سؤال الذّاكرة و الهويّة في رواية "ذاكرة الكورفيدا" للكاتب الخطّاب المزروعي - عبد الرزاق السّومري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

صدرت الرّواية عن دار الانتشار العربي ببيروت و يُمثّل العنوان عتبة نصيّة أوليّة بإمكانها أن ترسم عَقدا قرائيّا[1] مخصوصا و توجّه ذائقة القارئ و تستثير أفق انتظاره : فهل نحن بصدد رواية ذهنيّة عبثيّة أم رواية خياليّة ؟ فالعنوان كنصّ شديد التّركيز و الاختصار و  كمفتاحٍ أوليّ للتعامل مع متن الرواية يضطلع ببُعدٍ إغرائيّ [2] إذْ يدفع المتلقّي إلى مُساءلة النصّ و استباق دلالاته تصريحاً و تلميحاً . كما أنّ البنية التركيبيّة للعنوان تضعنا في بعضٍ من اللّبس على المستوى النّحوي في تأويل علاقة الإضافة : هل أنّ "الكورفيدا" كفصيلة من الغربان[3] هي الفاعل المُتذكّر  أم موضوع الذّكرى ؟ و يدفعنا العنوان في مستوى تأويل إيحاءاته و رموزه إلى مزيد من الأسئلة ، خاصّة إذا استحضرنا الدّلالات الحافّة بالغُراب في الموروث العربي و الإنساني ، فهو طائر الشّيطان[4] وهو نذيرُ الشّؤم و الفراق و الموت و مُجهض مشروع البطل وهو الواقف على حافّة القبور و الخرائب و الفضاءات المُعتّمة ، وهو  خائنُ الوصيّة في قصّة نوح الّذي أرسله ليتفحّص أحوال الطّقس و الطّوفان فأخبره بالحقيقة لكنّه لم يعُد إلى السّفينة فعوقب بالسّواد و أكل الجيفة على فعلته و عاقبه أبولو على نقل رسالة الخيانة الزّوجيّة فصيّر لونه الأبيض سواداً . و لكنّ الغراب أيضا هو طائرٌ نبويٌّ وهو الرّسول القادم من الغيب في حكاية إله الجحيم بلوتون في الأساطير الرومانيّة وهو الوسيط بين البشر و الالهة بيد أنّه كذلك رمز كاتم الأسرار و حفظ ذاكرة العالم القديم و القدرة على إدراك الحكمة و الألغاز  و هو رمز الذّاكرة الحزينة الأبديّة في كثير من الأعمال الأدبيّة العالميّة. 

   و السّؤال البديهيّ الّذي يواجهنا هو : أيٌّ من هذه المعاني الحافّة و الرّموز تنطبق على "كورفيدا" عالم الرّواية؟  و أيّ الأدوار  ستكون له : دور طائر  الشّيطان أو الرّسول الخائن أو حافظ الذّاكرة و الأسرار ؟

و قبل أن تُسعفنا النّصوص في الإجابة لنُعرّج قليلا على صوة الغلاف .

على خلفيّة سوداء قاتمة ينتصبُ العنوانُ في الأعلى و اسم الكاتب في الأسفل في حين تتوسّط صفحة الغلاف صورة شاعر الرمزيّة الفرنسي ستيفان مالارمييه و قد انتصبَ غُرابٌ عند رأسه . و الصّورة في الحقيقة هي نقيشة بالحفر للفنان بول غوغان صديق الشّاعر الّذي التقاه سنة 1980 بفضل شاعر آخر هو شارل موريس . فهي تخليدٌ لذكرى صداقة ثلاثيّة : مالارمييه الشاعر و غوغان الرسام و موريس القصاص و الشاعر  و قد كتب غوغان الإهداء و التّوقيع بخطّه أسفل اللوحة الأصليّة في النصّ التالي : "إلى موريس  قرأته وأعجبت به و أحبّه " . نرى في اللوحة وجهاً حادّ الملامح يُوحي ببعض القوّة والمهابة   و الإضاءة الكاشفة للوجه مُركّزة أكثر على النّظرة الثّاقبة و البعيدة و إبراز أذنيْن مُدبّبتين . يُقال أنّ الرسّام استوحى اللوحة من قصيدة لمالارمييه . أمّا الّذي يخلق النّشاز و اللّغز فهو الوجود الغريب لطائر الغراب يُطلّ خلق رأس الشّاعر مالارمييه . هذا الحضور المُزعج للغراب ينحا باللوحة عن مجرّد التّمثيل و المحاكاة ليصبغها بطابع الرّمز و التّجريد . فغوغان لم يرسم مالارمييه الشّخص بقدر ما حاول نقل مالارمييه الفنّان و الشّاعر  و المُترجم ، وهنا يأتينا المفتاح الذّهبي لفكّ لغز الغُراب الجاثم وراء رأس الشّاعر : هل هو الموتُ المحوّم أم الرسول القادم من الغيب أم الذّاكرة المحفورة في اللوحة ؟ و قد نُمسك ببعضٍ من الإجابة إذا ما حفرنا قليلا في سيرة مالارمييه فنكتشفُ أنّ الغراب ما هو سوى الشّاعر و القصّاص العالمي إدغار آلان بو يُطلّ من خلفيّة الصّورة و سندركُ أنّ مالارمييه قد شُغف بقصيدته "الغُراب The Raven "  فترجمها إلى الفرنسيّة . فاللوحة تكتنز شخصيّة رابعة و لكنّها تُطلّ رمزيّا من خلال عنوان فقط أراد الرسّام أن يُضيفه إلى وجه مالارمييه تذكيراً و احتفاءً . فإذا كان العنوانُ مُلغزا في مستوى تأويل الأبعاد الدلاليّة و الرمزيّة لطائر الكورفيدا فإنّ  الصّورة المُصاحبة أشدّ تعقيدا بحكم بنيتها التأليفيّة و طبيعتها التجريديّة فالرسّام يحتفي بالشّاعر مالارمييه من خلال وسيط هو شارل موريس و قد خصّه بالإهداء و الشّاعر احتفى بالقصّاص إدغار آلان بو فجاءت صورة الغراب المُطلّ من الخلفيّة تذكيراً و تخليداً لترجمة مالارمييه للقصّة الشعريّة بعنوان الغراب . و بهذا التوجيه الأخير يتحوّل مركز الاستقطاب في الصّورة إلى طائر الغراب المخفيّ و تنعطف بالتالي  الرسالة الأيقونيّة في الصورة على الرسالة النّصيّة في العنوان . و لكن قد ينشأ سؤال آخر من هذا التقريب بين الصورة و العنوان : فأيّة علاقة بين قصيدة "الغراب " لإدغار آلان بو و قصّة مرزوق في الرواية مع طيور الكورفيدا و أيّة وشائج تشدّ النصّين في علاقة بالأحداث  و رمزيّة الغراب . قد يتّسع أفق انتظار المتلقّي انطلاقا من بناء فرضيات أوليّة حول العلاقة ما بين كميّة المعلومات الّتي تُحيل عليها الصورة و رمزيّة العنوان و متن الرواية .

و لعلّه من مُبررات اختيار الصورة بعض التّشابه الأوّلي نراه مُتجلّياً في كثير من التقاطعات . فكما التصق الغراب بقفا الشّاعر مالارمييه في الصّورة وصلت العلاقة في الرواية بين مرزوق و الغربان إلى حدّ التّماهي فنجده يقول مثلا : "شدّني في إحدى المجلاّت موضوع عن الغراب وعن سلوكه المختلف من بين كلّ الطيور، التصق الغراب بي، أو قل أنا التصقت به[5]" حتّى يقول في النهاية : "أنا لست مرزوق بن غريب، بل أنا فرخ الغراب الذي تركه أبواه لأنّ ريشه مختلف[6]" . هذا في مستوى الصّورة الحاضنة أمّا في مستوى القصّة الشعريّة المُضمّنة فنعثر على بعض من التّشابه في مستوى الأحداث و رمزيّة الغُراب . فحكاية إدغار آلان بو الشعريّة تروي قصّة الزيارة الغامضة الّتي فاجأ بها الغراب الرّاوي بعد أن فقد هذا الأخير عشيقته لينور  و وقف على بابه وهو يُردّد  عبارة "أبداً Nevermore,"  فيقول :

"فجأةً هُناك جاءَ دَقٌّ،
وكأنّه شخصٌ يرقّ،
على باب حجرتي يطُقّ،
"إنّه زائرٌ ما!" تأفّفتُ، "يدقُّ بابَ حجرتي؛
هذا فقط، و لا غيرَه معي."[7]

   و بنفس التّطابق تقريبا نجد مرزوق بن غريب الشخصيّة المتأزّمة بسبب المرض و الخيبة و القهر و هي تعيش على أصداء حبّ انتهى و غدا في طيّ النسيان (عائشة التي أحبها و عمره 17 عاماً) و ذكريات مفعمة بالحزن و الحنين تدفعه إلى الاعتكاف و الهروب إلى سكون الذّات و لم يجدْ من سلوى إلاّ في مصادقة الغربان الّتي تحطّ على نافذة بيته فكان يجمع لها الدّيدان كلّ يوم لإطعامها  إضافة إلى ولعه برسم الغربان منذ تجربة السّجن حتّى كُنّي بالغراب و فاز بمسابقة الرسم و احتفظ بلوحة الكورفيدا الفائزة في بيته .

   فالصّورة المصاحبة للعنوان قد ساهمت بشكل أو بآخر في الحدّ من الفيض الدّلالي الّذي لا يمكن حصره  لرمزيّة الغراب في العنوان كما جرّدت الرمزيّة من تلك المعاني الشّائنة المقترنة بالموت و الشّؤم    و الخيانة و حافظت ربّما  على معنييْن مركزيين من جملة الدلالات و هما :  الغراب الرّسول الوسيط      و الغراب الحافظ للذاكرة و الوصيّة . فغراب إدغار آلان بو الّذي أطلّ عليه فجأة قد ساهم بشكل أو بآخر في انتشاله من العزلة و الاغتراب و بثّه السارد شكواه و حبّه القديم و غربان مرزوق كانت هي الأخرى البديل المتبقّي عن قسوة المجتمع و خيبة الحبّ و فقدان الأصدقاء . بهذا التَّدلال[8] سيبقى الغراب في الحكايتيْن (حكاية الصورة و حكاية الرواية) هو  الشاهد الأخير الواقف على خرائب الذّاكرة و الحافظ الأمين للأسرار و العذابات .

   غلبت على الرواية تقنية الاسترجاع و النّبش في الماضي إذْ تقدّم لنا الرواية شخصيّة مرزوق بن غريب المفعمة بالأسرار و الألغاز ثمّ تعمل الرؤية من الداخل لاستكناه أسرار الماضي و ما يتخفّى في سجف الذاكرة فنكتشف قصّة الحبّ مع عائشة و التي انتهت بمرزوق في السّجين ثمّ حكاية الولع برسم الغربان          و كيف حرّرته من العزلة و الاغتراب ثمّ تتكشّف لنا شخصية سيف بن علي السّجين السياسي الحالم بالحريّة لننتهي في الحاضر على صديق مرزوق عثمان ذي الأذن المشوّهة و المُصاب بالعجر الجنسي .

   تُحاول الرواية أن تلتقط بعضا من الذاكرة و التّاريخ و لكن دون تفاصيل ، فكأنّه حنين إلى الذاكرة المستغلقة الّتي لم تُفتح بعدُ و لا تزال بعض مفاتيحها كامنة في شخصية سيف بن علي المُلغزة و ذاكرة الغراب . فهو الصّندوق الأسود الّذي لم يُفتح بعدُ . يقول الراوي : "كان الماء يتساقط على رأس مرزوق، ينساب على وجهه فيختلط بما يُشبه الدموع، وهو يتذكّر وجه سيف بن عليّ، مرّ وجهه على ذاكرته كالبرق، واختفى سريعا[9]" . هكذا يُلقي السّارد بومضات هنا و هناك دون أن يدخل في التفاصيل عن ماضٍ مغمورٍ و مستغلقٍ برزت بعضُ ملامحه في شخصية سيف بن علي غير أنّ امتداداته كان بعضُها غريباً عن واقعه كما في شخصيّة مرزوق أو مشوّها كما في شخصية عثمان . إنّها رواية النّبش في جزء مطموسٍ من الذّاكرة الجماعيّة ، ذاكرة المقاومة و التحرّر و ذاكرة السّجون و القلاع و ذاكرة الحبّ و الخيانات . و إيثارا لانتظارات القارئ اكتفى السّارد بإشعال الومضات و طرح الأسئلة دون دخول في التفاصيل ، و في التفاصيل كما يقولون يسكن الشّيطان .

   بقي مرزوق الشخصيّة الرئيسيّة وفيّا للغربان حتّى في أحلك الأزمات فرفض الخروج من السّجن لحضور جنازة والدته لأنّه فقد الإحساس بالانتماء لمّا عرف الحقيقة فيقول : " لم أستطع أن أضع لها مكانا في قلبي[10]" . فكان وفاؤه للغربان هو القيد الوحيد الّذي بقي كدليل على وجوده و انتمائه .

لقد كتب الخطاب المزروعي الرواية ثلاث سنوات تقريبا بعد رحيل أوّل من أطلق رصاصة الثّورة الظّفاريّة وهو المناضل مُسَلّم بن نُفَلْ الكثيري ، رحل كصندوق أسود و كقطعة من التّاريخ لم تُفتح بعدُ فقد كان الفقيد ينوي نشر جزء من مذكراته بعنوان "الجرح الدامي" سنة 2004 لكنّ العمل لمْ يرَ النّور. فهل تأثّرت الرواية بسياق هذا الرّحيل  و الأسف على الذّاكرة المشروخة ظلّت على هامش التّاريخ . و كأنّ في الرواية صوتٌ مخفيّ يدعو قرّاءه  و يقول لهم : افتحوا الصّندوق الأسود و حرّروا ذاكرة الغراب و لنتصالحْ مع الذّاكرة و التّاريخ !

 

[1] Pacte de lecture

[2] Séducteur

[3] الغرابيَّات هي فصيلة من العصافير التي تنتشر عبرَ جميع قارات العالم تقريباً وتضم طيور الغربان والغداف وغربان القيظ وغربان الزيتون والقيق والعقعق وكاسر الجوز. تضم فصيلة الغرابيات ما يَزيد عن 120 نوعاً مختلفاً من الطيور .

[4] Corvus  باللاّتينيّة تعني اللّعنة .

[5] ذاكرة الكورفيدا . ص 57

[6]  الرواية . ص 74

[7] ترجمة "شريف الشّهراني " بموقع "نادي الأدب"

[8] La signifiance

[9] الرواية

[10]  الرواية .ص 59

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة