ليلة ليست كالليالي – قصة : امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاس نتلم يعد يتذكر من أيامه الخوالي سوى أنه ترك منسيا ذات ليلة ليلاء بجانب "الكانون" ملقى فوق فرو معز مدثر بقماش أمه القديم، ترهل فأحالته غطاءها المفضل لكبدها، ليلة داهمت المنزل سرية من جنود فرنسيين مدججين بالسلاح يبحثون عن أبيه الذي كان عنصرا نشيطا في صفوف المقاومين لاحتلال الأجنبي، بمجرد ما أحست أمه الأرض تميد من حولها، هرعت تحشد أبناءها الأربعة وتدثرهم بما وقعت يدها عليه من ثياب بالية وهي تصيح فاطمة، أحمد، عائشة، محمد هلموا اخرجوا من البيت إنه مداهم من النصارى الذين دلهم الواشون على منزل أبيكم، هيا أسرعوا.
خرج الجميع يهرول دونما اهتداء والأم تصيح فيهم: من هنا متجهة بهم صوب الغابة القريبة من "الدوار" وكان على الجميع أن يتسلق طريقا وعر المسالك تحفة الأحجار من كل جانب، وبينما هم سائرون كقطيع غنم داهمته الذئاب، إذ عادت الأم للصياح من جديد وبصوت عال وهي تحصي فلذات أكبادها وتناديهم بأسمائهم الواحد تلو الآخر: لتكتشف متأخرة بأن ابنها الأصغر غير موجود بينهم، فانتابها ذعر شديد وهي تدور حول نفسها وكأنها لا تصدق ما حدث.

يا لمصيبتها، لقد نسيت آخر عنقودها ملقى بجانب "الكانون" دون أن تتبين الخطر الذي يتهدده. انهمرت دموعها بسرعة فائقة وهي تلطم خدودها وتصيح مذعورة : - اخوك يا فاطمة، أخوك امحمد تركناه نائما في غرفة الدار يواجه مصير اللهب المتوقد في الكانون، وانطلقت كسهم خارق في الاتجاه المعاكس للغابة، مطلقة ساقيها للريح نحو البيت وهي تصرخ بأعلى صوتها : ليحفظه الله، ليحفظه الله، ليحفظه الله.
كانت وهي تطلق ساقيها إلى الريح مذعورة من فرط ما تتوقعه من سوء عاقبة وهي تتصور مصير كبدها المنسي على حافة نار متوقدة بجانب الكانون، أي لعنة هذه التي أصابتها حينما تركته يواجه مصيره وهو لم يبلغ بعد سنته الأولى.
صور بشعة تلك التي كانت تدور في رأسها المثقل بهول مصابها وهي لا تقوى إلا على مسابقة الريح لتعرف مآل الفظاعة التي ارتكبتها، وبمجرد اقترابها من باب البيت العتيق المطل على ضفة الوادي الكبير، تسمرت رجلاها وعلا زفيرها والدموع تتناثر من عينيها لم تدر وقتها ما بإمكانها فعله سوى الانصياع لمعرفة نتيجة تهورها.
دفعت مصراع الباب ويداها ترتعشان، ثم هرعت إلى الغرفة التي كانت تحمي أبناءها من قر الشتاء لتنتحي جهة "الكانون"، فإذا بها ترمق طفلها ملقى على فرو معز جثة هامدة في نفس المكان الذي تركته فيه، فبدأت تلهث بصوت متهدج؛ لقد حفظه الله ووقاه من شر مكروه، ومدت ذراعيها بسرعة فائقة لتحضنه بين جوانحها وهي تقبله بحرارة وترفع عينيها شطر السقف المتهرئ شاكرة ربها على عنايته ولطفه، ثم خرجت من البيت قاصدة المكان الذي تركت فيه بقية أبناءها، وبعد مضي وقت ليس باليسير، رأتهم متحلقين حول أختهم البكر فاقتربت منهم وهي تربت على كتف كل واحد منهم ثم اتجهت بهم صوب الهضبة المؤدية للغابة وهي تصيح:
أسرعوا، أسرعوا قبل أن يباغتنا العدو، أو تقسو علينا أشعة الشمس اللافحة والتي بدأت تخترق آفاق الفضاء.
وبعد وقت غير يسير، شوهد الجميع وهم منهوكو القوى من كثرة المشي وطول المسافة ، وصبيب العرق الذي ارتوت منه جميع مسام أجسادهم ملقى تحت شجر السنديان الذي كان يكلل قمة الجبل المؤدي إلى "تافراوت" . استسلم الجميع للراحة كي يستجمعوا قواهم لما ينتظرهم من مشاق المشي باستثناء أمهم التي راحت تؤثث لهم مائدة الثرى مما لملمته من لقم عيش بسيطة : حبات تين وزبيب وعنب وكسرات خبز يابس، هو كل كنزها الثمين الذي كانت تلفه في صرة تحت خصرها . ثم استقلت أخيرا من شدة التعب متلفحة بالتراب ؛ البساط الذي ارتمى عليه كل فلذات أكبادها.
لم تمض إلا هنيهات قليلة حتى بدأت تسمع أنين أطفالها، وهم يستفيقون الواحد تلو الآخر متضوعين من شدة الجوع، وهي كلما فغر فم أحدهم راحت تملأه بكسرة خبز، وحبات زبيب وعنب مرة ، وقطعة تين أخرى إلى أن اقتنع الجميع بأن الوقت قد حان لمتابعة المسير.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة