المقدمة
تعقد المباحث القديمة الصلة بين المحاكاة الساخرة و أشكال المؤاربة كالسخرية و التهكم و الاضحاك و اللعب غير أن الناقد الفرنسي جيرار جينات ذهب في كتابه أطراس إلى أن المحاكاة الساخرة في مستواها التأثيلي الإغريقي تعني الغناء المضاد و هي كتابة ثانية تستحضر كتابة أولى ثم تعمد إلى إبدالها و تحريفها و قلبها . و يجعلها جينيت شكلا من أشكال التناص فالمحاكاة الساخرة حصيلة تفاعل بين كيانين نصيين مختلفين نص غائب مستدعى و نص حاضن يستدعي ملفوظات قديمة أو متزامنة معه فيعيد صياغتها و قد اكتسبت مع الشاعر أمل دنقل ميسما خاصا فهو يميل إلى تحقيق الالتقاء بين نصوص متباعدة قصد المحافظة على الديمومة الجمالية للفعل الإبداعي .
فماهي مظاهر تشكل المحاكاة الساخرة في مدونته؟
الفصل الأول: تمظهرات المحاكاة الساخرة في مدونة أمل دنقل الشعرية
1/إيقاعياّ:
إن تحرر القصيدة الجديدة من النمط الكلاسيكي المقيد بالوزن الواحد و القافية الواحدة، قد منحها امكانات متعددة في هيكلها و أسلوبها و مضمونها و استطاع الشاعر الحديث استيعاب مختلف التيارات الفكرية و الفنية و سعى إلى الامعان في المزاوجة بين عناصر التجربة الغربية شكلا و مضمونا.
و لقد اعتمد أمل دنقل على مجموعة من العناصر الإيقاعية التي جعلت شعره أعلى صوتا من جيل الرواد و جيل المعاصرين له و من هذه العناصر مراوحته بين ضربين من الإيقاع أولهما إيقاع بصري و ثانيهما إيقاع صوتي .
فالتحول الأول الذي وقع في التلقي المعاصر لشعر هو إشتراك البصر مع السمع في الفهم المتكامل للنص و تداخل الداخل النصي مع الخارج النصي و فهم النص لا يتأتّى إلّا إذا اجتمعت هذه العناصر و الأليّات فأصبحت القصيدة الشعرية قصيدة مرئية و حدث التمازج بين اللغة و الصورة و اختلطت العلامات اللغوية بالشكل الطباعي البصري و أصبحت القصيدة تذهب من الصورة إلى النص و تعود من النص إلى الصورة لإحداث التواصل فانتقلت القصيدة من الإيقاع الصوتي إلى الإيقاع البصري فأصبحت تأخذ شرعيتها منه ، و هذا الإيقاع البصري متكون أساسا من النقاط المتتابعة و الفواصل و الأسطر المنقطة فالشاعر يسعى إلى تفضية القصيدة أي قراءتها باعتبارها فضاءً فتقطع بالتالي مع المشافهة و تحاكي البصر و الأسطر المنقطة عند أمل دنقل هي علامات الصمت و الفراغ ليتوقف الكلام فأصبحت بذلك القصيدة " تشكيلية و هذا المسمى القصيدة التشكيلية يمثل اصطلاحا ، يستطيع استيعاب المستويات التشكيلية كلها و يمكن أن نميّز به هذه الظاهرة الشعرية". (محمد الماكري ، الشكل و الخطاب، مدخل تحليل ظاهراتي ، ص 271). فالتلقي المعاصر للشعر العربي أصبح يعتمد على العين المجردة لا على السمع لأن الخطاب الشعري لم يعد كلمات و أفكارا فحسب بل أصبح يشمل عناصر أخرى لا يمكن الوصول إليها إلّا بالبصر لفهم النص و فهم التشكيل الخطي المرافق الذي أصبح ذا دلالات عميقة لانّ المكان الذي يُكتب فيه النص و طريقة كتابته على البياض أصبحت تدخل في تحديد معناه و تأطير مساره.
فالصوت لم يعد هو المسيطر على النص الشعري عند أمل دنقل بل أصبح البياض أو بالأحرى الصمت هو الذي يشكل جزءً من النص "لأنّ الشعر إذا كان يقول بالصوت فإن هذا البياض المتوزع على النص يدلنا على أنه يقول أيضا بالصمت و ربما كان قول الصمت أشد مضاعفة و كثافة لأنه في تحليقه فيما وراء اللغة يطمح إلى أن يلتقط الرّوح و عندئذ نرى أنّ توزيع الكلمات على السطور في القصيدة ليس مجرد أداة للتوافق الإيقاعي في الأوزان بقدر ماهي طريقة في تشعير اللغة إذ تكف عن نثريتها وهي تسعى إلى إقتناص فائض دلالتها " ( صلاح فضل ، أساليب الشعرية العربية المعاصرة ، ص 223) . و هذه الدلالة و الإيحاءات يتولى القارئ كشفها من جهة و يساهم من جهة أخرى في بناء النص مجدّدا.
و لا تكتمل دلالة الفضاء البصري في المتن الشعري عند أمل دنقل إلّا بالإيقاع الصوتي فرُغم ظهور صور من تنوع البحور في القصيدة الواحدة في بعض أشعار أحمد زكي أبو شادي و في تجارب الشعري المسرحي عند علي أحمد باكثير و في نماذج مختلفة لشعراء المهجر متأثرين بالنماذج الغربية ، إلّا أنّ أمل دنقل قد سعى إلى مزيد التحرر من الأوزان الخليلية في نمطها المتوارث و اكتفى بالتفعيلة الواحدة متحررا من القافية تماما فقد أمن دنقل بأن القيم الموسيقية إنما تنبع من داخل القصيدة نتيجة لإيقاع التجربة الشعرية ذاتها و من الإمكانات التي وفّرها إستخدام التفعيلة أن أصبح الإيقاع جزءً عُضويا في بنية القصيدة و يتصل بهذا التجديد الإيقاعي ظاهرة التكرار – ذات الجذور المترسخة في تراثنا العربي – و يتضح استخدام هذه الظاهرة جليا في قصيدة " لا تصالح"
" لا تصالح
ولو منحوك الذهب
لا تصالح و لا تتوخّى الهرب
لا تصالح ولو قيل رأس برأس
لا تصالح
و لو حرمتك الرُّقاد
صرخات الندامة
و تذكر... أنّ بنت أخيك (اليمامة)
زهرة تتسربل في سنوات الصبا بثياب الحداد
... لا تصالح
فما ذنب تلك اليمامة لترى العش محترقا فجأة
وهي تجلس فوق الرماد"
فالتكرار في هذه الأبيات يهدف بصورة عامة إلى استكشاف المشاعر الدفينة و إلى الإباحة عن دلالات داخلية فيما يشبه البث الإيحائي كما يعمد الشاعر من خلال تكرار هذه اللازمة الشعرية ( لا تصالح) إلى ترسيخها في الذاكرة الجماعية و تعزيز معنى الفكرة المعبر عنها لتأكيد الرفض و ترسيخ الصلابة و قد يردد دنقل لازمة معينة للإيماء إلى قتامة الأشياء و الإيحاء بسوداوية الكون كما في قوله في قصيدته أغنية الكعكة الحجرية
" سقط الموت و انْفرط القلب كالمسبحة
و الدم انساب فوق الوشاح
المنازل أضرحة
و الزنازن أضرحة
و المدى أضرحة "
و لعل قصيدة " كلمات سبارتكوس الأخيرة" تمثّل صورة ناضجة لاستخدام ظاهرة التكرار الذي لا يقف وحيدا يتحمل بدلالاته المفردة عبْء المغزى الفني المراد و إنّما يكون تكراره مع سواه من تكرارات متصلة بالمضمون معبرا عن دلالت نفسية خاصة بالشاعر
"فسوف تنتهون مثله غدا
فسوف تنتهون هاهنا غدا
(...) فقبلوا زوجاتكم
فقبلوا زوجاتكم إنّي تركت زوجتي بلا وداع
(...) و إن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلا ذراع
فعلموه الإنحناء
علموه الإنحناء"
فالمعاودة و التكرار سمة للنصوص القديمة و باستدعائها و توظيفها تتحقق المحاكاة الساخرة إيقاعيا ، تقول الدكتورة فوز نزّال " للتكرار اللفظي وظائف حرص البلاغيون على رصدها حيث إذا لم تكن له وظيفة فهو عندهم عيب أو الخذلان بعينه على حدّ تعبير بن رشيق الذي رصد للتكرار اللفظي تسع وظائف وهي التوكيد وزيادة التنبيه و الوعيد و التهديد و التوجع و الهجاء و التهكم و التفخيم و التعظيم و التشويق و التلذذ بذكر المكرّر و التوبيخ و يُجمع البلاغيون و الأدباء و علماء التفسير و علوم القرأن على أهمية الدور الوظيفي لأسلوب التكرار " ( لغة الحوار في القرأن الكريم ص 287).
و لا يقتصر تأثير النصوص القديمة في أشعار أمل دنقل على ظاهرة الترديد فحسب بل تتجاوز إلى أبعد من ذلك فقد عمد الشاعر إلى تقسيم ديوانه إلى إصحاحات كل إصحاح يحتوي على فقرة شعرية ، إذْ يقول أمل دنقل في حوار صحفي معه : "في ديواني العهد الأتي كان التاريخ خلفية لكل الديوان فتقسيم الديوان إلى إصحاحات هو شكل مستعار من التوراة أردت به أن أوجد صلة ما بين التصور الديني للكون و الصراع الإنساني و بين التصور الثوري للصراع المعاصر بالإضافة إلى إنني أردت أن أؤكد صدق الثورة و حقها الذي لا ينازع باستخدام كلمة الأصحاح التي تعني كلاما لا يأتيه الباطل بين يديه أو من خلفه " ( جريدة الثورة ، 30/09/1976 ، الصفحة الثقافية بغداد ، أجرى الحوار جمال الغيطاني). و " يبدو أنّ الشاعر وهو يوظّف الجانب الشكلي ومن الكتاب المقدس يهدف إلى استمداد القوة من ذلك البناء الإلهي لينفِث فيه معانيه و أبعاده المعاصرة " ( عبد السلام الميساوي، البنيات الدالة في شعر أمل دنقل ص 148) .
2/ العتبات النصية:
تتحقق المحاكاة الساخرة في شعر أمل دنقل من خلال العناوين فالعنوان يشكل عتبة أساسية في تحديد الأثر الأدبي و قراءته ، فمن خلاله تتجلى جوانب جوهرية تحدد الدلالات العميقة لأي نص ، فقد" بات معروفا اليوم مع النقد الحديث و منذ نشأة الشكلية و البنيوية و السيميائية أن تحليل العنوان له أهمية كبيرة من حيث هو نص صغير يضُمّ وظائف شكلية و جمالية و دلالية تُعدُّ مدخلا لنص كبير و كثيرًا ما يشبهونه بالجسد رأسه هو العنوان " (طراد الكبيسي ، عناوين الكتب بين القديم و الحديث ، مجلة عمان ص 32). " و العنوان بوصفه مظهرا و قسما من أقسام الفعاليات النصية يُعدُّ بمفرده جنسا أدبيا و هذا يعني أنّ لهً مبادئه التكوينية و مميزته التجنيسية " ( محمد فكري الجزار، العنوان و سيموطيقا الإتصال الأدبي ، ص 16). و نلاحظ أن أمل دنقل قد عنون الكثير من قصائده استنادا إلى الكتاب المقدس كسفر التكوين و سفر الخروج و سفر ألف الدال ، و بذلك تتحقق هذه المحاكاة في العتبة النصية الأهم للقصيدة و هي العنوان الذي يقوم بدور عملية التدشين للنص و التعريف الأولي بمضمونه.
3/ توظيف شخصيات تراثية:
إن أمل دنقل كان يهدف من وراء استخدامه للتراث و خاصة التراث القومي و الديني تربية الحس القومي لدى الناس عامة و لدى أفراد يتميزون بجهلهم لتاريخهم و بضعف الشعور القومي لديهم . يقول دنقل في تصريح له مع مجلة المجلة عدد 33 ، سبتمبر و أكتوبر 1980، لندن " عن استخدام التراث فإنني أعتبر أن الحس التاريخي عند أفراد شعبنا ضعيف وواهن و كثير من الناس لا يعرفون تاريخهم جيدا و إنّ إثارة إهتمامهم بالتاريخ عن طريق الفن هو وظيفة من وظائف توسيع دائرة الوعي بين الأفراد و المجتمع من جهة أخرى". فاستخدام التراث له مهمة أساسية هي إ"يقاظ وعي الشعوب و ذلك عن طريق التذكير الدائم بهذا التراث و محاولة إعادة تفسيره". ( أمل دنقل ، عن التجربة و الموقف ، حسن الغرفي ، ص 33). وهو ما دفعه إلى استدعاء حجم كبير من الشخصيات التراثية و هذا الاستدعاء إما أن يكون عرضيا أو كليا فمن الشخصيات العربية يستدعي أبو نواس و أبو الموسى الأشعري و صقر قريش و صلاح الدين الأيوبي و زرقاء اليمامة و من الشخصيات الأجنبية يستدعي " سبارتكوس" و أبو الهول و أوديب و سيزيف و رمسيس و ايزيس .
إنّ معظم هذه الشخصيات شخصيات رافضة و متمردة يستمدها الشاعر من التراث و يعيد تطويعها خدمة لمقاصد فنية متنوعة كإيقاظ و تربية الحس القومي و الوطني إنّ هذا الاهتمام بالتاريخ و التراث صار مصدرا ثريا و هاما في توظيفه و إبداعه الشعري إذ جعل شعره يزخر بالتراث القومي العربي و الإسلامي و هذا التراث يغلب على الأنماط الأخرى ، بحيث تقل الرموز الأسطورية و اليونانية و الفرعونية و الرومانية في شعره ، فأمل دنقل يختلف عن شعراء الجيل الأول أو جيل الرواد مثل السياب و صلاح عبد الصبور و أدونيس و البياتي الذين يكثرون من هذه الرموز و السبب في ذلك هو "أن القارئ العربي ليس له خلفية للميثولوجيا و الأساطير الأجنبية مع أن التراث العربي يعيش في وجدان الأمة العربية فهو يبحث عن أرضية مشتركة بينه و بين متلقي شعره " ( البنيات الدالة في شعر أمل دنقل ، عبد السلام الميساوي ،ص 148).
إنّ توظيف هذه الرموز و العناصر التراثية يساعد على التخفيف من الغنائية و الذاتية و يبتعد بالقصيدة عن البيان و التعبير المباشر و جعل المعنى مترعا بالغموض ممّا يثري التأويل.
4/ توظيف الشواهد الدينية:
لما كانت المحاكاة الساخرة استدعاءً لنصوص جادة و إفراغها من محتواها و تطويعها لخدمة مقاصد و غايات، عُدّ النص الديني في مقدمة هذه النصوص المُحاكَيَة ، و يُعدّ القرأن مصدرا رئيسيّا من ضمن هذه النصوص في أشعار أمل دنقل و تتخذ طريقة توظيفه طُرُقا متنوعة ، فهو يستعيره على مستوى الكلمة المفردة حينا و على الجملة و الأية حينا أخر أو على مستوى الكلمة المفردة حينا أخر أو على مستوى إعادة جو القصص القرأني ضمن سياق القصائد حينا أخر
" و التين و الزيتون
وطور سنين و هذا البلد المحزون
لقد رأيت يومها سفائن الإفرنج
تغوص تحت الموج"
وهذا التوظيف لشواهد قرأنية يقوم على تحويل المقدس الديني إلى نص دنيوي منخرط في الواقع و بالتالي تطوير النص الديني ليستوعب الأبعاد النقدية و تحميله بالبعدين السياسي و الإجتماعي .
5/ تسريد الشعر:
عبر تقصي الأعمال الشعرية لأمل دنقل نلاحظ أن الحكاية الشعرية تشكل العمود الفقري لموضوعاته و أفكاره في قصائده، فدور جاكبسون في ربط العلاقة بين اللسانيات و الإنشائية بالتركيز على الوظيفة الإنشائية للغة ، فتح الباب أمام تطوير النظرية الأجناسية و تداخل الأجناس ضمن الخطاب الابداعي الواحد فصار حضور السردي في الشعر و حضور الشعري في السرد ضرب من ضروب إشباع الخطاب . و تعالق السردي و الشعري يستبان بوضوح في قصائد أمل دنقل من خلال إثقال القصيدة بالأحداث و إسهابها.
6/ المضامين:
تتمحور معظم قصائد أمل دنقل حول شعرية الرفض و تعرية الواقع بنقده و فضحه لأنه كان من الشعراء المهمومين بالواقع المجتمعي و بقضاياه الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية التي ترتبط بشكل كبير بمصير المجتمع و الطبقات المهمشة خاصة ، فكان رافضا لكل المظاهر السلبية في المجتمع حتى اُطلق عليه لقب أمير شعراء الرفض و يتجلى ذلك من خلال قصائد عديدة كقصيدة "لا تصالح" من ديوان " أقوال جديدة عن حرب البسوس " و قصائد ديوان " العهد الأتي" و " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة". فقد كان أمل دنقل ثائرا يدعو للثورة ضد الظلم و الاستبداد
" أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة
سقط الموت و انفرط القلب كالمسبحة "
كما أصّل لقيم الكرامة و الإباء و نبذ الذلّ و المهانة
" نحن عباد شمس يشير بأوراقه نحو أروقة الظل
إنّ التّويج الذي يتطاول
يخرق هامته السقف ، يخرق قامته السقف"
كما يفضح الواقع السياسي المتجير الثائم على العنف
" دفعتهُ كعوب البنادق في المركبة
صفعته يدٌ
أدخلته يد الله في التجربة
حتى تفجر من جلده الدم و الأجوبة"
وقد شكلت القضية الفلسطينية موضوعا شعريا بارزا عند أمل دنقل فقد كان رافضا للسلام مع إسرائيل و قد قدم حيثيات هذا الرفض في شكل وصايا في قصيدة " لا تصالح " و أصّل فيها لقيم الكرامة و الإباء و نبذ العنف و العجز و الصمود
" لا تصالح
ولو منحوك الذهب"
و كثيرا ما يتحدث أمل دنقل في مواقفه الشعرية على الوحدة العربية و كذلك على قيمة الأرض المنهوبة كما هو الشأن في قصيدة "مذكرات المتنبي في مصر"
" أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور
ليطمئن قلبه ، فما يزال طيره المأسور
لا يترك السجن و لا يطير
أبصر تلك الشفة المثقوبة
ووجهه المسود و الرجولة المسلوبة
أبكي على العروبة"
نتبين مما سبق أنّ شعر أمل دنقل في غالبه نقد للواقع و تمرد عليه مع الإشارة إلى واقع بديل بالإيحاء على الغد الأتي الذي سيُبنى على أنقاض الواقع.
الفصل الثاني: تشكُّل المحاكاة الساخرة قرائيّا
إنّ المحاكاة الساخرة غير مفصولة عن مقامات التلقي فهي تشترط قارئا نوعيا له أليات معرفية فتتشكل بذلك قرائيّا و هو ما يحيلنا على نظرية التلقي التي نشأت منذ الستينات (1967) بألمانيا الغربية و تُنسب إلى جامعة " كونستانس" و تدعو هذه النظرية إلى تجاوز نظرية الأداب الكلاسيكية و إعادة بناء الأدب على اُسس منهجية جديدة منطلقة من القارئ صاحب الدور المركزي في تشكل العمل الأدبي . فالمحاكاة الساخرة في شعر أمل دنقل تتشكل كتابيا مع الشاعر و قرائيا مع المتلقي ، فيصبح فعل القراءة هنا نوعا من الاختراق و تجاوز المكتوب وهو ما يؤكده أمل دنقل في حوار له مع مجلة أوراق " هناك القارئ الذي ليس لديه استعداد لتذوق الشعر بمعنى أنه ليس لديه الثقافة الكافية لكي يتعرف على هذا الشعر لأنّ هناك نوع من الشيفرة بين الشاعر و المتلقي فإذا لم تكن لديه مفاتيح هذه الشيفرة فإنّه يُصبح أمام عمل مغلق بالنسبة له" ( مجلة أوراق العدد 04، أكتوبر 1983، لندن). و هو ما يكشف عن سرّ خلود أعمال أمل دنقل فمادام القارئ قطبا هما و أساسيا و فاعلا في عملية الإنتاج الأدبي فلابدّ من نجاح هذه القصائد . فالقراءة الاسترجاعية التأويلية ليست مثل القراءة الاستكشافية العادية ، لذلك اعتبر " ايزر" ( كاتب ألماني من أبرز المنظرين لنظرية التلقي و القراءة و أحد أهم أقطاب مدرسة كونستانس الألمانية ) المتلقي عنصرا بالغ الأهمية باعتباره طرفا ملازما للنص يتبادل معه علاقة التأثير و التأثُّر و سماه بالقارئ الضمني .
خاتمة
إن المحاكاة الساخرة شكل من أشكال التناص تقوم على الحوارية بين النصوص باستدعاء نصوص و ملفوظات قديمة غائبة و تطويعها ثم إبدالها و تحويلها و تجريدها من معانيها الإيجابية و شحنها بالمعاني الساخرة و تتحقق هذه المحاكاة عبر مستويات مختلفة في النص غير أن انفتاح النص و انغلاقه يكون رهينا بالمتلقي و قدراته الموازية التي تتيح له فهم النص و استيعابه مما يحقق له النجاح.