تعتبر حركة جمع التراث التاريخي وتدوينه جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية التي جرى جمع شتاتها وتسجيل مادتها في عصر الصحوة البورجوازية، وأهم من ذلك تبويب العلوم وتصنيفها واستقلال بعضها عن البعض الآخر، وتحديد موضوعات كل علم ووضع أصول مناهجه.
وبطبيعة الحال شارك الإخباريون ـ شأنهم شأن غيرهم من المشتغلين بالعلوم الأخرى ـ في تلك الحركة، بأن جمعوا الروايات التاريخية من شتى مصادرها، من الوثائق الرسمية، والنقوش الأثرية ـ في القليل النادر ـ ورواة القصص، والنسابة، وشيوخ القبائل، فضلاً عن المصادر الأجنبية، ثم رتبوا تلك المادة بعد نقدها وتمحيصها، ودونوها على الورق في شكل كتب ومصنفات ورسائل.
ويخطئ بعض الدارسين حين يرجعون بتاريخ التدوين التاريخي إلى العصر الأموي، استناداً إلى بعض الروايات التي تنسب رسالة مكتوبة في مثالب العرب إلى زياد ابن أبيه، ورسالة ذات طابع شعوبي في التظافر والتناحر لنسابة مجهول، وبعض مدونات لعبدالله بن عباس لم يطلق عليها اسماً خاصاً.
ونعتقد أن تلك الروايات تنطوي على انتحال بيِّن، فمن غير المعقول أن يكتب زياد في مثالب العرب وهو أمير لبني أمية على العراق في عصر أطلق عليه الدارسون عصر السيادة العربية. ورسالة التظافر والتناحر المشار إليها مشكوك في صحتها أيضاً للجهل بمؤلفها، فضلاً عن أن ظاهرة الشعوبية ولدت بعد في العصر العباسي. ومدونات ابن عباس يشكك عدم عنونتها في احتمال اعتمادها، ولو صحت فهي لا تمت للمعارف التاريخية بصلة. وإذا سلمنا جدلاً بوجود تلك المدونات حقاً في الحقبة الأموية، فهي لا تعدو نقطة في بحر المعارف التاريخية، بحيث لا يمكن الاستناد إليها في الحكم بأن التراث التاريخي دُوِّن آنذاك.
كما أخطأ بعض الدارسين في تفسير تأخر علمية التدوين ودوافعها، فالمؤرخ روزنتال عزى هذا التأخير لأسباب دينية، مؤداها عدم منافسة القرآن الكريم. ويرى أن المسلمين جروا على التقاليد اليهودية في هذا الصدد، حيث حرمت نصوص في سفر الجامعة تدوين الأدب التاريخي. وعلى العكس أكد مرجوليوث المغزى الديني لتدوين التراث التاريخي، فذهب إلى أن الغرض من تسجيله خدمة تفسير القرآن الكريم، وكذلك ذهب الدوري. ونحن لا نوافق على التفسيرين معاً، ونعتقد أن تأخر تدوين التراث التاريخي ـ وكذا التراث الإسلامي كافة ـ مرتبط بطبيعة التطور التاريخي، وكذا بطبيعة تطور الإلمام بهذا التراث. فمعلوم أن الأمية كانت متفشية بين العرب قبل الإسلام، فلما اعتنقوا الإسلام شغلوا بالفتوح التي ظلت مستمرة شرقاً وغرباً طوال صدر الإسلام، حتى إذا ما بلغت الامبراطورية أقصى اتساعها، بدأت مرحلة التنظيم إبان العصر العباسي الأول، ولم يقتصر التنظيم على الشؤون الاقتصادية والإدارية فحسب بل امتد إلى الجوانب الثقافية. لذلك يمكن القول بأن تدوين العلوم وتبويبها في هذا العصر جاءت كعملية منطقية متسقة مع طبيعة حركة التطور التاريخي.ومن منظور سوسيولوجي، نرى أن الاهتمام بالثقافة والفكر مرتبط نظرياً وتاريخياً بدور البورجوازية، وحيث تعثرت مسيرة القوى البورجوازية ـ طوال صدر الإسلام والحقبة الإقطاعية الأموية ـ ولم تنجز ما اصطلحنا على تسميته ((بالصحوة البورجوازية)) إلا في القرن الثاني الهجري، فقد تأخر تدوين المعارف إلى أن قامت ((نهضة ثقافية)) مواكبة للصحوة.