أصدر الكاتب الروائي والناقد المغربي عبد النبي بزاز ابن مدينة الخميسات كتابه الجديد، وهو عبارة عن رواية تحت عنوان مذكرات الخلاص، والتي حظيت بإعجاب عدد من الكتاب والمثقفين، ولقيت إقبالا واسعا وتفاعلا إيجابيا من أول يوم خرجت فيه إلى الوجود.
وينشر، الكاتب ابن مدينة الخميسات المقيم حاليا بمكناس في عدة منابر مغربية وعربية ورقية وإلكترونية في مجال القصة والنقد، حيث أصدر كتابه الأخير عبارة عن رواية ، تقع في 98 صفحة من الحجم المتوسط ، ( الطبعة الأولى سنة 2021 بمطبعة سجلماسة ــ مكناس).
وتعتبر رواية (مذكرات الخلاص) تاسع إصدار للكاتب، حيث كانت بدايته سنة 2002 من خلال قصص (لملمة الملمات)، تلاها إصدار آخر سنة 2005 عبارة عن نصوص بعنوان (عوالم سفلى)، وفي سنة 2008 إصدار عبارة عن (تذكرات) بعنوان أصوات، وخلال سنة 2011 كانت له أول رواية بعنوان ومضات، تلتها أربع روايات، 2013 محطات، و2015 السبيل لعيش آخر، و 2017 هل سأعود يوما؟ (فصول من حياة مهاجر)، وسنة 2019 المسبية.
يقول الروائي المغربي مصطفى الحمداوي : " تعد الشخصية الرئيسية في الرواية هي الشخصية الحاملة في الأغلب لموقف الكاتب من مجتمعه ومن محيطه ومن العالم أيضا بل تختزل هذه الشخصية البعد الفكري والتفاعل مع كل الأحداث بما فيها السياسية والوجودية والأسئلة الكبرى التي تطرح من خلال شخوص الرواية ".
فشخصية سعيد في رواية " مذكرات الخلاص " للمبدع عبد النبي بزاز ، تعيش أزمة أخلاقية ووجودية بالأساس ؛ ذلك أنها حادت عن الخط السامي الذي رسمه أبوها ويبرز ذلك من خلال تكالبه على الماديات ، واعتماده على الإرادة والمجهود الشخصي للترقي .
سعيد انخرط في نقابة تعليمية مستفيدا مما تغدقه عليه من امتيازات عدة جعلته محط أنظار الناس وانتقاد المنخرطين الذين لم يروا أي أثر على حياتهم المادية والمعنوية : " الفوارق الطبقية تتسع هوتها في بلد ينخره الفساد، ويستشري التفاوت مما ينمي معاناة المأجور البسيط الذي يقضي مساره المهني في مطاردة سراب تحسين الوضعية ، وإقرار الحد الأدنى من الحقوق . " ص 11. في مقابل ذلك ، تحسنت وضعية سعيد وأمثاله؛ " هذا المسؤول النقابي الذي حرق المراحل ، وتسلق المدارج ليتربع على عرش منصب نقابي ارتقى بوضعه الاجتماعي والمهني إلى أعلى المراتب. " ص 11.
لعل هذه الوضعية المفارقة التي لمسها سعيد هي التي دفعته إلى جانب أصله التقي، إلى مراجعة نفسه ومحاولة التخلص من الورطة النفسية والوجودية التي يعيشها، خاصة بفعل وخز النقد الذي تعرض له من طرف المنخرطين الذين تعبوا من التسويف المفضي إلى البؤس لا إلى تحسين الوضعية الاجتماعية.
ومن هنا يأتي عنوان الرواية في آخر أنفاس العمل لنعرف أن سعيدا يسعى إلى كتابة مذكرات خلاصه كنوع التطهير الذي دنس اسم عائلته الموسومة بالصلاح والتقوى والاجتهاد والعمل المنتج.
فصالح أبو سعيد تمكن من نحت وضعه في المجتمع بفضل صلاحه وتقواه منذ أن كان طفلا يتعلم في الكتاب حفظ القرآن الكريم ، وفي معاملاته مع الناس حين صار راشدا ، وفي تربيته السليمة والقويمة لأبنائه ، والأمر نفسه يجري على أخيه أحمد الذي سار بكثير من النجاح على نهجه وإن لم يحفظ القرآن مثله ، لكنه تميز بالسلوك القويم وبتشبعه بالقيم الإيجابية التي غرسها هو الآخر في أبنائه فكان أن أثمر خيرا وبخاصة في ابنه محسن الذي تمكن من أن يطور فلاحته والسير بها إلى الأمام، ونحت اسمه في المجتمع كفرد ناجح.
لعل سعيد قد استشعر فداحة اختياره، وإحساسه بالندم ليبحث عن مخرج يخلصه مما هو فيه، ويعيد إليه توازنه المفقود.
ولإبراز هذا الاضطراب الذي هز نفسية سعيد تم بناء النص بطريقة تخرق عمود الرواية الكلاسيكية بترتيب مغاير للأحداث.
فقد اعتمدت الرواية على ستة فصول جاء الفصل الأول في بداية المتن وحقه أن يكون مع الفصل السادس ،في حين أن ترتيب الفصول الأخرى جاء متتابعا ومتسلسلا رغم أن كل فصل اختص بشخصية من شخصيات أسرة المعطي الجد الأول لأسرتيْ صالح وأحمد.
وعملية تخصيص فصل لكل شخصية ما هو إلا محاولة لجعل التتابع يتكسر باعتماد الذهاب والعود أحداثا ووقائع. حتى أن الحديث عن أحمد، ففيه تكرار متنوع الشكل لا الأحداث.
وعليه، فإن الزمن قد تم خرقه للتعبير عن نفسية الشخصية المحورية، وتصوير معاناتها جراء اختيارها غير الموفق على الصعيد الاجتماعي رغبة في تحسين وضعيتها المادية لكنها لم تمكنها من تحقيق توازنها المفقود جراء إحساسها بالذنب؛ فلم تكن صادقة، ولم تقترب من هموم الناس ولم تقترب من جروحهم وقضاياهم.. ولم تمتلك القدرة على الغوص في مكامن النفوس وخلجات القلوب ، وما تثيره من تأملات وتساؤلات وما تطرحه من رؤى مستقبلية ، ولم تستجب لانتظاراتهم الحارقة؛ بل عملت بأنانية على الاستفادة من وضعيتها وتحسين ظروف عيشها؛ الشعور بالندم نابع من انتمائها لأسرة طاهرة النفس واليد.
ولإبراز هذا الشرخ الذي تشعر به شخصية النص المحورية، يقدم لنا السارد العليم المتواري خلف الأحداث والشخصيات، والشاهد على هذه المرحلة، مقارنة لا تصب في مصلحة سعيد، كما ورد في الصفحتين الأولى والثانية.
بل هذه المقارنة المعقودة بين الشخصيتين كانت هي مدار الرواية وسبب تكونها ، مبرزة السقوط الذي تسبب فيه سعيد لأسرته التي بنت مجدها بأخلاقها وتدينها وسلوكاتها القويمة، وأفعالها السديدة ، واجتهادها المثمر.
كما أن الرؤية المؤطرة للعمل الروائي تسعى إلى ترسيخ قيم إيجابية بدأ ت في الأفول والتلاشي، ومنها البر بالوالدين ، واحترام الكبير سنا ومقاما ، واعتماد الزواج المبني على الرضا، وتهذيب الأهواء وإخفائها إلى حين تليينها وتلطيفها حتى لا تنفجر فتؤدي إلى التشتت العائلي بخاصة. ولذلك تحضر ثنائية الإخفاء والظهور ، والكتم والبوح، والإعلان والتواري، أحاسيس متضاربة تعمل النفس التي جبلت على الطيبة بفعل التربية الحسنة والقيم الدينية على التسامي بها.
فمريم التي كانت تود أن يكون صالح زوجا لها ، كتمت سرها ولم تبح به، وسعت إلى تطهير نفسها من الغيرة ،وتمكنت بفضل تربيتها القويمة من التسامي بمشاعرها، وتقبل زواج صالح بأختها راضية ومرضية؛ وقد عوضت بزواجها من أخيه الذي ما كانت لها عواطف نحوه ولا فكرت فيه حتى، لكنها اكتشفت جوانبه المشرقة فأحبته ، وسعدت به وبذريتها التي أنجبت منه؛ وبالأخص محسن ابنها البكر الذي صار مهندس دولة في مجال الفلاحة ، مما مكنه من تطوير ضيعتهم والسير بها قدما إلى الأمام باعتماد الفلاحة العصرية التي ذرت عليه ثروة جعلته من الأعيان.
ولعل القيم الأسرية النبيلة والمتمثل بعضها في التآزر والتعاون هي التي قادت سفينة أسرة صالح وأحمد إلى بر الأمان، رغم أن سعيدا قد شط بعيدا لكنه سعى بعد مراجعات قام بها إلى تصحيح الوضع والعودة إلى سبل الرشاد.
فهذا الخال قد احتضن أخته وابنها القادم من البادية لاستكمال تعليمه بكل محبة وود، وحماهما من التشرد والضياع حتى تمكنا من تخطي الصعاب واكتساب القوة المعرفية والمادية لبناء عشهما الجديد، وتمت مكافأة نبله بزواج بنتيه ، وإن بعد موته، من ابنيْ شقيقته عيشة.
كما أن البر بالوالدين يحضر في المتن الروائي بقوة ، من ذلك بر عيشة بوالدتها : " تتذكر عنايتها بوالدتها حين نال منها المرض ، وأضحت طريحة الفراش فكانت قريبة منها تسهر على خدمتها وتلبية حاجياتها فيغمرها إحساس عارم بواجب الوفاء والإخلاص لما تسديه من خدمات تنخرط في صلب وخانة فرض تحتمه علاقة مشروطة بقيم وجودية وقيمية إزاء والدتها التي تدعو بصوت واهن متقطع ليتحول إلى نظرات ترشح بأسمى معاني التقدير والمحبة والاعتبار." ص 34.
وقد حظيت عيشة ببر أبنائها الذين ما ناقشوا اختياراتها وقراراتها وبخاصة في ما يتعلق بأمر الزواج ؛ فهي التي اختارت لهما الزوجة المناسبة لكليهما.
رواية " مذكرات الخلاص" رواية ذات أطروحة لبها القيم الأسرية النبيلة والمشاعر المؤطرة بالنبل ، من خلال رسم مسارات شخصياتها الناجحة بفعل اجتهاداتها واعتمادها على العمل الصالح والبر بالوالدين ، والسعي إلى الصلاح والفلاح بما يرضي الله ؛ وإن حادت شخصية سعيد عن هذا المسلك فإنها سعت في نهاية العمل إلى مراجعة ذاتها لتحقيق خلاصها واستعادة توازنها النفسي والروحي.
وقد صيغت بلغة بسيطة وعميقة معتمدة على خلخلة الأفقية الخطية للتعبير عن اضطراب الشخصية المحورية، مع إبراز قيمة المكان وتأثيره في نفسية الشخصيات، بين المكان المعادي والمكان الأليف، وقد تتحول الأمكنة العدوانية، بيت الخال كمثال، من العدواني إلى الأليف بفعل تهذيب النفوس وكبح جماح رغباتها، وبفضل سمو أخلاق ساكنيه. وتظل البادية مكانا أليفا ومحببا لكل الشخصيات.
ـ الكاتب: عبد النبي بزاز.
ــ الكتاب: مذكرات الخلاص (رواية).
ــ المطبعة: مطبعة سجلماسة / مكناس ـ 2021