التحليل الاجتماعي هو أداة بالغة الأهمية لفهم وفحص الظواهر الاجتماعية المختلفة. وإذا كنت طالباً أو باحثاً في علم الاجتماع، فستحتاج إلى معرفة كيفية إجراء هذا النوع من التحليل إذا كنت ترغب في إنتاج بحث ثاقب     وسديد “.
كيف نولد المعرفة عن العالم البشري؟ كيف يمكننا تقديم ادعاءات صحيحة حول الظواهر الاجتماعية؟ الإجابة البسيطة هي إجراء تحليلات جيدة، بناءً على البيانات ذات الصلة. ولكن ماذا يعني إجراء تحليلات (جيدة) في العلوم الاجتماعية؟ يتضمن التحليل في العلوم الاجتماعية دائماً استخدام النظرية بطريقة أو بأخرى. ولكن كيف تتفاعل النظرية مع معطيات الظاهرة؟ كيف ينبغي لنا أن ننظر إلى النظرية في علاقتها بالبيانات الإحصائية؟ وكيف نستغل النظرية بشكل عملي في تحليلاتنا السوسيولوجية؟ هذه التساؤلات سنحاول الإجابة عنها باختصار شديد في هذا المقال.
إن البحث قد لا يزودنا دائما بالنتائج التي تتوقعها أو تريدها بل يعطينا شيئاً مما أشار إليه جون رونالد تولكين (1892-1973) J. R. Tolkein في مؤلفه سيد الخواتم The Lord of Range " " حيث قال " ليس أمامك سوى البحث، إذ كنت تريد اكتشاف شيء ما، ومن المؤكد أنك سوف تكتشف بعد أن تقوم بالبحث شيئاً ما، إلا أنه لا يكون دائماً نفس الشيء الذي كنت تسعى للوصول إليه ".

تعبّر المنهجية عن مجموعة من الخطوات المتعارف عليها بين العلماء، والتي يتبعها الباحث في محاولة فهمه للأمور والعلاقات في المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، والعرض الجوهري منها اكتساب المعرفة العلمية والوصول إلى حقائق تتمير بعنصرها الجاد والأصيل، ويعتبرها الفرنسي موريس أنجرس Maurice Angers مجموعة من المناهج والتقنيات التي توجه إعداد البحث العلمي وترتيب الطريقة العلمية. أي في دراسة المناهج والتقنيات المستعملة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

بناءً على ما تقدم يعتبر البحث السوسيولوجي تمرين أكاديمي يهدف إلى تعميق المعرفة وبناء قاعدة معرفية ابستمولوجية حول موضوع ما من خلال عملية التحليل السوسيولوجي، التي تسعى إلى فهم المادة المدروسة وما يحيط بها من أنساق معرفية، بالإضافة إلى التعبير عن المعارف المستنبطة والمستنتجة بلغة علمية موضوعية سليمة، بهدف توضيح المتغيرات الفاعلة التي تقف وراء حدوث الظاهرة المدروسة مما يؤدي إلى فهم معطياتها والتحكم بها وتوقع النتائج المترتبة عليها من خلال استخدام المنهج المناسب.

- مفهوم التحليل الاجتماعي: يُعرف علم الاجتماع بأنه الدراسة العلمية للمجتمع والسلوك الاجتماعي والتغيير الاجتماعي. بذلك يمكننا النظر إلى مفهوم التحليل الاجتماعي باعتباره أسلوب لدراسة المجتمع والتفاعلات الاجتماعية لفهم أنماطها وعملياتها وتأثيراتها على الأفراد والجماعات. وهو يتضمن فحصاً نقدياً للظواهر الاجتماعية وبنيتها الأساسية، بما في ذلك المعايير الاجتماعية، والمعتقدات، وبناءات القوة والضعف. كما يستخدم علماء الاجتماع مجموعة متنوعة من الأساليب، بما في ذلك الملاحظة والاستطلاعات والمقابلات والتحليل الإحصائي، لجمع وتحليل البيانات حول السلوك الاجتماعي والاتجاهات الاجتماعية. وهو أيضاً أداة مهمة لفهم تعقيدات المجتمع المعاصر والقضايا الاجتماعية التي تؤثر على حياتنا. ومن خلال فحص التفاعلات الاجتماعية، يمكن لعلماء الاجتماع اكتساب نظرة ثاقبة للعوامل التي تشكل سلوكنا ومواقفنا، بما في ذلك الطبقة الاجتماعية والعرق والنوع والثقافة والانتماءات الاجتماعية والإيديولوجية. فعلى سبيل المثال، قد يقوم علماء الاجتماع بتحليل أنماط التمييز في مكان العمل أو فحص كيف تؤثر المعتقدات والقيم الثقافية على المواقف تجاه الصحة العقلية.

كتاب من تأليف يوسف شلحت (1977-1917)، والذي يصفه البعض بأنه مؤسس علم الاجتماع الديني العربي، صدر عن دار الفارابي بلبنان في العام 2003، وقد تناول من خلاله الكاتب أهم الجوانب المتصلة بالظاهرة الدينية من منظور علم الاجتماع. وسنعرض فيما يلي لأهم الأفكار والأطروحات التي تضمنها هذا العمل البحثي النفيس:

أولا: العناصر الأساسية للديانة

يشير الباحث إلى العناصر الأساسية التي تشكل قوام أغلب الديانات، وفي مقدمتها التمييز بين فئتين: الحلال، والحرام. فالحرام يحيل إلى الممنوع والمقدس الذي لا يجوز انتهاكه. أما الحلال فلا يُفهم معناه إلا بنقيضه أي الحرام، فهو شيء غير مقدس وغير محرم. هذا بالإضافة إلى عنصر العقائد بوصفها وسيلة اعتمدتها الديانات لتحفظ نفسها من أي شك منطقي أو إمكانية للنظر العقلي.

وتعد الأساطير مكونا أساسيا في عدة ديانات، إذ تحيل إلى "مجموعة تخيلات وتصورات عن الآلهة والدنيا، وعن علاقات الفرد بالمجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة، عبر عنها الإنسان بلغة شعرية، يمدها خيال قوي وثاب". إن الأسطورة ما تلبث أن تتضخم وتتشعب حتى تتحول إلى حقيقة بنظر معتقديها. كما عمد الإنسان القديم إلى إسقاط معايناته لأحوال مجتمعه على الكون والعالم الغيبي، فصوَّرَ لنا الآلهة وهي في حالة صدام وصلح وحياة وموت وغير ذلك من الصفات البشرية، ومن ثم فالأسطورة تعبر عن أحوال النظم الاجتماعية والعوائد والعقائد السائدة فيها. وصولا إلى عناصر أخرى مشتركة بين الديانات مثل: الصلاة، الذبيحة، النفس، المعبد، القبر.

ثانيا: النظريات المفسرة لنشأة الديانات

سعى المؤلف إلى التنقيب عن العوامل الاجتماعية والنفسية والعاطفية المفسرة لظهور الديانات، بدءا بالطوطمية التي تعد أول ديانة اعتنقها البشر في نظر العديد من الباحثين، بحيث كانت تدين بها القبائل البدائية التي تحيط طوطمها بالعبادة والتقديس، ويرمز الطوطم إلى "حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويتَسَمَّوْنَ باسمه ويعتقدون أنه جدهم الأعلى وأنهم من دم واحد".

ومن هنا يمكن اعتبار الشعور بالخوف السبب الرئيسي في نشأة الديانات، فقد كان الإنسان البدائي يقف حائرا وعاجزا أمام الظواهر الطبيعية التي تداهمه (فيضان، زلزال... إلخ) والحيوانات المفترسة التي تفتك به وتقض مضجعه، الشيء الذي جعله يقدسها ويعبدها اتقاء لشرها وجلبا لمرضاتها، لأن تفكيره البدائي كان قاصرا عن الإتيان بتفسير علمي منطقي لتلك الظواهر.

إن المواقف التي يتخذها الأفراد من أفكار ومعاني ومعتقدات وقيم يتعلمونها كأعضاء في المجتمع تحدد طبيعة الإنسان وجميع انتماءاته. فالأفراد هم ما يتعلمونه ويؤمنون به، حيث لا يضع أصحاب النظرة المتفائلة من الحتمية الثقافية أي حدود لقدرات البشر على القيام بأي شيء يريدونه أو أن يكونوا عليه. ويقترح بعض علماء الانثروبولوجيا أنه لا توجد " طريقة صحيحة " عالمية للوجود البشري. فالطريقة الصحيحة هي دائماً " طريقتنا "، وأن " طريقتنا " في مجتمع ما لا تتطابق أبداً تقريباً مع " طريقتنا " في أي مجتمع آخر. ولا يمكن أن يكون الموقف السليم للإنسان الذي يؤمن بالتعددية إلا موقف التسامح والتعايش مع الآخر، لأن الطبيعة البشرية قابلة للتغيير بشكل لا نهائي، وبالتالي يمكن للإنسان اختيار طرق الحياة التي يفضلها.

لكن بالمقابل يعتقد أصحاب النظرة المتشائمة من هذا التفسير أن البشر هم ما تمت تربيتهم عليه، وهذا شيء لا يملكون السيطرة عليه. فالبشر كائنات سلبية منفعلة تقوم بكل ما تمليه عليهم ثقافتهم المحلية. ويؤدي هذا التفسير إلى ظهور نظرية سلوكية تضع أسباب وعوامل السلوك البشري في عالم خارج عن سيطرة البشر تماماً.

في حقيقة الأمر، يشمل مفهوم الثقافة السلوك الاجتماعي والمؤسساتي والمعايير الموجودة في المجتمعات البشرية، بالإضافة إلى المعرفة والمعتقدات والفنون والقوانين والعادات والقدرات وعادات الأفراد في الجماعات الإنسانية. وغالباً ما تنشأ الثقافة من منطقة أو موقع محدد أو تُنسب إليه، حيث يكتسب البشر الثقافة من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية والتعلم المتمثلة في التثاقف والتواصل الاجتماعي، وهو ما يتضح من خلال تنوع الثقافات عبر المجتمعات.

إن القاعدة الثقافية تنظم السلوك المقبول في المجتمع؛ فهي بمثابة دليل للسلوك واللباس واللغة والتصرف في موقف ما، والتي تعمل كقالب للتوقعات في مجموعة اجتماعية. إن قبول ثقافة واحدة فقط في مجموعة اجتماعية يمكن أن يحمل مخاطر، تمامًا كما يمكن أن يذبل نوع واحد في مواجهة التغيير البيئي، بسبب الافتقار إلى الاستجابات الوظيفية للتغيير. وبالتالي، في الثقافة العسكرية، تُعَد الشجاعة سلوكاً نموذجياً للفرد، وتُعد الواجب والشرف والولاء للمجموعة الاجتماعية فضائل أو استجابات وظيفية في استمرارية الصراع. في ممارسة الدين، يمكن تحديد سمات مماثلة في مجموعة اجتماعية.

تمهيد: ” التاريخ هو مقبرة من الطبقات الأرستقراطية “ (باريتو).
يعتبر الصراع من أخطر العمليات الاجتماعية نظراً لنتائجه السلبية الناجمة عنه لكونه تصادماً بين القوى الاجتماعية حينما تتحول المنافسة من إنسانية إيجابية إلى شكل هدام، ومن هنا يحاول المنافسون القضاء على الخصم ومن ثم الانقياد للأهواء الجامحة التي تسيطر عليهم، بل ويحكمهم مبدأ البقاء للأقوى، ويستغل كل طرف جميع الوسائل والطرق المشروعة والمحرمة للقضاء على الطرف الآخر المتصارع معه، بما في ذلك القتل، والاغتيال، الدسائس، والمؤامرات، والخيانة، والتنصت، الفتن، ... إلخ.

ويعرف الصراع بأنه " العملية التي من خلالها يرغب كل فرد أو جماعة لتحقيق أهدافه الخاصة عن طريق إبعاد الخصم أو تحطيمه والقضاء عليه والذي يرغب في تحقيق الأهداف نفسها ".

يسعى باريتو من خلال نظريته الصراعية إلى تفسير القوى الحقيقية التي تحدد حالة التوازن داخل النسق الاجتماعي، أي تفسير العناصر التي تعمل داخل النسق وتؤثر عليه بالتالي تتفاعل معه. ويتضمن هذا الهدف التركيز على الديناميكية الاجتماعية للصراع والتغير بدلاً من دراسة النظم الاجتماعية الثابتة.

 ويرى باريتو أن العناصر الأساسية التي تكمن وراء تلك العمليات هي عناصر فردية تتكون على مستوى الوحدة الصغيرة وتتكون من حالات نفسية (سيكولوجية) ومبادئ عقلانية من إنتاج المجتمع تحدد بدورها السلوك الاجتماعي والعمليات الاجتماعية. وتستند رؤية باريتو على أساس طبيعي مؤداه النظر إلى الرواسب باعتبارها عناصر أساسية لفهم المجتمع.  

بذلك طور باريتو نظريته عن الصراع والتغيير الاجتماعي التي تتناقض تناقضاً صارخاً مع النظرية الماركسية في حين ركزت نظرية ماركس على دور الجماهير، قدم باريتو نظرية نخبوية بشأن التغيير الاجتماعي، التي رأت أن المجتمع تهيمن عليه بصورة حتمية نخبة صغيرة تعمل على أساس المصلحة الذاتية المستنيرة هذه النخبة تحكم الجماهير الذين تهيمن عليهم الأفكار غير العقلانية وفقاً لنظام باريتو، فإنه لافتقار الجماهير إلى العقلانية، فمن غير المرجح أن تكون هذه الجماهير قوة ثورية. يحدث التغيير الاجتماعي عندما تبدأ النخبة الانحطاط ويتم الاستعاضة عنها بنخبة جديدة مشتقة من النخبة غير الحاكمة أو العناصر العليا من الجماهير، وبمجرد وصول النخبة الجديدة إلى السلطة، تبدأ العملية من جديد.

- نظرية باريتو عن الصراع الاجتماعي: يعد فلفريدو باريتو الإيطالي (1848 -1923) من أبرز علماء الاجتماع الصراعين في إيطاليا والعالم. ظهرت نظريته الصراعية في كتابه الموسوم " مقدمة في علم الاجتماع - Introduction to sociology " عام 1916 وهو مؤلف ضخم يقع في جزئين وتُرجم الإنكليزية عام 1935 حيث صدر بعنوان: " العقل والمجتمع -  Mind and Society " أما قبل ذلك فقد نشر مجموعة من المقالات في السياسة والاقتصاد. ونشر أيضاً كتاباً بعنوان " النظم الاشتراكية - Socialist systems " عام 1902 وكان عبارة عن تحليل نقدي للفكر الاشتراكي ولتدخل الحكومة في الاقتصاد.

يعتقد باريتو في نظريته الصراعية بأن الصراع يكون بين النخبة والعوام. ذلك أنه يعتقد بأن المجتمع ينقسم إلى طبقتين اجتماعيتين متخاصمتين هما: طبقة النخبة وطبقة العوام. وفي هذا السياق سنحاول توضيح الإطار المفاهيمي لنظرية باريتو تمهيداً لفهم نظريته عن الصراع الاجتماعي من خلال مناقشة أفكاره عن دورة النخبة وتداول السلطة بين الثعالب والأسود.

أولاً- عناصر الإطار المفاهيمي والتحليلي في نظرية باريتو: في هذا العنصر التأسيسي سيتم شرح وتوضيح أهم المفاهيم التي بنى عليها باريتو نظريته عن الصراع الاجتماعي، وهي كالآتي:

1- طبقة النخبة: جماعة من الأفراد يمتلكون خصائص مميزة تجعلهم أكثر قدرة على التميز في أداء أدوار شديدة الأهمية في حياة مجتمعاتهم ولا سيما مجال توجيه المجتمع واتخاذ القرارات السيادية المهمة في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.

 

تقديم  
خلفت الدراسات والأبحاث المنجزة من قبل المؤسسات الاستعمارية حول المغرب، رصيدا معرفيا لا يستهان به. واهتم في مجمله بطبيعة البنيات الثقافية والسياسية والاجتماعية للمجتمع المغربي. وتضمن هذا الرصيد تكثيفا لتصورات ورؤى وقناعات إيديولوجية مسبقة، مصاغة ومنتظمة حسب قوانين وغايات ومرامي وأهداف المؤسسة الاستعمارية.

كما قدم ذلك الرصيد معطيات اتسمت بدرجة عالية من الدقة في التوثيق، والسرد، والتأريخ والوصف الاثنوغرافي. لكن طبيعة الاستعمالات السياسية والعسكرية، والتوظيفات الإيديولوجية له، حوَّلتها إلى دلائل "علمية" لخدمة حاجيات الشؤون الأهلية الفرنسية ومشروعها الاستعماري.

ويندرج اهتمامنا بهذا الرصيد المعرفي ضمن مشروع أكاديمي مغربي. أسس له رواد السوسيولوجيا المغربية أمثال بول باسكون، عبد الكبير الخطيبي، محمد جسوس وآخرون. مشروع يراهن على تأسيس "مدرسة وطنية للسوسيولوجيا". تأخذ مسافة نقدية من السلط المعرفية للتراث الكولونيالي، ومن التحاليل النظرية الجاهزة لكل من الماركسية الارثودوكسية والنزعات الخصوصية الاستئصالية. كما تضع نصب أعينها، تشريح المؤسسات السياسية والثقافية للمجتمع المغربي، لبلورة قضايا نظرية ذات الصلة بالتغير الاجتماعي والتحديث.

السوسيولوجيا الاستعمارية: حالة ميشو بيلير

يعتبر ادوارد ميشو بيلير Edouard Michaux-Bellaire (1857-1930) واحدا من الرواد الأوائل للسوسيولوجيا الاستعمارية بالمغرب. عاش بين المغاربة حوالي نصف قرن، وتدرج من موظف بسيط في طنجة الدولية، إلى شخصية نافدة في أوساط السلطات العسكرية، لتأسيسه سنة 1907 لما سمي " بالبعثة العلمية"، والتي عرَّف أهدافها كالتالي: «البحث في عين المكان عن كل الوثائق التي تسمح بدراسة المغرب، وإعادة تأسيس تنظيمه وحياته، وليس فقط بمساعدة الكتب والمخطوطات، ولكن أيضا بفضل المعلومات الشفوية، وتقاليد القبائل، والجماعات الطرقية والأسر...»[1]

وفي مقال نشره سنة 1927 والموسوم «بالسوسيولوجيا المغربية»[2]، وجه ميشو بيلير اهتمامات دراساته إلى ثلاث محاور:

- منطقة نفوذ المخزن، وأطلق عليها مناطق الشرع.  وهو حقل للبحث من اختصاص ما سماه "سوسيولوجيا المخزن".

- حقل المظاهر الإسلامية، (من سلوكات وتعابير دينية وتعبدية)، وهو حقل للبحث من اختصاص ما سماه "السوسيولوجيا الإسلامية".

 - حقل دراسة "القبائل البربرية" وعلاقتها بمراكز السلطة وبالأطراف والهوامش. من اختصاص "السوسيولوجيا المغربية".

تبعا لهذا التقسيم، الذي يكرس حاجيات الشؤون الأهلية، أنتج بيلير مونوغرافيات ودراسات كثيرة، تناولت مختلف مناحي النشاط الاجتماعي، ومنظومات القيم الدينية، والعادات، والتقاليد، والأعراف ومختلف مستويات أنماط عيش الساكنة المغربية، في تمظهراتها المختلفة السياسية والثقافية وكذلك الاقتصادية: كنظام الأحباس، ونظام الضرائب، والتنظيم العقاري، والتشريعات الفقهية للسلوك الاقتصادي، بالإضافة الى نظام المبادلات الاجتماعية كالهدايا وغيرها.

” من أقوال " شلايرماخر" المبكرة التي تلقي الضوء على طبيعة التأويل قوله (إن الهرمينوطيقا هي بالضبط طريقة الطفل في فهم معنى كلمة جديدة): إنه يسترشد ببنية الجملة وبسياق المعنى، وكذلك تفعل الهرمينوطيقا العامة. تبدأ الهرمينوطيقا في نظر شلايرماخر من أحكام الحوار، فهي " حوارية "  Dialogical في طبيعتها، غير أنه للأسف لم يتفطن إلى المتضمنات الخلاقة لهذه الطبيعة الحوارية، وشغلته عن ذلك رغبته في استخلاص قوانين والحصول على تماسك منهجي، غير أن هذا التخلي بحد ذاته، من وجهة نظرنا الحالية، قد وجه الهرمينوطيقا وجهةً جديدة، وجهها إلى أن تصبح علماً “. (من كتاب فهم الفهم: مدخل إلى الهرمينوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، عادل مصطفى، ص: 62-63).

تمهيد:

إذا كانت المنظورات الوظيفية والصراعية تؤكد على أهمية البناء الاجتماعي في تشكيل وتوجيه أفراد المجتمع والتأثير على سلوكهم الإنساني، فإن منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة على الطرف الآخر تولي اهتماماً كبيراً لدور الفعل والتفاعل بين أفراد المجتمع في تكوين تلك البنى.

في حقيقة الأمر. إن عودة العلوم الإنسانية إلى دائرة الهرمينوطيقا (علم التأويل) هي بمثابة عودة المياه إلى مجراها الطبيعي، حيث تعتبر الهرمينوطيقا علماً لتأويل النصوص كيف ما كان نوعها وطبيعتها، لأن غايتها الأساسية هي الكشف عن المعنى، هذا الأخير الذي لا يمكن أن يتحقق بشكل سليم إلا إذا تمكنت الهرمينوطيقا من خلق علاقات متبادلة ومنسجمة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا والابستيمولوجيا والفينومينولوجيا والاثنوميثودولوجيا، وهذا ما يستدعي التأكيد على أهمية مبدأ التطبيق الذي يعني الانتقال من النص إلى الفعل عبر أو بواسطة العقل، بمعنى استحضار الواقع بكل أحداثه ومعطياته في عملية التأويل، فالواقع إذن يصبح هو دليل التأويل وبرهانه.

 تتعلق الهرمينوطيقا كمنهجية للتأويل بالمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع الأفعال البشرية الحاملة لمعنى ونواتج هذه الأفعال، وبالأخص النصوص. وهي بوصفها معرفة منهجية توفر مجموعة أدوات لمعالجة هذه المشاكل. يرتبط التأويل كتقليد قديم بمجموعة من الإشكالات السائدة والمتكررة في حياة الإنسان، فالتأويل نشاط إنساني حاضر في كل وقت وحين ينطلق كلما تطلع البشر إلى فهم ما يرونه مهما في نظرهم. ونظراً لتاريخ الهرمينوطيقا الطويل، فمن الطبيعي أن تكون قضاياها، وأدواتها، قد شهدت تحولاً كبيراً مع مرور الوقت، ولحق هذا التحول مبحث التأويل نفسه.

 ويُعرف التأويل في اللغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأول وهو الرجوع. وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه، بشرح معناه، أو حصول مقتضاه. وفي الفلسفة هي المبدأ المثالي الذي من خلاله تكون فيه الحقائق الاجتماعية (وربما أيضاً الحقائق الطبيعية) رموزاً أو نصوصاً والتي بدورها يجب أن يتم تفسيرها بدلاً من وصفها أو إيضاحها. وفي نظرية الفهم يرى فريدريك شلايرماخر (1768- 1834) أن الهرمينوطيقا هي فن الفهم؛ أي الفن الذي لا يمكن الوصول إلى الفهم إلا من خلاله. وانطلاقاً من أن تفسير الفهم معرض دائما لخطر الابتلاء بسوء الفهم، اعتبر شلايرماخر الهرمينوطيقا مجموعة قواعد منهجية تُستخدم لرفع هذا الخطر.

على الرغم من قطع الحداثة مع كل المرجعيات التعالوية، فإنّها لم تنف وجود كليات إنسانية وجودا دينيا أو ميتافيزيقيا، كلياتٍ ربما تنطوي على فكرة الحب. وهذا القطع مع السرديات الكبرى اختزل الإنسان في بعده المادي على نحوٍ تكون فيه إرادته غير خاضعة إلى أي معيار خارجي، وأما عن طبيعته فهي مادية صرف. انتقل الحب كغيره من الروابط الإنسانية من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة وتغيرت آليات اشتغاله. ففي مرحلة الصلابة ارتبطت العلاقة بين الرجل والمرأة بالاستمرارية والاستقرار والسكينة لتمتد بعد ذلك لأشكال علاقات أمتن وأكثر صلابة من قبيل المصاهرة والإنتاج، التكاثر، بناء أسرة كقاعدة جماعية صلبة. لكن الأمر لا يبدو كذلك مع الحداثة السائلة، إذ أنّه لا معنى لعبارة " تعاهدنا ألاّ يفارقنا غير الموت"، لأن التغيير عصف بكل الثوابت، فلا مكان هنا للسكينة لأنها من السكون والسكون نقيض الحركة التي تقوم عليها الحداثة: المشهد هنا يتسم بالتغيير الدائم والتقلْقُل.

على خلاف ما تدعيه الحداثة كونيةً شاملةً، أصبحت الذات أكثر "جوانية"، ولا نعني بالجوانية جوانية غيبية أو تفكُّريّةً، بل جوانية مادية تقوّض كل فرص السعادة والحب طويل الأمد. فالحداثة تبحث عن الربح والخيارات الرشيدة العقلانية على حساب العلاقات العفوية الوجدانية وعلى حساب الديمومة والعاطفة، حيث تولّد الحداثة حاجياتنا بشكل مستمر وتحول كل قديم لشيء هجين مكانه سلة المهملات بما في ذلك المشاعر والأجساد.

هنا لا يمكننا أن نتحدث عن علاقات، فالعلاقة تستوجب جملة من الخيارات الاجتماعية المتداخلة والمركبة "باهظة الثمن" ولابد أيضا أن تعكس صورة مجتمع "تراحمي"، في حين أن إنسان الحداثة السائلة لا يرغب البتة في تقديم تضحيات من أجل التواصل الاجتماعي أو الاتصال الجنسي. على هذا النحو انتقل إنسان الحداثة السائلة من "وضوح العلاقات" إلى غموض "العلاقات العابرة"، هذه العلاقات تكون أقل تكلفة وبلا روابط أو التزامات، فهي علاقات عابرة تبحث عن لذة أبدية في متعٍ لحظية.

أما عن وعود الارتباط في عصر الحداثة السائلة فلا معنى لها، لأن امتداد العلاقات منتهاه الآن وهنا، ولأننا على حد عبارة زيجمونت باومان، نعيش عصر "قطع الغيار"، عصر الفرصة القادمة حيث أصبح كل ما بين أيدينا قابلا للتخلي عنه. لذا لا يمكن أن نتعلق به بشدة لأن هذا التعلق أو الارتباط قد يجعلك تحرم من فرص أفضل. ولا يتعلق الأمر هنا بخيارات فردية بالإمكان ضبطها وتعديلها بل إنها تعكس السيكولوجية الطاغية في المجتمع الحديث الذي أنتجته الحداثة والرأسمالية وطبعته الدولة الحديثة في سلوكيات أفراد مجتمعاتها وفق قواعد براغماتية صارمة عملت على تفكيك كل روابطه الاجتماعية والأسرية التقليديّة، وهذا ما يعكس حضور الدولة حتى في علاقاتنا الجنسية. فالدولة تجهز لاستكمال مشهد العلاقة الجنسية في حين تفرغه من كل مضمون وجودي أو معنوي، ولم يبق من هذه العلاقات غير الأجساد التي سرعان ما تبحث عن جسد آخر واشباع آخر ربما يوفر امكانات أفضل: " يرى العقل الحديث السائل في الالتزامات الدائمة ظلما وغما... فالالتزام والارتباط يعكران صفو العلاقات البشرية مثلما يعكران صفو أي فعل من أفعال الاستهلاك الذي يقوم على الاشباع الفوري للذة والتقادم الفوري للمادة المستهلكة "[1]

” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه (اللهم إني أعوذ بك من ... قهر الرجال ...) والمقصود هنا بقهر الرجال أن القهر سببه الغلبة، فالرجل إذا شعر بغلبة الرجال له، وتسلطهم عليه، بحق، أو بغير حق: تسبب ذلك في حصول الكمد والقهر في نفسه. وغلبة الرجال أيضاً أن يغلبوه... أن يقهروه حتى يقتلوه، أو يأخذوا ماله، أو يهينوه، ويضربوه إلى غير ذلك “.

إن الباحث السوسيولوجي النقدي المدقق في وجوه أفراد المجتمع المقهور عبر الشوارع والأزقة، وفي الأسواق، وفي علاقاتهم اليومية، سوف يصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن مظاهر الكبت والقلق والخوف والقهر الاجتماعي تسيطر على معظم سلوكياتهم وتصرفاتهم، فأصوات الشجار والصراع الاجتماعي تعلو لأتفه الأسباب، وكثير من المشكلات الاجتماعية تطفو على السطح تدلنا على وجود شرخ عميق وخلل كبير في أنساق البناء الاجتماعي.

يعتبر القهر الاجتماعي سبباً مباشراً لكثير من السلوكيات الخطيرة التي تشكل بمجموعها ما نستطيع تسميته بـ: (مجتمع المقهورين)، الذين يسعون إلى إثبات (الأنا الشخصية) بأية طريقة، وبأية وسيلة مسموح بها، أو غير مسموح مما أدى إلى ظهور عادة " العنتريات والعنجهية "، التي تتجلى في القفز فوق القانون، وفي تسخير الناس لحوائج  (المواطن العنتري)، وتترافق عادة العنتريات مع مظهر العضلات المفتولة، والشوارب، وهذا كله مؤشر على حاجة المواطن إلى إبراز وجوده في مجتمع تربى على كونه مجرد رقم في إحصائيات الدوائر الرسمية للدول.

- مفهوم القهر الاجتماعي: لغوياً قهَرَ يَقْهَر، قَهْراً، فهو قاهِر، والمفعول مَقْهور. قهَر الشّخصَ احتقره، تسلّط عليه بالظّلم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ}. قهَر الجَيْشُ العَدُوَّ: غَلَبَه: فالشّجاعة تقهر البؤس. قهَرَ غرائزَه: سيطر عليها. يقال لا يُقْهَر: منيع لا يُهزَم. كما يقال قهَره على الاعتراف بجريمته: أي أجبره على الاعتراف. أسباب، ظروف قاهرة. ويقال أَخَذْتُهُم قَهْراً: أَي من غير رضاهم. أخرجه قهْراً: جبراً واضطراراً. القَهْرُ: الغَلَبة والأَخذ من فوق. اصطلاحاً هو شعور الإنسان بالقمع نتيجة سيطرة القوة عليه، أهم ما يميزه هو القمع من ناحية الأفكار والمشاعر مصادرة إرادته وحريته بالتعبير عن رأيه فيشعر الإنسان باحتقار الذات والرضوخ والتبعية للجهة التي تمارس عليه القهر. فلسفياً هو العوامل اللصيقة التي تجبر الإنسان على ما لا يرغبه، أو تحول دونه وما يرغبه. قهر الذات هو قهر مغزاه كون الذات إطار لا فكاك من ممارسة الوجود من خلاله، وقهر المكان هو قهر آتٍ من كل ما هو كائن حولنا ويهدف إلى تحديد مساحة أو كثافة وجودنا في اللحظة، وقهر الزمان هو قهر يحتمه كون الذات الكائنة في جزء من المكان هي حدث مؤقت على محور سابق عليها لا حق بها وهو محور الزمان. سوسيولوجياً يقصد بالقهر الاجتماعي تجربة الظلم الممنهجة والمتكررة باستمرار والمنتشرة انتشاراً واسعاً، وهذه التجربة ليست متطرفة كالعبودية والفصل العنصري وليست عنيفة أيضاً كما هو الحال في المجتمعات الاستبدادية بل يُقصد بالقهر الاجتماعي القهر والاضطهاد اليومي في الحياة العادية، ويشير مصطلح " القهر المتحضر " إلى الاضطهاد المتأصل في الأعراف والعادات والرموز التي لا نقاش بها. وفي الأسس التي تقوم عليها المؤسسات الاجتماعية والقواعد وما يفرض من عواقب جماعية في حال مخالفة هذه القواعد، ويمكن توضيحه بأنه الظلم الواسع والعميق الذي يطال بعض المجموعات في المجتمع نتيجة الأحكام المسبقة وردود الفعل اللا واعية في العديد من الأحيان والصادرة عن الأفراد العاديين (الذين هم غالباً أصحاب النوايا الحسنة) في تفاعلاتهم اليومية العادية ويسهم في دعم هذه الأحكام وردود الفعل كل من وسائل الإعلام والصور النمطية الثقافية وكذلك البناء الهرمي المجتمعي وآليات السوق الاقتصادية.