ما يثير انتباهك وأنت تتصفح ديوان المهدي أخريف: "بين الحبر وبيني"1 هوس الشاعر بطقوس الكتابة كموضوعة مهيمنة على جل نصوصه الشعرية، إنه هوس بظروف انبثاق عملية كتابة النص الشعري وكيفية تشكله.
إن بياض الصفحة - باعتباره الحيز الذي تستقر فيه الكتابة هو اللون الذي يؤرق الشاعر، إذ تستوقفك منذ الوهلة الأولى إحالة عناوين قصائده في فهرس أضمومته على العلاقة المحمومة بين لون البياض المستفز والرغبة في الكتابة كما يتضح في
هذه العناوين: "صفحة لأخرى - بين بياضين - يا أنا يا ألفاظي" .
ومن ثم فالشاعر حريص على ذكر بياض الصفحات في أكثر من قصيدة كقوله في بداية الديوان :
"أوراقي دوما بيضاء
بجانبها أكواب تعلوها حبيبات
ارق تذرفها
الأوراق" 2
أو كقوله في آخره:
"أمس الأول
كنت أقلب
في نومي
أوقاتا لم أكتب فيها
غير مقاطع بيضاء." 3
ويكاد هذا الهوس بموضوع الكتابة والورق والبياض لا يبرح بال الشاعر، إذ يقول:
"لا يدلي
في هذه الصفحات
أحاول
أن أكتب شيئا
من غير وسيط". 4
و "يكفي
أن أبصق ما أمليه
على الصفحة" 5
و "لا أريد
شخيرك المقفى
على بياض" 6
و "الأوراق
كانت أوراقي
سكنتها الأشباح - بفعل الهجرة-
عادت
لتحط على كتف النص الهارب" 7
يتضح جليا من خلال قراءة متأنية لهذه المقاطع الشعرية المنتقاة من ديوانه : "بين الحبر وبيني" أن الشاعر المهدي أخريف مفتون بالبحث دوما عن نصوص شعرية هاربة/ غائبة/ متمنعة، ولذلك فهو مشغول دائما باستمالتها واستدعائها لتنصاع له عن طواعية أحيانا، أو ممارسة الضغط عليها بوسائل متاحة لدى الشاعر أحيانا أخرى، لتستقر على الصفحات البيضاء، وتستوي أخيرا عارية إلا من الحبر الذي بواسطته يخطها الشاعر ليستبيح بها عذرية بهاء اللون الأبيض، ويشكل منها باقة من النصوص الشعرية التي يؤثث بها فضاء دواوينه.
وعملية إنتاج هذه النصوص التي يستعصي استدعاؤها في قرارة نفس الشاعر تحتاج منه إلى عملية تفكيك عميقة لأشلاء المعجم اللغوي، وتركيبه في قوالب إيقاعية لتستوي على صورتها البهية. إنها أشبه بعملية تجميل (ماكياج) ضرورية لاستدراج القصيدة وانقيادها كي تتهيأ لتنجلي وفق شكلها النهائي. وعن هذه الصورة المتوخاة، تنسج الذات الشاعرة هذه الصورة لمواصفات قصائده :
" والتفكيك العمدي
لاشلاء المعجم
فقط
عن تلوين الايقاع
بأحدث ماكياج
في سوق النثر السوداء" 8
إن المتأمل في القصائد التي يضمها ديوان المهدي أخريف: "بين الحبر وبيني" يدرك – لامحالة- أن للكتابة الشعرية طقوسا خاصة لا بد من توفرها كعدة لمن أراد أن يلج ردهات الاسترسال في عملية البوح الشعري، وهي كما ذهب إلى ذلك الناقد الانجليزي: " أرشيبالد ماكليش": "أشبه بعملية صيد حذرة وجب على الشاعر أن يختار طريدته بعناية فائقة" 9
"بين الحبر وبيني" عتبة تحيل على موضوع الكتابة، وهو ما التزم به صاحبه، إذ انصب اهتمامه على محاورة عملية الكتابة الشعرية موظفا تقنية الكتابة داخل الكتابة كما تبنتها تجارب الشعراء الطليعيين الغربيين. فمن خلال التأمل الرصين للقصائد المنتظمة بين دفتي هذا الديوان، يتضح للمتتبع أنها عبارة عن حوار ضمني - مكشوف أو مستور- بين الذات الشاعرة، وبين طقوس الكتابة العاشقة.
- فكيف يعيش المبدع لحظة مخاض تفتق فكرة الكتابة ؟!
- ولمن يتوجه بها ؟ وبأية طريقة ؟ وبأية وسائل فنية ؟!
- وكيف تستقر على هيأتها البهية حينما تبصم بياض الصفحات ؟!
إنها مجموعة أسئلة مؤرقة حقا تكابد حرقتها كل ذات شاعرة مبدعة، غير أن "المهدي أخريف" الإنسان المصطلي بنار الإبداع المتوقدة داخله - رغم طول خبرته بهذه العملية - تواق إلى أن يخصص لهذه العملية حيزا مهيمنا يؤثث فضاء ديوانه الموسوم بهذا العنوان المثير للمتلقي: "بين الحبر وبيني".
ويبدو أن الشاعر، وبحكم تمرسه الناضج بهذا الجنس الأدبي قد أيقن أن الوقت قد حان كي يقطف ثمار ما جناه على نفسه - بارا بوصايا والده الذي يبرئه كل البراءة من لسعة العشق لهذا الفن- حينما أسلم القلم ليلطخ بياض صفحات دواوينه المسترسلة في النشر منذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، حاصدا ما تراكم لديه بفعل الزمن من تجربة إبداعية مرموقة لم تجد الصدى المنتظر - كما كان يحلم به صاحبها وقت نشرها- غير أنها أصبحت الآن وبحكم تمرس النقاد بالمنشور من الدواوين المغربية علامة بارزة لا يمكن إنكارها .
التوسل بطقوس السكر لاستمالة النصوص المتمنعة:
يبدو الشاعر مهووسا بدهاليز الحانات كلما غبشت الأماسي ناشدا تحرير ذاته المغلولة بتفاهات واجبات الصباحات والظهيرات، تواقا إلى الانزواء كلما حلت المساءات، طالبا السكينة بمعاقرة المشروب السحري الذي يساعده على الانعتاق من رتابة الزمن وتفاهة الأشياء. وهو كلما تراءت له واجهات الحانات يحس بانجذاب للدخول في ردهاتها صاغرا ؛ لأنه لا يستطيع مقاومة الرغبة الجامحة في معاقرة الكؤوس الحمر، أو مثيلاتها الصهباء التي تيسر له العبور نحو النشوة الكبرى، هذه النشوة التي تعبد له الطريق لملء بياض الصفحات بسحر الكلام: ص : 4
"في أقصى الحانة ملقى
فوق قناني
مغطى حتى الجفن
بأقداح متقدة
غير منقحة
أدعوك إلى أن تتحلي
بالسكر
وتتلوها جهرا عند الفجر
ولا تهتم بما ستبوح به
أنت
وحاول
أن تمزجها بالبارد
من وسواس الألفاظ
وحاول أن تلبسها أوزان الجن
الأكحل
حتى يتأقلم سكري
والطقس بحانة ما روخا
فإذا ما هاجت ألفاظك
أسكتها
بالقلم الفارغ " 10
إن الدخول إلى حان ك "ماروخا" إذن هو معادل عند الشاعر لبداية العبور نحو تفتق الألفاظ وتوهج الصور وانتظام الإيقاعات التي يلاحقها القلم ليجسدها في بياض الصفحات كي لا تذهب سدى. ومن ثم فالساعات التي يقضيها الشاعر وهو يرتشف الكأس تلو الأخرى بهذا الفضاء؛ إنما هي ساعات حلمية تحصي أنفاسه، وتضبط إيقاعه، فتنفجر الكلمات تهمي :
"دعني
استرجع ما كان
الحانة في الرأس
من وجع
هنا
كانت تعمل في المجرى الأضيق
في الأسطر
كان بها
ساعات حلمية
تحصي الأنفاس إذا انقطعت
وبها
أضبط إيقاع جنون
الكلمات بنصي" 11
و يعترف الشاعر لحظة ترنحه تحت وطأة الكأس أنها ملهمة معجمه الشعري، إذ تنبثق المفردات من قعر هذه الكأس التي استباحت روحه:
"مفردة / في العام / طالعة من قعر الكأس "
والشاعر يترقب بعد طفو مفرداته هاته على صفحة الكأس مفردات أخرى، يكفيه منها سبعا كي يصوغها على هيأة قصيدة تصلح ما أفسده العمر بينه وبين الحبر: سبع ولادات "تنقصني
سبع ولادات في
ليل المريخ
لأصلح ما أفسده العمر
ما بين الحبر وبيني" 12
إن دخول الشاعر إذن إلى ردهات الحانات هو معادل عنده للتحرر من العوائق المكبلة لقدرته على اللهاث وراء النصوص الهاربة، المتمنعة.
فها هو وبمجرد أن تطأ قدمه حانة "زيليس" تنثال عليه أطياف هذه النصوص، يكفيه أن يتمسك بعنوانها فقط، ليسهل عليه استدراج ملامحها كاملة فيما بعد:
"لا تتمسك بي
في حانة زيليس يوميا
حاول
ألا تشبهني حتى في المرآة
ولا تجعل صوتك
أعلى من فقاعات الحبر
تمسك بالعنوان وحسب
دع الباقي للنوم ..." 13
ومما يغري القارئ بالتهام النصوص الشعرية المبثوثة في ديوان المهدي أخريف: "بين الحبر وبيني" كيفية تطرقه لموضوعات قلما التفت إليها الشعراء المغاربة في نصوصهم، واعتبارها مواضيع ذات قيمة أساسية في تحريض البوح الشعري على الاشتعال، كموضوع الانشغال بنشر النصوص الشعرية على أعمدة الجرائد في الملاحق الثقافية.
ففي قصيدة بعنوان: "في العدد القادم" يطرح الشاعر وبجرأة كيف يتهافت المتشاعرون الأدعياء على نشر نصوص زائفة أو مختلسة وكأنهم يعرضونها في سوق النثر السوداء؛ حيث يقول :
"تجدون قصائد لي
غير موقعة
وتليها
خمس قصائد مختلسة
من حاشية للمجاطي
على رائيتين لذي الغمة
لكن
مع بعض التجفيف اللامقصود
لبنيات المعنى
والتفكيك العمدي
لأشلاء المعجم
فضلا عن تلوين الإيقاع
بأحدث ماكياج
في سوق النثر السوداء...
فما رأيك ؟ ! 14
فباسم الحدائة، وباسم الظفر بقصب السبق في تدبيج الهلوسات، لا يتورع بعض المحسوبين على الكتابة الشعرية أن يطلوا على القراء - دون مواربة أو خجل- من خلال بعض الملاحق الثقافية، وبعض الجرائد "الفضاحة" ليسوقوا بضاعاتهم الفاسدة. وفي قصيدة : "سهل جدا، يوظف الشاعر موضوع النشر الالكتروني على شبكة الانترنيت كموضوع مركزي في القصيدة، حيث يقول :
"لا يد لي
في هذي الصفحات
أحاول
أن أكتب شيئا
من غير وسيط،
نصا بالإيماء
ألبسه بذلة صوت ناعق
وأهيئه للنشر قريبا
في الانترنيت إذا شئتم
.... يكفي
أن أبصق ما أمليه
على الصفحة
سيكون بصاقي نهما
وشديد اللمعان
لتضاء به قطعان
الإيماء 15
وفي قصيدة أخرى بعنوان : "مرحى" لا يتورع الشاعر في إظهار تهكمه من طينة بعض المتشاعرين الذين استسهلوا عملية الكتابة الشعرية الالكترونية دون حرج، فراحوا يدبجون سخافاتهم على بياض الشاشة، حيث يقول:
"لا أريد سلة الحروف
لا أريد
شخيرك المقفى
على بياض
مرحى
بشاعر على مضض
ينط بجملتين حتى السقف
في السنة
.... لنعلن
انسحابك النهائي
من ورطة الأرق. 16
إن ما يثير الانتباه حقا في ديوان : "بين الحبر وبيني" للشاعر المبدع المهدي أخريف هذا البحث المتواصل عن اقتناص موضوعات يتخذ منها مرتكزا لعملية بوحه الشعري، إذ يقترح الشاعر في قصيدة: "بالعنوان" ورشة لكيفية التدرب على عملية الكتابة الشعرية، فينصح متلقيه بضرورة البحث عن عنوان فقط -في البداية- ثم ترك الخطوات اللاحقة كي تختمر في الزمان، فقط يجب التسلح بألفاظ مشحوذة مستوحاة من أسلحة خامدة، وتنشيطها بإيقاع على ميزان "الثلث الخالي":
"تمسك بالعنوان وحسب
دع الباقي للنوم
فقد يغدو العنوان
قمرا من كاربون حيا
لتشحذ ألفاظا أمضى
فالحرب طويلة
لتكن
مستوحاة
من أسلحة خامدة
... نشطها،
إيقاعك بالتدوير
ومرنه
على ميزان الثلث الخالي" 17
ويقر الشاعر في قرارة نفسه أنه لا يملك - من كنزه الثمين- غير سرب أحرف جرداء مصفوفة على الرفوف، ويتمنى لو كان بوسعه أن يمسك بالنقطة قبل ولادتها في الرحم السرية ليسهل عليه التنبؤ حرفيا بنوايا النص الهارب ليخط سيرته بيد غريبة تسجنه في بياض الصفحات. 18
هكذا يتضح من خلال استقراء المتن الشعري للمهدي أخريف من خلال ديوانه :
"بين الحبر وبيني" أنه مهووس بموضوع الكتابة حتى الإشباع، حيث يبدو مشدوها إلى ترقب اللحظات التي تيسر له الدخول لردهات البوح الشعري.
إن للكتابة الشعرية - في نظر الشاعر- طقوسا لا بد من توفرها، وعلى الشاعر أن يمتلك الدربة والمراس الكافيين لاقتناص نصوصه الشعرية، وتشكيلها على بياض الصفحات، أو على شاشة "الكمبيوتر" كي يتحرر من ورطة الأرق الذي يحاصره ويطل على القراء من خلال بعض الملاحق الثقافية للجرائد الوطنية، أو عبر بعض المواقع الالكترونية ليحافظ على توقد شعلة الإبداع التي تضمن له التواصل المستدام مع جمهور متلقيه.
الهـوامـش
1- المهدي أخريف : "بين الحبر وبيني" دار توبقال للنشر. ط 1 : 2006
الدار البيضاء 2006
2- المهدي أخريف : من قصيدة : "هذا المقعد" ص 6
3- المهدي أخريف : من قصيدة : "باسم آخر" ص 74
4- المهدي أخريف : من قصيدة : "سهل جدا" ص 66
5- المهدي أخريف : نفسه ص 67
6- المهدي أخريف : من قصيدة : "مرحي" ص 71
7- المهدي أخريف : من قصيدة : "بيتي الضال" ص 72
8- المهدي أخريف : من قصيدة : "في العدد القادم" ص 64
9- أرشيبالد مكليش: "الشعر والتجربة" ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي، بيروت 63
10- المهدي أخريف : من قصيدة : "في حانة ماروخا" ص 38- 39
11- المهدي أخريف : نفسه ، ص 41- 42
12- المهدي أخريف : من قصيدة : "بوحشة مسمار" ص 50
13- المهدي أخريف : من قصيدة : "بالعنوان" ص 52
14- المهدي أخريف : من قصيدة : "في العدد القادم" ص 63-64
15- المهدي أخريف : من قصيدة : "سهل جدا" ص 66-67
16- المهدي أخريف : من قصيدة : "مرحى" ص 71
17- المهدي أخريف : من قصيدة : "بالعنوان" ص 52-53
18- المهدي أخريف : انظر قصيدة : "بعد الترويض" ص 55- 56
وقصيدة : "فليكن" ص 60