(مكاشفة نقدية، واسْتِغْراب،،،)
” تعتبر الممارسات اللا إنسانية والقمعية على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية ضد الجماعات العرقية والدينية في معسكرات الموت (أوشفيتز)، إحدى العاملات الفارقة في تشكيل معالم الفكر النقدي لرواد النظرية النقدية.... لكن بالمقابل ألا يدعو هذا الحدث - الذي يُعاد تكراره من حيث المبدأ - مفكري النظرية النقدية المعاصرين (هابرماس، هونيث...) إلى إدانة ممارسات الكيان الصهيوني الغاصب في الإبادة الجماعية والقتل الوحشي والاعتقال التعسفي وانتهاك حقوق الإنسان ضد الشعب الفلسطيني صاحب الأرض..... سؤال برسم الإجابة وإعادة الطرح والتمحيص؛ لأن الإنسانية لا تتجزأ حسب مقولات النظرية النقدية لرواد مدرسة فرانكفورت “. (الكاتب)

كانت النظرية النقدية الاسم الذي اختاره مؤسسو مدرسة فرانكفورت في الفترة بين الحربين العالميتين لترمز إلى محاولتهم إنجاز وحدة النظرية والممارسة، وفيها وحدة النظرية مع البحث التجريبي، وكلاهما مع وعي متأصل تاريخياً بمشكلات العصر الاجتماعية والسياسية والثقافية. انطوت المحاولة على وعدٍ مغرٍ، وتبقى مهمة، لكنها واجهت أيضاً مشكلات اتضح أنه لا يمكن تذليلها، على الأقل من قبل أولئك الذين أثاروها بادئ الأمر (كريغ كالهون: النظرية الاجتماعية النقدية، ص60).

عند النظرية النقدية أن التأمل عنصر حيوي من عناصر العقل، فهو مرتبط بكلمة المرآة التي تعكس شيئاً آخر. ونحن حين نفهم شيئاً ما نعكس صورته. وهو انعكاس ليس له أي كينونة خاصة به بل هو ما يظهر لنا في تلك اللحظة. والشخص المتأمل هو من لا يقبل على نحو عقائدي جامد هذا المظهر أو ذاك على أنه كلّ ما هنالك، بل يدرك أن المظاهر تعكس صورة علاقة تاريخية محددة بين الذات والموضوع. ولقد تعلمت أن المنظرين النقدين حين يكتبون بأسلوبهم الديالكتيكي المتردد جيئة وذهاباً، والمتحول خلفاً وقدّاماً بين الذات والموضوع، إنما يكتفون بترداد ما رأوا أنه العصر التأملي المميز بين عناصر العقل ذاته “ (آلن هاو: النظرية النقدية – مدرسة فرانكفورت، ص20).

لا تستغني الحياة الواعية عن النقد، ولا يشك أحد في ضرورة النقد المتجدد للواقع السائد في نظم المعرفة والقيم والاجتماع، وأنماط الفكر والفعل والسلوك، إذ إن إحياء الحس النقدي معناه إحياء الحس بالحرية والاستنارة، وضرورة التغيير والتقدم والحوار المستمر. وعلى الرغم من تعدد مفاهيم النقد وتنوع أساليب تطبيقه وميادينه، فهو في تصوره البسيط المباشر يتضمن مناهج المراجعة والتقييم للأفكار والوقائع والأفعال التي تنطلق من معايير معينة، كما يستهدف الكشف عن تعارض تلك الأفكار والوقائع والأفعال مع هذه المعايير التي أصابها العجز والفساد، بُغية العمل على " رفعها " وتجاوزها. .... وطبيعي أن يبقى النقد الذي يكتفي بنفي الواقع القائم ونقضه وتعرية عيوبه وأخطائه في أدنى مستويات النقد، لأن النقد الصحيح هو الذي يضع " الضد " في مواجهة " القائم "، ويؤلف بينهما في " جديد " أعلى وأشمل وأكثر وعياً وخصوبة “ (عبد العفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ص9).

مقدمة:
محمد بوغالي أستاذ باحث مغربي في مجال العلوم الإنسانية. صدر له بالفرنسية سنة 1974 كتاب بعنوان "تمثل المجال عند المغربي الأمي". كان هذا العمل نتاج بحث تم إجراؤه في مراكش والجنوب الكبير بين 1969 و1971. ونظرا لكونه ظل بعيدا عن أفق معرفة قراء لغة الضاد، ارتأيت ترجمة مقدمته إليها خدمة لهم، والله هو المستعان.
"غالبا ما تم استعمال الإثنولوجيا المغربية وعلم النفس الاجتماعي من قبل كتاب مغرضين لتبرير أطروحات مشكوك فيها، ولا يمكن الدفاع عنها بشكل صريح، بحيث أن الاهتمام بها يصبح من قبيل المغامرة بالنسبة إلى المغربي. فعلا، لكونهما أوليا اهتماما خاصا بخلاصة الاستعمار فقد اكتسبا، في نظر الكثيرين، وضعا غامضا جدا، يخفي أحكاما مسبقة من كل نوع، ووضعا في نفس الوقت نصب عينهما أهدافا مشكوكا فيها. لهذا السبب يجد الوريث المباشر للمجتمع والتقليد المغربيين نفسه في وضع مريح قليلا، او في جميع الأحوال كمن نسميه "مفشي الأسرار".
من جهتي، أتقبل بصدر رحب اي تسمية من هذا النوع لأني ظللت مقتنعا بأن الإثنوغرافيا وعلم النفس الاجتماعي، رغم ما عرفاه من تجاوزات، ما زال يمكن لهما أن يكونا بمثابة طريق ملكية نحو استعادة بقايانا الدينامية من أجل تقويمها على نخو أفضل. نحن مقتنعون بأنه لاجل حقن مبحث نقدي وقابل للتآكل بالضرورة، مثل الإثنوغرافيا، بنسغ جديد فلا مناص من الاطلاع على تاريخه، أخطائه، وحتى تجاوزاته من أجل تقويمها. إن الاهتمام بذلك، بالنسبة إلى المغربي، يعني بالضرورة قلب الرؤى التقليدية والمعترف بها ضمنيا. هذا هو أفضل موقف سوسيولوجي بالنسبة إليه. وإذا كانت الإثنوغرافيا، في نظر كلايد كلوكهون، "هي في الغالب السبيل الأكثر قصرا للولوج إلى الذات"، فيجب عليها أن تكون بالنسبة إلينا الوسيلة الأكثر مباشرة التي نسترجع ونطالب بواسطتها بالصورة الاصلية لشعبنا لتطهيرها من النظريات والتصورات الأجنبية المغرضة. فإذا كانت قد استعملت، في كل مكان تقريبا بشمال إفريقيا، كحصان حرب وذرع تتعاطى خلفه لاستمتاعات مرضية من أجل تذوق راحة فكرية مضللة، تبقى مشاريع جرمين تيون، جاك بيرك وبيير بورديوه، لذكر الأقرب إلينا فقط، تشجيعا وضمانة حقيقية بالنسبة إلينا.
هنا، نسمح لنفسنا بوقفة منهجية سريعة نحبذها كتحذير من أعمال كثيرة تم إنجازها حول شعوب قيل إنها " بدون كتابة"، لاستعادة صيغة كانت في أصل عدد لا يستهان به من التجاوزات والخسائر في الإثنولوجيا. يجعل الكتاب ملخصات الأحداث الواقعية أكثر ثرثرة ولا يترددون ابدا في سحبها إلى المعنى الذي يريدون منها حقا أن تأخذه. لا تكفيهم بساطة المعطيات المعاشة فقط عندما يثقلونها بوفرة، سواء من أحكامهم المسبقة الخاصة، او بدلالات غريبة واجنبية في الغالب. أحيانا، وهم يتحيزون لا شعوريا إلى محاولة نظرية تبسيطية، يختزلون، ربما عن حسن نية، خصوصية الوقائع الاجتماعية المعاشة في خطاطات موضوعة عن سبق إصرار أو مرسومة سلفا.

"الثقافة مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية وهي أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه"
الفيلسوف الألماني عمانويل كانط

1- مقدمة:

تشكل الثقافة العمق الوجداني في حياة الشعوب والأمم، وإذا كانت التنمية في جوهرها تعمل على تعزيز مستويات العيش المشترك بين الناس، والنهوض بحياة الأفراد في المجتمع، فإن الجهود التنموية لا يمكنها أبدا أن تنفصل عن التكوينات الثقافية للمجمتع. فالثقافة تؤدي دورا محوريا في العملية التنموية، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان من المفكرين أو الباحثين في الميدان التنموي المعاصر.

ومن البداهة بمكان أن الباحثين يدركون اليوم - أكثر من أي وقت مضى - القوة الهائلة للثقافة بوصفها حاضنا طبيعيا للرموز والقيم والشعور بالانتماء والهوية، وقد برهنوا في كثير من الدراسات والأبحاث على قدرة الثقافة على إضافة أبعاد جديدة مميزة وفعالة في مجال الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات المعاصرة. وهذا ما أكدته المؤتمرات العالمية في العقود الأخيرة ولا سيما مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة الذي عقد في جوهانسبرغ في عام 2002، وكذلك ما أسفرت عنه فعاليات مؤتمر ريو +20من تأكيد كبير على أهمية الثقافة التنموية في عملية النهوض الحضاري بالمجتمعات الإنسانية.

وإذا كان تحقيق الاستدامة يتمثل جوهريا في عملية الاستخدام الملائم لموارد الكوكب، فإن الثقافة يجب أن تكون فاعلة في صلب الاستراتيجيات الإنمائية، لأن الثقافة تشكل الحاضن الأساسي للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، كما تشكل الناظم الحيوي السلوكي لعلاقاتهم بالبيئة والموارد الطبيعية التي تحيط بهم. ومن المؤكد اليوم عبر التجارب العالمية أن المبادرات والنهج الإنمائية التي تأخذ الثقافات المحلية في الحسبان تحقق مزيدا من النجاح والتفوق في تحقيق الأهداف التنموية المرجوة. وهذا يعني في النهاية ضرورة إدماج الثقافة في السياسات والبرامج التنموية من أجل تحقيق الاستدامة التنموية والنهوض الحضاري بالمجتمع.

           يتحدد المرمى الذي يحرك هذه المقالة في التفكير، باقتضاب ، في المعالم الأساسية للمنجز السوسيولوجي لبول باسكون ( 1932 – 1985 ) من خلال النظر في منطلقاته النظرية والمنهجية؛ والتطرق للحيثيات التي انبنى عليها مفهومه عن " المجتمع المركب ".

  من الملاحظ أنه لا يتخلف اثنان البتة في القول إن باسكون يمثل علامة فارقة في ما يرتهن بالإنتاج السوسيولوجي المغربي؛ بحثا وتنظيرا ، أهلته للانتماء ، بحق ، إلى سلالة الأساتذة الكبار الذين ساهموا في تأطير أجيال من الشباب  كانوا قد انفتحوا على كتاباته بشغف كبير فأفادوا منها بالإصغاء إلى أدق تفاصيلها و تضاريسها، أو تلك حالفها الحظ فاشتغلت معه غداة الإعداد للأوراش الكبر ى التي تطلبتها لحظة الاستقلال ومشروع بناء الدولة الوطنية في مستهل عقد ستينات القرن المنصرم .

كانت الأرياف المغربية بؤرة اهتمام باسكون طيلة حياته العلمية ؛وضمن هذا السياق طفق يعتبر السوسيولوجيا القروية نبيلة الوظائف لأن مهمتها  لا تتحدد  في تفسير اختلاف العادات ،والأنماط السلوكية وأساليب العيش فحسب وإنما أيضا في محاولة فهم الأنساق الثقافية للآخرين وتبين مصادر الاختلاف ومدى مساهمتها في الثقافة الوطنية ... بهذا المعنى انشغل باسكون بالتاريخ الاجتماعي للقرى وبالمسألة الفلاَّحِية  ennpaysa ؛ وبكل ما يرتبط بها من  قضايا محورية مثل الأرض والهجرة والديمغرافيا والمعتقدات وهي كلها  مشاكل ترتهن  في العمق ،سلبا أوإيجابا، بعملية التنمية وسيرورة التغير محليا ووطنيا...

يقول إميل سيوران (Emil Cioran) [1]: لا أحيَا إلاّ لأنّ في وسعي الموت متى شئت، ولولا فكرة الانتحار نفسها لقتلتُ نفسي منذ البداية". 
تبيّن الإحصائيّات العالميّة الرسميّة اليوم أنّ 703000 شخصاً ينتحرون سنويّاً، هذا عداك عن مئات الألوف من المحاولات الانتحاريّة الفاشلة. ومن المؤكّد أنّ كلّ حالة انتحار تشكّل بذاتها مأساة إنسانيّة في المجتمع. وقد صنّف الانتحار بوصفه رابع أهمّ سبب للوفاة بين الأفراد الّذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً على الصعيد العالميّ، والواقع أنّ أكثر من 79% من حالات الانتحار العالميّة  تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل
.

1- مقدّمة:

احتلّت ظاهرة الانتحار مكاناً استراتيجيّاً في سوسيولوجيا دوركهايم، وشكّلت محوراً أساسيّاً من محاور اهتمامه. وقد عُرف دوركهايم بدراسته التاريخيّة الّتي أجراها عن الانتحار في أوروبا، وهي الدراسة الشهيرة الّتي كرّسها للبحث في ماهيّة الانتحار، وفي عوامل نشأته، ومظاهر حركته وانتشاره، ساعيا إلى استكشاف القانونيّات السوسيولوجيّة الّتي تحكمه. وقد نشر نتائج دراسته هذه في كتابه المشهور الانتحار (Le Suicide)([2]) عام 1897. ويشكّل بحث دوركهايم حول الانتحار عملاً سوسيولوجيا كلاسيكيّاً فذّاً، يتميّز ببراعته المنهجيّة، وعمقه المعرفيّ وقدرته الخلّاقة على توليد الإلهام السوسيولوجيّ للمفكرين والباحثين على مدى أجيال متعاقبة. وقد شكّلت دراسته هذه أحد أكثر الأعمال وضوحاً وأهمّيّة في علم الاجتماعيّ الكلاسيكيّ التأسيسيّ، وارتقى هذا العمل إلى صورة نموذج علميًّ سوسيولوجي فريد في بنيته وتكوينه استلهمه علماء الاجتماع وغيرهم من المفكّرين والباحثين في مجال العلوم الإنسانيّة على امتداد القرن الماضي وما يزالون ([3]). ويعترف معظم النقّاد في مجال علم الاجتماع بأنّ مبحث دوركهايم عن "الانتحار" يتّسم بأهمّيّة تاريخيّة فائقة في مجال علم الاجتماع وذلك لاعتبارات ثلاثة أساسيّة:

يتمثّل الأوّل في أنّ دوركهايم اعتمد في بحثه عن الانتحار- ولأوّل مرّة في تاريخ علم الاجتماع- المنهجيّة العلميّة الّتي أسّسها ورسّخها في كتابه قواعد المنهج (Les regles de la methode en sociologie)، إذ قام بتطبيق المنهج السوسيولوجيّ (قواعد المنهج) بصورة واضحة ورصينة في هذا العمل، وقد أعطى هذا الأمر أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة لهذا العمل، إذ إليه يشار اليوم بوصفه البحث السوسيولوجيّ الأوّل الّذي أخذ صورة طابع بحث ميدانيّ أكاديميّ منهجيّ إمبيريقيّ، وقد اعتمد دوركهايم في هذه الدراسة على معطيات اجتماعيّة إحصائيّة، وانتهج التحليل الإحصائيّ، واعتمد الملاحظات العلميّة الرصينة ليجسّد بذلك المنهج السوسيولوجيّ الرصين الذي نادى به في هذه الدراسة على أكمل وجه ممكن.

احتلت فكرة المجتمع الجديد مكاناً مركزياً في المنظومة الفكرية والفلسفية لمعظم فلاسفة ورواد الفكر الاجتماعي على التاريخ الإنساني، الذين سعوا إلى تقديم تصورات جديدة لمجتمع مثالي تكون بديلة عن تصورات المجتمع القائم، مجتمع تنتفي فيه كافة أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتختفي منه شرور الواقع، ويتحرر الإنسان فيه من مختلف أشكال القلق، من الشكل الميتافيزيقي إلى الشكل الاجتماعي، ويتم فيه أيضاً وضع حد نهائي للبواعث والقوى اللاعقلانية التي تسيطر عليه والتي يعجز عن ضبطها أو حتى إدراكها، وبذلك تتحقق أحلام الإنسانية بالسعادة والكفاية والعدل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا... .

” هل اليوتوبيا هروب من الواقع أم إعادة صياغة لواقع مؤلم؟ منذ أن سطر" أفلاطون " أول يوتوبيا في التاريخ الإنساني في كتابه " الجمهورية "، مروراً بـ " الفارابي " الذي بشر في مدينته الفاضلة - وإن كان مصطلح يوتوبيا لم يظهر إلا مع " توماس مور " - وحتى العصرِ الحديث، يطرح الفلاسفة اليوتوبيا بشروط ومقومات مختلفة، غير أن العنصر المشترك فيها جميعاً أنها كلها وليدة عصرها، فهي انعكاس للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد تجلت اليوتوبيا في الشرق كما في الغرب، لكن تحت اسم " المدينة الفاضلة ". ولطالما تساءل الإنسان: هل اليوتوبيا فكر يمكن تحقيقه، أم أنه واقع افتراضي يحاول فيه الفلاسفة الإطلال علينا من فوق برج عاجي لا يمت إلى الواقع بصلة؟ “. (ماريا لويزا برنيري، المدينة الفاضلة عبر التاريخ، (1950.

- تمهيد:

جاء الإسلام كشريعة ودين وسطي له فكر اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي مميز، وهذه السمة المميزة للأديان السماوية التي تهدف إلى تغيير نمط الفكر البشري لما فيه الخير والصلاح. فلقد ركز الإسلام كدين سماوي على ضرورة تغيير العادات والتقاليد والنظم الجاهلية البالية، ويطرح للعقل البشري البدائل الممهدة لطريق تخلص هذا العقل من الشرور والآثام، وهذا بالفعل ما ظهر بوضوح في طبيعة الدين الإسلامي وتركيزه على وضع أسس جديدة للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تقوم على المساواة والتكافل والعدالة، تحديد الحقوق والواجبات، ووضع نظم محددة لأساليب العقاب والجزاء.

 كما ناقش قضايا هامة تشغل اهتمامات العقل البشري حتى يأتي يوم القيامة مثل، الفقر، والمساواة والعدالة، والتكافل الاجتماعي، والملكية العامة والخاصة، والعمل والإنتاج، وتوزيع الثروة، والحرية وغيرها من القضايا الهامة. وعلى العموم يمكن إرجاع الفكر الاجتماعي الإسلامي إلى الجذور التالية:

1. الموروث الاجتماعي، وما كان عليه المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام من بنية اجتماعية.

2. التعاليم التي جاء بها الدين الإسلامي، لا سيما ما يخص منها الجانب الاجتماعي من حياة أفراد المجتمع.

3. ما ترجم إلى اللغة العربية من تراث أجنبي (يوناني) خاصة خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (الثاني والثالث الهجريين).

1
     وظيفةُ الفِعْلِ الاجتماعي لا تُحدِّد تقاطعَ الماضي والحاضرِ في تاريخ الأفكار فَحَسْب ، بَلْ أيضًا تُحدِّد طبيعةَ تفكيرِ الفرد في المُجتمع ، وهذا يدلُّ على أنَّ المَسَارَ الحَيَاتي _ فَرْدِيًّا وجَمَاعِيًّا _ هو خَلِيطٌ وُجودي مِن الفِعْلِ والزَّمَنِ والتفكيرِ . والعلاقةُ بين هذه العناصر تَبَادُلِيَّة لا تَرَاتُبِيَّة ، أي إنَّها دائمة التَّبَدُّل والتَّغَيُّر ، ويُعَاد تَشكيلُها وصِيَاغَتُهَا باستمرار ، وَلَيْسَتْ مَنظومةً جامدةً يَجِد كُلُّ عُنْصَرٍ نَفْسَه مُرتبطًا بالذي يَلِيه . وكما أنَّ الماء يَأخُذ شكلَ الإناءِ الذي يُوضَع فيه ، كذلك هذه العناصر تَأخُذ شكلَ البناءِ الاجتماعي الذي تُوضَع فيه ، وهذا يُسَاهِم في تحليلِ أبعاد شخصية الفرد عَلى الصَّعِيدَيْن الأخلاقي والقِيَمِي ، وتفسيرِ معالم هُوِيَّة المُجتمع عَلى المُسْتَوَيَيْن الإنساني واللغوي ، وإدراكِ الأهمية الفِكرية للفردِ والمُجتمعِ . وإذا كانت شخصيةُ الفردِ هي رِحلةَ البحثِ عن المَعنى لإيجاد أجوبة منطقية عن أسئلة الوُجود ، فَإنَّ هُوِيَّةَ المُجتمع هي مَركزيةُ المعرفة في طبيعة التاريخ التي تُفْرِز تأويلاتٍ جَديدة للواقع المُعَاش ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ بناء الوَعْي خارج حُدود البيئة الضَّيقة ، وإعادةِ تفسير الزَّمَن خارج إطار المصالح الشخصية العابرة . وإذا نَجَحَ الفِعْلُ الاجتماعي في تَحديدِ حَجْم الثَّغَرَات الوُجودية في الوَعْي ، وكَشْفِ مَسارات القطيعة المعرفية في الزَّمَن ، فَإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيُصبح فَاعِلِيَّةً حَيَاتِيَّةً تَمْنَع النظامَ الاستهلاكي القاسي مِن اقتلاعِ شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع مِن التاريخ . وكُلُّ فِعْلٍ لا يُصبح إرادةً للحياة سَيَتَحَوَّل إلى وَهْم ، وكُلُّ شَخصيةٍ لا تُصبح تَشخيصًا للمَعنى سَتَتَحَوَّل إلى قِنَاع ، وكُلُّ هُوِيَّةٍ لا تُصبح أُفُقًا نَقْدِيًّا سَتَتَحَوَّل إلى فَرَاغ.

 1
التَّنَوُّعُ الثقافي في العلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر انعكاسًا طبيعيًّا للنَّزعة الإنسانية ، وتَجسيدًا للمنهج النَّقْدِي في بُنيةِ الواقعِ المُعَاشِ وبِنَاءِ السُّلوك المَعرفي ، وتَحريرًا لتاريخ الأفكار مِن الوَعْيِ الزائف ومَنطِقِ القُوَّة . والتَّنَوُّعُ الثقافي لَيْسَ روابطَ حياتية مُتعارضة ، أوْ أنظمةً مادية مُتضاربة ، أوْ مصالحَ شخصية مُتناقضة ، وإنَّما هو كِيَان وُجودي مُنفتح على سِيَاقَاتِ حُرِّية التَّفكير، ومُتفاعِل معَ القِيَم الأخلاقية التي تُخَلِّص الإنسانَ مِن قُيُودِ المصالح الشخصية الضَّيقة.وكُلُّ تَنَوُّعٍ في مَرجعية الثقافة هو بالضَّرورة تَحريرٌ لمركزية الإنسان في الواقعِ المُعَاش والوُجودِ الحياتي.واندماجُ مَرجعية الثقافة معَ مركزية الإنسان يُوَلِّد أنساقَ الفِعْل الاجتماعي،ويُوظِّفها في الأحداث اليومية، ويَربطها معَ إفرازات العقل الجَمْعِي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى التَّوفيقِ بَين هُوِيَّةِ الإنسان وسُلطةِ الثقافة ، وانسجامِ الفِعْل الواقعي معَ التَّصَوُّرِ الذهني ، وَمَنْعِ الصِّدَام بين إرادةِ المَعرفة والوَعْيِ الفَعَّال . وإذا كانت هُوِيَّةُ الإنسانِ مُتَجَذِّرَةً في الفِكْر التاريخي حِسًّا وإدراكًا، فإنَّ سُلطةَ الثقافة مُتَرَسِّخَةٌ في كَينونة اللغة نَصًّا وَرُوحًا، وهذا النَّسيجُ العَقْلاني المُتشابِك مِن شأنه تحقيقُ التوازن بين المُجتمع كَجَسَدٍ وُجودي ، والمَعرفةِ كوظيفة حياتية . ولا يُمكِن للواقع المُعَاش أن يَنتقل مِن الوَهْمِ الاستهلاكي إلى الحُلْمِ الإبداعي ، إلا إذا انتقلَ المُجتمعُ مِن الجَسَدِ الوُجودي إلى تَجسيدِ العلاقات الاجتماعية في الوَعْي الفَعَّال وقُوَّةِ المَنطِق ، وانتقلت المعرفةُ مِن الوظيفة الحياتية إلى تَوظيف النَّزعة الإنسانية في مَرجعية الثقافة وحُرِّيةِ التَّفكير . وكُلُّ جَسَدٍ وُجودي لا يَتَحَوَّل إلى تَجسيدٍ للحقيقة سَيَنهار ، وكُلُّ وَظيفة حياتية لا تَتَحَوَّل إلى تَوظيفٍ للمَعنى سَتَسقط .