قرأت كتاب شليمو اليهودي الصادر عن دار سجلماسة، لصاحبه الكاتب أحمد الطاهيري. بكثير من الشغف الممزوج بالرغبة في فك شيفرة تشكلات الحكاية، وحل عقدة تجنيس هذا العمل الابداعي. فالعمل من عنوانه بداية، يمارس ضغطا هائلا على القارئ، ويستفزه بما يكتنفه هذا العنوان من حمولات دلالية وفكرية وايديولوجية، تمتح معانيها من السياقات الاجتماعية والدينية والثقافية التي بني عليها النسيج الاجتماعي والديموغرافي المغربي في فترة من فترات تاريخ المملكة الذي يمتد بكل فخر إلى أربعة عشر قرنا. ونحن نقصد هنا المستوى الرفيع والمدهش والمحير، من التعايش الاجتماعي الفريد والمدهش بين المكون الثقافي المغربي العربي، الامازيغي، الاسلامي، والمكون الثقافي اليهودي العبري. أي بين المغاربة باختلاف مشاربهم، المغاربة العرب، المغاربة الامازيغ، المغاربة اليهود.
كتاب شليمو اليهودي، هو محاولة ابداعية لفك شيفرة هذا التعايش وتسليط الضوء على هذه السياقات الاجتماعية التي تبدو ظاهريا مختلفة ومتناقضة حد الافتراق والتباين، لكنها منسجمة ومتعايشة حد السلام والاطمئنان.
يقدم الكاتب مؤلفه باعتباره مفتاحا، بل وخارطة طريق لكشف أسرار هذه العوالم، وتصوير حيثيات التعايش الاجتماعي الذي برع المغاربة في نسج أواصره ببراعة جديرة بالتقدير. فما هي الايحاءات الدلالية المشكلة لعنوان المؤلف؟ وكيف تتشكل حبال النسيج السردي؟ وفي أي خانة أجناسية يمكن تجنيس هذا النص المتشابك؟ وكيف تتشكل البنية الحكائية لنص شليمو اليهودي؟ وما هي حدود الواقعي والتخييلي في المؤلف؟.
عتبة العنوان
يشكل العنوان عتبة أولية طافحة بالدلالة، لأنه ينصب شخصية النص المحورية باعتبارها منطلقا لبداية حكاية شليمو اليهودي، باعتبارها شخصية محملة بأبعاد اجتماعية، وحمولة دينية ضاربة في التاريخ، فشليمو إسم من الأسماء التي درج اليهود المغاربة على تسمية أبنائهم بها، إنه ايحاء لمجتمع متصالح مع ذاته، قادر على تقبل الاختلاف، قادر على دمج إسم عبري يهودي في النسيج الاجتماعي العربي الاسلامي الامازيغي، الموغل في المحافظة والتقليد؛ بل ودمج هذا الاسم جنبا إلى جنب مع أسماء عربية مثل : محمد ـ خالد ـ يوسف ـ ادريس ـ عبد الله .... أو أسماء أمازيغية مثل: حدو ـ حمو ـ يطو ـ تودة ..... إنه انسجام لغوي وتواضع لفظي واجتماعي، لم يكن محط نقاش أو جدال، على اعتبار أن الجميع يتوحد حول رابطة قوية تشمل الجميع، وينضوي تحث لوائها الكل، بغير شعور بالنقص أو التهميش، إنها رابطة " الوطن " المعروفة في المتخيل الشعبي ب: " تمغربيت " ويزداد العمق أكثر مع تبوث رابطة البيعة الملكية.
في كنف هذه المقدسات تذوب كل الفوارق اللغوية والعقائدية والعرقية، وتصبح كلمة " مغربي " فوق كل التجاذبات، إنه تحقيق عملي للمقولة التاريخية الخالدة " الدين لله والوطن للجميع " وعلى هذه الأرض يوحي كتاب شليمو اليهودي لا فرق بين " حمو الامازيغي . ومحمد العربي، و" شليمو اليهودي" كلهم أبناء الوطن، وجميعهم ساهموا في تحريره والدفاع عن حوزته، بل وفي بناء حضارته الضاربة في القدم.
التيمة الموضوعاتية
يسلط الكاتب الضوء على مواضيع مختلفة، وباختلافها تتناسل الحكايات وتتشكل تلابيب السرد، مؤذنة ومفصحة بطريقة مواربة عن خطة الكاتب في الكتابة، وهي خطة تقوم عل ما يعرف في المعجم المفاهيمي السردي، بالكتابة الحلزونية، حيث توجد نقطة تمركز أو انطلاق، منها تنطلق الحكاية الأم وتدور في فلكها باقي الحكايات على شكل قوقعة حلزون. من بين هذه المواضيع نجد مواضيع اجتماعية، وأخرى دينية وعاطفية، ومواقف سياسية، حيث شكل الكاتب أواصرها فتداخلت وتفاعلت فيما بينها، حتى كأنها موضوع واحد له بداية ووسط ونهاية.
تشكل المواضيع الاجتماعية البؤرة التي تنطلق منها باقي المواضيع الأخرى، حيث يرصد الكاتب أشكال العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط اليهود المغاربة بباقي مكونات المجتمع المغربي. المكون العربي ، المكون الامازيغي، المكون الحساني. علاقات عرفت قدرا كبيرا من التعايش السلمي القائم على الاحترام وقبول الاختلاف، لكنها وكما عبر عن ذلك الكاتب في بعض الاحداث لم تخل من بعض المناوشات والاصطدامات التي عكرت صفو الأجواء السلمية الأخوية بين هذه المكونات معبرة عن قدر مرصود من الدفاع الطبيعي لكل مكون عن خصوصية معتقده، وسلامة نهجه ورسوخ عاداته وتقاليده.
إنها مناوشات واصطدامات تدخل في إطار العادي والمألوف، بحكم أن أي مجتمع لا يمكن أن تصل العرقيات المكونة له درجات كبيرة من الانصهار، بحكم اختلاف العادات والتقاليد وتباين المنطلقات الايديولوجية، وحتى الأبعاد النفسية. فالتعايش ممكن، لكن الانصهار مطلب مستحيل. وهنا يروي لنا الكاتب بعض أشكال التعايش الذي كان حاصلا بين عائلة مغربية مسلمة، وأخرة مغربية يهودية، الأولى عائلة البطل عبد الله الذي كان ابن فقيه وإمام وخطيب مسجد، وعائلة البطلة عائشة، التي كانت ابنة يهودي مغربي محافظ جدا وملتزم بتعاليم اليهودية، لا يفرط في طقوس العبادة، لقد كان مستوى التعايش بين الأسرتين المختلفتين عقائديا كبير جدا، وصل إلى حدود تفوق التوقعات. وصلت حد أن ترضع اليهودية ابن المسلم ، وتتشارك الأسرة المغربية المسلمة الطعام مع اليهودية، مع استحضار رمزية تشارك الطعام في الثقافة المغربة. يقول الكاتب: " رمت عدة مرات حلم ثديها في فمي، رضعت حتى شبعت".
لقد بلغت الأسرتين هذا القدر الكبير والفريد من التعايش، رغم الفوارق الدينية، وما يتبعها من تشبث قوي بالجانب العقائدي. فما بين أسرة تعود لأب فقيه، وأسرة تعود لأب تلموذي محافظ تشكلت حكاية التعايش والسلام. " كان يحيى لا يشبع من العبادة، مرتبط قلبا وقالبا بالمدرسة التلموذية اليهودية المغربية" . إن الأمر هنا لا يرتبط بمحاولة لفرض سلطة دينية، أو ممارسة حكم الأغلبية على الأقلية، وإنما هو ايمان راسخ متجذر بأن اليهودي والمسلم والامازيغي والصحراوي، كلهم مغاربة وسماء الوطن تظل الجميع.
تيمة الحب والجنس وفائض الشهوة
إن ما هو حلال وممكن اجتماعيا، يغدو محرما دينيا، فإذا كانت أسرة يحيى وأسرة عبد الله ومعهم باقي اليهود استطاعوا التعايش بسلم ومحبة في كنف وطن واحد يوحدهم. فإن الدين شكل عقبة في وجه حب فتي لم يستطع أن يتطور، لم يستطع أن يأخذ مساره الطبيعي كما يحصل في كل قصص الحب والعشق، حب بلغة الاثارة في المسلسلات " حب مستحيل" أو " حب ميت". حب يهودية لمسلم هو كذلك، إنه أمر غير مقبول لأنه لا يمكن أن ينتهي بالرباط المقدس " الزواج".
إنه تحريم يأخذ شرعيته من الاختلاف العقائدي الذي يحرم فيه على المسلم أن يتزوج من اليهودية، وتزداد جرع التحريم عندما يكون هذا المسلم قد رضع نفس الحليب الذي رضعته اليهودية. فيصير الحبيب المنتظر بقوة الدين أخا في الرضاعة، وتنتزع منه صفة الأجنبي ليصير من المحارم. فتكون العلاقة بذلك محرمة من جانبين، من الجانب العقائدي، ومن الجانب النفسي، وهو ما يحلو لي أن أسميه الجانب "النسفوديني". وهو ما حصل للبطلين عبد الله وعائشة، فقد حرما من حبهما للأسباب السالفة. يقول الكاتب : " لم يقبل الزواج بي، أنا أخته من الرضاعة، والاسلام يجعل الرضاعة سبب تحريم الزواج، بينما ديني يبيحه".
ونتيجة لهذا يصبح الدين حجر العثرة الذي يسقط الحب، وعند عتباته تتشكل تفاصيل العذاب والألم والشوق والحنين. فيتحول الحب إلى ضرب من ضروب المعاناة، واختيار له عواقب غير محدودة، إنها معادلة لا حل لها، لأن أطرافها معلومة غير مجهولة ولكن حلها مستحيل لمبررات دينية عقائدية.
إن قدرة الكاتب على تأزيم الوضع إلى هذا الحد الذي يستدعى تعاطف القارئ، إنما يظهر براعته في نسج خيوط السرد، وتقليص المسافة بين الواقعي والتخييلي في الرواية. إلى حد أن يشعر القارئ في الرغبة في التدخل لصالح البطلة ومساعدتها في تجاوز محنتها النفسية.
لكن المفاجأة التي أعدها الكاتب كانت غير متوقعة، فقد تحدت عائشة الحبيبة اليهودية كل الأعراف والتقاليد، ورمت خلف ظهرها التعاليم التلموذية منتصرة لحبها الكبير المغلفة بالشهوة والحنين، مؤذنة لعبد الله بإقامة علاقة خارج إطار الزواج، بعيدا عن تعاليم الدين الاسلامي واليهودي؛ فتحت لعبد باب جسدها المغلق بأقفال الصلوات والتراتيل التلموذية، كي يعيش معا لحظات حميمية تنتصر فيها الشهوة على الدين، والعاطفة على التعاليم والقوانين؛ لكن مرة أخرى يكون جدار الدين أقوى وأصلب من رداء الشهوة، فيرفض عبد الله هذه العلاقة الجسدية بمبرر أنها حرام، لتظهر كلمة التحريم مرة أخرى باعتبارها الشرطي الصارم الذي يصهر على تطبيق القانون. لاعنا كل من يخالف الأمر ومتوعدا إياه بنار الجحيم، والمسلم يعشق الجنة أكثر مما يعشق الجسد، لتضيع بذلك طموحات الحبيبة اليهودية في الارتباط بالمسلم ولو ارتباط شهوة وجنس.
إننا نلفي أنفسنا هنا أمام لعبة صراعات غير معلنة، صراع العقل والعاطفة، صراع الشهوة والحكمة، صراع الجسد الروح، صراع الحلال والحرام، صراع الاسلام واليهودية. فتزداد درجة حلحلة هذا الأمر صعوبة. يضيق الأفق وتغلق جميع نوافذ الخلاص، يرتجف الجسد، ترتعد الروح، يسيل اللعاب حبا في الوصول لجسد فاتن وتحقيق رعشة الوصال، فيتحقق الأمر أخيرا، ويكون أمرا جميلا، ممتعا، مشوقا، شبقيا، لكن في الحلم فقط، ليصير الحلم زمنا للخلاص الروحي والعاطفي، من سطوة الدين والعادات والتقاليد.
إن رواية شليمو اليهودي، عمل متوازن سرديا، مشكل حكائيا بتقنيات كتابية تنوعت بين الواقعي والتخييلي، فجعلت منه عملا متميزا يقف أجناسيا على عتبة الرواية "السيرذاتية". حيث تتقاطع تقنيات الرواية مع تقنيات السيرة الذاتية، في تداخل توليفي استخدمت فيه تقنيات الكتابة ببراعة وتبصر كبير. وهو ما يستدعي تهنئة الكاتب على هذا العمل الذي لا يخفى الجهد التخييلي والأدائي الذي بذل في سبيل الوصول إلى تشكيل هذه التركيبة السردية الماتعة.