صباح إيموري -1- : شعرية الانخطاف للعالم الجديد : أمريكا - د. برغوث امحمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 يعلن الشاعر السبعيني : علال الحجام بلا مواربة في تجربته الشعرية الجديدة الموسومة ب"صباح إيموري" عن انسلاخه الكلي عن تجاربه في الكتابة الشعرية السالفة والتي استمرت طيلة ثلاثة عقود من الزمن ونيف، تمحورت حول انخراط الذات الشاعرة في حركة شعرية طليعية - وقتها- انبرت للدفاع عن وظيفة شعرية ملتزمة بقضايا الإنسان المسلوب الإرادة، القابع في غياهب الظلم والتخلف قصد تحريره مما يكبله من أجل استنشاق خالص الهواء، والرنو إلى دفء الشمس من أجل التملي بسحر الأضواء، ومحاربة كل المعيقات من أجل بناء غد بالغ الرونق والبهاء، ويصر الشاعر على إحداث قطيعة كلية عما حرضه على البوح الشعري في عقوده الثلاثة الماضية، وعما كان مهووسا بطرحه من رؤى وأحلام وآمال، وعما كان منشغلا به من التزامات فكرية وثقافية ونضالية عاهد قارئ متنه الشعري على بلورتها والتعبير عنها فنيا كمتحدث باسمه؛ باعتبار أن الشاعر يستمد مشروعية استمرار بوحه الشعري بناء على تعاقد ضمني بينه وبين متلقيه قصد إشراك جمهوره في الرسالة النبيلة التي يروم إيصالها إليه، ومن هذا المنطلق يكتسي تدفقه الشعري اتساعا أو ضيقا، رواجا أو انحسارا حسب التطور الذي يندرج فيه هذا التدفق .

ومن أجل القبض على صور هذا الانسلاخ، ودلائل هذه القطيعة التي ابتدأت بانخطاف الشاعر العاشق لملامح الأطياف الساحرة البريئة - فيما مضى- إلى التسبيح بسحر العالم الجديد والانبهار بمظاهره الحضارية والعمرانية، نصوغ هذه الشهادة الذاتية التي تعلن دخول الشاعر صاغرا في حوار مع أمريكا، إذ يقول :
"إن حواري الجاد مع أمريكا لم يبدأ إلا في بداية هذا العقد حينما زرتها أول مرة سنة 2000، حيث بدأته بنص كتبته في ميدلبوري يندهش بما رأيت أول مرة من أمريكا بعنوان "من أوراق ميدلبوري" أردفته بنص أحاور فيه الشاعر : روبرت فروست بعنوان: "في رحاب النار والثلج"، وهو نص جاء بعد زيارتي لبيئته في الجبل الأخضر واكتشافي مدينة ميدلبوري كمطعم يحمل اسم نص مشهور للشاعر هو : "النار والثلج. وكتبت بالإضافة إلى هذين النصين نصوصا قصيرة في واشنطن دي سي سنة 2004. غير أن تجربة أتلانتا كانت ذات مذاق خاص، لعله الأجمل والأعمق، وهذا يرجع إلى العلاقات الرائعة والرعاية التي وجدتها في هذا القسم من طرف الزملاء والأصدقاء، بالإضافة إلى المناخ الإنساني الجنوبي البهيج، واستجابة الناس للتواصل مع الآخر والتفتح عليه. علما بأن أطول مدة قضيتها في أمريكا كانت هي هذه الفترة التي قضيتها في أتلانتا. لذلك كان الحوار مع أمريكا في رحابها ضاجا وغنيا" -2-.
ها قد تحولت أمريكا بشهادة الشاعر -المكرم بإيموري- إلى محطة اندهاش وانبهار وإشادة. بما أخذ لبه من معالم عمرانية جذابة، ومظاهر بيئية رائعة، ومحطات وشوارع رحبة فسيحة، وهو ما حرضه على تأثيث القصائد التي يضمها ديوانه: "صباح إيموري"، إنه الانبهار بمظاهر أمريكا الساحرة، وملامح جمالها الاصطناعي.
لقد انخطف الشاعر منذ أن وطأت قدماه أرض "أتلانتا" انخطافا لما يعتبره من سحر ملك عليه جوارحه واستبد بالذات الشاعرة. لقد انساق لما يثيره فيه هذا العالم الجديد من اندهاش ورهبة.
وقد خصص الشاعر الجزء الثالث من ديوانه تحت عنوان : "فضاءات لرأب الرؤية المنكسرة" ليبرز فيه مدى انبهاره الكلي بسحر العالم الجديد الذي أخذ لبه وحوله إلى كائن ممسوس لا حول له ولا قوة سوى الانخطاف أمام هذا العالم، والانجذاب لمظاهر أتلانتا العمرانية الشاهقة، والاندهاش بهندسة الاسمنت المسلح.
ومن بين صور هذا الشرخ نصوص يحدثنا فيها الشاعر عن مظاهر الحياة اليومية في أتلانتا التي أغرته بممارسة بعض طقوسها.
"أنا الآن في مول شمال ديكالب
آكل السندويش في حضرة مشاهير
... يا عجبا، منذ الذي قضى هنا
في مول شمال ديكالب
بصلب المشاهير فرادى وجماعات
على هذا الحائط الحزين مدى الحياة " - 3-
ها قد تحول الشاعر إلى رائد من رواد مطاعم "المول" الرخيصة، يأكل أكلته السريعة في حضرة مشاهير أمريكا التي تزين صورهم هذه المطاعم، كما أصبح مدمنا على مقهى أو مطعم "أوكتين" يشتم في أصدافها رائحة الورق الأبيض الذي يكسو موائدها :
"أشتم في رائحة الورق
عبق المعرفة الشاكسة.
متعة السؤال في الرحم
هل هي مقهى أم كوة مفتوحة على برج بابل" - 4 -
فأي شرخ هذا الذي حدث داخل ذات الشاعر التي اكتسبت صيتا وذيوعا حينما كان صوتا جماهيريا يلهج بما أحدثته أمريكا من مآسي إنسانية في ربوع العالم الذي كان تواقا إلى الحرية والانعتاق من أغلال الامبريالية المقيتة.
يتكون المتن الشعري للديوان من أربعة أجزاء هي على التوالي:
الجزء الأول : علامات جنوبية .
الجزء الثاني : أطياف لها بصمات مضيئة.
الجزء الثالث : فضاءات لرأب الرؤية المنكسرة.
الجزء الرابع : فضاءات لانتشاء الرؤيا.
الجزء الأول : علامات جنوبية.
يمكن للقارئ اللبيب لديوان صباح ايموري أن يتبين الخيط الرابط الوحيد الذي يصل تجربته الشعرية بأعماله السابقة في هذا الجزء الأول، إذ يضم نصوصا تستدعي ما أحدثته العنصرية الظالمة ندوب في أجساد أحرار العالم، ومن شروخ وصراعات أوقدتها هذه العنصرية التي خلفت وصمات عار وخزي في جبين الإنسانية، كقصائد : "كينغ وأغنية سمراء، وغرور الرصاصة في المقبرة " وهي نصوص تحفل بفكرة الانتصار للمبادئ الحقوقية الكونية، ونبذ الكراهية والعنف المقيتين.
ففي قصيدة : "كينغ" يقول الشاعر :
"صديقي كينغ
جميلة هذه المدينة الفيحاء
لكنني أسال روحك الطاهرة السمحاء :
هل أشرقت هذا الصباح
شمس الجنوب.
واختال في الوهاد نسرها ؟
أشك
حينما يشحذ خانعا حفيدي الأمير
أمام قبري المنسي
تحت رحمة الرطوبة الهوجاء والرياح
حتى إشعار آخر
(حين يهل في السماء
هلال عيد الاستقلال)
صديقي مارتن لوثر كينغ
يا ملكا تغتاله كل هنيهة بلاغة الألوان ...
هل أورق الدم الغزير في البراري الشاسعة،
وأثمرت جماره قمحا ينهال
ينسل من رمل النسيان ؟
حين يخالط الليل النهار
و الشوك يمرغ الأقاح
في دمعها
تبدوا مظاهر الأشياء خداعة" - 5-
هذه هي بصمة الشاعر التي ألفها متتبع تجربته الشعرية حين يسمو بتعبيره ليعانق معاني طموح الإنسان نحو تحرير ذاته من الانصياع للذل والخنوع، ونشدان الخلاص بإراقه الدم الغزير الذي يسقي البراري ليثمر القمح و يشيع النور في البطاح.
وفي قصيدة : "أغنية سمراء" يقول الشاعر مستحضرا التدخل الغاشم في فييتنام وما أحدثه من مآسي إنسانية فظيعة نظرًا لحجم الخراب واليباب الذي ألحقته الغطرسة الأمريكية المدججة بأحدث وسائل الدمار التي بثتها القنابل الحارقة في أدغال بلاد الأحرار :
ما أتعس الأمس الشقي
دمعة تخضر في المقاعد الأمامية..............
تعصي نواميس الأدغال كي تكون ذاتها
هل كانت تستطيع أن ترتاح في المقاعد الأمامية ؟
كانت تحب بيتها
ولا تحب غيره في المدى الرحب جنة
تتابع الأخبار في المذياع عن جحيم الحرب في الفييتنام
و هرب الجنود من معركة
لا يؤمن القلب بها.
إذا اصطلت جراحهم بجمرة الأنانية.
تعرف غصة المغلوب في دروب حيها
كيف يذعن التقي للقضا والقدر
تعرف كيف ينبغي أن يعلي الرفض الغدا
لكنها لا تستسيغ في الزمان الأخرس
أكاذيب السياسيين أبدا ". -6-
ومن خلال رسم ملامح الحرة "روزا" يعبر الشاعر عن مظاهر التحدي الذي وشم جبين المقاومين الفييتناميين الأحرار:
"روزا زنابق جذلي تورق في الجروح
أراها في كل الوجوه الحالمة
تختلف الأسماء والجوهر واحد
يضيء في الأعماق الناعمة
روزا قوافل من الآمال تزهو في الأعالي مشرقة ...
صحيح أن رحلة الشموع
للشمس الغناء محرقة
لكنها حلم بوعده يفوح
يعله نسيم يستدير أغنيات الروح
و غيمة من العطور في المدى ألوانها تأتلف
إذا كانت برقة العشاق
في عليائها تختلف ".-7-
وتبقى قصيدة "غرور الرصاصة في المقبرة " علامة مضيئة في هذا الجزء الأول من الديوان معنى ومبنى استطاع فيها الشاعر أن يسمو بتعبيره الشعري عن اللغة التقريرية المباشرة إلى استبطان المعاني الإنسانية المتولهة بصفاء سرائر الأحرار التواقين إلى تلمس أضواء الشمس الزاهية الألوان المضمخة بمشاعر الحرية والعزة والإباء والمتحدين لآلات الفتك بمظاهر السحر والجمال، وهو بهذه القصيدة إنما يذكرنا بصوته الشعري الأخاذ الذي وسم تجربته الشعرية فيما مضى بنوع من الفرادة بين أصوات جيله.
"هاهنا كان حلم رشيق يغازل مستقبلا
يتدفق في حدقات الغزال
يؤثث أدغال أيامنا بزنابقه و فراش المحال
كانت الربوة للعشق ملاذا قدسيا
يرتوي من نبعها وعد وإيقاع وشهد
علمت بركانها الإنصات للنسمة تشدو
وهي تروي عطش الزهرة ريا
هللويا ... هللويا
ههنا كان ماض محاه الدهاء الجنوبي
ذات شتاء...
وخانت عهوده في سهرات القمار
جوارح ماحقة
حملتها إلينا عواصف ضارية
أشعلت نارها في صقيع شباط
...
بكى المسيسيبي سنين، وعادت مياهه تجري
ليخضر قبر بحجم الأماني
يوشحه الأقحوان على صهوة الريح
من "ايشوتا" في جنوب الجراح إلى "ألباما"
ولكن فيها مذاق دم الأرض
لا تنطفي ناره، وأسى المجزرة....
(يدفن الأحباب موتاهم سريعا
تم يمضون إلى آت يبز الأمس قهرا،
فعلى من تقع الفأس قريبا،
ولمن تحفر قبرا ؟
هللويا... هللويا)
...
(ما الذي يمكن أن أخشاه
يا أمي سوى .....
أن أدفن الليلة في قبر غريب،
غير رحمك،
وأغدي كرزا غضا غريبا في السهوب
دون أوصال أقاحيك ودومك ؟
هللويا... هللويا....) -8-
.....
الجزء الثاني :
وفي الجزء الثاني من ديوان : "صباح إيموري" المعنون ب "أطياف لها بصمات مضيئة" ينتقل الشاعر إلى الاحتفاء ببعض الأسماء التي ساهمت في بلورة وعيه الشعري، ففي القصيدة الأولى من هذا الجزء "أطراس يونانية" وهي قصيدة مهداة إلى علم من الأعلام الذين تركوا بصمات واضحة في مسار الشاعر، نظرا للدور الذي اضطلع به إما في تكوينه الأكاديمي، وإما في ما يمثله من علامة مضيئة ومعين لا ينضب نهل منه الشاعر وأغنى به رؤاه وتصوراته الفكرية والإبداعية، إنه الأستاذ الجامعي والناقد المتمرس والسياسي المحنك: ادريس اليابوري.
وتحفل باقي نصوص هذا الجزء بنزعة تسجيلية لما اختزنته رؤية الشاعر لتفاصيل الحياة اليومية "بأتلانتا"، كقصيدة "جيجي وسارة وسلحفاتها" وهي قصيدة في وصف الرتابة المخيمة على مربية السلحفاة في مدينة: "سان لويس".

 

وعن هذه النزعة التسجيلية يقول الشاعر:
"ولأن الإنسان كان دائما موضوعا مركزيا في شعري، فقد استلهمت في أتلنتا حيوات بعض معارفي الذين تتسع تجاربهم على نحو يجعلها تجارب إنسانية تتجاوز الأفراد لأنطلق منهم إلى مستوى التجربة الشعرية...
أنا أهتم كثيرا في شعري بتأمل الأمكنة والفضاءات التي تمتلك جاذبية شعرية خاصة، وقد حاولت في كثير من النصوص التعبير عن رؤيتي لكثير من الفضاءات التي سمحت لي الظروف خلال إقامتي بزيارتها والاستمتاع بها". -9-
غير أن الشاعر رغم حرصه على الارتقاء بتعبيره الشعري حينما يصوب عدسة رؤيته لمظاهر الحياة اليومية للإنسان في أتلنتا، لا يسعفه هذا التعبير الذي يحتفي بما قد يبدو بسيطا عاديا في بيئة مروضة على الرتابة والملل، فيسقط في النزعة التقريرية والمباشرة والوصف الخارجي دون أن يرقى إلى الحسية المنشودة والغنائية الطروبة التي ميزت أعماله الشعرية السابقة . إن الشاعر يبدو في هذا الجزء من الديوان وكأنه حبيس ما يبهره من مظاهر العالم الجديد، و من تم فهو لا يستطيع التحرر من هذا الانبهار.
وهذا ما سيتضح بجلاء في الجزء الثالث من الديوان.
الجزء الثالث :
ويشكل هذا الجزء محور الديوان، وفيه يعلن الشاعر قطيعته التامة مع تجربته السابقة في الكتابة الشعرية، والانسلاخ الكلي عن الوظيفة الشعرية الملتزمة بقضايا الجماهير التي بوأته المكانة التي كان يحظى بها في سبعينيات القرن الماضي، نتيجة تجربة مقامه بأمريكا لفترات قصيرة في البداية "بأتلنتا" ثم مكوثه لفترة أطول بسبب التحاقه بجامعة "إيموري" التي حظي فيها بتكريم أثر فيه تأثيرا بليغا.
وأول ما يستوقف المتأمل في هذا الجزء الثالث من الديوان تحت عنوان "فضاءات لرأب الرؤية المنكسرة" ما تئن تحته ذات الشاعر من هموم وهواجس، ولذلك نجده كثير الانصياع لعقارب الثرثرة التي تلسعه كلما غبشت الأماسي، وادلهمت الليالي نتيجة انزوائه منفردا تحت قهر الزمان الموحش في بيئة غير رحيمة لم يألفها، وهكذا يبدو لك علال الحجام الشاعر وأنت تحاول رسم ملامح ذاته "التائهة الخرساء" والمتردد "المجنون بين الماء والسراب" و "المستسلم لثعالب جرحه".
إنها ذات تائهة منبهرة مسحورة بمظاهر العالم الجديد منذ أن وطئت قدماه حاضرة "أتلنتا" ذات تشعر بتأثير إيقاع زمن غير الذي يعرفه في موطنه الأصلي تحت وطأة الإحساس بالغربة في بيئة غير بيئته. ولذلك يخيل إليه وكأن به مسا من الجنون :
" لكنني أسرح في تأملي
أخبط فيه كالممسوس :
أسال نفسي لا تجيب.." -10 -
فلا المواسم في العالم الجديد "بأتلنتا" تشبه المواسم، ولا ألوانه تشبه الألوان وحتى مظاهر الجمال تبدو أسرارها معقدة.
" يقبل الربيع عنق الخريف فجأة.
فيرقصان ضاحكين في المدى الرحب
عروسا و عريس
شيء غريب
الأخضر الموشوم بالضياء عادة
يكون باردا لأنه صنو الضلال
فكيف يا قلبا يرى ما لا يراه البصر
يكون دافئا هنا " -11-
وتستوقف الشاعر هذه الحشود التي تتهادى مسرعة وهي تلهث ليل نهار وراء الزمن المفقود في ردهات محطات "الميترو" وأنفاقه تحت ضغط انفلات الزمن الهارب الصارم الذي لا يرحم :
"لكن الوقت صارم لا يرحم
كل يسير سادرا على هواه
زاهدا في ما عداه يخبط
لا يأبه الصديق بالصديق في طريقه
لا يأبه الأهالي بالغريب في ترحاله
....
سيكولوجي بلدينغ 350 ، بيتس ثيولوجي ليبروري وودروف لايبروري
975 كالوي هول 302 ج بيتس ثيولوجي ليبروري ثانية، وايت هول،
ايكولوجي بلدينغ إيموري رود. أكسفورد رود دكاتور رود 1384 دوامة لا تنتهي ...
عقارب الساعة لا يقهرها نوم
ولا هواجر تنهك صقرها الحرون
كل الفصول شرفة لنبضها،
وكوة يطل منها حدسها على امتداد الأبدي". - 12 -
هذا حال الناس بالنهار، أما حينما يسدل الليل ظلامه، و يبسط أرجله على سرير النهار، فتبدأ معاناة أخرى تحرم الناس متعة الاستكانة للدعة والراحة :
"هو ذا الليل لا ينام إلا لكي يسهر
ويبسط رجليه على سرير النهار
يغمض عينيه اليمنى ويبقى على الفرح عينا
تراقب حوار الزهر والندى..." -13-
إنها دوامة لا تنتهي يعيشها الإنسان في بلاد العم سام تحت رحمة عقارب الساعة الملهبة.
- إن دورة الزمن بالعالم الجديد تختلف كليا عن مثيلتها في بلاد الشاعر، ولذلك فهو حريص على مقارنة بين الدورتين ليبرز إيجابيات الزمن بالعالم الجديد، مقارنة بسلبيات زمنه في عالمه الأصلي.
"ها هنا ليس للناس وقت لرصد صدى الآخرين
وتتبع آثارهم خطوة خطوة في طريق الهراء
تسقط أخبارهم في نوادي النميمة
أو من خلال وكالات أنباء سوق المقاهي
على نغمات الأغاني الطويلة
تشعلها آهة ...آهتان
وتسعون جرحا مريرا صباح مساء"- 14-
والشاعر أمام هذا الواقع المدهش والمذهل في سرعته، يتقاسمه شعوران :
- شعور بالحزن نتيجة تنكر الإنسان لأخيه الإنسان، وسيادة الإحساس بما هو ذاتي فردي معزول:
"كل يسير سادرا على هواه
زاهدا في ما عداه يخبط
لا يأبه الصديق بالصديق في طريقه
لا يأبه الأهالي بالغريب في ترحاله" .- 15-
- وشعور بالفرح على حال الرفاه والرخاء الذي يسود في أرض عدن، غير أنه فرح ممزوج بالحزن الذي يتربص بالشاعر أمام الحشود التي تطارد الزمن الهارب :
"لست أعرف حقا هل الصبوات الجريحة غامضة
ومباهجها تتلاطم أبعادها خفية وعلانية ؟
حزن بلا وجه يتربص بي في كهف الضوضاء
فرح بدون بصمات يتكلس في قطرات الماء
ربما كانت الأرض هذه جنة عدن،
غير أن موازينها شرر من لهيب القيامة..." - 16-
فماذا وراء امتثال الشاعر لعقد هذه المقارنة بين العالمين: الرأسمالي الاستهلاكي السريع، والنامي الفقير البطيء، ليجعل منها موضوعا يستحق أن يقدم كرؤية شعرية قادرة على أن تضيف شيئا لما هو متداول ومعروف لواقع الحياة اليومية للأمم الراقية ومثيله الذي يحاصر الرائي اللبيب في مجتمعنا المتخلف.
لقد انخطف الشاعر منذ أن وطأت قدمه أرض العم سام انخطافا لما يعتبره من سحر استبد بالذات الشاعرة، فلم تعد قادرة على فك طلاسمه.
لقد انساق لما يثيره فيه هذا العالم من اندهاش ورهبة، ومظاهر انخطافه هي ما حرضه على أن يقف مشدوها، حائرا يعقد هذه المقارنات بين عالمه المألوف المتصدع، وعالمه الجديد المتحضر.
وأنت تستصيخ السمع إلى الشاعر الممسوس بسحر عالم "أتلانتا"، يبدو لك أن أمريكا طاعون محمود درويش- قد تحولت عند علال الحجام - بقدرة قادر- إلى "بيجماليون" الحسناء المختالة بين الواجهات البراقة لناطحات السحاب، ومطاعم "المول" والفنادق الفاخرة.
لقد تحولت أمريكا إذن بعد زيارة الشاعر لها المتكررة إلى محطة اندهاش وانبهار وإشادة بما اكتشفه من رونق وبهاء وروعة بفعل العلاقات الشخصية التي نسجها ببعض أساتذة شعبة الأدب بجامعة "إيموري" التي كرمته، متناسيا من كان له زادا ثرا، شاعر الأرض المحتلة، محمود درويش وهو يرج أركان المنابر الثقافية بقوله المأثور في "مديح الظل العالي":
"أمريكا هي الطاعون
والطاعون أمريكا".
ها قد تحول "طاعون" درويش إذن الى "بيجماليون" الحجام:
"معقد سر الجمال
كاللؤلؤ المكنون في قوقعة
...
جميلة هذه المدينة الفيحاء
رشيقة يخفرها وشاحها الأزرق حين تنتشي
يدغدغ انشراحها
دفء الأجنحة الخضراء" -17-
فهل خفي على الشاعر أن سر جمال هذه المدينة (أتلانتا) الممدوحة وغيرها من المدن الأمريكية قد اقتص من عرق جباه الهنود الحمر وأحرار هذا الكون الذين استعبدتهم أمريكا وأبادتهم شر إبادة.
ومن أجل تلمس الجواب عن سر هذا التحول الذي انساق وراءه الشاعر علال الحجام من شاعر كان معبرا عن آمال المستضعفين في الأرض، محسنا التملي في الوجوه الممتعقة جراء الخسف والظلم والجور، محرضا إياها على التحرر والانعتاق من نير الامبريالية العالمية، إلى شاعر منخطف للتسبيح بعالم أمريكا، نقتطف شرحه لسر اهتمامه بهذا العالم واحتفائه بعوالمه إذ يقر الشاعر صراحة أن صورة أمريكا كانت مضببة وغائمة لديه في فترة الستينيات والسبعينيات، وذلك راجع - كما يفضي بذلك - إلى أربعة أسباب متلاحمة وهي :
أ - تطرف الشباب وانحيازه إلى ما هو ثوري وغريب آنذاك.
ب - انتماء أغلبنا لليسار، مما يعني الانحياز للفكر الاشتراكي في سياق الحرب الباردة
ج - تأثرنا بالفكر القومي.
د - افتقارنا فكريا للقدرة على ممارسة النقد المزدوج من أجل التمييز بين المستويين، وإعمال الغربال لتبين وجه أمريكا الأكثر إشراقا. - 18-
الجزء الرابع: "فضاءات لإنشاء الرؤيا"
ويؤثث هذا الجزء الأخير من الديوان مجموعة قصائد جاءت غارقة في الذاتية، وما قصيدة "ظل يهدد تلويحة الألق" سوى نموذج معبر عن عودة الشاعر للتوغل في ذاته المنزوية، الغريبة في بيئة موحشة نتيجة اصطدام حلمه بجهامة الواقع الجديد، و هذا ما يولد لديه الحنين إلى بيئته الأولى التي وإن كانت متخلفة، فقيرة و ضاغطة ؛ إلا أنها لا تزال مؤثرة فيه وجاثمة على كل جوارحه لأنها مرتع صباه حينما كانت تحتضنه مفاتن طبيعتها الساحرة :
"أحن لعشي في قمة النخلة الشاهقة
يلون قشه ريش الهزارين
وهو يدغدغ قهقهة الطبيعة الساحرة." -19-
وهنا يجد الشاعر ضالته ويعود إلى شعريته الانسياب الرقيق الذي ألهمه القصائد التي بصمت أسلوب تعبيره الشعري، كقوله :
"أسأل ليلي
هل كان لابد أن يدرك القلب
في لحظات التجلي لماذا يحن الغريب
إلى أهله والضياء " -20-
بهذه الطريقة، يعود الشاعر علال الحجام في الجزء الأخير من ديوان " إيموري" إلى نبعه الفوار الذي ألهمه قصائده الغنائية التي حفلت بها دواوينه السابقة، فيستفيق فيه ذلك الإنسان الحالم بصفاء المعاني، وعمق الانتماء الإنساني إلى الفطرة والعفوية والسليقة ، فيفجر مخزونه المتراكم عبر سنين طفولته ويفاعته وشبابه ليعبر بما لا يدع مجالا للحيرة والتردد عن أنظف ما يملك، وأعمق ما يدور في خلده من تعبير عن حياة الإنسان المجبول على بيئته التي أورقت أكمامه :
أحن لهرولة الناس
أقرأ في صفحات مباهجهم بهجتي
و لرائحة العابرين
تضمخني نفحات جذوري فيها
فتغرق في فرح مهجتي....
أحن لصحبى كل مساء
إذا دقت الساعة العاشقة
تغازل نجما
على صهوة اللحظة المارقه
و توسع في رحلة الليل كوة لذته الساحرة....
أسائل ليلي
هل كان لابد أن يدرك القلب
في لحظة التجلي لماذا يحن الغريب
إلى أهله و الضياء
عتمة بيته أو سخمة المدخنة
مؤثرا مرجل البيد يغلى
على جنة ليس فيها أنيس ينازل غربته
ويعيد إلى عقرب الساعة المكتوي زمنه....؟" 21
إن الشاعر يشده الحنين إلى موطنه الأصلي شدا وهو مؤمن في قرارة نفسه أنه وإن اكتشف عالما جديدا فهو لا يخبئ بين شغاف فوائده سوى "رفض روزا" و "أحلام مارتن" وبعض حماقات "كينسبور"، و "أوراق ويتمان".
ها قد بدا الشاعر في هذا الجزء الأخير من الديوان يتحرر من عامل الانبهار بسحر العالم الجديد، وشرع في فك طلاسم الاندهاش من مظاهره البراقة التي تخفي أكثر المظاهر سلبية والمتجلية في :
- اللهات خلف حلقات الزمن المفقود.
- الشعور بالعزلة و الغربة .
- انتفاء المشاعر الإنسانية النبيلة و طغيان الفردية ... الخ.
إن ما ترسب واضحا وعميقا في نفس الشاعر لم يمحه الزمان، ولذلك يطفو حنينه وتوقه إلى الإنصات إلى ما تزرعه أجنحة النسيم في البراري والبطاح، والتملي في ألوان الفرشات التي تبدو في عجلة من أمرها وهي تسابق أسراب الحمام إلى حقول الشمس، إنه حنين إلى الاستمتاع بسحر مفاتن بيئته الأصلية البسيطة النظيفة :
" فأنا.... لا أخبئ بين شغاف الفؤاد
سوى رفض روزا وأحلام مارتن
وبعض حماقات كينسبور
و أوراق ويتمان
و قارة شوق إلى لحظة بين أحضان نخل
يضمخ أغنية قد يكون هباء ...
و لكنها نبضة
ترتوي بالهواء ... هوائي
وتسكر بالماء ... مائي
تتعتع في دروة الوهن
آه يا عسلي المر
كم أنت قاس على أنبيائك
لكنني لا أحب سوى صبواتك
عمقا لأوصال نخلي
أو مرقدا ناعما
لبقايا عراجينه تتوهج في كفن... !" -22-
وفي قصيدة " قارة ثامنة " يتهيأ الشاعر لمغادرة عالم الأحلام "أمريكا" الذي صدم أفق انتظاره ولم يجد فيه ما يمني نفسه كي ينتشي - كما كان فيما مضى - باللحظات العاشقة، وهو الحامل لحنينه الشرقي المضمخ بسعف النخيل :
"على عتبة بابك في مدخل المطار
يودع صمتي عينين جنوبيتين
لكنهما مرمر بارد ما رف له جفن
وما ذا تحمل أغنيتي أيها الحلم العنيد
من غابات ثرثرتك ؟
أهناك أجمل من مجازات كركرتك
تتصادى باقاتها مع أفراح الخلان
....
أو تلويحة ظبية سمراء في باب الأكواريوم
لغزال معطوب يغادر "عالم كوكاكولا"
يتناجيان سحرا في أبهاء الروح ؟
من حرض كتائب الأنسام الخضراء
على دغدغة الكلمات
تتدافع فيها بالمناكب لا تعيا،
لا يملك جنانها الصغير
إلا أن يتسع قارة ثامنة
تتفاعل فيها كيمياء الجهات ؟
... ما أجمله عريا ... يكسو حلمات ضلالته الحبب
فعلن فعلن ... هل يطرب أنفاق المترو الخبب ؟ -23-
بهذا السؤال الإنكاري يقر الشاعر بخيبة أمله، وعدم عثوره على مبتغاه عبر رحلته إلى أقاصي الحلم في ملكوت الاسمنت المسلح الذي يحجب الشمس عن الحمائم والفراشات، وهذا ما يؤجج شعوره بالوحدة والقلق المهيمنين على حياة الناس في بلاد العم سام، ويدفعه إلى استحضار حرارة اللحظات الحميمية العاشقة لأطياف الخمائل والنسائم المستضيفة للعنادل والشحارير» المتفننة في الصدح بالزقزقات والألحان الطروبة المؤثرة في النفوس الصافية التواقة إلى الاستمتاع بسحر الطبيعة ومفاتن جمالها، وهذا ما لن يستطيع الشاعر أن يحظى به إلا في بيئته الأصلية، ولذلك ينتابه الحنين للعودة إليها، و يتلهف إلى مواعد الفرح معلنا رحيله عن العالم الذي خيب أفق انتظاره :
"منجذبا وراء أزهار الدفلى وأنهار الريحان
أسير كالممسوس
تتغنج في الأفق سنبلة الأسئلة
يشغلها المجهول يكبر ملتبسا
تكبر رهبته بين أغاني الماء
وبين عواء الريح في الصحراء
فجا عميقا
تفتحه باب السماء متاهة في صوان الظلمات". - 24 -
بهذه الطريقة يودع الشاعر بلاد المرمر البارد والصمت الحجري والشمس الرمادية، مثقلا بما خبرته ذاته الشاعرة من تجارب ورؤى ومشاهدات في "أتلانتا" وغيرها من مدن عالم الأحلام ، تاركا سلم بيته "يردد أحجية الهالوين" وأرجوحته "لجارته المستحمة بالوهم".
سأترك سلم بيتي يردد أحجية الهالوين،
وأترك أرجوحة الليل للجارة المستحمة بالوهم
....
ولإيقاع زوارها سوف أترك سجادة
رقشتها خيول الخريف.
....
فسيان أن يتجاهل أمتعتي في المطار
رجال الجمارك، أو يرصد الكمبيوتر حلما غريبا
....
فانا لا أخبئ بين شغاف الفواد
سوى رفض روزا و أحلام مارتن
وبعض حماقات كينسبور
و أوراق ويتمان " -25-

 

 

 

 

 

 

 

الهـــــــــوامــــــش
علال الحجام : "صباح إيموري"منشورات جامعة الأخوين 2011.
علال الحجام : مقتطف من نص الكلمة التي ألقاها الشاعر بمناسبة تكريمه من طرف قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة إيموري" يوم 20 أبريل 2010.
من قصيدة : "جدار المشاهير" ص 87 - 90 .
من قصيدة : "اوكتين" ص 91 .
من قصيدة : "كينغ" ص 19 - 10 - 11.
من قصيدة : "أغنية سمراء" ص 19 - 20.
من قصيدة : نفسه ص 22.
من قصيدة : "غرور الرصاصة في المقبرة" ص 24 - 25 - 26 – 28
علال الحجام : مقتطف من نص الكلمة التي ألقاها الشاعر بمناسبة تكريمه من طرف قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة "إيموري" يوم 20 أبريل 2010 ص 6
علال الحجام : من قصيدة "كينغ" ص 6
علال الحجام : نفسه ص 7
علال الحجام : من قصيدة "رقاص الساعة" ص 72- 74
علال الحجام : نفسه ص 73
علال الحجام : نفسه ص 76
علال الحجام : نفسه ص 72
علال الحجام : نفسه ص 77
علال الحجام : من قصيدة : "كينغ" ص 8 - 9 - 10
علال الحجام : مقتطف من نص الكلمة التي ألقاها الشاعر بمناسبة تكريمه من طرف قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة "إيموري".
من قصيدة : "ظل يهدد تلويحة الألق" ص 101
من قصيدة : نفسه
من قصيدة : نفسه ص 100- 101
من قصيدة : نفسه ص 104- 105
من قصيدة " قارة ثامنة " ص 107 - 108 - 109
من قصيدة : نفسه ص 112
من قصيدة : "ظل يهدد تلويحة الألق" ص 103 - 104

د. امحمد برغوث : أستاذ باحث في الأدب الحديث

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة