنكتة وعلاقتها باللاشعور وأيضا كتاب ميلفن هيلتزر المعنون" بأسرار كتابة الكوميديا" الذي أورد فيه بالتفصيل النظريات الثمانية لأسباب الضحك كما أوردتها عالمة النفس" باتريشيا كيت-سيجل"، وهذه النظريات هي نظرية المفاجأة، نظرية التسامح والترفع،النظرية الحيوية، نظرية التعارض والتضاد، نظرية تكافؤ الضدين، نظرية الخلاص، نظرية الشكل أو المظهر النسبي والنظرية النفسية التحليلية، وما هذه التصورات والنظريات إلا مثالا على الاهتمام الذي خصه الباحثون في العلوم الإنسانية لهذا  الموضوع ونعتبر   الإشارة لهذه الدراسات الغربية  دعوة َ وحفز على قراءة التراث العربي للكشف عن جواهره المخبوءة والنادرة  والتطلع بفكر راجح  نحو المستقبل بروح متفائلة وهي دعوة لا محالة تجعل من هذا التراث رأس مال حيوي قادر على خدمة الإنسان، وما يهمنا في هذا الباب التراث الذي ينتمي بشكل أوبآخر إلى الأدب الشعبي ،المعبر عن البيئة الحقيقية للإنسان والمحملة بكل معاني الانتماء والهوية والأصالة.
يندرج فن الاضحاك إذا، ضمن هذا الأدب الذي يحمي الهوية من كل تشظي أو انسلاخ لأن الأدب الشعبي أو بعبارة أصح "أدب العاديين أدل على بيئته من أدب الخواص وأشباه الخواص." ١
لسنا بهذا القول ندعي انتصارنا لأدب على حساب آخر بل إننا نقول بأن الأدب الشعبي اذا ما تم استثماره لخدمة الإنسان، بلا شك يسهم على الأقل في تحقيق لذة الأدب المفقودة.
إن المتأمل في التراث العربي يجد تطبيقات علمية جادة حول الضحك تتمثل في حكايات" الكدية"، في مقامات الهمذاني والحريري ونوادر جحا وغيرها وهي تطبيقات وظفت الضحك بوصفه موضوعا تارة، وتارة أخرى جعلت منه تقنية لمعالجة ظواهر اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية وغيرها.
وسواء كانت كتابة الاضحاك تقنية أو موضوعا فإن الاهتمام بها والاعتداد بأهمية الضحك ومكانته لم يكن أمرا اعتباطيا بل كان مبررا ومقنعا إلى درجة تحول فيها - الضحك- إلى حجة دالة على سرور النفس وصفائها وحسن طباعها وجعلت الجاحظ يصفه بأنه أصل الطباع كلها " وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيما ومن مصلحة الطباع كبيرا وهو شيئ في أصل الطباع وفي أساس التركيب لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي وبه تطيب نفسه، وعليه ينبث شحمه ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته" ٣
واعتبر الضحك أيضا "قيمة تصور للعالم عميقة لأنه أحد الأشكال الرئيسة التي من خلالها تتجلى الحقيقة حول العالم في مجمله حول التاريخ حول الإنسان.. وحده الضحك بالفعل يستطيع الوصول إلى بعض مظاهر العالم المهمة للغاية. "٤
إن هذه الآراء التي أعلت من شأن الضحك توجد على الطرف النقيض من آراء أخرى قللت من شأنه وبخست دوره نستحضر هنا موقف القرن السابع عشر وما بعده" لا يمكن للضحك أن يكون شاملا شموليا لتصور العالم، إذ ليس في امكانه سوى أن يخص بعض المظاهر الجزئية والنوعية من الحياة الاجتماعية :مظاهر ذات طابع سلبي، إن ما هو أساسي ومهم لا يمكن أن يكون هزليا، لا يمكن أن نعبر بلغة الضحك عن الحقيقة الأزلية حول العالم، وحدها النبرة الجادة هي اللازمة، لذلك يخصص للضحك في الأدب مكان بين الأجناس الدنيا. "٤
واذا ما تساءلنا في ثقافتنا العربية  عن أسباب التقليل من شأن الضحك نجد ارتباطه بضده - وبالاضداد تميز الاشياء- وهو الجد واعتبار هذا الأخير الطريق الأنسب والوحيد للوصول الى حقيقة الأشياء.،بالاضافة الى تكريس التوجه الديني والمقدس لثقافة الامتحان وأن العسر سابق على كل يسر.
 وبالابتعاد قليلا عن الجدوى والغاية من تهميش ثقافة الاضحاك والأسباب الكامنة وراء ذلك من تخويف وتهويل للمواقف وبخاصة غير المألوفة وكذلك استحضار ألم كشف الأوهام لابد من العودة إلى إعادة صياغة السؤال هل بالفعل يجعل الأدب الإنسان محورا له؟
إن الأدب عموما يكتب في منأى عن اليقينيات والبدهيات ويترك الباب مواربا أمام الشك والسؤال والجانب المظلم في الإنسان، وما كتابة الاضحاك الا تجسيدا حقيقيا لهذا المنحنى لأن البحث عن المضحك لا يتوقف ويتغير لارتباطه والتصاقه بالحياة وبالذات معا في التباسهما، في اتحادهما وتنافرهما.
لقد سعت كتابة الاضحاك وهي الكتابة التي تفرز أدبا قلقا ومشاكسا، معبرا عن الجدي والمركز بلبوس الهزلي والهامشي، وحسبنا ان نستحضر - في ما يسمى بالأدب العالم - كتابا من قبيل محمد شكري ومحمد زفزاف وادريس الخوري ممن عبروا عن السفلي المضحك والمؤلم في الان نفسه.
من هنا يمكن أن نعتبر بأن كتابة الاضحاك تعد وسيلة ناجعة لمواجهة الاعتقاد بالحقيقة المطلقة،سواء على المستوى العقدي أو الأخلاقي أو الفكري. إنها مولدة للشك وداعية له، إنها السعي وراء فضح البداهات والكشف، عن أسرارها وهذه بعض غايات  كتابة فن  الاضحاك  ،ولذلك نقول بالحاجة إلى هذا النوع من الكتابة التي تعني التأريخ للإنسان في شموليته غير منقوص مما يعتقد أنه سفلي ومنحط وبذيئ،غير أننا في دعوتنا إلى الكتابة نتخوف من الجسارة على خوض فعل الكتابة الذي يرتبط بالمعاناة والألم والمتعة في الان نفسه والوقوع في البذاءة والادعاء تحت مغريات وصفات مزيفة من قبيل روائي عظيم وشاعر فذ وقصاص وناقد لا يشق له غبار وهلم جرا، ولتجاوز كل هذه التخوفات أليس من الأجدر البحث عن طريقة كفيلة بتقزيم النرجسيات المقنعة ولن يتحقق ذلك إلا من خلال الإقرار بدور المهرج في الثقافة الإنسانية عامة  وفي الأدب بخاصة بغض النظر عن الدور المنوط به فقد استطاع أن يبلغ الارب عبر تمرير الخطابات وتكسير حواجز الجدة التي تفرضها هيبة السلطة والسلطان وخير مثال على ذلك الدور الذي لعبه" البهلول" وقبله أبو" دلامة" في إدخال البهجة على الخليفة أولا والاستفادة منه والأهم تجنب غضبه وسخطه، إنه اللعب مع الموت بواسطة الضحك والحيلة، بل يتحول  التهريج إلى وسيلة لمعارضة الحكم والسياسة والتعبير عن المواقف دون الوقوع تحت طائلة العقاب.
إن ما يفرض  الحاجة أيضا للبحث عن فن الاضحاك وبخاصة في أيامنا هذه ما يحبل به واقعنا من مآسي جعلت منسوب التشاؤم وفقدان الأمل في المستقبل يتزايد وبحدة وبخاصة بعد تغليف أغلب مناحي الحياة بغلاف يدعى الرزانة والجدية ويخفي مظاهر الفرح والضحك أو يؤجلها إلى حين بضغط من ثقافة مَوروثة أشرطت النجاح بالفشل والخلاص بالألم، إننا في حاجة اليوم للتخلص من الخوف من الضحك والابتعاد عن مقولة "الله يخرج هذا الضحك على خير" لأن في الضحك شفاء للناس وعبرة لمن لا يعتبر.
وختاما يمكن القول أن كتابة الاضحاك هي:
 أولا كتابة الشك في البداهات ومقاومة تسلط المركزي تجاه الهامشي.
ثانيا:كتابة الاضحاك تحرير للعقل من وهم الحقيقة المطلقة
ثالثا:كتابة الاضحاك تحقيق للذة الأدب ومتعة التلقي
رابعا:كتابة الاضحاك وسيلة للاستشفاء من أمراض النفس والوعي بالذات والمحيط ووسيلة لتقبل المختلف.

هوامش:
١،عبد الحميد يونس، الهلالية ص. 9
٢،الجاحظ:البخلاء،ص.18
٣،ميخائيل باختين:أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وابان عصر النهضة، ص96.
٤،ميلفن هيلتزر:أسرار كتابة الكوميديا ترجمة صبري محمد حسن. ص، 23.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة