تجسد رواية "جيل الظمإ" للفيلسوف المغربي محمد عزيز لحبابي (1922 – 1993)، مرافعة من أجل أجيال العالم الثالث الظامئة، في نضالها من أجل الحرية ومكان لها تحت الشمس. كتبت الرواية سنة 1958، وتعبر عن القلق الذي عاشه ولازال يعيشه مغرب ما بعد الاستقلال: بين جيل غارق في الدفاع عن مصالحه، ويتواطأ ضد نفسه وضد مصلحة الوطن، وجيل آخر يناضل للتحرر من التقاليد البالية والقيم الارتكاسية التي تؤسسها المصالح المتبادلة والمال والخنوع والخوف، إنه جيل الظمأ المتعطش إلى التغيير، جيل يعيش على أمل مغرب آخر ممكن...
بعابرة أخرى إنه قلق جيل الغد في مشروع الحبابي الفلسفي، يحضر هذه المرة في قالب روائي يعالج المداخل التي يجب التركيز عليها ليجد شعب ما مكانة له تحت الشمس. خصوصا في واقع مغربي دفع بالحبابي على لسان إدريس الكاتب والأديب الشخصية المركزية في الرواية إلى طرح أسئلة تتعلق: بهوية الذين يبررون الجرائم الجماعية؟ الذين يحتقرون السذج البسطاء وحياة الطبقة الكادحة؟ والذين يدعمون نظام الاستغلال؟
إنه الواقع الذي واجهه الحبابي عند عودته من فرنسا. واقعا مجتمعيا وثقافيا أقل ما يمكن القول عنه أنه بائس وقاتم. بؤس وقتامة تمتد لترخي بظلالها على وضعية المثقف وقيمته الرمزية، بعد أن فقد مصداقيته وتجسدت استقالته للعيان.
"لقد نصحوني بان احذر اهل العلم والثقافة. خبثهم يزداد بنسبة ما يحملون من شهادات." تصرح فاطمة كاتبة إدريس الخاصة، التي سيدشن الحبابي عبرها وعبر شخوص الرواية الاخرين نقده الجذري للمثقف والثقافة وكأنه يكتب بيان من أجل التغيير محاولا التمييز بين المثقفين الحققيين والمثقفين الدجالين. بعد واقع استقالة المثقف المغربي وانحيازه السلبي للدفاع عن مصالحه وتنكره المستمر لهموم شعبه، وبات جليا "ان المثقفين أبعد عن أن يتفهموا شقاء او سعادة الفئة الفقيرة البائسة. لأنهم يعيرون الانتباه كله والعناية كلها لصخب وضجيج سفسطات الاغنياء وذوي المكانات."
"للأسف المثقفون !لا سواهم. هم حماة الزيف المجتمعي والانحراف الاخلاقي..." هكذا يصرح الحبابي - وهكذا انفصل المثقف وتخلف عن أداء أدواره. في واقع يجد المجرمون من يبرر أفعالهم، في حين لا أحد يكترث للأبرياء والبسطاء. ليقطع الحبابي في روايته وعدا أبديا بأنه "لن يثق بالمثقفين إلا يوم يراهم يجازفون برتبهم، وحتى بحياتهم ليخلصوا الحقيقة من براثن الكذب، والسياسة من الغوغاء والرعاع."
في هذا السياق يمكن اعتبار الحبابي واحدا من المثقفين العرب الأوائل الذين توجهوا بسؤالهم وانتقاداتهم إلى المثقف نفسه بعدما تخلف عن مهامه الاصلية وانحاز لتبرير جرائم التسلط والاستبداد، ليجد نفسه – رغم عبث تملقه - فاقدا للمشروعية، يتذيل السلم الاجتماعي قيمة وحضوة. لقد جسد الحبابي حدة الدراما البئيسة هذه في مقطع بليغ من الرواية: عندما حضرت الشرطة تطرق باب ادريس باحثة عن الطفل المسروق معتقدين أنه نفسه الذي أحضرته عزيزة كاتبة إدريس البديلة لفاطمة وتحديدا عندما اتجه الشرطي الى مكتبة ادريس فأخرج بعض المجلدات وسأل إدريس:
"ماهي هذه الكتب الضخمة المذهبة؟
إنها قواميس لاتينية وانجليزية.
فرمى الشرطي بالقواميس على الأرض بازدراء:
أي فائدة ترجى منها ! أن أصرف ساعة في لعب الورق، لهي أخف سأما وأكثر نفعا من استنزاف النظر في قراءة أباطيل كهذه".
اختار الحبابي هذا المقطع ليعبر به عن الوضعية الثقافية لمجتمعنا وعلاقتنا بالكتاب، ووضعية المثقفين الذين فقدوا أي احترام. إنه المثقف المغربي الذي يستحق أن يصفع بالحذاء على صلعته في نظر الشرطي، ما دامت الحظوة تأتي وتأسس على الخوف، وهذا الأخير لا ينبعث من كائن "يعيش، كالفأر على مضغ الورق" كما يصرح الحبابي.
إن الوضعية الذليلة التي بات عليها المثقف هي جزء من الأزمة العامة التي يتخبط فيها المجتمع. لهذا يمكن القول أن فيلسوفنا يعبر هنا في قالب روائي عن أطروحات فلسفية هامة، تتعلق بالنهضة العربية والتقدم المجتمعي في علاقتنا بالغير، الذي يغرقنا بتقدمه التقني والعلمي. ليقول لنا أن أول ما نحتاج له هو بناء إنسان واع بجذوره الوطنية "فالتوعية الوطنية أس الحضارة، ونقطة انطلاق، فبدونها لن يستطيع أي شعب أن يحتل مكانه اللائق، تحت الشمس". هنا يحضر السؤال الإشكالي الذي طرحته عزيزة كاتبة ادريس في حوارها معه: من سيتولى امر التوعية الوطنية يا ترى؟
انهم بدون شك المثقفون كما تقول عزيزة، لكن "مع الاسف ان ما يتصف به من الغرور واللا اكتراث اكثر المثقفين عندنا يضاد تماما روح المواطنة... فالمحسوبية اصبحت مذهبا ومنهجا، والوصولية غاية وقيمة !يحدوهم إلى ذلك حب المال وسراب السلطة والجاه...ولكني لا انكر وجود فئة من المثقفين النزهاء الذين نذروا جهودهم لخير المجتمع. ومهما كانت قلة الفئة فهي فخر للمغرب الحبيب وأماله."
يعد هذا القول خطابا في الأزمة والأمل، يلقي به الحبابي وجعله يأتي مجلجلا من هامش المجتمع، على لسان عزيزة المرأة التي تعمل كاتبة خاصة لإدريس ومستواها المعرفي لا يتعدى شهادة البكالوريا، ولكنها تحتفظ لنفسها بكل صفات الكبار. وجعلها الحبابي على طول الرواية لا تتوانى في نقدها للمثقف وبالضبط "المثقف المغربي الذي بات يبالغ في العناية بهندامه، حتى ان ما يقضيه من الوقت في ذلك يفوق ما يخصصه للقراءة والعمل الفكري." ص108
لقد مل جيل الظمإ من كل مظاهر التخلف والثقافة الانتهازية، التي تقتصر على مضغ الكلمات والسير في الشارع وتحت الإبط حقيبة أو مجلات أو صحف. في حين أن ما يحتاجونه في مثل هذه اللحظة الحرجة التي مر منها المغرب ولازال هي ثقافة مناهضة وفلسفة عملية. وهذا ما يبرر هجوم الحبابي على المثقف لدفعه إلى مغادرة برجه العاجي. الأمر الذي يجرنا إلى طرح سؤال: هل يتكلم الحبابي عن المثقف النبي صاحب العصى السحرية الذي سيخرجنا من البؤس والتأخر؟
إن مضمون الرواية لا يقدم لنا إجابة صريحة على هذا السؤال، لكن الحبابي يصر على ضرورة التمييز بين نوعين من المثقفين: المثقف الحقيقي هو من "يقوم بتعميم الثقافة ونشرها. ورسالة الثقافة [ ببساطة ] هي مساعدة بني الإنسان على السواء، كي يتفهوا ذواتهم، ويكتشفوا ما فيهم من طاقات وقوى. وبذلك يساهم المثقفون في بناء صرح التفاهم بين الشعوب والتواجد السلمي البناء. فواجب المثقف، إذن، خطير ! إنه العامل الاساسي على تطوير عقلية ومفاهيم مواطنيه، ليدفع بهم في أجواء حياة أفضل، ومستقبل زاهر بسام، في كل المجالات." ومعيار ذلك يتجلى في مدى قرب المثقف من الواقع الاجتماعي، وهموم الناس والوفاء للقيم الإنسانية في التصرف والعمل. ولم يتناول الحبابي بالنقد إلا المثقفين الزائفين، بعد مسيرة من الجدال لوضع الحدود بينهما.
إن رسالة الحبابي هي ضرورة أن ينزل المثقف من برجه، وألا يظل مثل طائر المينيرفا. وبدل ان يستغل الدين والعادات والتقاليد لحماية مصالحه وتكريس قيم الاجداد البالية، عليه ان يوظف ذلك "لإدانة السوق السوداء والسلطة المؤسسة على الجبروت والمال والمحسوبية والإقطاع."
إن الحبابي في روايته لا يكتفي بنقد المثقف وتحديد أدواره، بل جعلها رواية شاهدة على ازمة وواقع محاصر بكل انواع التخلف والبؤس. لهذا يسلط الضوء على ادوار المثقف والثقافة، ويقدم مرافعة بطريقة غير مباشرة في ضرورة ما يجب أن يكون. لهذا نجده يقضي بضرورة أن يظل المثقف لصيقا بهموم شعبه وعلى تواصل دائم مع رفاقه من المثقفين، والا "ظل المثقف كالشريد الضائع في دروب الانعزالية. ويبقى غريبا، مثل نبي منبوذ في بلاده، طالما يبشر برسالة خيالية لا تمت الى الحقيقة العارية والى الواقع بصلة...وما الحقيقة العارية سوى تلك التي تنبثق عن الواقع القاسي."
ياسين اغلالو : أستاذ باحث في الفلسفة - المغرب