التعريف بالكاتب:
أورسولا كينغسمايل هارت، من أبوين بريطانيين، ولدت في جنوب وسط الهند سنة 1920، وتربت في فرنسا في ظل النظام التربوي الفرنسي لتترعرع فيما بعد في المغرب، البلد الذي كانت دائما تعتبره وطنها.

بعد عودتها إلى المغرب سنة 1958، تعرفت على الأنتروبولوجي الأمريكي دافيد مونتكومري هارت. تزوجت به ورافقته في عمله الميداني في قبيلة " أيت ورياغل " بالريف، فساعدته على التعرف عن قرب على العالم الداخلي للبيت الريفي حيث كان من المستحيل على الباحث الذكر أن يتعرف عليه في مجتمع محافظ.

عاشت المؤلفة وزوجها في إقليم ألميريا باسبانيا منذ 1967، وفي نفس المنطقة وافتها المنية يوم 22 يناير 1996، من مؤلفاتها :

 Two ladies of colonial algeria the lives and times of Aurelie picard and isabelle Eberhadort , ohio University , monographs in international studies ; africa series ; N 49 university of ohio press, 1987

التعريف بالكتاب:
يعد كتاب " وراء باب الفناء الحياة اليومية للنساء الريفيات" أحد الكتب التي ألفتها أورسولا كينغسمايل هارت، وهو كتاب ترجمه عبد الله الجرموني، وراجعه جمال أمزيان وعبد المجيد عزوزي، صادر سنة 2010 في طبعته الأولى عن مطبعة النجاح الجديدة منشورات تفرازن اءريف – طنجة - يقع هذا الكتاب في 194 صفحة، يتضمن بالإضافة لنبدة عن حياة المؤلفة، والفهرس، وكلمة لفسنتي موكا روميرو، تقديما للترجمة العربية، وتقديما للترجمة الإسبانية قدمه زوج الكاتبة الانتروبولوجي دافيد مونتغموري هارت، وأيضا شخصيات الكتاب وإهداء الكاتبة، ويحمل الكتاب إضافة إلى هذا 15 فصلا، ومقدمة وخاتمة، كما أفردت الكاتبة في آخر الكتاب بعض الصفحات لبسط مجموعة من الصور التي تجسد الشخصيات التي تعتمل داخل دفتي الكتاب.

 تحاول من خلالهم الكاتبة رصد حياة الريف عبر التعريف ببعض العادات المحلية التي ترافق الاحتفال ببعض المناسبات، وينحصر هذا العمل حسب المترجم على تدوين الملاحظات والأشياء معتمدة على الذكريات عبر حكي غير كرونولوجي، وقد نقلت عن النساء نظرتهن للحياة الزوجية ومكانتهن في بيوتهن وأسرهن زيادة على تخوفهن وهمومهن في مجتمع رجولي بامتياز. يذكر أن الكتاب نشر بالانجليزية بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1994، وقد صاغته الكاتبة قبل عشرين سنة من نشره حسب ما جاء في مقدمة الترجمة الاسبانية لدافيد هارت.

قدم كتاب الحياة اليومية للنساء الريفيات خدمة كبيرة لتاريخ الأسرة المغربية، فقد سجل عن قرب الحياة في الريف قبل انتشار المدارس وتطور وسائل المواصلات، وذلك بعفوية مطلقة، وبطريقة سينيمائية رائعة، يخال معها القارئ أن الأوراق التي أمامه في هذا الكتاب إنما هي وثائقيات مرئية أنجزت بتقنيات الصورة الحديثة، خاصة وأن المؤَلَف يضم في النهاية ملحقا للصور تجعل القارئ ينتقل بعفوية من النص إلى الصورة لاكتشاف القسمات الحقيقية لشخصيات الكتاب، حيث تحضر بكل عفوية الأحاسيس الحية والهواجس العاطفية والانفعالات والاحباطات وقسمات الوجوه الصادقة في حيرتها وبؤسها وسعادتها، والزوايا بكل تفاصيلها الدقيقة والألوان بكل رمزيتها، والطبيعة بكل ودها وبشاعتها من خلال تركيزها على حياة أسرة محددة، ويتمثل أحد إنجازات المؤلفة الدالة على نجاحها في استخلاص العديد من التفاصيل والمعلومات الدقيقة حول الحياة العائلية الخاصة وعالم العواطف والأحاسيس، وهي مجالات يبقيها الريفيون عادة قيد الكتمان ويخفونها وراء ستار الصمت.  لذا فإن هذا الكتاب يعد بحق مصدرا أساسيا عن تقاليد وعادات النساء في منطقة الريف المغربي قبل نصف قرن.[1]

يعتبر الإطار النظري إحدى أهم خطوات البحث السوسيولوجي (الميداني)، لأن البحوث السوسيولوجية الجادة ينبغي أن تكون موجهة بنظرية سوسيولوجية تشتق منها تساؤلات البحث ومفاهيمه، وتحدد مداخله ومنهجيته، إلى جانب أن النظرية تشكل مرجعية الباحث في عملية التحليل والتفسير للمشكلة المدروسة. لذا؛ ينبغي على الباحث عند تصميم إطاره النظري أن يراعي مجموعة من الشروط أهمها عدم وجود تناقض بين المقولات النظرية المختارة من حيث افتراضاتها القاعدية أو افتراضاتها الخاصة بالمجال، بالإضافة إلى انتفاء التعارض بين القضايا التي سوف يوظفها في بناء إطاره النظري، بحيث يراعي تأكيد الاتساق المنطقي لهذا الإطار النظري. وأخيراً، يجب على الباحث إدراك أن هذا الإطار النظري مؤقت ينتهي وجوده بمجرد أن ينتهي مبرر استخدامه.

في واقع الأمر، ينقسم الإطار النظري إلى قسمين أساسيين هما: الأول التراث النظري الذي كُتِبَ حول موضوع البحث، أما القسم الثاني فإنه يتضمن مجموعة المقولات النظرية التي سوف يعتمد عليها الباحث في توجيه كل خطواته بحثه وتفسير تساؤلاته في ضوء مقولات النظرية السوسيولوجية التي تتوافق مع طبيعة المشكلة المدروسة وهو ما يشكل صلب اهتمام المقال الحالي.

تستخدم النظرية العلمية لتفسير الظواهر والعلاقات والمتغيرات التي تتعلق بموضوعها ومادتها ووظائفها، حيث تساعد على نضوج واكتمال العلم، وتفسير الظواهر الواضحة الغامضة والتفاعلات الأساسية والقانونية والعوامل الموضوعية والذاتية للعلم. بذلك تعد النظرية الاجتماعية في الدراسات الاجتماعية المجسد الحقيقي للنظرية العلمية، فلا بد من وجودها بوصفها إحدى أهم خطوات البحث الاجتماعي، وهنالك العديد من النظريات الاجتماعية (البنائية والتأويلية) يجب على الباحث اختيار إحداها أو بعضها لتكون النظرية المعتمدة للمشكلة المدروسة.

ويجب على الباحث هنا توظيف المقولات النظرية المناسبة للمشكلة المدروسة باختصار مبرراً استخدامها وكيفية تطبيقها في تحليل وتفسير الظاهرة المدروسة، ولماذا هذه النظرية دون غيرها من النظريات الاجتماعية الأخرى. مع الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الشروط التي تسهل عليه عملية الاختيار النظري المناسب لمشكلة البحث، وهي كالآتي:

  • تحديد المعالم الأولية لعنوان البحث: والتي تتضمن مجموعة من المعالم الأولية التي يجب أن تتوفر في أي عنوان أكاديمي محكم، والتي تشتمل على تحديد المتغيرات الفاعلة في مشكلة البحث (المستقلة والفاعلة)، تحديد أسلوب البحث (كمي/ كيفي)، تحديد منهج وأداة البحث، ووحدة التحليل ومجتمع البحث، ونوع الدراسة (وصفية، تحليلية، استطلاعية، تجريبية). وهذه المعالم يمكن للطالب معرفتها بشكل مباشر من صياغة عنوان البحث الأكاديمي الجيد.
  • تحديد اتجاه المشكلة: وهذا يعني بالضرورة تحديد الفاعل المسؤول (المتغيرات المسؤولة) عن حدوث المشكلة. وهنا يجب على الباحث طرح الأسئلة التالية على نفسه. من الذي يسبب المشكلة؟ (الفرد أم المجتمع)، ما اتجاه المشكلة؟ (من الخارج إلى الداخل، أم من الداخل إلى الخارج). بمعنى آخر إذا كان الخلل في أحد أنساق البناء هو الذي يؤدي إلى حدوث المشكلة معنى ذلك أن اتجاه المشكلة من الخارج إلى داخل النسق الاجتماعي مثال ذلك الأسرة. فالبطالة على سبيل المثال ممكن أن تؤدي إلى العديد من المشاكل الاجتماعية كالطلاق أو العنف الأسري بسبب عدم توفر الدخل المادي. وهنا يجب على الباحث توظيف النظريات البنائية ذات الرؤية الكلية مثل النظرية الماركسية أو البنائية الوظيفية. أما إذا وجد الباحث أن الفرد هو المسؤول عن حدوث المشكلة في هذه الحالة يجب عليه الاستعانة بالنظريات التأويلية لتفسير كيفية حدوث المشكلة الاجتماعية ومعنى ذلك أن اتجاه المشكلة من الداخل إلى الخارج أي من داخل الأسرة إلى المجتمع بسبب عدم قدرة الأفراد على التفاعل والتصرف ضمن توقعات بعضهم البعض. ففي هذا السياق يمكن للباحث الاستعانة بنظرية التفاعلية الرمزية أو الاثنوميثودولوجيا أو التبادل الاجتماعي... إلخ حسب طبيعة المشكلة والعوامل التي تسببها.

اللغة وسيلة التواصل الإنساني، ناقلة للثقافات، ومؤرخة لأحداث، وانتصارات، وانتكاسات الشعوب...“.

اللغة أعظم إنجاز بشري على ظهر الأرض، ولولا اللغة ما قامت للإنسان حضارة ولا نشأت مدنية ولقد وقر في أذهان الناس منذ القديم تقديس اللغة وإعظام شأنها، وبلغت القداسة عند الشعوب البدائية، أن ارتبطت اللغة عندهم بتأثير اللفظ وسحر الكلمة، واختلط الاسم بالمسمى، في عقيدة هذه الأقوام.
وقد أدرك العلماء في العصر الحديث، علاقة اللغة بالمجتمع الذي تعيش فيه، ومدى تأثرها وتأثيرها عليه، كما عرفوا الصلة القائمة بين اللغة والنفس الإنسانية، وتلونها بألوان الانفعالات والعواطف الوجدانية، لدى بني البشر.

بذلك تعتبر اللغة من أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة، وبدون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي، وترتبط اللغة بالتفكير ارتباطاً وثيقاً، فأفكار الإنسان تصاغ دوماً في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني، ومن خلال اللغة فقط تحصل الفكرة على وجودها الواقعي. كما ترمز اللغة إلى الأشياء المنعكسة فيها.

كما تعتبر اللغة نظاماً للتواصل يمكن أن يتبادل البشر الكلام اللفظي أو الرمزي، وهذا التعريف يؤكد على الوظائف الاجتماعية للغة، والحقيقة هي أن البشر يستخدمون اللغة للتعبير عن أنفسهم والتعامل مع الأشياء في البيئة المحيطة بهم. وتوضح النظريات الوظيفية للقواعد التراكيب النحوية من وظائفها التواصلية وفهم التراكيب النحوية للغة لتكون نتيجة لعملية التكيف النحوية ومصممة لتلبية الاحتياجات التواصلية لمستخدميها.

 ويرتبط هذا الرأي للغة مع دراسة اللغة في أطر عملية ومعرفية، وتفاعلية، وكذلك في علم اللغة الاجتماعي وعلم الإنسان اللغوي. فتميل النظريات الوظيفية إلى دراسة القواعد كظواهر حيوية، وتراكيب تكون دائماً في عملية تغيير كما تستخدم من قبل الناطقين بها. ويضع هذا الرأي أهمية على دراسة تصنيف لغوي، أو تصنيف اللغات وفقاً لسمات هيكلية، كما يمكن إثبات أن عمليات النحو تميل إلى اتباع المسارات التي تعتمد جزئياً على التصنيف. وكثيراً ما ترتبط وجهات النظر البراغماتية في فلسفة اللغة كعنصر أساسي للغة والمعنى مع أعمال فيتجنشتاين اللاحقة ومع فلاسفة اللغة العادية مثل: أوستن، وبول جرايس، وجون سيرل، وكواين.

يسعى علم اللغة الحديث إلى دراسة اللغة وهيكلها، بالتعاون مع العلوم الإنسانية الأخرى، مثل: علم الثقافة، التاريخ، الجغرافيا، علم الاجتماع، وعلم النفس، والانثروبولوجيا. فالعلاقة بين اللغويات والعلوم الأخرى (الإنسانية) علاقة نقاش وجدال مستمر منذ عقود بهدف دراسة اللغات الإنسانية كل من خلال زاويته.

 بالمقابل، يعتقد بعض اللغويين أنه لا ينبغي خلط تخصصهم مع هذه العلوم لأنه سيؤثر على نقاء أبحاثهم، حيث ظلت النظرة إلى اللغة في الماضي على أنها من علوم الأدوات والوسائل، وليست من علوم الغايات، حتى بدايات القرن التاسع عشر. وفي خضم البحث اللغوي الحديث ارتقت اللغة درجة أعلى، وأصبحت من علوم الغايات، بالإضافة إلى كونها من علوم الوسائل، وأصبح علم اللغة من أهم العلوم الإنسانية التي تـهتم بمختلف السلوك الإنساني أثناء اتصالـه بالآخريـن.

بعد أن كافح الإنسان في الماضي كي لا يتحوّل إلى عبد، عليه أن يناضل كي لا يتحوّل إلى آلة…”  إيريك فروم

1- مقدّمة:

إذ كان التشيّؤ صنو الاغتراب، فإنّ البحث في التشيّؤ لا يكون إلّا منهجاً في استكشاف الاغتراب الإنسانيّ في أقصى حالاته واستجواب معانيه في أعلى مستوياته. وإذا كان الاغتراب يشكّل البعد الفلسفيّ للتشيّؤ، فإنّ التشيّؤ يشكّل البعد المادّيّ المشخّص للاغتراب. وقد يكون التشيّؤ المؤشّر الأوّل للاغتراب، ولكنّه في النهاية يشي بعمقه، ويشكّل تمامه وكماله، ونعني بذلك أنّ التشيّؤ الكامل هو الظاهرة الكلّيّة للاغتراب في أكثر مظاهرة شموليّة وانبثاقاً. فلا يكون اغتراباً من غير تشيّؤ، ومن الاستحالة بمكان أن يكون التشيّؤ من غير الدلالة على الاغتراب؛ لأنّه يشكّل شرط الاغتراب وتجسيداً له. ومن الأمور الّتي يجب ألّا تغيب عن البال بأنّ الاغتراب والتشيّؤ مفهومان متداخلان في المعنى متشابكان في الدلالة، ومع ذلك فإنّ من يتأمّل بعمق قد يأنس طيفاً من الاختلاف. ومع أنّ ماركس سيّد المفهومين قد جمع بينهما وصهرهما في بوتقة واحدة، إلّا أنّ نفراً من المفكّرين قد عكفوا على استخدام مفهم التشيّؤ بوصفه أكثر قدرة على تجسيد مفهوم الاغتراب وتوظيفه في فهم أعمق لوضعيّة الهزائم الحضاريّة في وضعيّة الإنسانيّة المعاصرة، وربّما قد وجدوا في مفهوم التشيّؤ قدرة على الاستبصار الواقعيّ تجنّباً للوقوع في المطبّات الغامضة والمسالك الصعبة للاغتراب. فالاغتراب يحمل طابعاً فلسفيّاً محضاً، ويأتي التشيّؤ ليعبّر عنه بطريقة أكثر حسّيّة وتجسيداً. ومهما يكن الأمر، فإنّنا في هذا المساق ننحو إلى الإضاءة على مفهوم التشيّؤ مقارنة بالاغتراب واستكمالاً لمعناه ودلالته. وهو مهما يكن، فإنّ التشيّؤ يشكّل صيغة لازمة من الاغتراب نراها في توجّهات بعض المفكّرين الّذين أبدعوا في تناوله وتحليله والكشف عن أبعاده بطريقة سوسيولوجيّة بارعة في القدرة على البحث والاستكشاف. ويشار في هذا الصدد إلى نخبة من المفكّرين الّذي وظّفوه واستخدموه أمثال ماركس وماركوز وفروم ولوكاش وهونيث وهم الّذين بحثوا في متاهاته، واستكشفوا في أبعاده، ووظّفوه توظيفاً سوسيولوجيّاً خلّاقاً في الكشف عن مآزق العصر الصناعيّ الرأسماليّ ومستويات تشيؤه واغترابه.

وإذا كان التشاكل في مفهوم التشيؤ يأخذ مداه ثقيلا فإننا سنعمل في هذه المقالة على رصد المفهوم واستجلاء معالمه  وتحديد سماته وإبراز معانيه واستكشاف دلالته كشفاً عن  حضوره تجلّياته في  فضاءات الزمن الرأسماليّ  الليبرالي الحديد الّذي ينحو إلى أن يكون زمناً مادّيّاً زومبيا تغيب فيه الروح، وتفيض فيه قيم والربح والشهوة والتسلّط. إنّه زمن اللامتناهيات في السقوط الأخلاقيّ والانحدار القيميّ؛ إذ تحوّلت فيه كلّ الكائنات الحيّة والمادّيّة إلى سلع، بل إلى تجارة، ومن ثمّ إلى مادّة للتصنيع والاستهلاك. إنّه الزمن الّذي تحاك فيه الأشياء في دورة التصنيع والإنتاج، وكلّ شيء يدور فيه حول قيم الريح والاستهلاك، وكلّ شيء فيه يخضع لدورة السوق وقوانين العرض والطبّ: جسد الإنسان وروحه، ولا يبقى هناك شيء بعد ذلك لا يخضع لدورة السلع والأشياء: كلّ شيء يباع، تجارة البشر، تجارة الأعضاء، تجارة الجنس، الحبّ تجارة، والصداقة صناعة، وفيه تجارة الأدب والفنّ والأخلاق، حتّى الدين أصبح تجارة ونخّاسة. وهذا هو الزمن الّذي تبشّر فيه الرأسماليّة بزوال الإنسان وتشكيل الإنسان الآليّ "الروبوت"، الإنسان الزومبيّ (Zombie) (الموتى الأحياء) ([1])، الإنسان الجسد الّذي يتحرّك من غير روح، الإنسان البيونيّ الّذي تحوّل إلى كيان من الأسلاك والأجهزة والسيليكون ومثال ذلك المرأة السليكون. وفوق ذلك كلّه أصبحنا نتحدّث اليوم عن الإنسان السبورغ الإنسان الّذي تحوّل بجسده إلى كائن خارق، أو لنتحدّث عن الإنسان الآليّ. والمذهل في حركة الحضارة الصناعيّة والذكاء الاصطناعيّ أنّ الحضارة المادّيّة تسعى إلى إضفاء الطابع الإنسانيّ على الروبوتات بينما تجرّد الإنسان الحيّ من الروح والمعنى والدلالة، وتحوّل إلى كائن زومبي هشّ تستطيع أن تدمّره بعصاك لأنّه كائن بلا روح ولا معنى أو دلالة.

يعتبر الإطار التحليلي بمثابة البوصلة المعرفية والمنهجية لتوجيه سير مراحل الدراسة، فالهدف المنشود من تطوير إطار تحليلي نظري هو تحليل النتاج الفكري والمعرفي لرواد الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر موضوع دراستنا الحالية. لذلك فإننا قبل الخوض في تحديد ملامح العناصر البنائية لإطارنا التحليلي (الاتجاهات النقدية المعاصرة)، سنحاول عرض لمحة تاريخية موجزة لعدد من الأطر التحليلية التي تبناها بعض المشتغلين بالنظرية السوسيولوجية([1])، وهي كالآتي:

- الإطار الأول: يستند إلى تحليل النظرية السوسيولوجية بالنظر إلى سياقها الاجتماعي الذي برزت منه، في محاولة أولية لفهم قضاياها النظرية، ويعتبر هاري بيرنزBarner  في كتابه " الفكر الاجتماعي من البدعة إلى العلم " Social Thought From Lover to Science  من المحاولات الأولى في هذا المجال، ويضاف إليها محاولة هانز موس Hans Mauss في كتابه " تاريخ الفكر الاجتماعي " of Social Thought History.

يعتمد هذا الأسلوب في تحليله للنظرية السوسيولوجية بالاعتماد على السياق الاجتماعي الذي انبثقت منه النظرية، كمثال على ذلك دراسة النظريات التي ظهرت في المجتمع اليوناني، أو المجتمع الإيطالي، أو الإنكليزي، أو الفرنسي...إلخ. حيث يسعى هذا الأسلوب إلى ربط بعض القضايا ببعض أحداث السياق الاجتماعي، وأحياناً أخرى يعالج النظرية بتحليل مفاهيمها وقضاياها الأساسية دون ربطها بأحداث معينة في السياق، من خلال إبراز انتمائها لهذا المجتمع أو ذاك فقط([2]).

يعاب على منهجية هذا الإطار في تحليله لأبعاد النظرية الاجتماعية، إغفال فاعلية السياق الاجتماعي، سواء المحلي أو الأشمل، حيث نجد أن قضايا كثيرة من النظريات ليست سوى تجريد لبعض التفاعلات الواقعية هذا من جهة. ومن جهة أخرى يتجاهل هذا الأسلوب في غالب الأحيان وضع النظرية السوسيولوجية في سياقها الفكري، فالنظرية السوسيولوجية هي حلقة في تطور نسق التفكير العلمي، حيث نجد أن كثيراً من مفاهيم هذا النسق وقضاياه قائمة في بناء النظرية موضع الدراسة ولو في إطار نسقي جديد، إضافةً إلى أن هذا الأسلوب في التحليل يتجاهل الوظيفة الإيديولوجية للنظرية الاجتماعية، وهي الوظيفة التي برزت بوضوح في فترة الحرب الباردة([3]).

كتاب عبارة عن عمل بحثي مميز من إعداد عادل المساتي، صادر عن سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسية، يتألف من ثلاثة فصول رئيسية تنصرف مضامينها إلى تلخيص النتاج الفكري لجاك بيرك (1910 _ 1995)، والذي يصفه الباحث المغربي بأنه "من رواد السوسيولوجيا الكولونيالية ومن كبار الناقدين والمحررين لها". فما هي أبرز الأفكار التي طرحها هذا الباحث السوسيولوجي الفرنسي عن المغرب، وهو الذي نسج علاقة وثيقة بأهله مكنته من البصم على إنتاج معرفي محترم حول تاريخه وشتى أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والوجدانية؟

أولا: المغرب ما قبل الكولونيالي من منظور بيرك

يُرجع جاك بيرك نشأة الدولة بالمغرب إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر بالتزامن مع وصول السعديين إلى الحكم، الذين وضعوا جذور مفهوم واقعي للدولة لا يقتصر على المحددات الدينية، هذه النزعة ستتعمق مع الشرفاء العلويين فيما بعد الذين كرسوا النزعة المركزية للسلطة.

وعليه، أقام العلويون مسافة مع "الحركات الشعبية" (القبائل، الزوايا... إلخ) لتلافي التبعية والارتهان لها، وهو ما يتبدى على سبيل المثال في تأسيس المولى إسماعيل لجيش غريب عن القوى الاجتماعية (جيش عبيد البخاري)، مما وضع الإرهاصات الأولية لدولة مركزية، هذا بالإضافة إلى الاعتماد على موارد اقتصادية أخرى مثل التجارة الخارجية عبر الموانئ المغربية لتخفيف التبعية للقبائل من حيث استخلاص الضرائب الزراعية منها.

بيد أن التحليل السوسيولوجي لبيرك لم يذهل عن حقيقة تعدد مستويات السلطة بالإيالة الشريفة، ذلك أن النزوع لمركزة السلطة سيولد نزعة مضادة للمخزن المركزي لدى بعض القوى الاجتماعية التي لطالما حظيت بسلطة رمزية لا يستهان بها كالزوايا، ويضرب الباحث مثلا على ذلك بالدلائيين الذين صعد نجمهم خلال الفترة الانتقالية المضطربة بين حكم السعديين والعلويين.

وفيما يخص الانتشار المجالي للسلطة بالمغرب، تطرق بيرك في البداية للمدينة وأبرز الفاعلين فيها، وفي مقدمتهم البرجوازية التجارية التقليدية التي لم تضطلع بالدور الذي نهضت به البرجوازية الأوروبية في التقدم الاقتصادي والفكري بسبب سلوكها السياسي والعملي المحافظ، وعدم انفتاحها على التطورات التقنية والفكرية الحديثة. وصولا إلى فاعلين آخرين مثل الفقيه الذي عُهِدَ عنه دفاعه عن تطبيق الشرع الإسلامي ضد "الأعراف الجاهلية" للقبائل.

 قد يسجل المتتبع للمنجز الفكري للأستاذة رحمة بورقية1 الملاحظات التالية:

1-تنوع وغنى أعمال الباحثة حول بنيات وثقافة المجتمع المغربي،

2-عمق طروحاتها التي تمتح في جزء كبيرمنها من إسهام الإبستيمولوجيا المعاصرة؛ إلى جانب استلهام التراثين السوسيولوجي والأنثروبولوجي استلهاما نقديا، أسعفها على تقليب الظواهرالاجتماعية من كل وجوهها، بحثا عن القواعد الخفية المتحكمة في البنيات والمؤسسات؛ وسعيا للإمساك، قدرالإمكان، بالمعاني المحتملة التي تتضمنها تلك القواعد، دون أن تبديها أوتفصح عنها،

3-عدم اطمئنانها"للظاهر من الأشياء الاجتماعية" 2، ونزوعها"إلى البحث عن آليات إنتاج الثقافة والمعنى..بتأويل الواقع الاجتماعي وفك رموزه"3 بماهو نص (=الواقع)دينامي يستعصي على التحليل التبسيطي؛ والتعليل الميكانيكي المكتفي باختزال عوامل التطورفي عنصروحيد.

 فالتأويل منظوراستراتيجية عند ذ.رحمة بورقية إلى جانب التاريخ، والتحليل النفسي، وسوسيولوجيا المعرفة..غرضه استثارة الواقع لحمله على الإفصاح عن انتظاماته ومنطق اشتغاله...ولربما هذا ما تسنى لنا استشفافه بين ثنايا الأعمال التي اقترحتها منذ إنجازها لأطروحتيها الجامعيتين 4؛ مرورا ب"مواقف"5 و"النساء والخصوبة" 6، ووصولا إلى عملها الموسوم ب"رهانات المعرفة والثقافة".

يطرق مؤلف"رهانات المعرفة والثقافة" الذي جاء في 328 صفحة إشكالات راهنية قوية؛ وقضايا متعددة لها وصْلٌ بما يَمُورُ به عالم اليوم بدء من لحظة سقوط جدار برلين وانهيارالمنظومة الشمولية السوفياتية(=الدول الممزقة)، فبروزالأحادية القطبية كحالة كونية جديدة تدعمها قوة الرأسمال المالي الهيمني العابرللقارات الذي أقحم كوكبنا في خضم حضارة جديدة تتمثل أبرزمتغيراتها في:

-انكفاء الإيديولوجيات، وبروز أزمة النظريات الكبرى. وطبقا لهذا ارتأى منظروالكوكبية أن التاريخ الراهن بلغ أوجه ومنتهاه بانتصارالليبرالية على ماسواها من التيارات الفكرية؛ والأنماط الاقتصادية كما على باقي المذاهب والعقائد7 التي عرفتها البشرية خلال تطورها التاريخي؛ وبالأخص النهج الاشتراكي.

-إعادة تشكيل العالم من خلال إلغاء

حدود الزمان والمكان بفضل تكنولوجيا المعلومات فائقة السرعة التي أقحمت البشرية في مغامرة معرفية لاسابق لها في التاريخ؛ ولامحدودة في الأفق مما يستلزم مراجعة مسترسلة ودَؤُوبَة لكل منظوراتنا؛ وأنماط حَيَوَاتِنا اليومية التي درجناعليها وألفناها؛ وتجديد أساليبنا في تنشئة وتأهيل أجيالنا الطالعة..

-إعادة النظرفي النظام الدولي السابق الذي تشكل عقب "مؤتمريالطا" في فبراير1945. فمن المحقق أن هاته الصياغة الجديدة للعالم تمخضت عن تحولات كونية هائلة على كل المستويات؛ من مستتبعاتها الجلية تأزيم الدولة-الوطنية؛ وتفكيك أوصالها بإشعال فتيل الحروب بين مختلف مكوناتها العرقية؛ وتأليب أطيافها الدينية بعضها على البعض بسبب ضعف اندماجها ضمن نسيج ثقافي وطني  موحد.8     

أقترح اليوم ترجمة هذا المقال لمايتي كلافيل إلى العربية. ولكن يجب في البداية التعريف بالكاتبة. هي عالمة اجتماع، بعد أن كانت مديرة دروس في أوريم -لورين (OREAM-Lorraine) من عام 1966 إلى عام 1968، ثم أستاذة باحثة في جامعة باريس إكس-نانتير، أصبحت منذ عام 2000 باحثة مساعدة في IPRAUS (UMR 7136 AUS، شركة الهندسة المعمارية تابعة إلى المركز الوطني للبحث العلمي). هي مؤلفة على وجه الخصوص لكتاب "علم الاجتماع الحضري" (باريس، أنثروبوس، 2002)، وهو العمل الذي يحاول تقييم الأبحاث الاجتماعية حول المدينة والحضري في فرنسا، وتواصل أبحاثها حول أشكال التحضر المعاصر والطبيعة الحضرية.

تمكن هنري لوفيفر من بيان وإظهار الروابط المعقدة التي تربط المجالات بمجتمعاتها، وتوضيح إلى أي مدى يشكل المجال جزء لا يتجزأ منها، ليس فقط كمنتج ولكن كأداة إنتاج، وقوة إنتاجية. بالنسبة إليه، المجال ليس مجرد ناقل اقتصادي، بل هو أيضا رافعة من الرموز واللغة ومستودع للصور. وهكذا ميز نفسه عن الباحثين الآخرين، الذين كان مؤلفوهم المرجعيون هم نفس المؤلفين، لكنهم اختزلوا هذه الروابط إلى اعتماد بسيط: المجال كبنية فوقية، والمجال كمكان لتطبيق نمط الإنتاج. لقد فصل نفسه عن الآخرين، الذين سعوا، متبعين علماء الاجتماع في مدرسة شيكاغو، إلى قوانين توزيع السكان بالإضافة إلى تضمين المجالي في الفوضى الاجتماعية، دون الاهتمام بالسياسة (ولا بالاقتصاد).
إن الفكر النقدي لـهنري لوفيفر مذهل بسبب مزيج المراجع التي تبدو قديمة اليوم، والجرأة في الخطوات النظرية، وتفسير الظواهر الاجتماعية وبناء تفكير معقد حول المجال الاجتماعي.
إن ما يتعلق بدور الدولة، وانتشار ما يسمى بالنموذج الشيوعي، لم يعد ذا أهمية اليوم، وما يقوله عن الرأسمالية، رغم وصفها بأنها تدبيرية ولم تعد تنافسية، لا يأخذ في الاعتبار أشكال عولمتها، ولا أبعادها المالية. ومن ناحية أخرى، فإن تحليلاته للمجال، وتأملاته المتكررة حول إكولوجيا كوكبنا، وكذلك وجهات النظر التي يقترحها أو يذكرها، يمكن تناولها اليوم.
ليس من قبيل الصدفة بلا شك أن يتم إعادة نشر جميع كتبه في الولايات المتحدة وأن يتجلى الاهتمام بهذا الفكر مرة أخرى في فرنسا كذلك.