abstrait-1تقديم عالم :
يستعمل العنف وفق مفاهيم مختلفة مما أدى إلى ظهور جدل حول ما يميّز المشروع من اللامشروع. ونظرا لكونه بدأ يكتسح الحياة اليومية في مختلف مظاهرها الأكثر تعقيدا والتباسا فإنّ الدراسات الكميّة والإحصائية[1]  التي تركّز في معرفة النسب والمتغيّرات (الجنس،السنّ،الجهة....) على أهميتها في حصرها وضبطها فإنّها تبقى غير قادرة على فهم الأسباب العميقة للعنف التي تختفي وراء بنى لاواعيّة عرفتها البشريّة منذ وجودها وهي تغذيها الأساطير والمعتقدات والرموز أي أنّها مرتبطة بالمخيال الجماعي اللاواعي. ولفهم ذلك يمكننا أن نستعين بالمقاربة الظواهرية لمكانتها إذ‘‘طرحت المسألة من منظور جديد ثري بمعطياته وآفاقه.'' وتنطلق هذه المقاربة من ‘‘دراسة التجربة الذاتية للإنسان في تفاعله العلائقي مع الآخرين فالعنف كغيره من أشكال السلوك هو نتاج علائقي أو بأكثر دقة، نتاج مأزق علائقي''[2]  أي دراسة مقاصد من ينتج عنه العنف وما يثير تساؤلنا أكثر من أي وقت مضى هو ما لاحظنا من مظاهر عنف ذات أسباب لامرئيّة[3] (قتل فتاة من قبل المشعوذ لأنّه أراد استخراج الجنّ من جسدها، قتل صبيّة لاستعمال أعضائها في استخراج كنز، قتل من أجل الثأر لأنّه دنس شرف العائلة، حسد العين يؤدي إلى القتل..القتل الرحيم لإيقاف ألم لا يرجى شفاؤه) وغيرها من العبارات التي يعود بعضها إلى ماض بعيد مترسب في المخيال الجماعي[4] كان قد أشار ابن خلدون إلى البعض منه في مقدمته[5].

gnawaيعتبر الجسد خزانا رمزيا ، عبره تبلور الذات الإنسانية إنجازاتها حسب السياقات التي تتحرك في كنفها، و تمسرح لغاتها بأشكال و صور متعددة التمظهر كالإشارات أو الإيماءات أو الحركات، أو عبر اللمس أو النظر و الصراخ أو الغناء، أو بواسطة الرقص و مختلف التعابير الجسدية المعبأة بحمولة ثقافية ما، كما نلمس ذلك في طقوس جماعة كناوة بالمغرب،حيث تقيم في ثنايا إشاراتها الراقصة أسئلة؛ من قبيل الهوية و الوجود و الاستغلال و العبودية و التهميش و أشياء أخرى ، يمررها الجسد المقنع بألوان من الألاعيب الطقوسية و الإيقاعات الموسيقية التي لا يتم تمثل علامتها إلا عبر قراءة إيحائية  لمختلف تعابير هذه اللغة  الجسدية الباذخة، فما هي إذن المعاني والدلالات التي تسكن في عمق لغة الجسد المتداولة في طقوس الليلة الكناوية ؟

1 -   دلالات تعابير الجسد بين الرقص الموجه والجذبة:
إن الخطوة الأولى في مقاربة تعابير الجسد، في طقوس الليلة الكناوية، تكمن في التمييز بين مرحلتين تمر منهما تعبيرية الجسد الراقص: ويتعلق الأمر بمرحلة الفرجة الدنيوية ومرحلة الشطحات الروحانية ذات الطابع الامتلاكي، وفي ضوء ذلك يمر الجسد الكناوي بإيقاعات حركية راقصة وموجهة، وأخرى ارتجالية غير موجهة هي أقرب إلى الشطحات الصوفية أو الجذبة.

langue- اللّغة، أداة التّواصل، باعتبارها جهازا رمزيّا تنتج دلالات يتشكّل بواسطتها المعنى ويتحدّد في ضوء علاقة مع آخر وبذلك يصبح الحديث عن الإنسان موصولا بالحديث عن اللّغة.
إنّ التّحكّم في اللّغة يضمن القدرة على التّعلّم والتفكير ،فهي مكوّن أساسيّ للهويّة الشخصيّة والثقافيّة تطوّر النشاط الذهنيّ وتنمّي الجانب الوجدانيّ والاجتماعيّ للأفراد .ولعلّ الحاجة إلى اللّغة تتأكّد اليوم أكثر من ذي قبل بالرّغم من تعدّد الأنظمة الرّمزيّة وتنوّعها ،فهي لا تفتح فقط مسارات التّواصل بين الأفراد والجماعات بل تنشئ معابر للثقافات وتمثّل أسّا للتفكير ذاته " هي في جوهرها لا تأتي من واحد بل من كثيرين ،إنّها توجد في موقع بيني وتكشف الوجود العلائقيّ للإنسان " (1).
إنّ أفراد جماعة بشريّة معيّنة يشتركون في نوعين من المعارف : معارف لغويّة أي معرفة الضوابط النحويّة والصّرفيّة للّغة ، ومعارف سوسيولغويّة بمعنى معرفة معايير استعمال اللّغة وفق سياقات وظروف محدّدة ، وعلى هذا الأساس ليس ممكنا فصل " المتكلّم " عن " عالمه " ،فاللّغة وسيط بينه وبين محيطه بشتّى مكوّناته ، بل إنّ الإنسان يختصّ بكونه كائنا رامزا أي أن سمة الرّمزيّة المميّزة لذاته هي أصل فرادته وتمايزه .فهو أوّلا كائن رامز أي كائن لغويّ " نجد لديه ما يمكن تسميته بالجهاز الرّمزيّ ،وهي الأداة التي يمتلكها الإنسان وحده والتي تحوّل الحياة الإنسانيّة كلّها.فإذا قارنت الإنسان بالحيوانات الأخرى وجدته لا يعيش فحسب في واقع أوسع، وإنّما يعيش أيضا في بعد "جديد" من أبعاد الواقع " (2). " إنّه يعيش في عالم رمزيّ، وما اللّغة والأسطورة والفنّ والدّين إلاّ أجزاء من هذا العالم، فهذه هي الخيوط المتنوّعة التي تحاك منها الشبكة الرّمزيّة، أعني النّسيج المعقّد للتّجارب الإنسانية " (3).

"etiopفكرة أن الحياة ليست شيئاً دائماً
ساعدتني على تنوير ذهني،
إننا لسنا سجناء إلى الأبد
خلف سياج الحقائق المُتحجرة!" 
طاغور
عندما أنظر إلى حياتى الداخلية والخارجية ينتابني في أغلب الأحيان شعور بغموض! شعور بأغوار غير معروفة! واني لأحس بظمأ إلى فهم الحياة وإلى دفعها للأمام، وأحس أيضاً بحاجة إلى مُناهضة العبودية، إلزامية كانت أم مُختارة!
ثم يبدو لى أن السبيل لبلوغ هذا كله يتم أساساً عن طريق الذود عن حق أبناء أمتنا في الحرية وفي نُشدان الحقيقة، بحسب ما تهديهم قلوبهم وعقولهم الحرة. مع العلم أني أدرك أنه ليس ثمة إمكانية لمعرفة الحقيقة، الله وحده يملكها!
الصلة ـ على ما يبدو ـ وثيقة بين الانحطاط المُخيف والشامل لمجتمعاتنا، وبين إحجام فلاسفة الضرار(1) عن تعهد مشكلاتنا الفكرية بالبحث الفلسفي الحُر.
أوليس يُساعد على تكريس الانحطاط في مجتمعاتنا الغارقة في التخلف أن الدارس لمشكلة مُلحة ومُؤثرة، كـ "مشكلة الموت في الثقافة العربية"، لا يكاد يقع على جهد فلسفي عربي، يُغري بتثمينه، اللهم إلا دراسة للعملاق عبد الرحمن بدوي، ناقش فيها: كيف يمكن أن تكون مشكلة الموت مركزاً لمذهب في الوجود؟

fifaما الذي نستخلصه على وجه التحديد عندما ندرس تظاهرة كأس العالم ؟
"المرجع الظاهري هو التظاهرة الفعلية أي عرض رياضي تماما ومواجهات بين اللاعبين الذي حضروا من جميع أرجاء العالم...المرجع الخفي هو مجمل تعبيرات هذا العرض الذي تنقله وتبثه القنوات التلفزيونية."[1]                                                                                                
تكوّر العالم هذه الأيام وصارت المعمورة تتكلم كرة تتقاذفها الأقدام وتندهش لها العقول وقد سحر المستطيل الأخضر لب الخيال وفتن رغبات الأجساد وأصمت الموسيقى الصاخبة والأهازيج المصاحبة الأذان وتعالت الأصوات وهتفت الحناجر لصالح هذا الفريق وضد ذاك ودارت رحى حرب عالمية كروية بين الدول عوضت فيها تكتيكات الممرنين وأرجل اللاعبين خطط قادة الجيوش وأسلحة المحاربين.هكذا فإن "العرض التلفزيوني يظهر مجرد تسجيل بسيط إلا أنه يحول المنافسة بين الرياضيين وبين المتسابقين الذي ينتمون إلى كل بلدان العالم إلى مواجهة بين الأبطال بمعنى المقاتلين الموكلين شرعا من مختلف العالم."[2] وبعد أن أسدل الستار على فعاليات المونديال فانسحب من انهزم وترشح من انتصر وتوج الفائز وكوفئ المشارك وفي كل ذلك قد تنافس المتنافسون وترسبت دائرة الذكريات وتوسعت ملكة التخيل والأحلام بالمونديال القادم وتحولت الفيفا إلى حكومة عالمية ترعى الشؤون الكروية وتنظم الاقتصاد العالمي للأسهم الرياضية وتسند لكل دولة ترتيبها وحصتها حسب مشاركاتها ونسب فوزها.

corpsهل تميتُ  الصورة الذات  الحية وتجمدها في إطارها الزمني وبعدها المكاني كموضوع كما يقول الفيلسوف الفرنسي رولان بارت ( أن الصورة تجربة مصغرة للموت ، تكمن في تحويل ذات حية إلى موضوع ميت في جمود أبدي) وإذا كانت كذلك فماذا تبعث رؤية هذا الميت  في المشاهد عبر اتصاله البصري باللحظة الجديدة ؟ هل مجرد المرور عبر هذه الصورة سيحرك شيء ما في داخل حس بشري ليقوم الدماغ بوظيفته العضوية في خزنها الايقوني في داخل العصب تمهيداً لاستعادتها اللاحقة في زمن مقبل .
تظل الصورة في دلالتها المؤثرة محط جدل قدر ما  هي محط تسليم يقيني كونها ترتبط بالحقيقة الأكثر وضوحاً انطلاقاً من اختصارها أزمنة التشكل الأولى والمخيال الروائي لها عبر تقنيات السرد المعتادة ودفعها للأسطورة كأسلوب تشكيل بدائي لتصورات لم يطلع عليها الإنسان بعد  ، وبذا فان هذا العصر الذي نعيشه ألان هو عصر الصورة بامتياز كما بشر  ابيل غانس.
الصورة التي تلعب دورها الفتاك منذُ إن ظهرت كنتاج حقيقي لظاهرتي الظل والضوء التي أرقت العلماء أزمان طويلة  ، وخرجت من معطف الرسامين  الذين أوجدوها على ارض الواقع حيثُ ارتبط فنهم بالصورة وحركتها وتمثلتها وفضاءاتها المليئة بالتعبير وهذا أغوى  شهيتهم  الى إن يفتحوا على الأقل نافذة للتوصل الى اختراع الصورة الفوتوغرافية لتقود الأخرى الى ظهور تمظهر أخر من إشكالها  لتظهر الصورة  المتحركة  ، الى اليوم الذي بات فيه نقل ملايين الصور أسهل من شرب قدح من الماء كما يقال بفضل ثورة التكنولوجيا الحديثة والاتصالات التي حولت العالم الى قرية مترابطة .

montagnes_063لا أقصد ب" الإعاقة الفكرية " ذلك المفهوم الذي يشير إلى الخلل الذي يصيب أحد مكونات الجهاز العصبي  فيترك أثرا بارزا يؤثر على سائر وظائف عناصر البنية الدماغية للفرد ككل ,  فهذا المفهوم لديه أناسه  من أهل الاختصاص سواء  في مجال الطب العقلي أو في مجال طب الأعصاب  الذين قدموا مختلف الدراسات العلمية القيمة لمعرفته أحسن معرفة , و لكن أقصد به نلك الفعالية و ذلك النشاط اللذان يحاربان العقل و يساهمان , بشكل كبير , في طمس أو تدمير أطره الفكرية الخلاقة و المبدعة الحاثة على إعمال التفكير النقدي . ومن أجل ذلك اقتضى التحديد المفهومي  النظر إلى " الإعاقة الفكرية "  على أنها مفهوم يعبر عن سيرورة ديناميكية متصاعدة في اتجاه مضاد , تماما ,  لاتجاه العقل و أطره الفكرية .

فإذ كان العقل البشري قد أنتج , عبر فعالياته الذهنية, أسمى لغة تجريدية  ( الرياضيات ) وأنتج , أيضا ,  طاقة تخييلية حولت الخام إلى مصطنع , وأضافت الثقافي إلى الطبيعي و المكتسب إلى الفطري حيث أصبحت تدخل في تركيبته وضمن أطره البنيوية الأساسية , و التي أثبت بفعلها  نجاعته الفكرية في ميادين لم تكن , في الماضي القريب , تحسب عليه , كالموسيقى و الشعر و الرقص و العلاقات البين _ فردية ... كما أكدت  لنا نظرية " تعدد الذكاءات " ل"هوارد غاردنر " , فإن " الإعاقة الفكرية " قد أنتجت في المجتمع المغربي " ثقافة التضبيع " " ثقافة التسطيح " و ثقافة التكلاخ " انطلاقا مما يقدمه إعلامنا المرئي هذه الأيام من أفلام و مسلسلات مدبلجة .

وحتى نفهم جيدا  ," الإعاقة الفكرية " و نضعها في إطارها الصحيح , سنحددها تحديدا خاصا , يخدم فكرة هذا المقال المركزية التي يلخصها عنوانه أعلاه . وهكذا سنعتبرها  نتاجا لمنظومات  فكرية قائمة الذات  تعمل , عبر الاشتغال على وسائل معينة , على شل قدرات  العقل البشري الطبيعية  الخلاقة , بشكل مباشر أو غير مباشر. و من بين تلك المنظومات نجد الإعلام في شقه المرئي  , الذي سنتطرق إليه باعتباره خطابا يتجه إلى فئة الأطفال و فئة الشباب , مبرزين كيفية تسببه في خلق إعاقة فكرية لديهما بالشكل الذي طرحنا أعلاه .

11الحياة تراكم من خبرات و تعدد تجارب. جوهر التجربة الجامعية هو تلك المنعطفات و اللحظات الحاسمة التي تجعل الإنسان يتأمل في اختياره و يراجع و يعدل المواقف أمام العديد من الأشياء.
و إيمانا مني بأن الطريق الواثق للعلم بعبارة الفيلسوف ديفيد هيوم، هو البحث، و البحث هنا ليس ما ينجز في الجامعة من أجل واجب أو فرض علمي أو أكاديمي و إنما جزء من الذات يشعر صاحبه باستمرار الحيرة المعرفية التي تجعله لا يكتفي بما وصل إليه من مادة معرفية تمكنه من التأثير في الواقع الاجتماعي و يحمله على التفكير المتواصل بأن طريق البحث شاق و طويل يتطلب طول نفس و صبرا كبيرين مما يمكنه من بناء انتمائه و هويته، و ما أن انضممت إلى رحاب قسم علم الاجتماع حتى أحسست أن انتمائي
و هويتي العلمية تتمثل في اختصاص علم الاجتماع.
إن اختصاص علم اجتماع في تونس لا كما يتمثله البعض اختصاص سهل بل فيه من الصعوبات و العراقيل العديدة، منها غياب قانون أساسي ينظم مهنة المختص في علم اجتماع، محدودية النشر و مراكز البحوث المحتكرة، و حدات البحث الجامعي غير الموظفة للباحثين الشبان، محدودية التشغيلية،(رغم قلة العدد) مقارنة باختصاصات أخرى، الرؤية الدونية لهذا الاختصاص لدى أغلبية المستويات و الشرائح
و القطاعات، ندرة الانتداب في الجامعة، ندرة الاهتمام بالعلم و المعرفة عامة و بعلم الاجتماع خاصة، الوعود الزائفة و الكبيرة، بقاء الوضع على حاله أكثر من ثلاثين سنة... فقد تشعر في حالات عديدة باللامبالاة و هدر للوقت، من خلال واقع الصراع و الأجواء غير المريحة التي تجدها في الاختصاص( غلبة منطق الولاء و التقرب و الممارسات الإذلالية)، إضافة إلى ندرة تحسين الوضع و محدودية الإمكانيات خاصة مع النظام الحالي للتعليم الجامعي أمد الذي سيؤدي في القريب إلى انقراض شعبة علم اجتماع في الجامعة التونسية و هو ماء الوجه الممؤسس الذي بقي لهذا الاختصاص في بلادنا التونسية.