من خلال مبدأ كلّ ماتعنيه الذات الحقيقية، تكتبه، ومن هنا نستطيع الدخول إلى عنصر المقروء الذاتي، وعنصر المقروء الكتابي، وكذلك عنصر الكتابة من خلال آلية الكتابة الشعرية؛ لذلك فسوف نبتعد قليلا عن الوعي المباشر، وفي نفس الوقت نلتزم بالوعي اللغوي، حيث إن عنصر المقروء يحتاج إلى وعي لغوي لتحضيره في فعل الكتابة. وفي نهاية المطاف نفسه عنصر المقروء عندما يتحول إلى عنصر كتابي، فإنه سيقرأ، وفي هذه الحالة يتميز بعدة اتجاهات، الاتجاه المقروء الذاتي، التحضير من خلاله لعنصر الكتابة، واتجاه المقروء الكتابي، الانتهاء من العنصر الكتابي.
إذا تطرقنا إلى الكلام، فإنه الكلام المنقول إلى الكتابة، وكل كتابة ترسم بالكلمات، والكلمات دالة في المنظور الكتابي؛ وبكل تأكيد عندما تكون الكتابة بوجهة شعرية، فإنها تنتقل إلى التأويل الفلسفي، وذلك بسبب العلاقة اللغوية مع المنظور الفلسفي؛ وعندما تكون الكتابة مرسومة في كلمات فآن كلّ منها دال ومدلول. ولكن هل يقرأ الكلام قبل الكتابة، أم يقرأ بعد الكتابة؟! إنّ الكلام الذي نقصده ليس العنصر المقروء في الذات الحقيقية على وجه الدقة، وإنما الوجه المنقول، وربما يكون من الآخر أو من بيئة الشاعر أو من الشاعر نفسه، الكلام إذن هو مايعنيه صاحب الكلام، وليس بدقة القول المنقول، ومن خلال فعل الكتابة تتحول ماهية الكلام، من كلام متداول إلى كتابة فنية لها صيغتها ومخاتلاتها التأثيرية في الكتابة الشعرية. (( أتخيل، أنّ كلا من الأستاذ، والمحاضر، والواعظ غالبا مايرى في كلماته تجربة مورست، لأن الجمل الحية حينما كان يكتبها، تصبح ميتة حين يقرؤها. لابدّ له إذاً، من قراءتها كما لو انها لاتزال حيّة، وهو مايتطلب منه جهدا لايطاق يدفعه إلى الشعور بعدم جدواها. لنفترض أنه نجح في خداع الآخرين، لكنه لايتسطيع خداع نفسه. إذ يتركز انتباهه واهتمامه على التواصل، وليس على عمليات الإدراك entendement التي تولّده إن لم يكن قادرا على خلقه. عمليتا القراءة والكتابة مختلفتان من ناحية النشوء، ولسنا نرى طريقة لقياس مزاياهما وعيوبهما. )). " 1 "
الانتقال الأوّل من المقروء كنصّ غير جاهز إلى المقروء كنصّ جاهز، فالأوّل قيد الخلق والتأسيس، والثاني قيد التشييد والقراءة، ونستنتج من الأوّل، أن الشاعر بحالة انفعالية، ولكن تطرأ بعض المخاوف في حالة الانفعال الذاتي الحاد، ومن هذه المخاوف تبعثر المقروء والانتقال إلى الكتابة مباشرة، حيث أن النتائج ستكون سلبية في حالة الخلق النصّي، بينما تبقى الكتابة مقروءة من طرف واحد وهي الذات المبعثرة، ومن الصعب أن يجد الشاعر مايقابل كتابته بالنسبة للمتلقي. وفي الحالة الثانية أن يرسم الشاعر خياله كنصّ مقروء، وهذا مايفسره عبر الكلمات المركبة التي لابدّ منها ولابدّ أن يتعاطى مع الجمل والعبارات التي جهزها كديمومة من المضامين المؤدية إلى المعاني التأويلية. سنذهب مع بعض النقاط المهمة التي تخص النصّ المقروء والنص المكتوب عبر الدال والمدلول وثقافتهما في النصّ الشعري الحديث، حيث أنهما يشكلان دليلا لغويا لاقتحام النصّ المقروء قبيل الكتابة.
عاطفة المقروء:
ماهي عاطفة المقروء، هل يشكل النصّ المقروء عاطفة في التشكيل اللغوي؛ أم أن الكتابة التصقت بالمقروء لكي تجني مابوسعها من عواطف كتابية ؟؟
الدخول إلى عاطفة المقروء، كالدخول إلى الذات المحبوسة والتي لاتعرف كيفية الخروج من سجنها، لذلك تتكرر لدى الشاعر بعض الكلمات والعبارات المشتركة، والتي تتكرر لدى غيره أيضا، علما أنه يتفق تماما أنّ مايخلقه نوعا من الإبداع.
العاطفة هي الميول إلى الكلمات والعبارات والجمل الجاهزة المكررة بالتشابه لدى العديد من الشعراء، وقد تمّ استخدام التعبيرية بدلا من المحاكاة، وههما نظريتان قديمتان، فالمحاكاة هي التي جاء بها أفلاطون وجسدها أرسطو في كتاب " فن الشعر " لذلك أخذت النظرية التعبيرية مكانها بعد الثورة الفرنسية، حيث اتخذت النظرية المشاعر والشعور بإنتاج النصّ الشعري، وأوهموا المتلقي بأن العواطف والمشاعر هي التي تعبر عما يدور في الداخل الذاتي، فيتعاطف الشاعر التأسيسي مع هذه المكررات والتي لاتجدي نفعا في الخلق النصي، فنعتبرها خاصية خارجة عن الخلق الجديد والذي يمثل الإبداع دون الميول إلى معجم المكررات الواردة في البنك المشاع.
تقودنا نظرية التعبير إلى العواطف والمشاعر الجياشة، وقد اعتمدت على بعض سمات نظرية المحاكاة التي جاء بها أفلاطون، وجسدها أرسطو، فالحبكة والشكل، لاتفارقان النظرية في فن الشعر وتأسيسه، وبذلك أوجدوا الوحي الفني ( والذي كان بديلا للحظة الشعرية -الآن وزمنيتها - )؛ يقول الدكتور شكري عزيز ماضي حول نظرية التعبير(( الأدب تعبير عن الذات، أي تعبير عن العواطف والمشاعر، والأدب علم المشاعر والأحاسيس، القلب هو ضوء الحقيقة " لا العقل ". أما مهمة الأدب ووظيفته فإنها تتمثل في إثارة الانفعالات والعواطف، وحين يتخذ الحبّ موضوعا له فإنّ هذا الموضوع ينبغي أن يثير الحبّ في النفس " نفس القارئ " أما تصوير عوائق المحبين مثلا فهي من مهمة الأدب الكلاسيكي )) " 2 ".. وقد تكلمت نظرية التعبير في بداية انتشارها عن الذات وكيفية تحول الذات إلى موضوع، بينما أكد النقاد في زمننا الحاضر بأن المعنى هو الذي يتحول إلى موضوع، وأكدت السريالية بأن المعاني تعوم في الذات، والذات ماعليها إلا أن تختار أحد هذه العوالم من المعاني. وكانت العواطف هي المثيرة في نظرية التعبير متجاوزة الصور الرمزية والتجريدية إلى العديد من الصور الشعرية؛ إلى أن ظهرت نظرية الخيال والتي جاء بها ( صموئيل كولوردج Samuel Cooleridge)، واعتبر نظرية الخيال ملكة. نستنتج من كلّ هذا أنّ النظريات التي ظهرت قبل نظرية الخلق ونظرية الخيال، تم تجاوزها بواسطة هاتين النظريتين، وخصوصا في الشعر العربي الحديث، فالتنقيب الذي يرغب به المتلقي، هو أين يقف من كلّ هذه النظريات، وكيفية الكتابة ومفهوم الكتابة أيضا، وخصوصا نحن بعصر توفرت به معظم تقنيات الكتابة الشعرية. ويرى هيغل ( 1770 – 1831 )، (( إنّ مصدر الفنّ هو الخبرة الخاصة وماهية الفن مظهر حسي للحقيقة ومهمته أرفع صور التعبير البشري عن هذه الحقيقة. ويضع هيغل الإبداع أساسا لفلسفة الفنّ أي أنه يفسر الفنّ من زاوية المبدع الفنان. كما يرى أنّ الفنان يدرك الحقيقة وهي مصورة محسوسة " لا بشكل حسي ولا بشكل عقلي ". فالعنصر الحسي يحرك طاقة الخيال لدى الفنان وبعمل الفنان يدرك الفنان الحقيقة لا كموضوع ولا كفكرة وإنما يدركها في صورة، فالفنّ إدراك خاص للحقيقة. ))" 3 "..
ونعود لنؤكد بأن عاطفة المقروء، تعيق الكتابة المفتوحة، ويصبح الشاعر حبيس العاطفة الذاتية – القلبية، ونحن لسنا في زمن الوقوف على الأطلال، فالمفاهيم التي لجأ الشاعر إليها هي صهر المتناقضات، لا أن يكون حبيس الذات العاطفية وانفعالاتها التي لاتؤدي إلى خلق نصّي، وخصوصا أن نظرية التعبير قد أكدت على الذات والقلب، أي يكون المقروء عاطفيا، كما جاء بعنوان الكتابة.. ويؤكد الدكتور إحسان عباس (( إنّ الشاعر رغم كلّ المحاولات التجديدية " اذا استثنينا قلة من الشعراء " لايحتفل كثيرا بخلق المبنى الشعري الملائم وبتطويره، وإنما هو أسير لحظة انفعالية تتخلق فيها القصيدة على ما هجس في نفسه من شكل مألوف، ولهذا كثر الإنتاج الشعري دون أن يحمل سمات مميزة في البناء، بل إنّك أحيانا تجد ديوانا كاملا قد سار على وتيرة واحدة. ولما كان أكثر الناس متفقون على أنّ الشعر إبداع، فلابد للإبداع من زمن ليختمر في النفس، ولا بدّ للشاعر من مراجعة مايكتب ومواجهته بالشكّ قبل أن يقبله .)) " 4 "، فهناك ميدان التصورات الذي يعتبر من العناصر المهمة في النصّ المقروء، ففي حالة غياب العنصر التصويري، يحضر ميدان التصورات لإحضار الصور قبل الكتابة، مما يعطي دلالة جديدة في الحسّ المقروء للنصّ الشعري.
نظرية الخلق:
وكلمة " خلق " " 5 " تكفي من حيث أنها دالة على معناها في إيجاد التصورات والابتكارت، والإبداع، وكذلك العلاقة القائمة مع المؤسسة الجمالية، والتي بدونها يصبح النصّ ملوثا ومفارقا للنقاء. وخصوصا بعد نشأة الإستطيقا الحديثة، والتي لها فلسفتها الخاصة في علم الجمال، فالربط المعتمد هو المضمون العقلي للمجال الإدراكي كما أكد على ذلك ولتر ت. ستيس (( جميع المحاولات التي يقوم بها الفيلسوف الإستطيقي هو أن يصف في مصطلحات عامة كيف حدث أن نشأت مثل هذه التنويعات للجمال. وهي ترجع – بناء على نظريتنا إلى تنوع مشاعر القيمة المرتبطة بالمضمون العقلي التي تسبق اندماجه مع المجال الإدراكي )) " 6 "، ففي كلّ هذه العلاقات تمّ إحياء النصّ واعتباره كائنا حيّا له حركته الدائمة. وفي نفس الوقت تراودنا ردة فعل المعنى في النصّ المقروء، فالمعنى في المعنى العام، يختلف عن المعنى في المعنى الخاص، لذلك نلاحظ أن الشاعر بعيدا كلّ البعد عن المعاني الحقيقية، وذلك لأنّه في غرفة العملية الخيالية التي ينسج منها كتاباته، وفي نفس الوقت يتكئ على " الاختلاف " أكثر مما يتكئ على المباشرة والتقريرية. فالنصّ الشعري ليس أسير المباشرة والتقريرية التي ينتمي إليها بعض الكتاب، وخصوصا الذين كتبوا تحت خيمة نظرية التعبير؛ بل هو نتيجة من نتائج النصّ المقروء قبل الكتابة.
تقودنا كلمة إبداع إلى الابتكارات التي يوجدها الشاعر، وفيما عدا ذلك يسقط الشاعر في حوض التقليد والتكرار، وبما أن النصّ الشعري ينصهر في نظرية الخلق، فمن مدرجات النظرية؛ الإبداع والابتكارات، وكذلك الحالات التصورية الجديدة والتي يكون من الصعب أن تكرر حالاتها، أو تذهب إلى التقليد.
فالاتصال الذي يعنيه النصّ الشعري كحالة انفرادية، اتصال الموضوع الحياتي بالموضوع الشعري، فحقيقة الأمر، حقيقة مخفية وذلك لتأثير فعل المتخيل على الموضوع الحياتي وعدم نقله بشكل واضح، ومن خلال هذه القيمة، فإن لتجربة الشاعر الحياتية قيمة ذاتية، وهي عكس الموضوع الحياتي على الموضوع الشعري، لذا تكون الظاهرتان ( بشكليها المخفيين )، ظاهرتين متوازيتين لاتلتقيان إلا في البعد النصّي، ومن خلال مساحة الخيال المفروشة..
من خلال دربة الذات يتم العدول عن الصور المألوفة، حيث تنظر الذات باعتبارها سلوكا ومعرفة وشاعرة ومؤثرة ومعدلة إلى الأشياء وإلى الحدث الشعري، نظرة التآلف الخيالي، ومن هنا تقرأ الذات حدثها المنقول إلى فعل الكتابة. (( في النطاق الذي تعيد فيه متخيلات معينة وصف الفعل البشري بالضبط. أو حتى نعيد الشيء ذاته بالمعنى العكسي، نقول إنّ الطريقة الأولى التي يحاول بها الإنسان فهم " مختلفات " المجال العلمي والتحكم فيه، هي أن يقدم عنه تمثيلا متخيلا. سواء تعلق الأمر بالتراجيديا القديمة، أو الدراما الحديثة، أو الرواية، أو الحكاية أو الأسطورة، حيث أنّ البنية السردية تعطي للمتخيل تقنيات الاختصار، التمفصل والتكثيف التي يحصل بها التكاثر الأيقوني الذي نصفه، فضلا عن ذلك، في الرسم في بعض الفنون التشكيلية الأخرى. هذا ماكان أرسطو يقصده في العمق في كتاب الشعرية، حيث كان يربط وظيفة الشعر الـ " الميمية " – أي التراجيديا، في سياق بحثه – بالبنية الـ " أسطورية " للحكاية التي يؤلفها الشاعر. هنا موطن التناقض الكبير: إنّ التراجيديا لا " تحاكي " الفعل إلا بكونها " تعيد خلقه " على مستوى تخيل محكم البناء )). " 7 "..
لاتخضع الذات للانحصار الذاتي، بل تخرج من الذات إلى النصّ، باعتبار أن النصّ علاقة بين القول الشعري وبينها، وبما أن اللغة هي وسيلة للإبلاغ؛ فمن هنا ينطلق الشاعر لخلق ممارسة على مستوى الذات واللغة، وإننا نعني من وراء ذلك بأنها حاملة لعالم اللغة وهي تمثيل للتأسيس الأول في حالة الخروج من النص المقروء واللجوء إلى النصّ المكتوب. فقد ميّز الرمزيون بين الموضوعي والذاتي؛ لذلك يختار الشاعر رموزه على أسس ذاتية، مما يجعل شعره قابلا لمختلف التأويلات، وهو الخلق الجديد الذي يميل إليه الشاعر من خلال المنظور الإبداعي.
المقروء دالا : يحتاج إلى زمنية لكي يكون خطيا، لذلك يبقى معلقا بالذات دون حتمية كتابية ناضجة، والنضوج الكتابي يحصل عندما ينضج الدال؛ فلايكتسب قيمته إلا بوجود أدلة أخرى تقابله وتنتمي إلى نفس النظام. فالدال متواجد من خلال النص المقروء وعلاقاته مع الأشياء في العالم الخارجي. " 8 "
المقروء والمكتوب والتقاء الدلالة : نعتبر الخط المكتوب مدلولا، لكي لاتتعذر علينا صفة الكتابة، فتعبيرها من خلال المتعلقات والممكنات الدائرة في الذات الحقيقية، ومن هنا من الممكن جدا أن يلتقي الدال والمدلول عبر سمة وضعية للوصول إلى دلالة النصّ الشعري.
عندما نقول النصّ، وبوجهيه النصّ المقروء والنص المكتوب، يعني أن هناك استقلالية للبنية الدلالية وخضوعها لقيود مختصة بها، لذلك أكد كتاب التوليد الدلالي على أن :(( هناك انسجام بين العلاقات التي تقوم عليها الأنساق الدلالية في اللغات الطبيعية، والعلاقات التي تنبني عليها أنساق معرفية وإدراكية أخرى تجمّل البنية التصورية )) " 9 " فالنصّ المقروء من النصوص التصورية قبل الخطاطة، والتصورات قابلة للتقلبات النصية والتعديلات وإزالة بعض المفاهيم وتوليد مفاهيم جديدة، والغرض من ذلك إيجاد النصّ المؤول، وحيث تكون العوامل الرمزية إحدى سمات التفكر التصوري في النصّ المقروء.
نقرأ النصّ في حالة كتابته، فيصبح المقروء مكتوبا، والمكتوب مقروءا، ومن خلال هذا المنفذ تتكون علاقة بين البنية النصية الجديدة والدلالات.
في فهم المقروء قبل الكتابة
النصّ جزء من أجزاء النصّ المقروء حتى تكامله والاعتناء بالجزئيات المقروءة قبل الكتابة، لذلك سيكون الفهم إما جزئي، أو كلّي، وفي حالة الفهم الجزئي، فهناك مجاورات للجزئي قبل الكلّي، وهناك الفهم الكلّي للجزئي، باعتبار النصّ يصبح جزءا من أجزاء المقروء. أما من ناحية الاستعدادت التي يدخلها بعض المهتمين أو الشعراء على وجه الخصوص، فهنا لانتخلّى عن اللحظات التي تطرأ على الذات العاملة وهي خير ممهدة للدخول إليها كقارءة أولى في تأسيس النصّ الشعري، وأول تأسيسات النصّ، بالقراءة التفكرية غير المكتوبة، أي تكون الشفوية ملازمة للذات ولتلك اللحظة التي بلغت أعضاء الشاعر لكي يكون على مستوى النضج، قراءة وكتابة. من تلك اللحظة التي تتوسع بواسطة ( المعينات ) الخيالية، نلاحظ أن جميع الممكنات تتبلور للمعاينة غير المحققة؛ وهذه الخطوة تدعم الشاعر في توفير العديد من العوالم للذات العاملة، حيث أن الممكنات متواجدة، ولكنه يرغب بالغريب والعجائبي؛ وهي إحدى المهام التفكرية عندما يكون الشاعر قد بنى حاضرا من الوعي الموضوعي.
تشتدّ الأنشطة في حالة التفكر النصّي؛ فينظر الشاعر إلى بعض الوظائف المعرفية، تلك الوظائف التي تقودنا إلى ( الاستقراء ) كطريق استدلالي يميل إلى الضمّ والجمع، وإلى الاندماج والاستبدال، وذلك من أجل الفهم والنظر بالجزئيات قبل النصّ التام؛ ومن هذه الوظائف التي يعتني بها الشاعر، التصورات التركيبية، والإدراكيات والإشارات، وكذلك فعل الموضوع التاويلي.
في فهم المقروء مابعد الكتابة
لكلّ نصّ سياق مقروء، وهو من واقع الأمر بعد الكتابة، فالتأسيس الذي نزل على الكتابة، تأسيس ذاتي فعلي، لذلك نقول إنّ النصّ توجه من الذات إلى الفعل؛ ومن خلال هذا التوجه يكون الدال منفصلا؛ فالحالة التي نبحث عنها الرؤى الذاتية قبل الكتابة، وعند الكتابة تكون الكلمات الشبيهة أو الدالة على نفس المعنى هي التي تستقر في النصّ المكتوب، بينما المقروء منها كانت خارج الكلمات المثبتة، فتقل الاستعارة، وتكثر الاستعارة والتشبيه في حالة الكتابة، مثلا: في النصّ المقروء نشخص حالة من حالات الصيادين العاجزين عن الصيد، فيتم الإشارة إليهم في النصّ المكتوب؛ بالبندقية العجوز، أي غير القادرين على الصيد، او ان البندقية عاطلة عن العمل؛ وهكذا تكون الاستعارة والتشبيه كإشارات دالة بديلة عن الفكرة المقروءة الأصلية التي تترسب في الذات العاملة، وهي أقرب الأشياء وذلك للرمز للإشارة إليها من خلال الرمزية. إنّ الذي يظهر أمامنا في النصّ المكتوب هو البنائي، وما هو خارج البناء، أي نستطيع أن نميز العلاقات البنائية في النصّ المكتوب.. (( أساس التحليل البنائي هو النظر إلى النتاج الأدبي باعتباره عضوا متكاملا، فالنصّ في ضوء هذا التحليل لايتلقى كحاصل جمع آلي للعناصر التي تؤلفه، بل إنّ تفتيت هذه العناصر كلّ على حدة يترتب عليه فقدان قوام العمل بأكمله، فكلّ عنصر لايتحقق وجود إلا في علاقته ببقية العناصر، ثمّ في علاقته بالكلّ البنائي للنصّ الأدبي. )).." 10 "
لا نتحدث عن النصوص التي تحمل الشعور المباشر، نتحدث عن اللاشعورية في النص الشعري الحديث، لذلك من الممكن التواصل مع بعض النماذج المجردة، فالأشياء المحسوسة التي ننقلها، تتجرد من مباشرتها في النصّ الكتابي، لكنها متواجدة بهيئتها في النصّ المقروء، لذلك نستنتج من هذه النماذج، المنظور ماقبل الكتابة والمنظور مابعد الكتابة، أي المنظور البنائي والعلاقات الجديدة التي نصبو على تشخيصها في فنّ كتابة النصّ الشعري الحديث.
.............
1 - ص 201 – اللسانيات والفلسفة – إيتين جلسون – ترجمة: د. قاسم المقداد
2 - في نظرية الأدب – 53 - الدكتور شكري عزيز ماضي
3 - المصدر السابق – ص 52 – 53
4 - الدكتور احسان عباس... اتجاهات الشعر العربي المعاصر
5 - يؤكد شكري الماضي أن ترهل البورجازية أدى إلى إعادة التفكير في قيمها الأدبية، والفنية، مما شجّع كثيرين، بعد زمن من ظهور نظرية التعبير، إلى الشك في مدى صلاحيتها للإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي يطرحها العمل الأدبي. فنجد ( A.S Bradley ) مثلا يؤكد أنّ التجربة الأدبية الشعرية غاية في ذاتها، والحكم عليها لا يكون بتتبّع حياة المؤلف، ولا في معرفة الموضوع الذي تدور حوله، فلذلك شيء لاقيمة له، ولا معنى، ولا أساس للقول بأن الشعر نتيجة حتمية للشعور، والعواطف، فقد تصدر قصائد عدة عن موقف شعوري واحد، وتجربة واحدة، ومع ذلك نجد لكلّ قصيدة طابعها الخاص، فلو كان للمشاعر، والتجارب، والعواطف، دور كبير، أو صغير، لوجد ألا تختلف القصائد والتجربة واحدة، من هنا فإنّ الشعر خاصة، والأدب عامة، ليس تعبيرا عن الانفعالات، ولا تجسيدا للعواطف، وإنما هو إبداع، وابتكار، وخلق، أداته اللغة.. – ص 94 .. 95 – نظرية الخلق.. من كتاب: في نظرية الأدب وعلم النص.. بحوث وقراءات – ابراهيم خليل..
6 - معنى الجمال .. نظرية في الإستطيقا – ص 111 - ولتر ت. ستيس – ترجمة : إمام عبد الفتاح إمام
7 - ص 171 – 172 – من النص إلى الفعل، أبحاث التأويل – بول ريكور – ترجمة: محمد برادة – حسان بورقية
8 - بالنسبة لأرسطو على سبيل المثال، " الأصوات التي يصدرها الصوت البشري، هي رموز لأحوال النفس، والكلمات المكتوبة هي رموز للكلمات التي يصدرها الصوت البشري " (16 à 3 ,Del'Interprétation I )، وذلك لأن الصوت البشري، المنتج للرموز الأولى له علاقة قرابة جوهرية ومباشرة مع النفس منتجا للدال الأول، فهو لايكون مجرد دال بين آخرين. إنّه يدل عن حالة النفس التي يعبر عنها، أو يعكس الأشياء بواسطة تشابه طبيعي. فهناك بين الوجود والنفس وبين الأشياء والانفعالات، علاقة ترجمة أو دلالة طبيعية.. – في علم الكتابة – ص 72 – جاك دريدا – ترجمة وتقديم: أنور مغيث.. منى طلبة.
9 - التوليد الدلالي – ص 9 – محمد غاليم
10 - تحليل النصّ الشعري، بنية القصيدة – ص 27 – يوري لوتمان – ترجمة وتقديم وتعليق : الدكتور محمد فتوح أحمد – طبعة دار المعارف – مصر
...........
*علاء حمد : عراقي مقيم في الدنمارك
آخر كتبه: عربة الشعر – في أنواعية الصورة التكوينية