محمد الخمار الگنوني: الشاعر المنخطف للوعة العشق، والسابح في غلالة الأحزان - د.امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasseإن الحديث عن محمد الخمار الگنوني، هو حديث عن الطائر المغرد والمحلق خارج السرب، والمنخطف للوعة العشق، والمتأمل في ملامح الجمال أينما تجلى، والكاشف لمكامن السحر الذي تعبق به الصورة الفاتنة، والنغمة الشاردة، والحركة الميادة.
إنه حديث عن أحد أهم الشعراء المغاربة الذين استهواهم التأمل الوجداني الخالص، والاحتفاء بما هو جواني عميق، ومن ثم تبدو قصائد محمد الخمار الگنوني وكأنها لوحات تشكيلية لملامح الذات العاشقة لأطياف مكامن الجمال، والسحر الماثل في مظاهر الطبيعة، إنها شحنات من الانفعالات الحادة، ولمسات مفعمة بنفحات رومانسية لم يستطع الشاعر لها ردا، وكيف له أن يفعل وهو المسكون بعشقه الصوفي للذوات المغسولة من صدإ الرياء والعواطف المزيفة، إنه عشق لا إرادي عميق أنهك جسده النحيل، وأذاقه لظى الصدود الذي لم يزده إلا ترنما بعشيقاته، وشدوا بمفاتن الجمال فيهن، ليصبح هذا العشق خاصيته التي ميزته عن باقي أصوات جيله الشعرية، إنه النسغ الذي أينع روائعه التي تغني بها ألمع الملحنين، وأعذب الأصوات الغنائية في المغرب التواق إلى تلمس الشعور بالحرية والانطلاق، والإحساس بالقدرة على التحليق والاختراق.

الغنائية الطبيعية:
إن تجربة محمد الخمار الگنوني الشعرية كما تتبدي في ديوانه "رماد هسبريس"(1) يحكمها الانعتاق من ضغط  الواقع المحموم، والتحرر من هموم اللحظات الشمطاء للارتقاء بالعملية الشعرية إلى معانقة المدهش العميق والارتواء من حياض البهاء الأنيق. وهذا ما منح قصائده دلالات تعبيرية رومانسية حالمة. ومن ثم يبدو أن الدخول إلى عالمه الشعري يجب أن يستند على سيكولوجية المبدع المنحازة لغنائية طبيعية تستمد روحها من النزعة الوجدانية التي تطفح بها نصوصه الشعرية. ولعل هذا هو ما أكسبها الصفاء الذهني والانسجام الكلي، والنفس الشعري؛ إن لحظة ولوجه لعتبة الإشراق الشعري هي عبارة عن تماهي روحي ـ قل نظيره في المتن الشعري الستيني ـ ذلك أن قارئ شعر الگنوني يحس منذ الوهلة الأولى بمدى احتفائه بروح النص الإبداعي، لأن له تصورا واضحا للرسالة الشعرية التي يجب أن تنبثق من التأمل الوجداني الخالص، وسبر أغوار النفس الإنسانية.
إن روح قصائده توقظ الأحاسيس وتؤججها، وتنعش الذوات لتسري فيها حلاوة الفرح بانبعاث الحب الكبير في أوصالها، وهذا ما منح قصائده طابعها الأصيل غير القابل للاستنساخ. وربما كان هذا هو سر التفات أمهر الملحنين وأعذب المطربين المغاربة لنصوصه الشعرية ليصوغوها روائع شنفت آذان المغاربة والمشارقة –على حد سواء- لوقت غير يسير. ولعل الفنان المرهف عبد الرحيم السقاط، والملحن المبدع عبد السلام عامر قد فطنا إلى ذلك في تعاملهما مع نصوصه، وما قصيدتي: "حبيبتي" و"آخر آه" إلا مثالين بارزين لهذا التعامل المثمر الذي أغني الريبيرتوار الغنائي المغربي. وغنائية الشاعر المبدع محمد الخمار الگنوني هي غنائية حالمة وهائمة في ملكوت الطبيعة الحية والصامتة، تمجد فتنة جمال الروح والجسد، وتتغنى ببهاء الأعراس في الخمائل والجداول والغدران.
والملاحظة التي تسترعي الانتباه هنا أن الشاعر كان حريصا على توظيف نوع من المراسلات الوجدانية بين الذات الشاعرة، والمظاهر الطبيعية باعتبارها رموزا تساعد على الإبلاغ الشعرية حيث يسقط الشاعر عليها حالات وجدانية يروم من خلالها البحث عن وسائط تعبيرية تساعده على البوح الذاتي الصرف، بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك حينما يوظف هذه العناصر الطبيعية من خلال التوحد والتماهي والحلول فيها، وهو نوع من "الذوبان الكوني" يتقمصه الشاعر ليقيم به علاقات متبادلة، ومراسلات سرية وحميمية. وهنا "يحضر "البحر" بشكل لافت في متنه الشعري، هذا الجبروت الذي يأوي جميع الينابيع المتدفقة في أحشائه، إنه بمثابة الرحم المقابل للأرض، والذي يحوي جميع أسرارها. فلنلاحظ كيف يوظفه في مقاطع شعرية مختلفة ليسقط عليه ما توحي به الذات الشاعرة من دلالات رمزية، وحالات وجدانية إما إيجابية أو سلبية حسب اللحظة الشعورية كما هو واضح فيما يلي:
"وقد وليت وجهك خلف هذا البحر تستسقي وتنتظر
 وليس وراءه رب يعيد الخلق لا يحيا" (2).
"لقد أمسى وراء الماء عرس المبحرين
أطل نجم الحلم، فانهمرا" (3)
"وحين يخلف الناجون من غرقا
للج البحر، كف تقبض الرمل، وعين ترمق الشفقا
ويخبو الفزع البحري
ينأى باهتا، يغدو رؤى، مطرا
يروي ماؤه حجرا" (4).
"مات البحر، بانت عورة الأشياء" (5)
"النورس الأخير غاب، فالسرى فوق صميم الماء
لا نعرف الرهبة، نمضي للعباب
كان ساكنا وريحنا رخاء" (6).
"البحر في دمائنا، دواؤنا والداء
لسنا نغني حالمين بالعباب" (7).
وتتصدر ديوان: "رماد هسبريس" تسع قصائد مهداة إلى والدة الشاعر، وما يلفت النظر في عناوين هذه القصائد أنها تحيل على حقول دلالية مرتبطة بمظاهر طبيعية ذات دلالات موحية كـ: الماء في قصيدة " وراء الماء" والنهر: في قصيدة: "شارب النهر" والليل: قي قصيدة "ليل من حجر"، والريح: في قصيدة: "رياح الضفة الأخرى"... إلخ.
وبناءا على مبدأ الإطرادية التي تعتبر مقياسا في تحديد الموضوعات من منظور نظرية: "المجالات الدلالية" يمكن أن نتبين المواضيع الرئيسية التي تتردد مفرداتها بكثرة في ديوان "رماد هسبريس".
ويأتي "الماء" في مقدمة هذه المواضيع مقترنا بمفردات تدل عليه باطرادية ملفتة للانتباه كـ: النهر- البحر- الموج- الميناء- العباب- المطر- الرعد- الغيم... إلخ.
هكذا يحضر الماء في القصيدة الأولى بحدة، باعتباره حاملا لدلالات الخصب واليناعة، وهذا ما يساعد الشاعر على تحقيق غنائية طبيعية تكسب تعبيره الشعري سيولة وصفاءا، ويساعده على البوح الشعري:
"يطل طريقك الممتد عبر الأفق نحو الظل والماء
على دنيا يموج العشب فيها، مرتمى ورد وأنداء
فتمضي، أم خيال لاح في الليل؟ (8)
والشاعر لا يكتفي في وصفه لمفاتن الطبيعة التي يفجرها الماء برا، بل هو حريص على التحليق بغنائيته هذه في الأفق الفسيح، وهنا يحضر البحر بزرقة مائه ولجة عبابه وبنوارسه التي تداعبها أمواجه الهوجاء:
"وعند الأفق ماء البحر أزرق كالسماء، أتيته وجلا وميناء
 أرف به جناح النورس البحري إذ يعلو، ومصطفق إذا يلقي به الماء"(9).
أو هو يقرن بين ماء العيون المتدفقة التي تحيي جذور الأرض لتتحول أغصانا خضراء، وبين ماء الأمطار المنهمر خلف البحر مبشرة بفرح الحقول:
"أطل الغيم تدفعه رياح الغرب، فجر رعده وهمى
فترب الأرض بعد الصحو يعبق بالشذى البري
تحيا في دواخله الجذور تظل خضراء
تفجرت العيون من القرار على الثرى ماء
كما تنحبس الأمطار خلف البحر حينا ثم تنهمر
فيفرح في الحقول الناس بعد الخوف والحزن (10).
والشاعر في كل ذلك حريص في مناجاته لمظاهر الطبيعة على التقاط ما تزخر به من رموز ودلالات.

الذات المسكونة بالقلق المتجدد:
للشاعر قدرة فائقة على البوح الذاتي المتأمل تارة، والمتألم أخرى عبر سبر أغوار ما تزخر به هذه الذات من قلق وتوتر، من أسى وكمد على حال الجماد والعباد.
إن الذاتية هي الخلية الواعية التي تؤمن بدورها في عملية الإبداع، كعملية جمالية واجتماعية بالضرورة، وذلك بما تحمله من حس إنساني فطري يميل بطبيعته إلى مقارعة القهر النفسي، والظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي والانصياع الفكري.
إن الذاتية ـ بهذا المفهوم ـ هي ما يختزل في البقاع السفلي من قدرات على محاولات تحقيق الحرية والتحرك الطليق بعيدا عن ضغط الواقع وما يترسب في الحياة، إنها عملية أشبه بحفر المجاري العميقة القادرة على التدفق في المكان بما يتناسب مع الحلم المصفى من أدران الواقع. هكذا يتحول العالم الموضوعي ـ عند الشاعر المبدع ـ إلى مادة خام يشكل منها عوالم أحلامه المنتقاة من اللهف الساخن والحمى المستعرة، وهذا ما يساعده على رسم لوحات قصائده وهندستها لتسري فيها الارتعاشات الضرورية الكفيلة بخلق التأثير المنشود.
فالذاتية إذن، شرط ضروري من شروط تطعيم البوح الشعري ورفده بشحنات وجدانية، إلا أن محمد الخمار الگنوني يذهب إلى أبعد من ذلك حينما يصر على رفد بوحه الذاتي بكآبة تكاد تستقر في قاع نصوصه ولا تبارحها إلا لماما.
وهكذا يبدو من خلال القراءة الأولى للقصائد التي تؤثث فضاء ديوان:" رماد هسبريس" أنها مستمدة من تفاصيل محمد الخمار الگنوني، بأفراحها وأتراحها، بآمالها وإحباطاتها. إنها تجسيد لسيرة الشاعر الإبداعية، وحصيلة تأملات مختمرة في تفاصيل الأحداث التي وشمت ذاكرته عبر عقود من الزمن بأبعادها: الذاتية والاجتماعية والسياسية، هي صياغة لكل هذا التداخل من منظور الذات الشاعرة التي استصاخت السمع للحركات والسكنات التي طفت على سطح مغرب ما بعد الاستقلال. ومن ثم يبدو الشاعر هائما في محراب مملكته العذراء، نازعا أقنعته، مبتهلا وغارقا في عرائش بسملاته علها تساعده على البوح الشعري الخالص:
"غارقا في عرائش بسملتي وصلاتي
أقول لكم ولنفسي: عذابي الذي لا يقال
عذابي الكلام المجاز وإن المقال استعاره
وأن العمى، والرجال حروف عباره
.. عائد كل يوم أنوء بذاكرتي، ورقي ولساني
أنزع أقنعتي وأقول: لقد مر يوم
فماذا أقول غدا لأشد العيون، وأروي الشرارة" (11)
ها قد اعترف الشاعر ـ منذ البداية ـ أن العذاب هو مفجر مجاز كلامه، واستعارة قوله، إنه النسغ الذي يسري في نصوصه، ومن ثم يبدو الشاعر مترعا بالحزن والأسى الذي استبد بالروح، وسلبها الشعور بالاطمئنان والفرح:
"إليك يا دموعي
أمشي إليك يا جدران
هذي خطى رجوعي
ما أنت في الألوان
بيضاء
صفراء
خضراء
أم أنت قزحية" (12)
وهذا ما يسلم الشاعر للأرق والتيه بين الجدران في ظلمة الليل، هائما في دروب المدينة:
"عبرت سكونه الليلي
مصباح ربيع زجاجة
غبش الأماسي، نام انطفأ
تنام الريح
ليل العابرين
النهر
صوت الأرجل العجلى
سواي، أنا
أعاد الليل بالحجر؟" (13)
ويكاد الليل أن يشكل عقدة الذات الشاعرة، فكلما غبشت الأماسي، كلما أسلمت الشاعر إلى الشعور بالأسى والإنطفاء الذي يعادل الحالة الوجدانية للذات الكئيبة، وهذا ما يحيلنا على روائع الرومانسيين العرب التي بثت عذاب الروح تحت وطأة الوحدة والغربة وفقدان الشعور بالحب الكبير مثل قصيدة "المساء" لمطران خليل مطران. فالليل أصبح ثقيلا على الشاعر ومعادلا لثقل الحجر، ومن هذا المعنى نحت عنوان قصيدته "ليل من حجر".
والشعور بثقل الليل يسري في أكثر من قصيدة، ذلك أن للشاعر حساسية خاصة تجاه سكونه الذي يسلمه للتأمل والتفكر والتدبر والسهر:
" أكان الليل إذ أمشيه أصداء
تشق سكونه الحجري
أم أفقا من الشرفات ينطفئ؟
رخام مقاعد، سقاية تنهل
ام أبدا يمد رماده المقتول
في ليل من السهر" (14)
والشاعر حين يستشرف مستقبل أيامه فهو لا يرى إلا ما ينذر بسيادة ظلمة الليل، وتوقف الرعد عن الهدير المبشر بمجيء الأمطار:
"توقف ما وراء الغيم من برق وأمطار
سوى ما عاد يجري فوق جدران
البيوت، أو استقر بأغصان الأشجار" (15)
تبدو الذات مترعة بمسحة داكنة من الحزن لدرجة اليأس القاتل مما ستحمله الأيام، فعورة الأشياء بانت، وشمس الغد عاجزة عن الإتيان بالجديد، وحبل قول الشاعر ـ الذي كان مليئا بالآمال العريضة ـ أصبح قصيرا:
" فلأغف لا جديد تحت الشمس
مات البحر، بانت عورة الأشياء
فلأغف حين يسأل الأهل قصير "حبل قولي"(16).
ومن ثم لم يبق للشاعر من حل سوى الارتداد للذكريات المنفلتة من عمره والتي مازالت تشد الشاعر إليها شدا، عساه يجد السلوى والعزاء أمام ما يحاصر ذاته من عذاب؛ جريا على المقولة المعروفة: "أحسن الأيام ما عشنا":
و"مازالت خطاي على الطريق، وومض أحقاب
وتحت الشجر المبتل عاليه
من الورق القديم يشدني (17).
وقد خصص الشاعر خمس قصائد للنبش في ذاكرته هذه تحت عنوان: "قصائد إلى ذاكرة من رماد "يغلب عليها حزن سوداوي عميق الدلالة، ذلك أن الذات لم تستطع التخلص من ثقل هذا الزمن المنفلت الذي لم يرق لطموحات الشاعر، ومن ثم يبدو أن أثر هذا الزمن كثيف المرارة واليأس من خلال ما أصبح يحاصره من غربة وحيرة وشكوك، وعدم الرضى بما تحقق في الزمن العصيب.
ويسقط الشاعر هذه المشاعر على مظاهر الطبيعة ـ كما هي عادته ـ
فالبرق أصبح ساكنا بين رماده، كالماء الفاقد لذاكرة البحر وللونه الأزرق والراكد في قرارة الكأس:
" فها أنت ذا أيها البرق بعد اشتعالك
تسكن بين رمادك،
كالماء في الكأس
يفقد ذاكرة البحر، زرقته
يتحول من كائن سرمدي
التلون والهيجان
إلى جسد دائري
غريب عن اللون والموج
يسكن بين الزجاج
وبين النزوع إلى البحر.."(18)
إن الإحساس بعدم الفاعلية والجدوى من كل شيء أصبح يلح على الشاعر كلما سافر في ماضي أيامه البعيدة والقريبة، ومن ثم تنتابه شكوك مريبة، فلا الكلمات أصبحت تبين عن أشياء مفيدة، ولا الألوان أضحت لها تعابير واضحة، إنه زمن التنصل من المواثيق، والتنكر للمواقف:
" لقد كنت لي بين بسملتي وصلاتي
سيدة الضوء
ذاكرة المنتهى
كلما أو غلت بي الرؤى في الغيوب،
وحين علا في المدارات صوت الهروب
تبين أن الضجيج
مواثيق للجرح لا للوفاء
وأن التوهج في اللمعان
ابتداء انتهاء" (19)
 ولذلك فهو يأمر حرفه بالاستكانة وذاكرته بالإنطفاء، ويتمنى أن تنقلب الموازين، وتتبدل الألوان والأقيسة:
" فلتسكن أيها الحرف
وانطفئي في المواقف أيتها الذاكرة،
واستحل يا سواد بياضا
وكن أيها الشرق غربا
فعين الرضى تلد اللغة العاهرة" (20)
وهذا ما يسلم الشاعر إلى الشعور بالعجز التام، وعدم الرضى المطلق.

القضية الوطنية كفجرة لعذاب الذات الكئيبة:
في مطلع الستينيات من القرن الماضي، طفا على الساحة الشعرية في المغرب أسماء شعراء انخرطوا دفعة واحدة في رسم ملامح حركة شعرية جديدة أرادت الانتقال بالقصيدة المغربية الحديثة والمعاصرة إلى آفاق لم تجرب التحليق فيها من قبل، بحكم ظروف كانت تحكم مغربا ناهضا تواقا إلى خوض غمار اختيارات انبثقت من هموم طبقات شعبية كانت تتلمس طريقها نحو حياة كريمة، ومن ثم ارتبطت هموم هؤلاء الشعراء الطليعيين ـ وقتها ـ بالأسئلة الكبرى التي تحول بين طموح هذا الوطن والمعوقات الساكنة في تربته والتي تعيقه عن الانطلاق.
لقد كانت الآمال مشرعة على مستقبل واعد لهذا الوطن الذي كان يتلمس طريقه نحو كسب رهانات مواطنيه لتحقيق ظروف حياة آمنة كريمة، إلا أن هذه الآمال سرعان ما خبا وميضها، وهذا ما أسلم الشعراء المنشغلين بأسئلة هذا الوطن إلى نوع من الحزن السوداوي، والكآبة النفسية كلما اقتربوا في أشعارهم من هذه الأسئلة. والشاعر محمد الخمار الكنوني أحد أهم هؤلاء الشعراء الذين اقترن حديثهم عن الوطن بهذا الحزن السوداوي، ذلك أن شجن الذات وتباريحها هي مرتبطة بالأمكنة الأثيرة لديه، باعتبارها فضاءات للوطن الذي آواه، تحمل رموزا للصمود والمقاومة، وهو حين يتفقد هذه الأمكنة ويتأملها، يستشعر روح المهانة والإنكسار، وهو شعور ذاتي يسلمه إلى البكاء على حال هذا الوطن، حيث يقارن ما بين أمسه ويومه، ما بين أشكال الفضاءات المكانية المفتوحة على: الأمد/ الأفق/ البحر الشمس (أي المستقبل الواعد والمليء بالتطلعات في الماضي) وما بين أمكنة محدودة، مرهونة، مقيدة ومعادلة لـ: الظلام / اليباب/ الرماد (في الواقع الحاضر).
والشاعر حريص في هذه المقارنات التي يعقدها بين أمس الوطن وحاضره على إسقاطها على مظاهر الطبيعة. كما أنه يبدو مستعجلا لمعرفة مصير الأيام المترعة بالآمال العريضة التي سرعان ما تبين ـ مع مرور الزمن ـ زيفها، ومن ثم تعلو سحابة داكنة في أفقه المنظور تحجب عنه ضوء الشمس في فجر يوم لم يرق إلى ما كانت تترقبه النفوس الأبية، وهذا ما يفجر طاقة أصبحت مكبوتة في داخله، فيصيغها في شكل صيحة ذعر مدوية حينما يقول:
"نحن غدونا في عيون الريح ملحا وحجر
وجفت مواعيد الخروج والسفر
نسمع وقع الزمن الهارب منا
صوتا يصبح فوقنا: شيخوا فشخنا
نبض الدماء في العروق الأخرى
وموتنا القديم عاد فنزيد موتا" (21)
ها قد انقلب الأمل يأسا، والحياة موتا، والصبا شيخوخة، فأين مضت يناعة الوطن، وأين ولى زمن الخصب، وأين هي قطرات الغيث التي لم تعد تبدو بشاراتها في الأفق:
" وراء الخطو ينأى الجدب يبقى في العيون على ثنائيه
تغور إلى قراراته الرحاب، عفا المدى فيه
فلا الغدران تنبئ عنه ـ غيض الماء فيها ـ
لا الجذور تموت، لكن الأسى في العين ينبئ إذ ترود الأفق
إذ ترنو إلى أعلى تنادي الله: غيثك غيثك الميمون" (22)
لقد طالت فترة ترقب الماء وانتظار ما تجود به السماء لتسقي بطن الأرض وتكتسي الأشجار سندسا من خضرة:
" وفي عينيك جوع القاعدين يراقبون الموج، تنتظر
الذي تأتي به السفن الغريبة في حشاها، حابس النفس
تظل تشد ما ترمي به الأمواج والقدر
ويفرح قلبك المحزون للدخان
ما إن عاد يفرح للسحاب الثر فيه الرعد والمطر" (23)
هكذا يتطلع الشاعر إلى مستقبل واعد لهذا الوطن، فلا يرى في أفقه المنظور إلا مواسم الحزن والمرارة على ما أصاب الأرض من بوار، فتتسع أمامه مساحات لا تعد من الفجائع من جراء ما يحاصره من خراب ويباب، ولذلك ينثال السؤال على الشاعر:
 " فمن سيظل يبسم، أو يمد الترب بالمزن؟
وقد وليت وجهك خلف هذا البحر تستسقي وتنتظر
وليس وراءه رب يعيد الخلق لا يحيا
حياة الناس إذ تسعى فلا زرع ولا سقيا
يقول لبعض هذا الترب: كن فيكون منه الماء والثمر !" (24)
لقد مضى زمن كانت فيه الأفراس تدك سنابكها، والفرسان يصولون ويجولون في الأرض طولا وعرضا، لقد ولوا وجوههم خلف هذا الوطن الغارق في أمواج الذل والمسكنة، واليأس من كل محاولة ممكنة لاسترجاع مجد الزمن الماضي. وللشاعر قصيدة في وصف تقاعس الفرسان المهزومة غنية بمعاني الجبن والمسكنة، وهي بعنوان: "تركة اللصوص": يقول في مقطعها الأول:
" مرت على صدري سنابكهم، أيوم الروع؟
ما عرفت سفوحي مثل هذي الخيل،
مثقلة القوائم، مشيها فوقي وئيد
ليس يضرب في السبيل، وليس يقدح بالشرار
حطوا على خيامهم، قالوا: غدا أمر
وهذا الليل خمر
تستريح خيولنا فيه، أما بلغت بنا هذا المدار؟
فخذ لها علفا وماءا باردا، وبباب هذا الليل لا تصدع: من الآتي؟
فما بالليل من أحد
مروا ثقالا.. تسأل السنوات: ماذا يحملون، لمن، حلال أم حرام؟ (25)
إن الخيل مثقلة القوائم إذن، وهي إذ تتحرك تتراءى وئيدة في سيرها لا تثير النقع المبشر بالكر، والفرسان يضربون خيامهم قبل موعدها، مرجئين تتمة السير فيما يستقبل من الزمان لأن الشعور بالحمية مات في نفوسهم، وهذا ما يوحي للشاعر بالقول المأثور لامرئ القيس حينما أتاه نبأ مقتل أبيه وقد كان منهمكا في معاقرة الدنان: "اليوم خمر وغدا أمر" فيوظفه بمهارة بالغة.
ويقارن الشاعر في المقطع الثاني من قصيدته هاته بين حال القُعَّد من الفرسان، وبين مشركي قريش الذين كلما خاطبهم الرسول الكريم يسرعون بوضع أصابعهم في آذانهم:
"مروا.. فتنغلق النوافذ، ليس يحيا القوم !
من ذا يقطع الأيدي؟ وقد وضعوا أصابعهم على آذانهم أفواههم أبصارهم
(نحن الرجال الصم
نحن الرجال البكم
نحن الرجال العمي)
مروا.. وقد تركوا رمادهم بقلبي، والدمار.."(26)
إن الحزن على حال الوطن جو غامر يكاد يهيمن على قصائد الشاعر حين يحاول البحث عن سر اللحظات الشمطاء التي تتأبطه لتستبد به، فها هي الفصول تتوالى دون حدوث ما يمكن أن يزرع الأمل في النفس:
"تدق الساعة الشمطاء تعلو تم تخفت
يستحيل دويها المحزون
بين مقاعد الرواد
عن معنى الزمان،
تدق في خشب ومسمار
يعود الفصل بعد الفصل ليس يموت أو يحيا
عيون تختفي خلف الجرائد والزجاج
فأين أقرأ حزنها، أرتاح أو أعيا؟"(27)
ويسقط الشاعر يأسه على حال هذا الوطن حين يوظف معنى عدم انتصاب الجبال على أرضه باعتبارها رمزا للسمو والشموخ والكبرياء:
"فقال بعض القوم: أين السفح
والقمم العتية؟ ليس في هذا المدى جبل ! (28)
إلا أن الشاعر ـ رغم كل هذا الحزن البادي عليه كلما تفقد أحوال وطنه ـ حريص على بعث الأمل في نفوس أهله الطيبين، ولذلك فهو يستشرف مستقبله ليبشر بمقدم الأعراس. فما هي بارقة أمل تبدو في الأفق الرؤوف الذي أصبح رحما يستجمع الغيم المبشر بالخضرة المرتقبة التي سوف تورق الأشجار، وتبث  الحياة في الضفاف التي طال عهدها باليباس، وتينع زهور الحقول التي سيعم شذاها البراري والبطاح، وتنفجر العيون من قراراتها لتتدفق مياهها رقراقة تروي الحقول والبساتين:
"أطل الغيم تدفعه رياح الغرب، فجر رعده وهمي
فترب الأرض بعد الصحو يعبق بالشذى البري
تحيا في دواخله الجذور تظل خضراء
تفجرت العيون من القرار على الثرى ماء
كما تنحبس الأمطار خلف البحر حينا ثم تنهمر
فيفرح في الحقول الناس بعد الخوف والحزن" (29).

المسألة الاجتماعية كشاحذة لوعي الذات الناقمة:
من البديهي أن المبدع ـ شاعرا كان أم فنانا بشكل عام ـ يتموضع ضمن ثقافة معينة هي نتيجة الإدراك الواعي في مرحلة تاريخية محددة، وأن هذا الشاعر يساهم في هذه الثقافة بالإنتاج والتطوير، أو بالمحافظة والاستهلاك.

ومن ثم فهو: - إما محافظ على ما هو سائد ومألوف.
وإما ناقد لهذا المألوف داع إلى تغييره وتجاوزه.
وبتصفحنا لديوان: "رماد هسبريس" يتضح أن الشاعر محمد الخمار الگنوني حريص على نقد الأوضاع المتردية التي يعيشها وطنه، والأزمة الخانقة التي تطوق أعناق مواطنيه، والمتمثلة في سيطرة طبقة اجتماعية محظوظة على خيرات هذا الوطن، واستغلالها استغلالا فاحشا. ولذلك فهو يخاطبهم باعتبارهم أعداءه الطبقيين في أكثر من قصيدة بلهجة لا تخلو من مقت وازدراء، لأنه ينشد وطنا يساهم في توزيع خيرات البلاد على من يستحقها من المزارعين البسطاء والكادحين في البر والبحر، وطنا منتجا ولا يركن إلى متعة الاستهلاك الرخيص، وطنا مناضلا يتأسس على عقيدة وخطة وتقوده طليعة واعية محرضة على تحقيق العدالة الاجتماعية.
إن الشاعر حين يتأمل حجم هذا الفقر الذي استوطن الأرض، وسر هذا العذاب الذي أثقل كاهل المحرومين من خيرات هذا الوطن، يضع يده على الأعداء الحقيقيين؛ إنهم السماسرة المترفون، واللصوص الذين يسرقون خبز الجياع، إنهم هذه الطغمة ممن استباحت ثروات الوطن:
" قدر رأيتكمو ورأيتك يا جنة من رماد ووهم، غدت فرجة الغرباء
يشير الدليل إليها، يقول:
هنا هبت الريح دهرا، وما حركت شجرا أو لهيبا، وكانت فصول
ومر لصوص، قضوا وطرأ من دماها، وينتظر الآخرون" (30)
ها قد أصبح الشاعر ينظر في اتجاه واحد، هو تعرية المسؤولين الحقيقيين عن الأوضاع الاجتماعية التي عرفها مغرب ما بعد الاستقلال، وبدأت هذه النظرة تكسب مواقفه حيوية وعمقا في النظرة:
" من يد ليد تنتقل هذي الحقول: ترابا هواء، وماء
وما بين لص قديم ولص جديد تحول تفاحها الذهبي
فهل كان ذلكمو قدرا وقضاء؟ "(31)
والشاعر لا يتورع في إدانة سارقي خبر الجائعين، ومستغلي عرق العاملين في الحقول والبساتين تنم عن مدى وعي الشاعر بظروف المقهورين المستباحين:
"أثمرت من حدود المحيط إلى النهر كل الحقول
فارتفعت لغة، ولغات تزول
حينما أزهرت لم تكن لغة البيع والغبن قد بدأت
لم تكن كلمات السماسرة ارتفعت
إنما عبرت لغة هي بين الغناء وبين الذهول.."(32)
لقد نهب المستعمرون الجدد خيرات هذا الوطن، وها هم يصدرونها عبر الموانئ إلى أسيادهم القدامى:
" أبحرت بالحقول السفين
إلى أين؟ ليس تجيب العيون
فلو أن هذي الحقول تقول: كلوا جسدي واشربوا دماء،
لما كان حقا..
ولو أنها دون أهل ـ ينامون أو يجهلون ـ
لما كان حقا..
(هي الشجر المستباح لمن يعبرون
هي الثمر المستحيل لمن يزرعون)
وما كان حقا، وقد نزلت ـ في الموانئ أو في الموائد ـ
فوق رجال رأوها رأوا راية الوطن المستحيل عليها، بكوا..
إنها إنهم: Exporté du Maroc (33)
إن الشاعر يقف من وطنه موقف الشاهد على حاله والمكتوي بناره، وهو موقف يعبر عن الظمإ الطاغي لوطن بديل تسوده العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية، ومن ثم فهو يعلنها محاكمة علنية لناهبي ثروات الوطن (المعمرون الجدد) ويحاسب سارقي ما يزخر به البحر الممتد طولا وعرضا:
"آخر العهد بالبحر إذ غيرته السيول
آخر العهد بالبحر إذ لوثته المدينه
ليس في البحر شبر فيرجى وما لوثته سفينه..
آخر العهد بالبحر إذ أخذتنا الغزاة سبايا
دفعتنا إلى الشرق،
ينأى المحيط وتشرق أيامنا من وراء مرايا..
إنه زمن أطفأته السريرة
فأطفأها واستحال رمادا وما أشعلته العشيره..
أيها البحر إنا حملناك فينا نقيا، على البعد
بين الجنون وبين البكاء،
أتمسح ما أنزل السوق فوق اللسان، فإنا اشترينا وبعنا
وما رسمته الحقول على الوجه والظهر من ألم وندوب
وما تركته المواخر في اللحم من درن ووحول..؟
نحن في السوق أو في المواخر أو في الحقول
جسد أحرقته شموس البراري،
وحاصره الوقت بين لحوم العبيد وبين قرون الوعول" (34)
ويستنج دارس نصوص محمد الخمار الگنوني التي وضع لها عتبة دلالية رئيسية تحت عنوان: "قراءة في شواهد الغياب" تطورا متصاعدا في الرؤيا يبلغ به مستويات عميقة من النقد الاجتماعي والتحليل الشعري؛ لقد اختنق الوطن الحلم، وحل محله زمن الانصياع والتردي. وباستقراء الشاعر لأبعاد الأزمة التي أودت بحياة العباد وأحالتهم قبورا وموتا وسكونا، تنتابه مشاعر حادة يحاول من خلالها استنبات الأمل من جديد، وذلك بحث الأجساد على أن تتمرد على قدرها، لتنبعث من رحمها الأرضي وتعانق ضوء الشمس لتتحول أزهارا  وأشجارا أو أناسا مالكين مصائرهم بأيديهم:

" ها أنتم تحت الأرض،
ألبعث أو ميلاد آخر من هذا الرحم الأرضي؟
أأقول: بعيدا؟
إن الأرض أمامي يا أهلي: موت في موت، قبر في قبر
أأقول: قريبا؟
فلتقم الأجداث لضوء الشمس
زهورا، أو شجرا، أو إنسانا" (34).
لقد انقشعت الأحلام الضبابية وتبخرت الآمال. فمن سيفتح منافذ الهواء لتنتعش النفوس؟ ومن سيعيد دبيب الحياة في شعاب القفار لتعود دورة الحياة من جديد، وتورق الأغصان وتتدفق العيون وتهطل الأمطار لتروي رحم الأرض، وتغذي البحر بهدير أمواجه، لتعج المرافئ بصخب البحارة المستبشرين بثقل شباكهم التي ستضمن القوت للراسخين في تربة البلاد المنيعة؟ !
هكذا يبدو أن الحديث عن تجربة محمد الخمار الگنوني من خلال ديوانه "رماد هسبريس" هو حديث عن أهم المدافعين عن الأسس الفنية- الجمالية والفكرية في الشعر المغربي الحديث، وعن أحد المؤسسين لكتابة شعرية أصيلة، اضطلعت بمهام الارتقاء بالذوق الفني للمبدع والمتلقي - على حد سواء – والتعبير الحسي الوجداني عن القيم النبيلة التي يجب أن تسود بين الناس. وبذلك فتح للشعر المغربي نوافذ واسعة منحته الضياء والهواء ليرقى إلى مراتب الشعر الإنسا  ني الرفيع. 
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.





الهوامش
محمد الخمار الگنوني: "رماد هسبريس" دار توبقال للنشر. ط 1، 1978 الدار البيضاء.
محمد الخمار الگنوني: "وراء الماء" ص 11
محمد الخمار الگنوني: "الأبد المقتول" ص 16.
نفسه
محمد الخمار الگنوني: "رياح الضفة الأخرى" ص 22
محمد الخمار الگنوني: "صحوة الأضواء" ص 24
محمد الخمار الگنوني: "نفسه
محمد الخمار الگنوني: "وراء الماء" ص 9
نفسه، ص10.
نفسه ص 11.
محمد الخمار الگنوني: "ما أمكن سماعه مرورا بالحلقة" ص 50.
محمد الخمار الگنوني: "ليل من حجر" ص 19-20
نفسه، ص 19
محمد الخمار الگنوني: "الأبد المقتول" ص 16
نفسه ص 15.
محمد الخمار الگنوني: "رياح الضفة الأخرى" ص 22
محمد الخمار الگنوني: "الأبد المقتول" ص 17
محمد الخمار الگنوني: "غربة الماء" ص 71-72.
محمد الخمار الگنوني: "سيدة الضوء" ص 77.
محمد الخمار الگنوني: "تناوب النباح" ص 74
محمد الخمار الگنوني: "غفوة السهوب" ص 36.
محمد الخمار الگنوني: "وراء الماء" ص 10.
نفسه.
نفسه، ص 11.
محمد الخمار الگنوني: "تركة اللصوص" ص 39.
نفسه، ص 40.
محمد الخمار الگنوني:" اليد العليا" ص 13.
محمد الخمار الگنوني: "الشمس والأصابع"، ص 41.
محمد الخمار الگنوني: "وراء الماء" ص 11.
محمد الخمار الگنوني: "زجر الطير" ص 30.
محمد الخمار الگنوني: "تحولات التفاح الذهبي، ص 55
نفسه.
نفسه، ص 56.
محمد الخمار الگنوني:" شجون العرائس" ص .57


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة