1

     تَنْبُع أهميةُ فَلسفةِ الظواهر الاجتماعية مِن قُدرتها على تحليلِ طبيعة الأحداث اليومية ، وتفسيرِ ماهيَّة التقاطعات التاريخية معَ الواقع المُعَاش ، وهذه الفلسفةُ غَير مَحصورة في بُنيةِ المُجتمع التَّحتية وبِنَائِه الفَوْقِي ، بَلْ تَتَعَدَّى إلى دَلالات اللغة كإطارٍ مَعرفي ومَرجعيةٍ رمزية ، وهذا يدلُّ على الترابط بين المُجتمعِ واللغةِ ، بِوَصْفِهِمَا كِيَانَيْن مُنْدَمِجَيْن شُعوريًّا وإنسانيًّا ، ويُشكِّلان مَنظورًا وُجوديًّا لتأويلِ تاريخ الأفكار منهجيًّا ومنطقيًّا ، وتوضيحِ كَيفية تفاعله معَ رُؤيةِ الفرد لِذَاتِه ومُحِيطِه ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى استخراجِ الأحلام المَقموعة مِن مَسَارَات الزمن المُتشابكة ، واسترجاعِ الوَعْي الإبداعي مِن مَتَاهَات المَكَان العميقة . وهَاتَان العَمَلِيَّتَان تُسَاهِمَان في نَقْل الهُوِيَّة المعرفية مِن كَينونة الفرد الفاعلة إلى الفِعْل الاجتماعي ، وهذا يَضْمَن الانتقالَ السَّلِسَ لتاريخ الأفكار مِن الذِّهْنِ التَّجريدي إلى التطبيقِ العملي ، ومِن الدَّلالةِ اللغوية إلى السُّلوكِ الأخلاقي ، ومِن الجُمُودِ الحَضَاري إلى الحَرَاكِ الحَيَاتي . وإذا تَجَذَّرَ تاريخُ الأفكارِ في فلسفة الظواهر الاجتماعية رُوحًا ونَصًّا ، فَإنَّ الأنساق الثقافية سَيُعَاد تشكيلُها لإنقاذِ الفرد مِن المَأزق الوُجودي ، وإنهاءِ الصِّرَاع بَين مَصادرِ المَعرفة والتجاربِ الواقعية ، الأمر الذي يَدفَع باتِّجَاه تَحويل البناء الاجتماعي إلى جَوهَر إنساني على تماس مُباشر معَ العَقْلِ الجَمْعي ، والوَعْيِ الإبداعي . وإذا كانَ وُجودُ الإنسانية سابقًا على وُجود المُجتمع ، فَإنَّ الهُوِيَّة المَعرفية سابقة على سُلطة الظواهر الاجتماعية . واندماجُ الإنسانيةِ معَ المَعرفةِ يُؤَسِّس للتفاعلات الرمزية بين المُجتمعِ واللغةِ في صَيرورةِ التاريخ ، وتفاصيلِ الحياة اليومية ، وتَحَوُّلاتِ الشُّعورِ والإدراكِ .

"تتجلّى عبقريّة ميرتون في نهجه النقديّ الّذي تبنّاه في ترميم النظريّة الوظيفيّة وإعادة بنائها وصقل مفاهيمها وتدوير زواياها الحادّة وتأصيل مقولاتها على نحو نقديّ، وقد تجلّت قدرته في الأخذ بالمنهج النقديّ للنظريّة الّذي حرّره نسبيّاً من القيود الأيديولوجيّة الطاغية الّتي تظهر في مختلف المداخل الفكريّة للنظريّة الوظيفيّة منذ بداياتها الأولى".

1-مقدمة:

بلغت البنائيّة الوظيفيّة أوج نشاطها الفكريّ على يد تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) في سبعينيّات القرن الماضي، ولكن سرعان ما خبا وهجها وضعف تأثيرها في ثمانينيّاته تحت مضارب النقد الشديدة الّتي أوقعت بها، فأطاحت بتصوّراتها، وأسقطت كثيرا من مفاهيمها، كاشفةً فيض مثالبها، وعمق قصورها ومواطن ضعفها. وفي معترك هذا السقوط الكبير لنظريّة بارسونز، واهتزاز الراية الوظيفيّة، خرج روبرت ميرتون من بين الصفوف ليخطف الراية الوظيفيّة، وينهض بها من جديد على ركائز سوسيولوجيّة جديدة، تمتاز إلى حدّ كبير بالتوازن الفكريّ والتماسك المنهجيّ، وقد تمكّن، بما قيّض له من قدرات إبداعيّة ومهارات منهجيّة، أن يعيد للوظيفيّة بعضاً من ألقها الفكريّ ووميضها المنهجيّ الّذي عرفت به في ثمانينيّات القرن الماضي.

حلّق ميرتون في فضاء السوسيولوجيا الحديثة بأجنحة منهجيّة جديدة ، واستطاع أن يطوّر النظريّة الوظيفيّة، وأن يمنحها بعضاً من القوّة على الاستمرار والقدرة على الحضور مجدّداً بما قدّمه لها من عناصر فكريّة جديدة على أسس نقديّة متجدّدة،  ويرى كثير من النقّاد اليوم أنّ نظريّة روبرت ميرتون تشكّل الحلقة الأكثر نضجاً وعمقاً في النظريّة البنائيّة الوظيفيّة على وجه الإطلاق، ولا غرو في القول: إنّ الوظيفيّة بلغت أوج نضجها وتألّقها على يد ميرتون الّذي حمل رايتها المنتكسة، ونهض بها خفّاقة في عالم السوسيولوجيا الوظيفيّة المعاصرة.

ومن المعروف، أنّ الوظيفيّة الكلاسيكيّة قبل ميرتون ، كانت تحلّق في أبراجها النظريّة الشموليّة، دون أن تلامس الواقع الاجتماعيّ الحيويّ، أو أن تقترب من الحقل الأمبيريقيّ الواقعيّ للحياة الاجتماعيّة، ولذا كانت تتعرّض دائماً للاهتزاز والسقوط بين الحين والآخر، وذلك لأنّها كانت غالباً ما تحلّق بجناح التنظير التأمّليّ الوحيد، إلى أن جاء ميرتون فأصلح من شأنها ودفعها إلى التحلّيق بجناحي الواقع والنظريّة لتحقّق توازنها  المنهجي والفكري.  

 1
تُمثِّل رَمزيةُ اللغةِ تَصَوُّرًا وُجوديًّا عَن كِيَانِ الفردِ وكَينونةِ المُجتمع ، وتُشكِّل مَنهجًا مَعرفيًّا لِتَحليلِ العلاقات الاجتماعية في صَيرورة التاريخ المُتوالِد باستمرار ، وتَفسيرِ مَصادر الوَعْي الثقافي في أشكالِ التفكير الإبداعي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى جَعْلِ الواقعِ المُعَاشِ كائنًا حَيًّا مُتَفَرِّدًا بذاته ، وَفِعْلًا اجتماعيًّا مَنظورًا إلَيه مِن خِلال إرادةِ المَعرفة المُتَحَرِّرَة لا سُلطةِ المصالح الشخصية الضَّيقة . والوَعْيُ الثقافي لا يَتَكَرَّس كَنَسَقٍ إنساني لِخَلاصِ الفَرد مِن الأحلام المَكبوتة ، وتَخليصِ المُجتمع مِن الضغط الاستهلاكي ، إلا إذا تَمَّ النظرُ إلى رمزية اللغة مِن الداخل لا الخارج ، وهذا يَستلزم تحويلَ البناء الاجتماعي الحاضن لتفاصيل الحياة اليومية إلى بُنية لُغَوية حاضنة لإفرازاتِ العقل الجَمْعِي وتأثيراتِ الهُوِيَّة الجامعة ، الأمر الذي يَجعل العلاقاتِ الاجتماعية تَيَّارَاتٍ فِكريةً مُتَحَرِّرَةً مِن الوَهْمِ والأدلجةِ المُغْرِضَة ، ومُندمِجةً معَ اللغةِ والثقافةِ ، باعتبارهما نظامًا واحدًا في الزمانِ والمكانِ ، ومُوَحِّدًا للآلِيَّاتِ السُّلوكية التي تُنتِج المَعرفةَ وتُوَظِّفها خارجَ القوالب الجامدة ، ومُوَلِّدًا لمفاهيم جديدة تُعيد صِياغةَ المَعنى الوُجودي _ ذِهنيًّا وحياتيًّا _ مِن مَنظور إبداعي لا وَظيفي.وكِيَانُ الفردِ لا يَكتسِب الشرعيةَ الثقافية إلا إذا تَأسَّسَ _ إدراكًا كَوْنِيًّا وسُلوكًا إيجابيًّا وواقعًا مَلموسًا_على قَواعدِ البناء الاجتماعي. وكَينونةُ المُجتمع لا تَكتسِب المشروعيةَ التاريخية إلا إذا تَأسَّسَتْ_ سِيَاقًا تَحريريًّا وفِكْرًا فاعلًا ونَقْدًا مَنهجيًّا _ على أُسُسِ البُنية اللغوية . وتَظَلُّ مَرجعيةُ المَعنى الوُجودي هي الذاكرةَ الجَمْعِيَّة التي تَحْمِي كِيَانَ الفردِ مِن الأحكامِ الثقافية المُسْبَقَة ، وتَحْمِي كَينونةَ المُجتمع مِن المُسَلَّمَات التاريخية التي فَرَضَتْهَا سُلطةُ الأمرِ الواقع .

 1

     تُمثِّل الروابطُ الاجتماعية بين الأفرادِ هياكلَ مَعرفيةً تَستمِد مشروعيةَ حُضُورِها الفِكْري مِن سُلطة الظواهر الثقافية ، وتَستمِد شرعيةَ وُجُودِها العملي مِن هُوِيَّة الفِعْل الاجتماعي الذي يَتِمُّ تكريسُه على أرض الواقع سَبَبًا وغايةً . وبُنيةُ المُجتمعِ الوظيفيةُ التي تَتَكَوَّن مِن الحُضُورِ الفِكري والوُجُودِ العملي لا تَمتاز بالكثافة اللغوية الرَّمزية فَحَسْب ، بَلْ أيضًا تَمتاز بِسُيولةِ المعاني الشُّعورية المُستمدة مِن صَيرورة التاريخ ، بِوَصْفِه وَعْيًا مُتَجَدِّدًا بِتَحَوُّلات شخصية الفرد الإنسانية زمنيًّا ومكانيًّا . وإذا كانَ الزَّمَنُ هو فلسفةَ مصادرِ المعرفة ، فَإنَّ المَكَانَ هو كَينونةُ الحياةِ الواقعية، وهذا الارتباطُ الوثيق بين الشُّعور والوَعْي مِن جِهَةٍ، وبين المعرفة والواقع مِن جِهَة أُخْرَى، يُجسِّد جَوْهَرَ البناءِ الاجتماعي في مَساراتِ التاريخ المُتشابكة معَ إفرازات البيئة معنويًّا وماديًّا، ويُؤَسِّس التَّجريةَ النَّقْدِيَّةَ في الأحداث اليومية فرديًّا وجماعيًّا ، ويَستعيد مَركزيةَ الوَعْي الحضاري مِن أشكال الغِيَاب التي تتكاثر في الأنظمةِ الفِكرية ، والمعاييرِ الأخلاقية ، والأنماطِ السُّلوكية ، والنماذجِ الاستهلاكية ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريس الحقائق الاجتماعية كزوايا رُؤية للأنساق الثقافية ، فَيُصبح المُجتمعُ تَوظيفًا مُستمرًّا للثقافةِ، لَيْسَ بِوَصْفِها إجراءً رُوتينيًّا، بَلْ بِوَصْفِهَا إعادةَ اكتشافٍ للإنسان بكلِّ إنجازاته المكشوفة ، وأحلامِه المكبوتة ، وتُصبح الثقافةُ تأويلًا دائمًا للمُجتمع، لَيْسَ بِوَصْفِه تَجَمُّعًا سُكَّانيًّا، بَلْ بِوَصْفِه إعادةَ اكتشاف للحياةِ بكلِّ تفاصيلِها العميقة ، وأسرارِها الدقيقة . وكُلَّمَا تَعَمَّقَت الصِّلَةُ بَين المُجتمعِ والثقافةِ ، تَجَذَّرَت العلاقةُ بين مَركزيةِ الوَعْي ومَصدريةِ المَعرفة ، لأنَّ الوَعْيَ هو الحاملُ لشرعيةِ المُجتمعِ فِكْرًا وسُلوكًا ، والمَعرفة هي الرَّافعةُ لوجود الثقافة نَصًّا ورُوحًا .

الحُدُوسُ الحِسِّيَّةُ بِدُونِ مَفاهِيمَ عَمْياء، وَالتَصَوُّراتُ العَقْلِيَّةُ بِدُونِ حُدُوسٍ حِسِّيَّةٍ جَوْفاء".
نَقْدِ العَقْلِ المَحْض، عَمانْوِيل كانِطٍ.

-1مُقَدِّمَة:

 اِسْتَقْطَبَتْ سوسيولوجيا " التّفاعل الرَمْزِيَّ" اِهْتِمامَ المُفَكِّرِينَ وَعُلَماءِ الاِجْتِماعِ مُنْذُ بِدايَةِ القَرْنِ العِشْرِينَ حَتَّى اللَحْظَةِ الراهِنَةِ، وَذٰلِكَ نَظَراً لِما تَنْطَوِي عَلَيْهِ هٰذِهِ السّوسيولوجيا مِن جِدَّةَ وَأَصالَة فِكْرِيَّةٍ مُفارِقَةٍ لِلنَظَرِيّاتِ الكُبْرَى التَقْلِيدِيَّةِ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، وَلِما تَتَمَيَّزُ بِهِ مِن قُدْرَةٍ مَنْهَجِيَّةٍ عَلَى اِسْتِكْناه الأَعْماق الرَّمْزِيَّة الخَفِيَّة وَالدّلالِيَّة لِلحَياةِ وَالظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ. لَقَدْ أَدْهَشَ رُوّادُ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ جُمْهُورَ الدارِسِينَ وَالباحِثِينَ بِما فَتَحَتْهُ مِن آفاقٍ فِكْرِيَّةٍ جَدِيدَةٍ فِي مَجالِ البَحْثِ السوسيولوجِيِّ، وَبِما رَسَّخَتْهُ مِن رُؤىً وَتَصَوُّراتٍ جَدِيدَةٍ عَن طَبِيعِيَّةِ الحَياةِ الاِجْتِماعِيَّةِ القائِمَةِ بَيْنَ الناسِ فِي خِضَمِّ التّفاعل وَالتَّبادُلِ الاِتِّصالِيِّ الرَمْزِيِّ.

 تُشَكِّلُ "التّفاعليَّةُ الرَمْزِيَّةُ " أَحَد التَيّاراتِ السوسيولوجِيَّةِ الَّتِي فَرَضَت نَفْسَها نَقِيضاً مُناظِراً لِلاِتِّجاهاتِ الكُبْرَى فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، مِثْلَ:  البِنْيَوِيَّةِ وَالمارْكِسِيَّةِ. وَيَنْظُرُ مُعْظَمُ النُقّادِ اليَوْمَ إِلَى التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ بِوَصْفِها نَظَرِيَّةً سوسيولوجِيَّةً مُتَكامِلَةَ الأَرْكانِ رَغْمَ حَداثَتِها نِسْبِيّاً. وَقَدْ عَكَفَ رُوّادُ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ عَلَى تَحْلِيلِ الظَواهِرِ الاِجْتِماعِيَّةِ الصُغْرَى (الميكروسوسيولوجِي)،  سَعْياً إِلَى فَهْمِ العَلاقاتِ التّفاعليَّةِ الرَمْزِيَّةِ القائِمَةِ بَيْنَ الأَفْرادِ فِي المُجْتَمَعاتِ الإِنْسانِيَّةِ ، والعمل على َتَحْلِيلِها وَإِدْراكِ مَعانِيها وَدَلالاتِها وَمَغازِيها. وَقَدْ رَكَّزَ رُوّادُها عَلَى دِراسَةِ مُعْطَياتِ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ لِلأَفْرادِ وَفَعالِيّاتِهِم السوسيولوجِيَّةِ القائِمَةِ فِي مَداراتِ اِتِّصالِهِم، وَمَساراتِ تَفاعُلِهِم، وَاعْتَمَدُوا منْهَجِيّاً عَلَى تَحْلِيلِ الرُّمُوز وَالمَعانِي وَالدَّلالاتِ الَّتِي تُعْطِي مَعْنىً لِلتَّجارِبِ الاِجْتِماعِيَّةِ فِي الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ.

يَرَى عُلَماءُ الاِجْتِماعِ أَنَّ نَظَرِيَّةَ التّفاعل الرَمْزِيِّ تُشَكِّلُ إِطاراً عامّاً لِلنَّظَرِيّاتِ الَّتِي تَبْحَثُ فِي المُجْتَمَعِ بِوَصْفِهِ نِتاجاً لِلتَّفاعُلاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ اليَوْمِيَّةِ، وَتَبْحَثُ فِي الكَيْفِيّاتِ الَّتِي تَتِمُّ فِيها التّفاعلاتُ الاِجْتِماعِيَّةُ بَيْنَ الأَفْرادِ الَّذِينَ يُضْفُونَ المَعانِيَ وَالدَّلالاتِ عَلَى الأَشْياءِ المُحِيطَةِ بِهِمْ فِي مَسارِ تَفْسِيرِ تَفاعُلاتِهِمْ مَعَ الآخَرِينَ. وَيَعْتَمِدُ هٰذا المَنْظُورُ عَلَى فِكْرَةٍ أَساسِيَّةٍ مَفادُها أَنَّ النّاسَ يَفْهَمُونَ عَوالِمَهُمْ الاِجْتِماعِيَّةَ مِنْ خِلالِ التَواصُلِ وَالتّفاعل الاِجْتِماعِيِّ، أَيْ، عبر تَبادُلِ المَعْنَى مِنْ خِلالِ الرُّمُوز وَاللُّغَةِ. وَيَرَى أَصْحابُ هٰذِهِ النَظَرِيَّةِ أَنَّ المَعْنَى الَّذِي نَنْسِبُهُ إِلَى العالَمِ مِنْ حَوْلِنا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفاعُلاتِنا مَعَ النّاسِ وَالأَفْكارِ وَالأَحْداثِ، وَأَنْ فَهْمَنا لِلعالَمِ وَكَيْفِيَّةَ تَفاعُلِنا مَعَ مُجْتَمَعاتِنا يَعْتَمِدُ عَلَى ما نَتَعَلَّمُهُ مِنْ تَفاعُلاتِنا مَعَ الآخَرِينَ بَدَلاً مِنْ الحَقِيقَةِ المَوْضُوعِيَّةِ. وَعَلَى هٰذا الأَساسِ يَعْتَقِدُ التّفاعليُّونَ الرَمْزِيُّونَ أَنَّ مُجْتَمَعاتِنا مَبْنِيَّةٌ اِجْتِماعِيّاً عَلَى المَعانِي الَّتِي نُضْفِيها عَلَى التّفاعلاتِ وَالأَحْداثِ الاِجْتِماعِيَّةِ.

يعبّر الخيال السوسيولوجي عن إطار تصويري وأداة تحليلية من أجل إدراك  البناء الاجتماعي باعتباره حقيقة تاريخية قائمة بذاتها يمكن تجزئها إلى مجموعة من الأنساق الفرعية وتدرس في علاقتها بالبناء الكلي، فالباحث السوسيولوجي هو جزء من المجتمع الذي يدرسه وحياته لا تنفصل عن موضوع  بحثه ومن هذا المنطلق فهو يحتاج إلى الخيال السوسيولوجي لكي يتفهم حياته من خلال الظروف الاجتماعية المحيطة به، بل وأكثر من ذلك فيجب على كل إنسان أن يتحلى ويتصف بهذه الأداة من أجل تخطي عقبة الوعي الزائف التي قد يقع فيها في مختلف مراحل حياته الاجتماعية (عالم الاجتماع الراديكالي الأمريكي ﺗﺸﺎﺭﻟرايت ميلز 1916/1962).

- تمهيد: يعتبر رايت ميلز الأب الروحي للاتجاه الراديكالي في علم الاجتماع المعاصر، فقد استوعب التراث الفلسفي الأوروبي- الأمريكي خصوصاً الفلسفة البراجماتية (النفعية)، التي كانت تعتبر أحد أهم التيارات الفلسفية الهامة في الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت([1]). نُظر إلى ميلز باعتباره واحداً من أهم مؤسسي النزعة الراديكالية في علم الاجتماع الحديث، ليس بسبب أفكاره الناقدة للتراث السوسيولوجي المحافظ والتقليدي فقط، بل بسبب تبنيه لوجهة نظر راديكالية ملتزمة([2]).

ظهر ميلز في إطار شامل من الحركات اليسارية الجديدة التي ظهرت في بلدان عديدة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انتشرت موجة عارمة من النقد الاجتماعي، تمثلت بحركات الشباب والطلبة 1968، التي عمّت أرجاء العالم الغربي بأكمله([3]). لذا يمكن اعتباره رمزاً لمعارضة راديكالية لكل الممارسات السوسيولوجية التي ظهرت خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين المنصرم، وبهذا أصبح ميلز جزءاً من تاريخ الفكر الاجتماعي الغربي، لأنه شكل نقطة انقطاع هامة في مسار الفكر الاجتماعي الذي ظل أسيراً لنزعة محافظة اعتذارية تسعى للدفاع عن الأوضاع القائمة ومعارضة أية تغيرات بنائية شاملة([4]).

1
الأنظمةُ الاجتماعية المُرتبطة بتاريخ الأفكارِ قائمةٌ على دَلالاتِ اللغةِ تَوَاصُلِيًّا وثقافيًّا ورمزيًّا ، وهذا يَعْني أنَّ اللغةَ تُمثِّل شَرعيةَ الجَوهرِ الوُجودي للمُجتمع ، وتُجسِّد مَشروعيةَ الفِعْلِ الاجتماعي الذي يَرتكِز على المعايير الأخلاقية في تفاصيل الحياة اليومية، مِمَّا يُسَاهِم في تَكوينِ مَنهج تحليلي للرابطة المصيرية بين الوَعْي بالماضي وإدراكِ الحاضر ، ومُساعدةِ الفرد على أن يَكُون نَفْسَه بعيدًا عَن مَتاهةِ الأقنعةِ وشَظَايا الأزمنةِ . وإذا كانَ طريقُ الفردِ نَحْوَ تحقيق نَفْسِه يَمُرُّ عَبْرَ استعادةِ أحلامه المَقمومة ، فَإنَّ طريقَ المُجتمع نَحْوَ الاندماج الثقافي يَمَرُّ عَبْرَ تفجير طاقة اللغة . وهذان الطريقان يَحْمِيَان الفِكْرَ الإنساني مِن التناقضات الحياتية الناتجة عن أنماط الاستهلاك المادي ، ويُؤَدِّيَان إلى تَشييد مَصادر المعرفة على قواعد البناء الاجتماعي ، بِحَيث تُصبح المعرفةُ سُلطةً حاكمةً على البُنى الوظيفية في مراحل التاريخ ، التي يَتِمُّ تحليلُها وَفْقَ الرَّمزيةِ اللغوية ، والدِّينَامِيَّةِ النَّقْدِيَّةِ ، والعَقلانيةِ المُنفتِحة ، وهذا يَدفَع باتِّجَاه إعادة صِياغة العلاقات الاجتماعية ، كَي تُصبح مُنْسَجِمَةً معَ فَلسفةِ تَحرير الفَرد مِن الخَوْف ، ومُتَوَائِمَةً معَ شخصية الفرد الإنسانية ، بِوَصْفِهَا شَبَكَةً مَعرفيةً لِتَوليدِ التاريخِ بشكل مُستمر ، وكُلُّ وِلادةٍ جَديدةٍ للتاريخِ على الصَّعِيدَيْن اللغوي والشُّعُوري ، تُمثِّل هُوِيَّةً جَديدةً للفِعْلِ الاجتماعي ، باعتباره بَصْمَةً وُجوديةً في إفرازاتِ الواقعِ المُعَاشِ ، ولَيْسَ أداةً للهَيمنةِ على كَينونةِ الوَعْي الحُرَّةِ ، وبيئةِ التفكيرِ الحَيَّةِ .

1
النظامُ الوُجودي في اللغةِ مُرتبطٌ بِمَركزيةِ الوَعْي الإنساني زمنيًّا ومكانيًّا ، وهذا النظامُ لَيْسَ كُتلةً فلسفيةً جامدةً ، وإنَّما هو حركةٌ اجتماعيةٌ يَتَزَاوَج فيها تاريخُ الأفكارِ معَ الأحداثِ اليَوْمِيَّة ، مِن أجْلِ تَتَبُّعِ آثارِ الزَّمَنِ عَلى جَسَدِ المَكَان ، وعَناصرِ البيئة ، وطَبيعةِ الإنسان ، وسُلطةِ المُجتمع ، باعتبار أنَّ الزَّمَنَ لا يُمكِن مَعرفةُ مَاهِيَّتِه عَبْرَ الإمساكِ به ، وتَقييدِه ، وإنَّما تُعرَف مَاهِيَّتُه عن طريقِ تَتَبُّعِ آثارِه . وكما أنَّ آثارَ الزَّمَنِ تدلُّ عليه ، كذلك تأويل اللغةِ يدلُّ عليها . والبِنَاءُ الزَّمَني هو أرشيفٌ يَحْوِي أحلامَ الإنسانِ المَكبوتة في دَاخِلِه ، ويَشْمَل خصائصَ المُجتمع المُسْتَقِرَّة في أعماقه . والبُنيةُ اللغوية هي هُوِيَّةٌ تَحْوِي مَصَادِرَ المَعرفةِ المُتمركزة في السُّلوك، وتَشْمَل العلاقاتِ الاجتماعية المُتَجَذِّرَة في الثقافة.والمَنظومةُ المُجتمعية المُتَكَوِّنَة مِن البِنَاءِ الزَّمَني والبُنيةِ اللغوية تُسَاهِم في بَلْوَرَةِ الرُّؤى الفِكريةِ التي تَتَحَكَّم بالتفاعلاتِ الرمزيةِ في اللغةِ والبيئةِ ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة اكتشافِ الإنسانِ لشخصيته كَوَحْدَةٍ تاريخيةٍ عابرةٍ للمَاضِي والحَاضِرِ ، وإعادةِ تأويلِ المُجتمعِ لِسُلطته كَصِيغَةٍ حَيَاتِيَّة مُتَدَفِّقَة في الوَعْيِ والشُّعُورِ والإدراكِ . وإذا كانَ الزَّمَنُ يُمثِّل هَيْكَلًا تَنظيميًّا لعناصرِ النظامِ الوُجودي في اللغةِ ، فإنَّ اللغةَ تُمثِّل تجربةً ثقافيةً تَبْنِي القَواعدَ الماديَّة الحاملةَ للقِيَمِ الأخلاقيةِ المُطْلَقَةِ، التي لا يَتِمُّ التلاعبُ بها لتحقيق مصالح شخصية ، ولا يَتِمُّ إخضاعُها لِنِسْبِيَّةِ العَلاقاتِ الاجتماعية التي يُطَوِّرُها الأفرادُ لتثبيتِ وُجودهم في الزَّمَنِ ، وتكريسِ شرعيتهم في المَكَانِ .