anfasse01058جل المفكرين الأحرار، وجل عشاق ثقافة السؤال لا ثقافة الجواب الجاهز؛ وجل العقول التي تمردت على السجن المعرفي، وسجن الآبائية، وحاولت أن تلقي بحجر في بركة مياه الفكر الراكدة، وأن تسهم في تغيير المجتمع بالفكر والقلم...وجدت نفسها أمام جدار سميك من الجهل، بل "الجهل المقدس" والممأسس أحيانا.
حدث ذلك في المجتمع اليوناني حين اتهم سقراط، وحكم عليه بالإعدام. وحدث أيضا في أروبا العصور الوسطى حين كانت الكنيسة تمسك بزمام السلطة، فبسطت هيمنتها على جل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية. فراح علماء وفلاسفة ومصلحون دينيون أروبيون ضحية هذا الاستبداد السياسي المتسربل برداء ديني كنسي.
 وإن كانت أروبا قد استطاعت أن تنعتق من تلك الأغلال وتشق الطريق نحو الحرية والتنوير، فإن المجتمعات الإسلامية بخلاف ذلك لازالت ترزح تحت وطأة الوصاية الفكرية ومازالت تعاني من الحجر على العقول من طرف الانظمة السياسية المستبدة؛ ولكن أيضا، وهذا الاخطر(لأنه يضفي على نفسه قداسة دينية) من طرف من نصبوا أنفسهم حراسا للمعبد وكهنة  لا يبشرون وينذرون فقط، بل يسيطرون أيضا، وكأنهم وكلاء حصريون منتدبون للدفاع عن الفهم الصحيح والأوحد للدين.
فما هي الآليات التي ينتهجها "التحالف المقدس" بين الاستبداد السياسي والاستبداد باسم الدين في سبيل إحكام السيطرة على العقل والمخيال الاسلامي؟

anfasse11035قليلة هي النصوص أو المناسبات التي تحول الباحث الأكاديمي إلى مبدع؛ ومقال الأستاذ محمد المصباحي تحت عنوان "فشل لقاء الشعر والفلسفة بالتصوف"، يدخل في هذا الإطار، فهو يبرز معالجة فلسفية عملت على تحويل المكتوب إلى تناص، يتداخل فيه القديم والحديث والمعاصر؛ مع محاولة لرصد أوجه الوحدة والاختلاف بينهما أو الاتصال والانفصال: بحيث إن مرجعية المعالجة رسمت عمقا فلسفيا، استحضر فيه الكاتب إشكالية كبرى وهي علاقة "الفلسفة بالتصوف": ابن رشد/ابن عربي، متجها نحو بناء أسئلة أعمق تضع للتصوف مكانة في علاقته بالشعر والفلسفة دون التضحية بأحدهما، مع رسم الحدود الممكنة معرفيا، لأن اللقاء في نظره بين هذه المجالات المعرفية باء بالفشل.
فلقاء الشعر بالتصوف في زاوية معينة في نظره بقي محدودا بحدود المظاهر الحاجبة للباطن؛ من هذا المنظور يثار السؤال التالي: هل بإمكان القول الشعري النفاذ إلى الأعماق غير المستوية على قرار؟ وألا يمكن اعتبار هذا القول ممارسة أكثر تحررا من الأقاويل الأخرى في الإنتاج والإبداع؟
أما إشكالية لقاء الفلسفة بالتصوف، فتتضاعف أهميتها مع د.محمد المصباحي في اللقاء التاريخي بين الرجلين: ابن رشد-ابن عربي: ونظرا لأهمية هذا الحدث التاريخي، وانطلاقا مما أثاره الباحث في مقالات "فكر ونقد"(1)، من قضايا تستحق التفكير والمعالجة وتساعد على تصحيح نظرتنا لأسلافنا وتراثنا، وتساهم في تحديث رؤيتنا لهذا التاريخ؛ مع نبش هذه الذاكرة التي لا يمكن الاعتماد فيها إلا على مفاصل محدودة، والتي لا تتعدى الفقرتين، وهذا هو المتوفر اليوم في "متن" الشيخ الأكبر: فالقارئ مهما بحث في متن شيخنا لن يجد إلا تلك الإشارات المحدودة حول اللقاء في الفتوحات المكية"(2). وهذا ما يدعو إلى التساؤل التالي: لماذا شكل اللقاء موضوع اهتمام من طرف ابن عربي دون ابن رشد؛ هل هذا راجع إلى غضب "شيخ الفلسفة" على "الشيخ الحاتمي"، بعمل هذا الأخير على إفشال العلاقة بين التصوف والفلسفة، أم أن فيلسوف قرطبة ومراكش، كان يعي جيدا مآل الفلسفة بعد موته؟

anfasse02034إنه لمن اغرب المفارقات، وأبغضها لكل مثقف عاقل، تلك الإزدواجية في المعايير لدى المفتخرين بماضينا وتراثنا في العالم العربي الإسلامي. فكيف – ليت شعري ـ يقوم المتدينون من المسلمين بالتبرؤ من عظمائهم ثم يقومون بالإفتخار بأن لهم تاريخا وباعا في العلوم والفلسفة والأدب. من أهم الذين تبرأ منهم كثير المسلمين – قديما وحديثا – نذكر: أبو بكر الرازي ، ابن سينا ، ابن المقفع، الفارابي، جابر بن حيان، ونتطرق اليوم لذلك الرجل الذي يدعى بفيلسوف الشعراء أو شاعر الفلاسفة أو بكليهما، ألا وهو أبو العلاء المعرّي. الذي اتهم منذ القِدم بالإلحاد. والهدف من هذا المقال ليس تحديد إن كان الرّجل مسلما أو كافرا فهذا لا يعنينا بل الإشارة إلى أهم أقواله وأشعاره التي اتهم بسببها بالزندقة أو الإلحاد مع التعريف بهذه الشخصيّة الفذّة التي يعرفها كل من يعرف نصيبا من الأدب العربي وإن قلّ هذا النصيب. قد أثارت هذه الشخصية المشهورة جدلا فدافع عنها من دافع نافيا عنها الإلحاد وهاجمها من هاجم متهما إياها بالإلحاد وافتخر بها مسلمون باعتبارها مسلمة، وتبرأ منها مسلمون باعتبارها ملحدة، كما أعجب بها ملاحدة ومؤمنون وكل ذي عقل رشيد وذوق أدبي رفيع.
الإلحاد لا يعني بالضرورة نفي وجود إله وخالق للكون، فقد اتهم الكثير ممن يؤمنون بالله ويقدسونه بالإلحاد. لذلك يجب أن نرجع مثلا لقاموس لسان العرب ففيه نجد التعريف اللغوي للإلحاد:
معنى الإِلحاد في اللغة المَيْلُ عن القصْد، ولحَدَ إِليه بلسانه: مال. وقال الأَزهري في قول القرآن: لسان الذين يلحدون إِليه أَعجمي وهذا لسان عربي مبين؛ قال الفراء: قرئ يَلْحَدون فمن قرأَ يَلْحَدون أَراد يَمِيلُون إِليه، ويُلْحِدون يَعْتَرِضون. وأَصل الإِلحادِ: المَيْلُ والعُدول عن الشيء.[1[

anfasse11015من الممكن تقسيم المصلحة  تقسيمات متعددة  من حيث اعتبار الشرع لها ، ومن حيث درجة قوتها ،  ومن حيث ثباتها أو تحولها...

1 - اعتبار الشرع
فمن  حيث اعتبار الشرع ، فهي إما مصالح معتبرة أو ملغاة ، فالمعتبرة هي ما صرحت باعتماده النصوص الشرعية  كأصول الحلال والحرام المفضية إلى مصالح العدل والإحسان ، وصحة العقول والأبدان ، وسلامة الأسر ، واليسر والسماحة  ، والقوة والأمانة ،  والعدل والبذل ...والملغاة هي ما قد يظهر من مصالح مادية أو معنوية جزئية ملتبسة بمضار أكبر منها  وأعم ، مثل المصالح المترتبة عن الاتجار في الخمر أو التعامل بالميسر ، فالنص يسقط اعتبارها : (ويسألونك عن الخمر والميسر ، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما  )  أو مصالح التعامل بالربا فهي مقرونة بالتشنيع الشديد ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) أو مصالح تقتضيها مجاوزة حدود رد العدوان المفروض بغرض الانتقام و " التأديب وإشفاء الغليل " ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ) ، فتلك مصالح ثابتة حظرها الشرع واستنكرها الطبع ، لا لذاتها بل بما لابسها من مضار أفسدتها وأخرجتها عن طبيعتها  .

anfasse11014المصلحة هي كل قول أو فعل جلب منفعة أو جنب مضرة ،  وهي نقيض الفساد ، وقد يعبر عنها بالنفع المقابل للضر ، وبالخير المقابل للشر ، وبالبر المقابل للإثم ، وبالرحمة المقابلة للغلظة ، وبالطيبات المقابلة للخبائث [1].،...كل تلك ألفاظ  كلية قد ينوب بعضها عن بعض في الدلالة عن المقصد العام لورود الشرع  ، وقد اعتبر الكثير من الأصوليين والفقهاء " المصلحة " مدار التشريع والغاية من وراء تقرير الأحكام [2] ، إلى الحد الذي جعلهم يبتكرون أصل "المصالح المرسلة " ويجعلونه حاكما لجميع ما لم يرد فيه نص  ، فكانوا إذا استجدت بين أيديهم الحوادث ولم يجدوا لها جوابا من أصولهم المعتمدة انطلقوا ينظرون في المصلحة المجردة معتبرين هذا النظر تطبيقا لروح الشريعة ومقاصدها العليا .

اجتهادات الصحابة:
طلب المصلحة هو الذي  بنيت عليه أولى اجتهادات الصحابة في القضاء وفي التدبير الاجتماعي والسياسي.....بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا وجدوها في حكم سبق العمل به  في عهده عليه السلام ، كان ذلك هو الأصل وهو المطلوب ، فإن أعياهم ذلك بحثوا عن أقرب التصرفات تحقيقا لها في وقت لم يوجد فيه بعد  إجماع ولا قياس ، ومن نماذج ما يذكر العلماء في ذلك :

anfasse20106منذ أن دشن الراحل محمد أركون مشروع نقد العقل الإسلامي في سبعينات القرن العشرين وهو يؤكد ويردد بأن الأمر يتعلق بمشروع كبير يحتاج إلى فتح عدة أوراش من أجل مباشرة عمليات الحفر والتنقيب في تلك الطبقات المتراكمة عبر عصور طويلة من تاريخ العرب والمسلمين. ورغم إدراكه لصعوبة المشروع فقد كان مقتنعا بأنه سيأتي الوقت الذي سينهض المثقفون العرب والمسلمون للقيام بهذه المهمة، فذلك هو السبيل الوحيد للخروج من مرحلة الانسداد التاريخي التي تعيشها الشعوب العربية الإسلامية في العصور الحالية.
وبالفعل ظهر جيل من الباحثين والمفكرين أخذوا على عاتقهم حمل المشعل والمضي في الطريق من أجل تحقيق الهدف. الأمر يتعلق بمجموعة من الباحثين تخرجوا من جامعة الزيتونة وعزموا على التخصص في الفلسفة و التاريخ وسوسيولوجيا الأديان من بينهم الأساتذة: عدنان المقراني وحسن سعيد جالو وعامر الحافي ومحسن العوني وعز الدين عناية، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين ومحرومين –كما توقع ذلك أركون- من الدعم الكافي لممارسة عملهم بل أكثر من ذلك حرموا من الحصول على وظيفة تمكنهم من الإستمرار في العيش فكان أن غادروا البلد ولجأوا إلى بلدان مختلفة .
وهذا الحوار سنخصصه لباحث من هؤلاء  هاجر إلى الديار الإيطالية وحصل على الجنسية الإيطالية وأصبح مدرسا في جامعة روما لاسابيينسا. ألا وهو الدكتور عز الدين عناية.

anfasse20105هل يمكن لثورات سياسية، في مجتمعاتنا الإسلامية، أن تنجح في اجتثات الإستبداد، وجني ثمار الحرية ما لم تتهيأ لها الأرضية الفكرية والثقافية؟ أليس المطلوب، بداية، الإسهام في تحرر العقل والمخيال الإسلامي من أغلال التراث، وقيود الآبائية؟ وكيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟ ألا تبدأ كل ثورة بثورة ثقافية وفكرية هي من قبيل إعادة إنتاج الإستبداد في صورة مغايرة ربما (ولنستحضر هنا الثورة الإيرانية التي أسقطت استبداد الشاه، وصنعت استبداد "ولاية الفقيه")؟
ليس القصد في هذه المساهمة، المتواضعة، تقديم إجابات نهائية لهذه الأسئلة العويصة، بقدر ما أن الهدف هو إثارة الإنتباه إليها. وإذ نتحدث عن التراث فإننا لا نقف منه موقف الرفض المسبق، ولا التمجيد الأعمى. بقدر ما نروم التأكيد على ضرورة بناء منظور نقدي اتجاه تراثنا الإسلامي.
فالملاحظ أنه بدل أن نستلهم التراث في بناء الحاضر والمستقبل، تجدنا "معتقلين" داخله. وبدل أن نؤرخ للماضي لننفلت منه تجدنا نسكن فيه (في ممارساتنا وخطاباتنا)، وصرنا نحن الأحياء أمواتا نجتر ما أنتجوه دون نقد. بل إن ننا نعتبر كل سعي للإبداع "بدعة"، و"البدعة ضلالة" و"الضلالة في النار". وباسم هذه اللازمة قتلنا أنفسنا ليعيشوا هم. واعتقلنا العقل في سجن الموروث. لقد صرنا عبدة لما وجدنا عليه آباءنا وأسلافنا. هكذا تمكن منا مرض الآبائية.

anfasse30090  يوصف التراث بأنه من المرجعيات الأساس في بناء التصورات و الآراء الخاصة بالثقافة و المجال الحضاري الإسلامي ، و آلية لمعرفة البنية الذهنية و معرفة خصوصياتها " الابستمية " ، عبرها نستطيع أن نعرف مستويات القول و أطره ،  فلسفته و قوانينه ، و المرتكزات الناظمة لنسقه و القادرة على تشكيل أنواع الوعي به .
تتوقف هذه المعرفة على تحديد إطاره المرجعي و أفقه ، و هذه الفلسفة مرهونة بتحقيق التراث الذي لا يمتد إلى التراث ليلغيه ، و لكن ليستمر في روحه ما دام أن تحقيقه لا يتم إلا بعد إلغائه ؛ أي تمثله في جوانبه و امتداداته تحليلا و نقدا ، و يتأتى ذلك بعد قتل التراث فهما و استيعابا .
غير أن التراث لا يقدم نفسه وفق صورة موضوعية " خالصة " ، إذ أن البحث فيه يصطدم بما سماه الأستاذ محمد جسوس بالعائق التراثي ، وهو إعاقة البحث و " منعه " من تكوين و تأسيس معرفة موضوعية ، تصل في بعض الأحيان إلى حد المفارقة و التباين ، لعل موضوع الفلاحة أحد مظاهرها المعبرة ؛ لذلك ما طبيعة الصورة التي يقدمها التراث عن الفلاحة ؟ و كيف يمكن تفسير هذه الصورة ؟
   يفيد الفلح في اللغة الشق ، الفلح مصدره فلحت الأرض إذا شققتها للزراعة ، و فلح الأرض للزراعة فلحا إذا شقها للحرث ، و الفلح هو الشق و القطع ، فلح رأسه فلحا إذا شقه [1] .