” من أقوال " شلايرماخر" المبكرة التي تلقي الضوء على طبيعة التأويل قوله (إن الهرمينوطيقا هي بالضبط طريقة الطفل في فهم معنى كلمة جديدة): إنه يسترشد ببنية الجملة وبسياق المعنى، وكذلك تفعل الهرمينوطيقا العامة. تبدأ الهرمينوطيقا في نظر شلايرماخر من أحكام الحوار، فهي " حوارية "  Dialogical في طبيعتها، غير أنه للأسف لم يتفطن إلى المتضمنات الخلاقة لهذه الطبيعة الحوارية، وشغلته عن ذلك رغبته في استخلاص قوانين والحصول على تماسك منهجي، غير أن هذا التخلي بحد ذاته، من وجهة نظرنا الحالية، قد وجه الهرمينوطيقا وجهةً جديدة، وجهها إلى أن تصبح علماً “. (من كتاب فهم الفهم: مدخل إلى الهرمينوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، عادل مصطفى، ص: 62-63).

تمهيد:

إذا كانت المنظورات الوظيفية والصراعية تؤكد على أهمية البناء الاجتماعي في تشكيل وتوجيه أفراد المجتمع والتأثير على سلوكهم الإنساني، فإن منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة على الطرف الآخر تولي اهتماماً كبيراً لدور الفعل والتفاعل بين أفراد المجتمع في تكوين تلك البنى.

في حقيقة الأمر. إن عودة العلوم الإنسانية إلى دائرة الهرمينوطيقا (علم التأويل) هي بمثابة عودة المياه إلى مجراها الطبيعي، حيث تعتبر الهرمينوطيقا علماً لتأويل النصوص كيف ما كان نوعها وطبيعتها، لأن غايتها الأساسية هي الكشف عن المعنى، هذا الأخير الذي لا يمكن أن يتحقق بشكل سليم إلا إذا تمكنت الهرمينوطيقا من خلق علاقات متبادلة ومنسجمة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا والابستيمولوجيا والفينومينولوجيا والاثنوميثودولوجيا، وهذا ما يستدعي التأكيد على أهمية مبدأ التطبيق الذي يعني الانتقال من النص إلى الفعل عبر أو بواسطة العقل، بمعنى استحضار الواقع بكل أحداثه ومعطياته في عملية التأويل، فالواقع إذن يصبح هو دليل التأويل وبرهانه.

 تتعلق الهرمينوطيقا كمنهجية للتأويل بالمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع الأفعال البشرية الحاملة لمعنى ونواتج هذه الأفعال، وبالأخص النصوص. وهي بوصفها معرفة منهجية توفر مجموعة أدوات لمعالجة هذه المشاكل. يرتبط التأويل كتقليد قديم بمجموعة من الإشكالات السائدة والمتكررة في حياة الإنسان، فالتأويل نشاط إنساني حاضر في كل وقت وحين ينطلق كلما تطلع البشر إلى فهم ما يرونه مهما في نظرهم. ونظراً لتاريخ الهرمينوطيقا الطويل، فمن الطبيعي أن تكون قضاياها، وأدواتها، قد شهدت تحولاً كبيراً مع مرور الوقت، ولحق هذا التحول مبحث التأويل نفسه.

 ويُعرف التأويل في اللغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأول وهو الرجوع. وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه، بشرح معناه، أو حصول مقتضاه. وفي الفلسفة هي المبدأ المثالي الذي من خلاله تكون فيه الحقائق الاجتماعية (وربما أيضاً الحقائق الطبيعية) رموزاً أو نصوصاً والتي بدورها يجب أن يتم تفسيرها بدلاً من وصفها أو إيضاحها. وفي نظرية الفهم يرى فريدريك شلايرماخر (1768- 1834) أن الهرمينوطيقا هي فن الفهم؛ أي الفن الذي لا يمكن الوصول إلى الفهم إلا من خلاله. وانطلاقاً من أن تفسير الفهم معرض دائما لخطر الابتلاء بسوء الفهم، اعتبر شلايرماخر الهرمينوطيقا مجموعة قواعد منهجية تُستخدم لرفع هذا الخطر.

على الرغم من قطع الحداثة مع كل المرجعيات التعالوية، فإنّها لم تنف وجود كليات إنسانية وجودا دينيا أو ميتافيزيقيا، كلياتٍ ربما تنطوي على فكرة الحب. وهذا القطع مع السرديات الكبرى اختزل الإنسان في بعده المادي على نحوٍ تكون فيه إرادته غير خاضعة إلى أي معيار خارجي، وأما عن طبيعته فهي مادية صرف. انتقل الحب كغيره من الروابط الإنسانية من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة وتغيرت آليات اشتغاله. ففي مرحلة الصلابة ارتبطت العلاقة بين الرجل والمرأة بالاستمرارية والاستقرار والسكينة لتمتد بعد ذلك لأشكال علاقات أمتن وأكثر صلابة من قبيل المصاهرة والإنتاج، التكاثر، بناء أسرة كقاعدة جماعية صلبة. لكن الأمر لا يبدو كذلك مع الحداثة السائلة، إذ أنّه لا معنى لعبارة " تعاهدنا ألاّ يفارقنا غير الموت"، لأن التغيير عصف بكل الثوابت، فلا مكان هنا للسكينة لأنها من السكون والسكون نقيض الحركة التي تقوم عليها الحداثة: المشهد هنا يتسم بالتغيير الدائم والتقلْقُل.

على خلاف ما تدعيه الحداثة كونيةً شاملةً، أصبحت الذات أكثر "جوانية"، ولا نعني بالجوانية جوانية غيبية أو تفكُّريّةً، بل جوانية مادية تقوّض كل فرص السعادة والحب طويل الأمد. فالحداثة تبحث عن الربح والخيارات الرشيدة العقلانية على حساب العلاقات العفوية الوجدانية وعلى حساب الديمومة والعاطفة، حيث تولّد الحداثة حاجياتنا بشكل مستمر وتحول كل قديم لشيء هجين مكانه سلة المهملات بما في ذلك المشاعر والأجساد.

هنا لا يمكننا أن نتحدث عن علاقات، فالعلاقة تستوجب جملة من الخيارات الاجتماعية المتداخلة والمركبة "باهظة الثمن" ولابد أيضا أن تعكس صورة مجتمع "تراحمي"، في حين أن إنسان الحداثة السائلة لا يرغب البتة في تقديم تضحيات من أجل التواصل الاجتماعي أو الاتصال الجنسي. على هذا النحو انتقل إنسان الحداثة السائلة من "وضوح العلاقات" إلى غموض "العلاقات العابرة"، هذه العلاقات تكون أقل تكلفة وبلا روابط أو التزامات، فهي علاقات عابرة تبحث عن لذة أبدية في متعٍ لحظية.

أما عن وعود الارتباط في عصر الحداثة السائلة فلا معنى لها، لأن امتداد العلاقات منتهاه الآن وهنا، ولأننا على حد عبارة زيجمونت باومان، نعيش عصر "قطع الغيار"، عصر الفرصة القادمة حيث أصبح كل ما بين أيدينا قابلا للتخلي عنه. لذا لا يمكن أن نتعلق به بشدة لأن هذا التعلق أو الارتباط قد يجعلك تحرم من فرص أفضل. ولا يتعلق الأمر هنا بخيارات فردية بالإمكان ضبطها وتعديلها بل إنها تعكس السيكولوجية الطاغية في المجتمع الحديث الذي أنتجته الحداثة والرأسمالية وطبعته الدولة الحديثة في سلوكيات أفراد مجتمعاتها وفق قواعد براغماتية صارمة عملت على تفكيك كل روابطه الاجتماعية والأسرية التقليديّة، وهذا ما يعكس حضور الدولة حتى في علاقاتنا الجنسية. فالدولة تجهز لاستكمال مشهد العلاقة الجنسية في حين تفرغه من كل مضمون وجودي أو معنوي، ولم يبق من هذه العلاقات غير الأجساد التي سرعان ما تبحث عن جسد آخر واشباع آخر ربما يوفر امكانات أفضل: " يرى العقل الحديث السائل في الالتزامات الدائمة ظلما وغما... فالالتزام والارتباط يعكران صفو العلاقات البشرية مثلما يعكران صفو أي فعل من أفعال الاستهلاك الذي يقوم على الاشباع الفوري للذة والتقادم الفوري للمادة المستهلكة "[1]

” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه (اللهم إني أعوذ بك من ... قهر الرجال ...) والمقصود هنا بقهر الرجال أن القهر سببه الغلبة، فالرجل إذا شعر بغلبة الرجال له، وتسلطهم عليه، بحق، أو بغير حق: تسبب ذلك في حصول الكمد والقهر في نفسه. وغلبة الرجال أيضاً أن يغلبوه... أن يقهروه حتى يقتلوه، أو يأخذوا ماله، أو يهينوه، ويضربوه إلى غير ذلك “.

إن الباحث السوسيولوجي النقدي المدقق في وجوه أفراد المجتمع المقهور عبر الشوارع والأزقة، وفي الأسواق، وفي علاقاتهم اليومية، سوف يصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن مظاهر الكبت والقلق والخوف والقهر الاجتماعي تسيطر على معظم سلوكياتهم وتصرفاتهم، فأصوات الشجار والصراع الاجتماعي تعلو لأتفه الأسباب، وكثير من المشكلات الاجتماعية تطفو على السطح تدلنا على وجود شرخ عميق وخلل كبير في أنساق البناء الاجتماعي.

يعتبر القهر الاجتماعي سبباً مباشراً لكثير من السلوكيات الخطيرة التي تشكل بمجموعها ما نستطيع تسميته بـ: (مجتمع المقهورين)، الذين يسعون إلى إثبات (الأنا الشخصية) بأية طريقة، وبأية وسيلة مسموح بها، أو غير مسموح مما أدى إلى ظهور عادة " العنتريات والعنجهية "، التي تتجلى في القفز فوق القانون، وفي تسخير الناس لحوائج  (المواطن العنتري)، وتترافق عادة العنتريات مع مظهر العضلات المفتولة، والشوارب، وهذا كله مؤشر على حاجة المواطن إلى إبراز وجوده في مجتمع تربى على كونه مجرد رقم في إحصائيات الدوائر الرسمية للدول.

- مفهوم القهر الاجتماعي: لغوياً قهَرَ يَقْهَر، قَهْراً، فهو قاهِر، والمفعول مَقْهور. قهَر الشّخصَ احتقره، تسلّط عليه بالظّلم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ}. قهَر الجَيْشُ العَدُوَّ: غَلَبَه: فالشّجاعة تقهر البؤس. قهَرَ غرائزَه: سيطر عليها. يقال لا يُقْهَر: منيع لا يُهزَم. كما يقال قهَره على الاعتراف بجريمته: أي أجبره على الاعتراف. أسباب، ظروف قاهرة. ويقال أَخَذْتُهُم قَهْراً: أَي من غير رضاهم. أخرجه قهْراً: جبراً واضطراراً. القَهْرُ: الغَلَبة والأَخذ من فوق. اصطلاحاً هو شعور الإنسان بالقمع نتيجة سيطرة القوة عليه، أهم ما يميزه هو القمع من ناحية الأفكار والمشاعر مصادرة إرادته وحريته بالتعبير عن رأيه فيشعر الإنسان باحتقار الذات والرضوخ والتبعية للجهة التي تمارس عليه القهر. فلسفياً هو العوامل اللصيقة التي تجبر الإنسان على ما لا يرغبه، أو تحول دونه وما يرغبه. قهر الذات هو قهر مغزاه كون الذات إطار لا فكاك من ممارسة الوجود من خلاله، وقهر المكان هو قهر آتٍ من كل ما هو كائن حولنا ويهدف إلى تحديد مساحة أو كثافة وجودنا في اللحظة، وقهر الزمان هو قهر يحتمه كون الذات الكائنة في جزء من المكان هي حدث مؤقت على محور سابق عليها لا حق بها وهو محور الزمان. سوسيولوجياً يقصد بالقهر الاجتماعي تجربة الظلم الممنهجة والمتكررة باستمرار والمنتشرة انتشاراً واسعاً، وهذه التجربة ليست متطرفة كالعبودية والفصل العنصري وليست عنيفة أيضاً كما هو الحال في المجتمعات الاستبدادية بل يُقصد بالقهر الاجتماعي القهر والاضطهاد اليومي في الحياة العادية، ويشير مصطلح " القهر المتحضر " إلى الاضطهاد المتأصل في الأعراف والعادات والرموز التي لا نقاش بها. وفي الأسس التي تقوم عليها المؤسسات الاجتماعية والقواعد وما يفرض من عواقب جماعية في حال مخالفة هذه القواعد، ويمكن توضيحه بأنه الظلم الواسع والعميق الذي يطال بعض المجموعات في المجتمع نتيجة الأحكام المسبقة وردود الفعل اللا واعية في العديد من الأحيان والصادرة عن الأفراد العاديين (الذين هم غالباً أصحاب النوايا الحسنة) في تفاعلاتهم اليومية العادية ويسهم في دعم هذه الأحكام وردود الفعل كل من وسائل الإعلام والصور النمطية الثقافية وكذلك البناء الهرمي المجتمعي وآليات السوق الاقتصادية.

التعريف بالكاتب:
أورسولا كينغسمايل هارت، من أبوين بريطانيين، ولدت في جنوب وسط الهند سنة 1920، وتربت في فرنسا في ظل النظام التربوي الفرنسي لتترعرع فيما بعد في المغرب، البلد الذي كانت دائما تعتبره وطنها.

بعد عودتها إلى المغرب سنة 1958، تعرفت على الأنتروبولوجي الأمريكي دافيد مونتكومري هارت. تزوجت به ورافقته في عمله الميداني في قبيلة " أيت ورياغل " بالريف، فساعدته على التعرف عن قرب على العالم الداخلي للبيت الريفي حيث كان من المستحيل على الباحث الذكر أن يتعرف عليه في مجتمع محافظ.

عاشت المؤلفة وزوجها في إقليم ألميريا باسبانيا منذ 1967، وفي نفس المنطقة وافتها المنية يوم 22 يناير 1996، من مؤلفاتها :

 Two ladies of colonial algeria the lives and times of Aurelie picard and isabelle Eberhadort , ohio University , monographs in international studies ; africa series ; N 49 university of ohio press, 1987

التعريف بالكتاب:
يعد كتاب " وراء باب الفناء الحياة اليومية للنساء الريفيات" أحد الكتب التي ألفتها أورسولا كينغسمايل هارت، وهو كتاب ترجمه عبد الله الجرموني، وراجعه جمال أمزيان وعبد المجيد عزوزي، صادر سنة 2010 في طبعته الأولى عن مطبعة النجاح الجديدة منشورات تفرازن اءريف – طنجة - يقع هذا الكتاب في 194 صفحة، يتضمن بالإضافة لنبدة عن حياة المؤلفة، والفهرس، وكلمة لفسنتي موكا روميرو، تقديما للترجمة العربية، وتقديما للترجمة الإسبانية قدمه زوج الكاتبة الانتروبولوجي دافيد مونتغموري هارت، وأيضا شخصيات الكتاب وإهداء الكاتبة، ويحمل الكتاب إضافة إلى هذا 15 فصلا، ومقدمة وخاتمة، كما أفردت الكاتبة في آخر الكتاب بعض الصفحات لبسط مجموعة من الصور التي تجسد الشخصيات التي تعتمل داخل دفتي الكتاب.

 تحاول من خلالهم الكاتبة رصد حياة الريف عبر التعريف ببعض العادات المحلية التي ترافق الاحتفال ببعض المناسبات، وينحصر هذا العمل حسب المترجم على تدوين الملاحظات والأشياء معتمدة على الذكريات عبر حكي غير كرونولوجي، وقد نقلت عن النساء نظرتهن للحياة الزوجية ومكانتهن في بيوتهن وأسرهن زيادة على تخوفهن وهمومهن في مجتمع رجولي بامتياز. يذكر أن الكتاب نشر بالانجليزية بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1994، وقد صاغته الكاتبة قبل عشرين سنة من نشره حسب ما جاء في مقدمة الترجمة الاسبانية لدافيد هارت.

قدم كتاب الحياة اليومية للنساء الريفيات خدمة كبيرة لتاريخ الأسرة المغربية، فقد سجل عن قرب الحياة في الريف قبل انتشار المدارس وتطور وسائل المواصلات، وذلك بعفوية مطلقة، وبطريقة سينيمائية رائعة، يخال معها القارئ أن الأوراق التي أمامه في هذا الكتاب إنما هي وثائقيات مرئية أنجزت بتقنيات الصورة الحديثة، خاصة وأن المؤَلَف يضم في النهاية ملحقا للصور تجعل القارئ ينتقل بعفوية من النص إلى الصورة لاكتشاف القسمات الحقيقية لشخصيات الكتاب، حيث تحضر بكل عفوية الأحاسيس الحية والهواجس العاطفية والانفعالات والاحباطات وقسمات الوجوه الصادقة في حيرتها وبؤسها وسعادتها، والزوايا بكل تفاصيلها الدقيقة والألوان بكل رمزيتها، والطبيعة بكل ودها وبشاعتها من خلال تركيزها على حياة أسرة محددة، ويتمثل أحد إنجازات المؤلفة الدالة على نجاحها في استخلاص العديد من التفاصيل والمعلومات الدقيقة حول الحياة العائلية الخاصة وعالم العواطف والأحاسيس، وهي مجالات يبقيها الريفيون عادة قيد الكتمان ويخفونها وراء ستار الصمت.  لذا فإن هذا الكتاب يعد بحق مصدرا أساسيا عن تقاليد وعادات النساء في منطقة الريف المغربي قبل نصف قرن.[1]

يعتبر الإطار النظري إحدى أهم خطوات البحث السوسيولوجي (الميداني)، لأن البحوث السوسيولوجية الجادة ينبغي أن تكون موجهة بنظرية سوسيولوجية تشتق منها تساؤلات البحث ومفاهيمه، وتحدد مداخله ومنهجيته، إلى جانب أن النظرية تشكل مرجعية الباحث في عملية التحليل والتفسير للمشكلة المدروسة. لذا؛ ينبغي على الباحث عند تصميم إطاره النظري أن يراعي مجموعة من الشروط أهمها عدم وجود تناقض بين المقولات النظرية المختارة من حيث افتراضاتها القاعدية أو افتراضاتها الخاصة بالمجال، بالإضافة إلى انتفاء التعارض بين القضايا التي سوف يوظفها في بناء إطاره النظري، بحيث يراعي تأكيد الاتساق المنطقي لهذا الإطار النظري. وأخيراً، يجب على الباحث إدراك أن هذا الإطار النظري مؤقت ينتهي وجوده بمجرد أن ينتهي مبرر استخدامه.

في واقع الأمر، ينقسم الإطار النظري إلى قسمين أساسيين هما: الأول التراث النظري الذي كُتِبَ حول موضوع البحث، أما القسم الثاني فإنه يتضمن مجموعة المقولات النظرية التي سوف يعتمد عليها الباحث في توجيه كل خطواته بحثه وتفسير تساؤلاته في ضوء مقولات النظرية السوسيولوجية التي تتوافق مع طبيعة المشكلة المدروسة وهو ما يشكل صلب اهتمام المقال الحالي.

تستخدم النظرية العلمية لتفسير الظواهر والعلاقات والمتغيرات التي تتعلق بموضوعها ومادتها ووظائفها، حيث تساعد على نضوج واكتمال العلم، وتفسير الظواهر الواضحة الغامضة والتفاعلات الأساسية والقانونية والعوامل الموضوعية والذاتية للعلم. بذلك تعد النظرية الاجتماعية في الدراسات الاجتماعية المجسد الحقيقي للنظرية العلمية، فلا بد من وجودها بوصفها إحدى أهم خطوات البحث الاجتماعي، وهنالك العديد من النظريات الاجتماعية (البنائية والتأويلية) يجب على الباحث اختيار إحداها أو بعضها لتكون النظرية المعتمدة للمشكلة المدروسة.

ويجب على الباحث هنا توظيف المقولات النظرية المناسبة للمشكلة المدروسة باختصار مبرراً استخدامها وكيفية تطبيقها في تحليل وتفسير الظاهرة المدروسة، ولماذا هذه النظرية دون غيرها من النظريات الاجتماعية الأخرى. مع الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الشروط التي تسهل عليه عملية الاختيار النظري المناسب لمشكلة البحث، وهي كالآتي:

  • تحديد المعالم الأولية لعنوان البحث: والتي تتضمن مجموعة من المعالم الأولية التي يجب أن تتوفر في أي عنوان أكاديمي محكم، والتي تشتمل على تحديد المتغيرات الفاعلة في مشكلة البحث (المستقلة والفاعلة)، تحديد أسلوب البحث (كمي/ كيفي)، تحديد منهج وأداة البحث، ووحدة التحليل ومجتمع البحث، ونوع الدراسة (وصفية، تحليلية، استطلاعية، تجريبية). وهذه المعالم يمكن للطالب معرفتها بشكل مباشر من صياغة عنوان البحث الأكاديمي الجيد.
  • تحديد اتجاه المشكلة: وهذا يعني بالضرورة تحديد الفاعل المسؤول (المتغيرات المسؤولة) عن حدوث المشكلة. وهنا يجب على الباحث طرح الأسئلة التالية على نفسه. من الذي يسبب المشكلة؟ (الفرد أم المجتمع)، ما اتجاه المشكلة؟ (من الخارج إلى الداخل، أم من الداخل إلى الخارج). بمعنى آخر إذا كان الخلل في أحد أنساق البناء هو الذي يؤدي إلى حدوث المشكلة معنى ذلك أن اتجاه المشكلة من الخارج إلى داخل النسق الاجتماعي مثال ذلك الأسرة. فالبطالة على سبيل المثال ممكن أن تؤدي إلى العديد من المشاكل الاجتماعية كالطلاق أو العنف الأسري بسبب عدم توفر الدخل المادي. وهنا يجب على الباحث توظيف النظريات البنائية ذات الرؤية الكلية مثل النظرية الماركسية أو البنائية الوظيفية. أما إذا وجد الباحث أن الفرد هو المسؤول عن حدوث المشكلة في هذه الحالة يجب عليه الاستعانة بالنظريات التأويلية لتفسير كيفية حدوث المشكلة الاجتماعية ومعنى ذلك أن اتجاه المشكلة من الداخل إلى الخارج أي من داخل الأسرة إلى المجتمع بسبب عدم قدرة الأفراد على التفاعل والتصرف ضمن توقعات بعضهم البعض. ففي هذا السياق يمكن للباحث الاستعانة بنظرية التفاعلية الرمزية أو الاثنوميثودولوجيا أو التبادل الاجتماعي... إلخ حسب طبيعة المشكلة والعوامل التي تسببها.

اللغة وسيلة التواصل الإنساني، ناقلة للثقافات، ومؤرخة لأحداث، وانتصارات، وانتكاسات الشعوب...“.

اللغة أعظم إنجاز بشري على ظهر الأرض، ولولا اللغة ما قامت للإنسان حضارة ولا نشأت مدنية ولقد وقر في أذهان الناس منذ القديم تقديس اللغة وإعظام شأنها، وبلغت القداسة عند الشعوب البدائية، أن ارتبطت اللغة عندهم بتأثير اللفظ وسحر الكلمة، واختلط الاسم بالمسمى، في عقيدة هذه الأقوام.
وقد أدرك العلماء في العصر الحديث، علاقة اللغة بالمجتمع الذي تعيش فيه، ومدى تأثرها وتأثيرها عليه، كما عرفوا الصلة القائمة بين اللغة والنفس الإنسانية، وتلونها بألوان الانفعالات والعواطف الوجدانية، لدى بني البشر.

بذلك تعتبر اللغة من أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة، وبدون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي، وترتبط اللغة بالتفكير ارتباطاً وثيقاً، فأفكار الإنسان تصاغ دوماً في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني، ومن خلال اللغة فقط تحصل الفكرة على وجودها الواقعي. كما ترمز اللغة إلى الأشياء المنعكسة فيها.

كما تعتبر اللغة نظاماً للتواصل يمكن أن يتبادل البشر الكلام اللفظي أو الرمزي، وهذا التعريف يؤكد على الوظائف الاجتماعية للغة، والحقيقة هي أن البشر يستخدمون اللغة للتعبير عن أنفسهم والتعامل مع الأشياء في البيئة المحيطة بهم. وتوضح النظريات الوظيفية للقواعد التراكيب النحوية من وظائفها التواصلية وفهم التراكيب النحوية للغة لتكون نتيجة لعملية التكيف النحوية ومصممة لتلبية الاحتياجات التواصلية لمستخدميها.

 ويرتبط هذا الرأي للغة مع دراسة اللغة في أطر عملية ومعرفية، وتفاعلية، وكذلك في علم اللغة الاجتماعي وعلم الإنسان اللغوي. فتميل النظريات الوظيفية إلى دراسة القواعد كظواهر حيوية، وتراكيب تكون دائماً في عملية تغيير كما تستخدم من قبل الناطقين بها. ويضع هذا الرأي أهمية على دراسة تصنيف لغوي، أو تصنيف اللغات وفقاً لسمات هيكلية، كما يمكن إثبات أن عمليات النحو تميل إلى اتباع المسارات التي تعتمد جزئياً على التصنيف. وكثيراً ما ترتبط وجهات النظر البراغماتية في فلسفة اللغة كعنصر أساسي للغة والمعنى مع أعمال فيتجنشتاين اللاحقة ومع فلاسفة اللغة العادية مثل: أوستن، وبول جرايس، وجون سيرل، وكواين.

يسعى علم اللغة الحديث إلى دراسة اللغة وهيكلها، بالتعاون مع العلوم الإنسانية الأخرى، مثل: علم الثقافة، التاريخ، الجغرافيا، علم الاجتماع، وعلم النفس، والانثروبولوجيا. فالعلاقة بين اللغويات والعلوم الأخرى (الإنسانية) علاقة نقاش وجدال مستمر منذ عقود بهدف دراسة اللغات الإنسانية كل من خلال زاويته.

 بالمقابل، يعتقد بعض اللغويين أنه لا ينبغي خلط تخصصهم مع هذه العلوم لأنه سيؤثر على نقاء أبحاثهم، حيث ظلت النظرة إلى اللغة في الماضي على أنها من علوم الأدوات والوسائل، وليست من علوم الغايات، حتى بدايات القرن التاسع عشر. وفي خضم البحث اللغوي الحديث ارتقت اللغة درجة أعلى، وأصبحت من علوم الغايات، بالإضافة إلى كونها من علوم الوسائل، وأصبح علم اللغة من أهم العلوم الإنسانية التي تـهتم بمختلف السلوك الإنساني أثناء اتصالـه بالآخريـن.

بعد أن كافح الإنسان في الماضي كي لا يتحوّل إلى عبد، عليه أن يناضل كي لا يتحوّل إلى آلة…”  إيريك فروم

1- مقدّمة:

إذ كان التشيّؤ صنو الاغتراب، فإنّ البحث في التشيّؤ لا يكون إلّا منهجاً في استكشاف الاغتراب الإنسانيّ في أقصى حالاته واستجواب معانيه في أعلى مستوياته. وإذا كان الاغتراب يشكّل البعد الفلسفيّ للتشيّؤ، فإنّ التشيّؤ يشكّل البعد المادّيّ المشخّص للاغتراب. وقد يكون التشيّؤ المؤشّر الأوّل للاغتراب، ولكنّه في النهاية يشي بعمقه، ويشكّل تمامه وكماله، ونعني بذلك أنّ التشيّؤ الكامل هو الظاهرة الكلّيّة للاغتراب في أكثر مظاهرة شموليّة وانبثاقاً. فلا يكون اغتراباً من غير تشيّؤ، ومن الاستحالة بمكان أن يكون التشيّؤ من غير الدلالة على الاغتراب؛ لأنّه يشكّل شرط الاغتراب وتجسيداً له. ومن الأمور الّتي يجب ألّا تغيب عن البال بأنّ الاغتراب والتشيّؤ مفهومان متداخلان في المعنى متشابكان في الدلالة، ومع ذلك فإنّ من يتأمّل بعمق قد يأنس طيفاً من الاختلاف. ومع أنّ ماركس سيّد المفهومين قد جمع بينهما وصهرهما في بوتقة واحدة، إلّا أنّ نفراً من المفكّرين قد عكفوا على استخدام مفهم التشيّؤ بوصفه أكثر قدرة على تجسيد مفهوم الاغتراب وتوظيفه في فهم أعمق لوضعيّة الهزائم الحضاريّة في وضعيّة الإنسانيّة المعاصرة، وربّما قد وجدوا في مفهوم التشيّؤ قدرة على الاستبصار الواقعيّ تجنّباً للوقوع في المطبّات الغامضة والمسالك الصعبة للاغتراب. فالاغتراب يحمل طابعاً فلسفيّاً محضاً، ويأتي التشيّؤ ليعبّر عنه بطريقة أكثر حسّيّة وتجسيداً. ومهما يكن الأمر، فإنّنا في هذا المساق ننحو إلى الإضاءة على مفهوم التشيّؤ مقارنة بالاغتراب واستكمالاً لمعناه ودلالته. وهو مهما يكن، فإنّ التشيّؤ يشكّل صيغة لازمة من الاغتراب نراها في توجّهات بعض المفكّرين الّذين أبدعوا في تناوله وتحليله والكشف عن أبعاده بطريقة سوسيولوجيّة بارعة في القدرة على البحث والاستكشاف. ويشار في هذا الصدد إلى نخبة من المفكّرين الّذي وظّفوه واستخدموه أمثال ماركس وماركوز وفروم ولوكاش وهونيث وهم الّذين بحثوا في متاهاته، واستكشفوا في أبعاده، ووظّفوه توظيفاً سوسيولوجيّاً خلّاقاً في الكشف عن مآزق العصر الصناعيّ الرأسماليّ ومستويات تشيؤه واغترابه.

وإذا كان التشاكل في مفهوم التشيؤ يأخذ مداه ثقيلا فإننا سنعمل في هذه المقالة على رصد المفهوم واستجلاء معالمه  وتحديد سماته وإبراز معانيه واستكشاف دلالته كشفاً عن  حضوره تجلّياته في  فضاءات الزمن الرأسماليّ  الليبرالي الحديد الّذي ينحو إلى أن يكون زمناً مادّيّاً زومبيا تغيب فيه الروح، وتفيض فيه قيم والربح والشهوة والتسلّط. إنّه زمن اللامتناهيات في السقوط الأخلاقيّ والانحدار القيميّ؛ إذ تحوّلت فيه كلّ الكائنات الحيّة والمادّيّة إلى سلع، بل إلى تجارة، ومن ثمّ إلى مادّة للتصنيع والاستهلاك. إنّه الزمن الّذي تحاك فيه الأشياء في دورة التصنيع والإنتاج، وكلّ شيء يدور فيه حول قيم الريح والاستهلاك، وكلّ شيء فيه يخضع لدورة السوق وقوانين العرض والطبّ: جسد الإنسان وروحه، ولا يبقى هناك شيء بعد ذلك لا يخضع لدورة السلع والأشياء: كلّ شيء يباع، تجارة البشر، تجارة الأعضاء، تجارة الجنس، الحبّ تجارة، والصداقة صناعة، وفيه تجارة الأدب والفنّ والأخلاق، حتّى الدين أصبح تجارة ونخّاسة. وهذا هو الزمن الّذي تبشّر فيه الرأسماليّة بزوال الإنسان وتشكيل الإنسان الآليّ "الروبوت"، الإنسان الزومبيّ (Zombie) (الموتى الأحياء) ([1])، الإنسان الجسد الّذي يتحرّك من غير روح، الإنسان البيونيّ الّذي تحوّل إلى كيان من الأسلاك والأجهزة والسيليكون ومثال ذلك المرأة السليكون. وفوق ذلك كلّه أصبحنا نتحدّث اليوم عن الإنسان السبورغ الإنسان الّذي تحوّل بجسده إلى كائن خارق، أو لنتحدّث عن الإنسان الآليّ. والمذهل في حركة الحضارة الصناعيّة والذكاء الاصطناعيّ أنّ الحضارة المادّيّة تسعى إلى إضفاء الطابع الإنسانيّ على الروبوتات بينما تجرّد الإنسان الحيّ من الروح والمعنى والدلالة، وتحوّل إلى كائن زومبي هشّ تستطيع أن تدمّره بعصاك لأنّه كائن بلا روح ولا معنى أو دلالة.

يعتبر الإطار التحليلي بمثابة البوصلة المعرفية والمنهجية لتوجيه سير مراحل الدراسة، فالهدف المنشود من تطوير إطار تحليلي نظري هو تحليل النتاج الفكري والمعرفي لرواد الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر موضوع دراستنا الحالية. لذلك فإننا قبل الخوض في تحديد ملامح العناصر البنائية لإطارنا التحليلي (الاتجاهات النقدية المعاصرة)، سنحاول عرض لمحة تاريخية موجزة لعدد من الأطر التحليلية التي تبناها بعض المشتغلين بالنظرية السوسيولوجية([1])، وهي كالآتي:

- الإطار الأول: يستند إلى تحليل النظرية السوسيولوجية بالنظر إلى سياقها الاجتماعي الذي برزت منه، في محاولة أولية لفهم قضاياها النظرية، ويعتبر هاري بيرنزBarner  في كتابه " الفكر الاجتماعي من البدعة إلى العلم " Social Thought From Lover to Science  من المحاولات الأولى في هذا المجال، ويضاف إليها محاولة هانز موس Hans Mauss في كتابه " تاريخ الفكر الاجتماعي " of Social Thought History.

يعتمد هذا الأسلوب في تحليله للنظرية السوسيولوجية بالاعتماد على السياق الاجتماعي الذي انبثقت منه النظرية، كمثال على ذلك دراسة النظريات التي ظهرت في المجتمع اليوناني، أو المجتمع الإيطالي، أو الإنكليزي، أو الفرنسي...إلخ. حيث يسعى هذا الأسلوب إلى ربط بعض القضايا ببعض أحداث السياق الاجتماعي، وأحياناً أخرى يعالج النظرية بتحليل مفاهيمها وقضاياها الأساسية دون ربطها بأحداث معينة في السياق، من خلال إبراز انتمائها لهذا المجتمع أو ذاك فقط([2]).

يعاب على منهجية هذا الإطار في تحليله لأبعاد النظرية الاجتماعية، إغفال فاعلية السياق الاجتماعي، سواء المحلي أو الأشمل، حيث نجد أن قضايا كثيرة من النظريات ليست سوى تجريد لبعض التفاعلات الواقعية هذا من جهة. ومن جهة أخرى يتجاهل هذا الأسلوب في غالب الأحيان وضع النظرية السوسيولوجية في سياقها الفكري، فالنظرية السوسيولوجية هي حلقة في تطور نسق التفكير العلمي، حيث نجد أن كثيراً من مفاهيم هذا النسق وقضاياه قائمة في بناء النظرية موضع الدراسة ولو في إطار نسقي جديد، إضافةً إلى أن هذا الأسلوب في التحليل يتجاهل الوظيفة الإيديولوجية للنظرية الاجتماعية، وهي الوظيفة التي برزت بوضوح في فترة الحرب الباردة([3]).