ما لم ينقشه الوشم على الشفق أو شعرية : الاستغراق في مواجد الذات المتوحدة والهائمة - امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يدشن الشاعر علال الحجام دخوله لمحراب ديوانه الأخير : "ما لم ينقشه الوشم على الشفق"-1- بقصيدة: "علو"، وهي عتبة يمكن اعتبارها "بورتريها" لذاته الشاعرة، يرسمها بخطوط الحروف المترجمة لنبضه، وبلسانه اللاهج بمكنونه عبر مراسلات وجدانية تنبثق كالدرر، وكأنها ينابيع متدفقة من عيون القمم الرقراقة، والديم السكوبة المبشرة بإقبال قطرات الغيث الحاضنة للقطوف الدانية:
"ليكن لسانك يا قلبي ترجمان نبضك
فكلما احلولت على الأسئلة الحروف
انبثقت دررها مؤتلقة
...فهي مثل المطر تماما أوله قطر
وآخره نهر تحف بهديره القطوف."-2-

إن الحروف مهما تمنعت قبل انطلاق القول الشعري، تبدو طيعة منقادة حين تبدأ شرارته الأولى، فهو كرذاذ المطر الذي يبتدئ بقطرة، ثم قطرات فيض سرعان ما تتحول بعدها إلى أنهار واعدة بالخصب واليناعة المبشرة بجني الثمار الوفيرة، أي باستواء القصيدة على شكلها النهائي.
تتضمن هذه القصيدة إذن خطابا ميتا-شعريا أراد لها الشاعر أن تشكل عتبة ديوانه، وبيانه الذي سيؤطر تجربته الشعرية الأخيرة على مستوى النشر.
فإلى أي حد التزم الشاعر ببيانه هذا في متنه الشعري؟ !
هذا ما ستحاول هذه الدراسة أن تستقرئه من خلال التأمل الرصين في القصائد التي أثثت فضاء هذا الديوان.
نسج الشاعر متنه الشعري مقسما إلى خمسة أجزاء:
1- الجزء الأول : تحت عنوان : "كأس للكاهنة وكأس للدليل" ويتكون من أربع قصائد هي في الأصل استمرار لبوحه الشعري الذي بدأه في ديوانه ما قبل الأخير، "صباح إيموري"-3- وهي على التوالي :
- "شكيمة الكاتراس" : وهي قصيدة تلفها غلالة الحزن الشفيف نتيجة استشعار ألم الغربة والوحدة والحنين إلى الموطن الأصلي، ويمكن تلمس ذلك بكل وضوح في العبارات والجمل الطاغية على الفقرات الستة المشكلة لهذه القصيدة:
... "والليل طويل" إذا هبت رياح الشوق من أعلى شرفات الربوة ؟
باردة عرائش الأمل الظليل وباردة أمواج الهادي
وأنا الآن أغرق في تنهيدتها
من يشاركني زنزانتي ؟ وحده الغد المتوقد بركانا في كهوف الذاكرة،
يصغي للموج يعتصر الحنين
...وحده يسمع مرثاة العقارب
ما أحزنني ....ما أحزنه ألقا يشقى
بعد عقد ونيف ، يمسي حبيسا في عنابرها
يقايض بالتبغ نيشانه الذهبي،
ويكفر بالأمل المخضر ومطلع أوهامه... !"-4-
- "جرو سوساليتو": وفي هذه القصيدة ، يوظف الشاعر بعض تفاصيل حياته اليومية في بيئة معقدة مختلفة عن موطنه الأصلي، إنها بيئة العالم الجديد الذي بهره وأحاله إلى إنسان ممسوس بسحر عوالمه في ديوانه السابق "صباح إيموري" ، غير أن الملاحظة هنا هي جنوح التعبير الشعري إلى الانزياح اللغوي الموظف بمهارة من أجل رسم ما يزخر به هذا العالم، وما تتميز به هذه البيئة من معالم عمرانية رائعة ، وملامح حضارية مدهشة ، إذ يقول في هذه القصيدة :
"المنازل البيضاء تزهو بغلالاتها الخضراء
تتسلق سلالم الثريا المعلقة ما بين الأزرق والأزرق
والغيوم تغير تسريحتها وتضم إليها العرعار،
فيما يفترش البحر السكينة سجادة لابتهال الزنابق
ويفترش الصخر الدعابة بوابة لبذور النهار"-5-
-"مارك ستريت" ويسعى فيها الشاعر إلى لم شتات جزئيات ما يحاصر الإنسان في حياته العادية في بيئته المتحضرة تعج بمظاهر التمدن ك: المصارف ودور الموضة ومحطات الترامواي والحانات ومطاعم الأكلات السريعة، والتي تستنزف كل وقته، ولا تساعده على الاستمتاع بعروض المسارح، أو الارتواء في كنوز الخزانات ودور الثقافة والفن:
"غريب أمر هذه المسارح
والمعاهد والخزانات العمومية
كيف تِؤاخي حمائمها
رعونة المصارف متهتكة
تغازل دور الموضة في "المارك ستريت"
مصير واحد
تتصالح في سراديبه الأضداد مقهقهة
تنط من تاكسي إلى ترامواي
ومن ترامواي إلى باص ،
قبالة الفنادق المتآكلة مراياها
تصالح الفنادق الباذخه
مثلما تتصالح البيعة والمسجد والكنيسة."-6-
إن ما يثير الشاعر إذن هو هذا التناقض البادي على مظاهر هذه البيئة المعقدة، إنه التباين الذي يسم العالم الجديد بالاختلال والتنوع سواء على صعيد المؤسسات التي تحرض الإنسان على الاستهلاك البشع، أو فيما ترمز إليه من قيم معارضة. إنها بيئة العالم الحر(أمريكا).
-"مساء الخير يا سركون" : وهي قصيدة في رثاء الشاعر العراقي المبدع "سركون بولص" حيث يستعرض علاقته التي نسجها معه حينما صادفه ذات مرة بمقهى بسيط بالحي اللاتيني بباريس، ويناجيه مذكرا إياه بالدور الريادي الذي لعبه في صياغة شعرية رائقة أثارت انتباه النقاد ، إذ يقول:
"في مقهى بسيط في الحي الصيني
رأيتك أيها القديس بسيطا
تستحضر آلام الشعراء في كركوك.
يلوكون حرائق الفرات لا يطفئها
عطش العراجين ولا مرارة التمر."-7-
ثم يمضي في استجلاء ما تميزت به شاعرية سركون بولص التي ابتدعت مسارا خاصا بها جعلته يغرد خارج أسراب الشعراء الذين لا يقولون إلا كلاما مكرورا :
"حييتك
ثم ابتسمت كطفل يعاتب حميته،
و رددت التحية توا بأحسن منها،
اشارت قافية متعانقة بسبابتها الى البلبل
بعيدا... بعيدا عن السرب
كانت أغانيه فوق الغيوم تحلق أنجمها
تحرض ما حوله من عبوس على الفرح
ولا ركح يرفعه ستاره
لملائكة قد تشكك أهواؤها في صعيد البديهة..."-8-
ثم يشيع رحيله المفاجئ وصمته الأبدي بعد أن غادره في المقهى ، ملوحا له بالوداع الذي كان آخر عهد للشاعر به، إذ يقول :
"ابتعدت بعشرين حلم وبضع زنابق
رميت ب"عظمة أخرى لكلب القبيلة"
بكلتا يديك لوحت لي ، ولوحت باليمنى
وأدركت أن الوداع عد
خناجره مشحوذة على بازلت القهر
دمه الحار أغنية مالحة
ما زال القيثار الغجري يرددها
يخبئ عطر الرحيل المفاجئ ."-9-
2- الجزء الثاني : تحت عنوان : برنامج النحلة: ويعود الشاعر في هذا الجزء للتملي بسحر العالم الجديد (أمريكا) ، والتأمل في مظاهره العمرانية، فالأماكن ليست كالأماكن ، والمظاهر مختلفة عما ترسب في ذاكرة الشاعر رغم ما راكمه من أسفار خارج وطنه الأصلي. وهو يتقمص دور النحلة الموظفة لمجمل ما يمتصه من رحيق متنوع المصادر، لإغناء قفيرها بما حلا وساغ من العسل الخالص.
إن تيمة السفر هي محور هذا الجزء باعتباره ضرورة لتجديد النسغ كي يتفجر ينابيع رقراقة تضفي على النص الشعري ألقا يتجدد بتجدد مشاهدات الشاعر، فالقفير هو هو في كل الأمكنة، إلا أن جنيه مختلف باختلاف الأمكنة، وتنوع أجناس الزهور والرياحين، بل حتى تنوع الأصوات وعوامل المناخ:
"قد يكون القفير نفس القفير قرب منابع الأمل
لكن هذه الأصوات غير مألوفة
يتهيأ أن مخارجها متداخلة الأوصال
ونبرتها حارة اللفظ، والنطق غريب
وعلى النحلة منذ الآن
أن تخطط برنامجها الوضاء بتعويذة العسل."-10-
ها قد بدأ الشاعر في ترويض ذاته على مكابدة الشوق ومعاناة الغربة كي ينسجم مع ما هو جديد يحاصره بدءا من لغة الناس بالعالم الجديد، وانتهاء بمظاهر التمدن الحقيقي، وهو لذلك حريص -حرص النحلة- على تنويع مصادر بوحة الشعر ليقطر عسلا من لآلئ الكلام القادر على إضافة مسحة جمالية على الموصوفات:
... "وغدا تتعود النحلة على انتظار الباص 36
وتعرف كيف تقتفي أثر الخوخ والبرتقال
... وتعرف كيف تمرق من "أكسفورد ستريت"
إلى متحف "مايكل كارلوس" -11-
إن النحلة هنا استعارة ضمنية للذات الشاعرة المتلهفة لاستجماع رحيق المعرفة من كنوزها الصافية التي تزخر بها المكتبات العمومية ، والمتاحف الصائنة لخبرات الراحلين من العلماء والأدباء والفنانين، ومن المظاهر الوضاءة للحضارات الدارسة. ولذلك نجده في هذا المقطع الشعري يروض النحلة (أي ذاته) كي تستطيع قراءة حركات القارئ الضمني -على حد قوله- :
... "لعلها تستطيع قراءة حركات القارئ الضمني
يتجول في الأسواق والحدائق والمكتبات العمومية
...لغزل الأسطورة من أولها بحرير سني
وزنه ضمائر الراوي بمكيال الألق "-12-
ومن تم يتوسل الشاعر/ النحلة كي تكون روزنامته طيعة علها تساعده على التعبير، المدهش الخلاق:
"لتكن الروزنامة طيعة
قبل أن تصبح شاهدة على تحول الفصول
لكي يكتب في الصبح مزمورها صفحة واحدة
ويستريح على ألف خفاف كالغيوم في المساء
ساخرا من مداده الظامي ومن قلمه ..."-13-
ثم يخصص الشاعر ما تبقى من قصائد هذا الجزء تحت عنوان "مفاتيح" للعودة إلى البوح الشعري المنبهر للعالم الجديد، والمفتون بملامح عمرانه وبيئاته والتملي في هذه المظاهر وتسجيل ما تثير فيه من إعجاب واندهاش، مع ميزة تنضاف له هذه المرة ؛ وهي التعبير بشعرية رقيقة منسابة ترتكز على تقنية الانزياحات اللغوية التي تساعده على صياغة تصويرية محبوكة بإتقان كما هو واضح في هذا النموذج المستقى من قصيدة "مفتاح الزيزفون" ؛ حيث يقول في أحد مقاطعها مناجيا ذاته المغتربة المطوحة في ساحات وحدائق وشوارع ومطاعم العالم الجديد:

"ربما محوت الذاكرة
عللك تلازم عشق آخر بعيدا عن الشجرة
من يدري، أو ربما تكورت في ركن ركين
يطوي استعاراتك الحوراء طيا
بين نوم الأوراق المهشمة أو تحت
حنو الحجرة
فغدوت نسيا منسيا "-14-
3- الجزء الثالث: تحت عنوان:"رواق العم روي" وينتقل الشاعر علال الحجام في الجزء الثالث من المتن الشعري لديوانه: "ما لم ينقشه الوشم على الشفق" إلى توظيف بعض الأساطير اليونانية، و الإحتفاء بعبق حضارة أثينا ، مما يضفي على نصوص هذا الجزء مسحة جمال ترتقي بالتعبير الشعري وتحرره ليرتاد آفاقا مجنحة بالإيحاءات المستقاة من عيون الحضارة الإنسانية، حيث يقول في قصيدة : "الشاطئ" :
"هل هي أثينا ذات خريف
تطارد عقبانها سرب الحمام
"أم جزيرة طيبة" صعدا تمتد
من تخوم الحلم
على صهوة الأريج
حتى طاحونة القيامة في فييتنام ." -15-
ثم يتوغل في استقراء الأساطير اليونانية المجسدة في التماثيل المنتصبة في الساحات العمومية، الشاهدة على ما انصرم من عبق تاريخ الإغريق الموشوم في الذاكرة الإنسانية، فيقول:
"لجراح الأساطير تماثيل
تغالب دجنتها مشرقة
بعضها ينطق نائما في خيمة الشمس،
وبعضها يوقظ جمره بالقدم اليسرى المكسورة،
والثالث رقاص
يتثاءب بين النطق وبين الإشارة
في حلبة يلهو الظل فيها بالأشعة
دون أن يعرف يد الطارق ولا يد المطرقة..."-16-
4- الجزء الرابع: تحت عنوان : ظل المخلاة في المرآة: وهو حيز خصصه الشاعر لتشكيل رؤيته للعالم وفق ما خبره من خلال تجربته في الحياة، إنها عودة إلى اعتصار ما اختمر في وعيه من دروس وعبر، أو بمعنى آخر إعادة الاعتبار للحكم المستقرة في دواوين الشعر العربي الكلاسيكي والتي كان يختم بها الشعراء قصائدهم لغرض تعليمي صرف. يقول في قصيدة : "غليل":
"الدلاء التي لاتداوم
على نقل الماء طوال النهار
تشتعل عطشا
أحر من الرجم
...وقتئذ، تدرك أنها لم ترو غلها
من دفق بئر لا تزال تكتوي
بخدعة البحر." -17-
وفي قصيدة "عراء" يقول:
"كل ما تساقط من أوراق ذهبية الأزرار،
كان ذات يوم كساء للجذع المقرور
وكان لنسغ الأعالي وعاء،
لكنه بعد غد
سوف يغدو غذاء وماء..."-18-
وفي قصيدة "مهاوي الجنون" يوظف الشاعر تقنية السرد الحكائي لينسج خيوط قصيدة يريد لها أن تكون درسا له مغزى يؤدي إلى أخذ العبرة مما قد يصيب المرء البريئ من غش وخداع، فهو كلما أمسك بخيوط الغبطة التي تسمو به في مسارب المتعة الحسية إلا واكتشف بعد فوات الأوان أنها ليست سوى غواية قد تطوح به في دروب الشك والحيرة والقلق المتجدد، لتصل به إلى حالة الانكسار: وفي قصيدة : "ك" يكتشف الشاعر سرا من الأسرار التي أصبحت عملة في سوق النخاسة على المستوى الاجتماعي، فيعلن دون مواربة:
"قد أدركت أخيرا أن البسمة الشمطاء وباء."-19-
وفي قصيدة "درس النملة" يستوحي الحكم والعبر المستقاة من القصص التي رويت عن الحيوانات في التراث العربي القديم لينسج منها رؤية شعرية مسكونة بعبق التراث الأصيل، إذ يقول:
"أكره الثعلب لأن صداقته عدم
وشريعته دامية ،
لكني للنملة ممتن
أسمع حكمتها مجلجلة
تعلي قصرا وتنخر طودا." -20-
5- الجزء الخامس : تحت عنوان "فصول الملساة ":
في هذا الجزء عودة إلى اعتصار ما ترسب في قرار الذات الشاعرة من مشاعر : التوجس والترقب نتيجة استشعاره لثقل الزمن المحدود أمام تعدد مسؤولياته والغربة والحنين كمعادلين موضوعيين لممارساته اليومية في بيئة موحشة لا ترحم.
يقول في قصيدة : "تجسس" ، مفصحا على توجسه:
"العصفور الذي يطرق
باكرا شباك غرفتي
بشقشقة تتراقص في جسر الحس
فرح رهيب
كالحرف اللاهب للخطرات يحيرني...
يا غناءه الهارب من تكثيرة الظلام
هل تحمل رسالة سرية
بخط خربشته عقارب المس
من فجر أخرق
لم يبال يوما بالغمام ،
أم أنك تتجسس على قلبي المملوء
بأشعة الشمس." -21-

ثم يردف قائلا في قصيدة : "ظهرا لظهر" معربا عن قلقه :
"هيهات أن أطمئن لما يجري خلف ظهري
عندما أجلس وحدي !
أكيد أن ثمة بصاصين من سلالة
تقنص طرائدها في الظلام
بستين عينا وخمسين أذنا،
إلا عينين اثنين
إلا على ترصد بعد واحد
من أبعاد المكر."-22-
أما عن الإحساس بثقل الزمن، واستشعاره للغربة والحنين في بيئته الموحشة فيقول :
"كالكنغر ينط المنبه
...ما أسرع العقربين في الخريف
يمضيان إلى سرهما المتهاوي على عجل
وأنا كلما ودعت ساعة
مزقت ورقة من عمري
قبل أن تتناثر أرقام روزنامتي
في الضباب الكثيف
ينزل النازلون إلى كهفهم
تاركين حقائبهم خلفهم لعواجسه النافرة،
...
واجما أتوعد مقصلتي ،
لا أطأطئ رأسي لبرق وقاحتها ،
وأظل إلى آخر الشوط ، أروي زهور احتجاجي
على خطإ
لا يصحح مهزلة الواقفين أمامي كالقدر،
وعلى خدع
لا تبخر عجرفة الشمس في قمة الجبل ..."-23-
بهذه الطريقة ، ينهي الشاعر جزءه الخامس عازفا على وتر ذاته الحساسة ، حيث تحضر الذات المحاصرة بحبائل الزمن اللولبي الذي لا يرحم في بيئة معقدة، وهذا ما يسلمه لاعتصار الكمد، وتسجيل ما ينتاب هذه الذات من حيرة وقلق وتوجس مع الحرص على مسحة التعبير الغنائي.

6- الجزء السادس : تحت عنوان "لطيفها البقية":
وهو عبارة عن مجموعة قصائد أراد لها الشاعر أن تكون بوحا ذاتيا صرفا تجاه من ملك فؤاده وشغاف قلبه من أحبته الأوفياء الأصفياء الذين يعلن لهم الطاعة والحب والوفاء عبر إبراز مشاعر التعلق والارتباط والشوق، والحنين إلى التملي بأطيافهم كلما غبشت الأماسي التي تؤلب عليه الحزن الداخلي على فراقهم.
ففي قصيدة "ضجة" يتراءى له طيف أعز الأحباب إلى قلبه، وتحاصره ملامحها في كل الأمكنة التي تسائله عن نبضاتها وأنفاسها ، إذ يقول :
"كما أراك متلألئة
في كل مكان آنستاه معا يوما ،
ووزعنا على جنباته الأفراح والحروف والشغب ...
فإن كل الأمكنة الأخرى التي
لم نمر بها يوما معا،
ولم تعرف من نارنا لهبا
تضج وتسألني عنك نبضاتها الشاردة ...
فكيف لا تحسني إلا إذا ازدهت بأنفاسك
وكيف لا تسمي أشياءها
لقلبي الواقف شهدة على قدم واحدة
إلا برنين عطرك يمتطي سروج أجراسك ...؟"-24-
إن الحنين إلى مستودع أسراره قابع في أناه السفلى لا يستطيع له ردا، وكيف له أن يفعل وهو مسكون بطيفها الذي لا يبارحه إلا ليسلمه لحرارة شوقه لها، إنها المالكة لمفاتيح جنته البهية، ولفرحه المؤجل:
"ها أنذا أوغل في انذهالي ،
محلقا يحيط بي قوس قزح...
تسألني الشمس
عندما تختال فراشاتها في الأعالي ،
وهي تناولني مفاتيح جنتي البهية:
- لمن كل هذا الفرح؟
- للحبيبة أضعافه،
ولطيف لها
في مراياك حين تغيب البقية..."-25-
ولربط السابق باللاحق ، يعود الشاعر في قصيدة : "فخاخ" إلى خطابه الميتا-شعري الذي استهل به ديوانه، ليعلن نسكه وتوسله في محراب بوحه الشعري (الذي يستعير له الغيم ثم المطر كما فعل في عتبة ديوانه في قصيدة "علو") ويستدرجه كي يستوي على شكله النهائي الذي يشيع الفرح الساري بين جوانحه، ويضيء له مسالك رعشات القصيدة.
ومن ثم يبدو الشاعر مهووسا بترقب رقصات الساعات السعيدة التي يحظى فيها باقتراب همسات قصائده الأولى التي يصطادها قبل حلول الفجر اصطياد الصائد لطرائده في الغابة:
وئيدة همستك
كرقاص الساعة السعيدة
كم انتظرت فجرها
ينشر ظله على الوهاد،
يسل الصبح متعبا
من وجل الكسوف ،
ولولا نقر وعدها
لما استطعت يا ابتسامتي ،
أن أوقظ حرائق الأفراح في الحروف
وأنا أنفث الروح
غضة في جسد القصيدة..."-26-
وهو حين يتمنع عليه دخول ردهات مغارة قصيدته ، يستعين عليه بكوة صغيرة تتسلل منها أشعة الشمس المتراقصة كي يتخلص مما يساوره ، ويخطه على صفحات ديوانه:
"أمس فقط كانت في مغارتها الموصدة
لم تكن تعرف الطريق
إلى أي جنة خارجها،
أطرقت فجأة متأملة ذات حلم:
- ما أجمل تلك الكوة ،
سوف أكتب
ما يتراقص بين أشعتها
كي أخلص حسي من محبسي...
- هذا خيارك."-27-
ثم ينهي علال الحجام جزأه الأخير هذا بقصيدة : "ترياق" هي بمثابة تركيب لرؤياه المهيمنة على متن ديوانه الأخير : " ما لم ينقشه الوشم على الشفق" والمتمثلة في استغراق الشاعر المبدع حول ذاته المتوحدة، وتوغله في مواجده الكامنة في نسغه، والسارية بين جوانحه هو الإنسان المبعد قسرا لظروف مهنية، والمطوح على مسافة آلاف الأميال هنالك في العالم الآخر، عالم العجائب والغرائب المشيد على طراز بديع وفق رؤيا حداثية تغري الناظر والزائر:
" صدأ الوحدة ترياق حرائقه الوله
لا يشعل الجنان أبدا
بما يخوض لسان فيه،
أو ما تفتتن عين به،
أو ما تنقاد أذن إليه ،
فطوبي لمن صفا له وجده لذاته،
وغدا همه اللولبي
هما واحدا
لا شريك له ...."-28-
يستنج المتأمل في المتن الشعري المتدفق عبر صفحات هذا الديوان الموسوم ب"ما لم ينقشه الوشم على الشفق " أنه يندرج في مشروع الشاعر علال الحجام من أجل إنضاج تجربته الشعرية انطلاقا من ديوانه:" في الساعة العاشقة مساءا " ثم مرورا بديوانه اللاحقين :"صباح ايموري " -29- و" اليوم الثامن في الأسبوع "-30- ويمكن تلمس المعالم الكبرى لمشروعه هذا فيما تحقق من تراكم كمي ونوعي يتجسد في العناصر التالية :
أ‌- التحرر من الغنائية الحالمة بسحر الخمائل والغدران، ونشدان قيم الصفاء والطهارة عبر استنطاق ما تزخر به الطبيعة من سحر أخاد، ورونق نفاذ.
ب‌- تجاوز مفهوم الالتزام الذي دشن به انخراطه ضمن كوكبه شعراء السبعينات التي كانت متلهفة إلى استنشاق خالص الهواء والتملي بسحر البهاء .
ج- السعي حثيثا إلى إضفاء طابع يميز مسار تجربته الشعرية، وذلك عبر:
- تطعيم بوحه الشعري بمختارات ذكية من الدرر الكامنة في عيون التراث العربي (فكرا وأدبا).
- توظيف الأساطير (الإغريقية واليونانية والرومانية)، وسبر أغوارما تختزنه من رموز وضاءة قادرة على رفد القول الشعري بإيحاءات ودلالات إنسانية نبيلة.
- إغناء نصوصه الشعرية بما خبرته الذات من قيم فكرية، وتجارب إنسانية مستقاة من رحلاته المتنوعة، وأسفاره المختلفة ؛ سواء لعواصم العالم العربي عبر مشاركاته الثقافية و الإبداعية في ملتقيات سنوية أو موسمية، أو لمواطن الحداثة والتمدن بفعل تنقله إلى عواصم ومدن العالم الغربي .
- التمرس بتقنيات إنتاج النصوص الشعرية، واكتسابه لمهارات نحت لغة نضرة غنية بأساليب. بيانه وبلاغية سواء من خلال ما ترسب في وعيه وإدراكه لتقنيات إنتاج الخطاب عربيا، أو استغلال ما تسمح به الأساليب الحداثية في الثقافة الأجنبية (وخصوصا الفرنسية) كتوظيف الخطاب الميتا-الشعري الذي أكسبه القدرة والمراس على امتلاك تقنية (الكتابة داخل الكتابة)، أو استعمال تقنية "الإنزياح اللغوي" ؛ الذي يتيح له التعبير بالتراكم الصوري الذي يتجاوز مفهوم الصورة النمطية في البلاغة العربية .
وهذه العناصر مجتمعة هي ما أهل الشاعر المبدع علال الحجام إلى تحقيق تراكم نوعي في مسار مشروعه الشعري الذي لا يزال يحبل بمفاجآت سارة في المقبل الآتي ، وإلى السمو بتعبيره إلى عوالم لا تتاح إلا للموهوبين و الممنوحين لقدرة هائلة و مهارة خارقة.
امحمد برغوت :أستاذ باحث في الأدب الحديث.

الهوامش
1- علال الحجام :"ما لم ينقشه الوشم على الشفق" منشورات بيت الشعر في المغرب .
ط1 يناير 2014 مطبعة دار المناهل.الرباط.
2- علال الحجام : من قصيدة :"علو" ص:7
3- " " : "صباح ايموري" منشورات جامعة الأخوين 2011.
4- علال الحجام من قصيدة :"شكيمة الكاتراس" .ص:11-12-13-14بتصرف .
5- " " " :"جرو سوساليتو " ص15
6- " " " :"مارك ستريت" ص18-19
7- " " " :"مساء الخير يا سركون" ص25-26
8- " " نفسه :ص26
9- " " " :ص27-28
10- " " من قصيدة:"برنامج النحلة"ص:31
11- " " نفسه :ص34
12- " " نفسه :ص34-35
13- " " نفسه :ص36
14- " " من قصيدة :"مفتاح الزيزفون " ص47.
15- " " " :"الشاطئ" ص53
16- " " " :"رأس بدون جسد" ص60
17- " " " :"غليل" ص93
18- " " " :"عراء" ص96
19- " " " :"ك..." ص105
20- " " " :"درس النملة " ص121
21- " " " :"تجسس"ص109
22- " " " :"ظهرا لظهر" ص110
23- " " " :"روزنامة"ص113-114.
24- " " " :"ضجة" ص127
25- " " " :"لمن كل هذا الفرح" ص128
26- " " " :"همسة"ص132
27- " " " :"حدوس" ص134
28- " " " :"ترياق" ص 139
29- " " " : "صباح ايموري" منشورات جامعة الأخوين 2011.
30- " " " : "اليوم الثامن في الأسبوع" منشورات اتحاد كتاب المغرب
ط1 يناير 2013.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة