أنفاسيـمثـل أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ نموذجا بل مدرسة في الكفاح والجد والعمل المتواصل ، فحياته الطويلة كرسها للعمل الجاد والنضال من أجل تحقيق هدف ، ففي حين نجد الكثير من الناس يبذلون جهـودا جبارة ، في غير هدف ، جهودا قد تعود عليهم بالضرر من حيث كانوا يطلبون المنفعة ، لهذا تمثـل تجـربة الجاحظ مثالا في دقة الهدف ، ثم بعده يأتي الجهد . والآن وبعد قرون من وفاة أبي عثمان ، فمهما بالغنا في تقدير الجهـد الذي قدمه خلال عمره الطويل فإن ما ناله أضعاف أضعاف ما قدمه من جهد ، بل إنه من الصعـب مقارنة ما قدمه الجاحظ بما ناله . فـإذا كان ما أعطاه وقدمه عرق جبين وسهر ليل فإن ما ناله من المجد العريض بعد موته فضلا عن الحظوة لدى الخلفاء والحكام يعوض كل جهد وتعب مهما بلغ قدرهما .
   كان الجاحظ قد نذر حياته في سبيل الأدب ، نذرها بطولها وعرضها ، حيث لم يعرف عنه أنه تـزوج أو أنجب ولدا ، وحينما امتهن التجارة في أول عمره فإنه إنما كان يبيع من أجل العلم ، لا قصد الربح المادي السريع . لـم يثن أبا عثمان عن تحقيق هدفه أي شيء ، وما كان ذلك ممكنا خاصة وأنه آلى على نـفـسه ألا يضيع وقته وجهده وحياته في طرق جانبية تضـيع عليه الجهـد ولا توصله إلى شيء ، بقدر ما ستعيقه عن الوصول ، إن أقرب الطرق إلى الهدف ـ كما نعلم ـ الخط المستقيم ، لهذا لم يقبل صاحبنا أن يهين عمرا عزيزا في أشياء لا يجني منها سوى الحسرة والندامة . لقد حالفه الحظ حين وقف على الهدف واستطاع بعد ذلك أن يشق طريقه بكل ثبات وعزم ، إن الطريق التي سلكها أبو عثمان لم تكن إلا لتوصله إلى المجـد والعـظمة . والكثير الكثير قبل أبي حيان وبعده حددوا هدفا وكانت دقة تحديده باهرة لكنهم لم يمدوه بما يكفي من الجهـد والعرق ، إن مرحلة ما بعد الغرس تمثل مرحلة أولية وبداية وليست نهاية كما قد يتوهم  البعض .    
   لدى البعض ينتفي العمل بعد الغرس فتموت الشتلة ويزول كل شيء .
هناك صنف آخر من الناس تجدهم يعطون من الجهد والطاقة ما يمكن أن يوصلهم إلى مبتغاهم لو كانوا حددوه ، أما وأن الأمر موكول إلى الصدفـة فلا وألف لا.

أنفاسلقد سبق لياقوت الحموي الرومي أن وصف أبا حيان التوحيدي بأنه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء على اعتبار أن هذا الأديب الموسوعي جمع بين مختلف المعارف واستوعب ثقافات عصره بكل شتاتها وفروعها ، حيث عرف عنه تضلعه في الأدب والشعر والنقد والفقه والفلسفة وعلم الكلام والمنطق والتصوف وغيرها ، وإن لم يؤلف فيها جميعا ، إلا أن لائحة بأسماء العلماء والفلاسفة والأدباء الذين أخذ عنهم وتتلمذ على أيديهم تدل أكبر دلالة على مبلغ ما ناله هذا الأديب الألمعي من التحصيل ، فضلا عما حصله من مهنته كناسخ للكتب وكوراق ، من المعلومات والمعارف. وما يهمنا في هذا السياق هو أن نقف عند ملمح من ملامح هذا التكامل المعرفي العلمي في شخصية أبي حيان وفكره ، وفي كتاب واحد من كتبه ، خصصه للفلسفة وتحديدا لحوارات فلاسفة بغداد في القرن الرابع الهجري ، هذا المؤلف هو كتاب" المقابسات ".
    إن الملمح الذي نود الوقوف عنده فـي هذا المجال هو علاقة الأدب بالفلسفة ، أو تحديدا الوقوف على القضايا الأدبية أو ذات الصلة بـالأدب والتي تمت مناقشتها في هذا الكتاب ذي الهم الفلسفي .
      إن أول مـلاحظة تثيرها عملية التأمل في هذا الكتاب تجعلنا نؤكد على أنه يندرج ضمن ما اصطلح عليه بالأدب الفلسفي .
1 ـ تجليات أدبية في كتاب المقابسات :
   يتفق جل الباحثين وأغلب الدارسين من المهتمين بفكر أبي حيان التوحيدي على الطابع الأدبي الذي صيغت به هذه المقابسات ، وإن تناولهم لهذه النقطة قد اتخذ مناحي جلى وسبلا شتى . إذ إننا نجد منهم من يتخذها مسلكا إما لاتهام التوحيدي بتدخله في صياغة هذه المقابسات وربما اصطناعها ونسبتها إلى فلاسفة عصره ، وإما لاعتبار الكتاب خاليا من أية فائدة على غرار المستشرق ماكس مايرهوف الذي يرى أن تدخـل أبي حيان التوحيدي في نصوص الكتاب بالتعديل والتنقيح جعل هذه المقابسات فاقدة لأية قيمة ، في حين اعتبر آخرون هذا التصرف عملا مساهما في تقريب الفلسفة من عامة الناس ، وهذه مسألة تحتاج إلى نقاش نؤجله إلى حين .

أنفاس''حين ألقوا عليه القبض في جبال المعاضيد بالجزائر، كان مثخناً بالجراح. فقاموا بسلخ جلده وهو حي. ثم حشوا الجلد تِبْناً ووضعوه في قفص مع قِرْدَيْن. وجابوا به المدن التي خرجت معه على سلطة الفاطميين ومنها القيروان والكاف ومدينة باجة وغيرها من مدن البلاد التونسية''. هذا ما يُجمع عليه المؤرخون التونسيون الذين دونوا وقائع ثورة أبي يزيد صاحب الحمار على الدولة الفاطمية. وهم يلحّون على أن الفاطميين أخذوا الناس بالقهر والغلبة والظلم و''من تكلم أو تحرك قُتل، ومُثل به''. ويذهب القاضي عياض في كتابه ''ترتيب المدارك وتقريب المسالك'' إلى أن صاحب الحمار من قبائل زناتة البربرية يعرف بالأعرج صاحب الحمار، كان يلبس جبة صوف قصيرة الكمين، ويركب حماراً، وقومه له على طاعة عظيمة. ''كان أبو يزيد هذا مؤدب صبيان. لكنه تمكن، بما حققه من عظام الأمور، من محو هالة السواد التي كللت بها صورة معلمي الصبيان في الثقافة العربية. منذ الجاحظ تم الجزم بأن معاشرة الصبيان تورث صاحبها الغفلة والسذاجة وانعدام الروية والحيلة. ووصل الأمر بالجاحظ في ''البيان والتبيين'' إلى حد الجزم بأن معلمي الكتاتيب صاروا مضرب مثل في الحمق حتى قالت العامة ''أحمق من معلّم كتّاب''. ونسب الجاحظ إلى ابن شبرمة رأيا أكثر تشنيعا على المعلمين فقال: ''كان ابن شبرمة لا يقبل شهادة المعلمين''. وإلى الرأي نفسه ذهب ابن الجوزي في ''أخبار الحمقى والمغفلين'' فعلل ما سماه حمق المعلمين قائلا: ''ولا نظن السبب في ذلك إلا معاشرة الصبيان''. وهو يذكر أن المأمون سئل، حين كان صبيا، عن حمق المعلمين فقال: ''ما ظنك بمن يجلو عقولنا بأدبه ويصدأ عقله بجهلنا، ويشحذ أذهاننا بفوائده ويكل ذهنه بغيّنا، فلا يزال يعارض بعلمه جهلنا، وبيقظته غفلتنا، حتى نستغرق محمود خصاله، ويستغرق مذموم خصالنا، فإذا برعنا في الاستفادة برع هو في البلادة''.
لا يمكن لشخص ترك في الدنيا دويا مثل أبي يزيد صاحب الحمار أن يدخل دائرة الحمق والغفلة. لقد كان أبويزيد مؤدب صبيان لكنه أحاط صورة معلم الصبيان في تونس والمغرب العربي بأمجاد لا يمكن أن تنسى. فلقد نجح في هز أركان الدولة الفاطمية. ويجمع المؤرخون على أنه نجح في تأليب كل المدن التونسية ومدن الشرق الجزائري على الفاطميين وجيّش قبائل البربر وجاء حتى وصل باب المهدية عاصمة الفاطميين في تونس ممتطيا حماره ودق رمحه على بابها الجنوبي. وحاصرها طيلة أربع سنوات غنم فيها غنائم لا تحصى؛ فتغير حاله، وبدل الحمار ركب جوادا مطهما، وخلع جبة الصوف، وصار يرفل في الثياب الفاخرة؛ فانفضت من حوله بعض قبائل البربر.

أنفاسلا يخفى على أحدٍ أن جزءاً كبيراً من النصّ يسقط منه حالما نفرّغه من رؤوسنا فوق أوراقنا، وأن جزءاً آخر منه يسقط حالما يُترجم، وجزءاً آخر يختفي حين يترجَم إلى لغةٍ ثالثةٍ وهكذا..‏
ومع هذا الفقدان المستمرّ لعناصر النصّ تبرز أمام القارئ الحصيف مهمّةٌ ليست سهلةً، وهي محاولة إعادة ترميم النصّ واستكمال ما فقده، وممارسة ما يمكن أن أسمّيه بعمليّة "استحضار الغائب واستبعاد الحاضر" من أجل الإمساك بالبعد المفقود منه.‏
ويتحكّم بنا أثناء عمليّة القراءة ذاكرتنا اللغويّة والثقافيّة الجاهزة، بما تراكم فيها من سبائك تعبيريّةٍ تقليديّةٍ اعتدنا قراءتها أو كتابتها، وأضحت جزءاً عضوياً من بناء شخصيّتنا اللغويّة. وسنجد أنّ من الصعب علينا أن نتخلّى عن هذه الوحدات أو السبائك التي توارثناها لأجيالٍ عديدة، أو ربّما لجيلٍ واحدٍ أو جيلين لا أكثر. وبدون التخلّص من هيمنة هذه السبائك على ذاكرتنا لن نكون قادرين على تحكيم أنفسنا فيما نقرأ، والخروجِ بأحكامٍ عادلةٍ على الكاتب والنص.‏
وأقصد بالوحدات أو السبائك التعبيريّة الجاهزة تلك التي وُلدنا ونحن نسمعها في أحضان أمّهاتنا، فبتنا لانرى فيها أكثر من بُعدٍ واحد، فلا تثير فينا، مثلاً، غرابةً أو استهجاناً، حتى إن كان فيها ما يدعو إلى ذلك حقاً، فالألفة قد قتلت عندنا القدرة على قراءة البعد الخفيّ فيها والذي لا يراه عادةً إلاّ الآخرون ممّن لم يقعوا في أسْر هذه الألفة.‏
ونلمس ذلك في أمثلةٍ بسيطةٍ من وقائع حياتنا اليوميّة. فلا يوجد شاميٌّ يستغرب أن يسمع من أمّه الكلمة المحبّبة التي تدلّل بها أمّهات الشام أطفالها (انشالله تقبرني). فقط عندما يسمعها مصريُّ أو خليجيٌّ أو مغاربيٌّ ينتفض استهجاناً واحتجاجاً على هذا الدعاء العجيب الذي تدعو به الأمّ على نفسها، حتى إن كانت تتمنّى به لولدها طول العمر بحيث يتاح له أن يدفنها بنفسه؛ وأنا شخصيّاً لم أتنبّه إلى ما في هذا التعبير من قسوةٍ وغرابة، بل لم أحاول ربط اللفظ (تقبرني) مطلقاً بالمعنى الأصليّ والحقيقيّ لهذا الفعل وهو الدفن، حتى نبّهني، وقد تجاوزت الثلاثين، زميلٌ لي من مصر: ما هذا التعبير الغريب الذي تستعمله الأمّهات عندكم في الشام؟!‏

أنفاسملخص الدراسة :
تناولت الدراسة ظاهرة التدرج الاجتماعي في المجتمعات وفق التراث النظري لها، والاتجاهات المعاصرة لها، وسعى الباحث لإبراز الجهود العلمية التي بذلها المفكرون والفلاسفة في المجتمعات العربية والإسلامية في مجال التدرج الاجتماعي، من خلال مقارنة ذلك بما كتب في التراث العربي الإسلامي في هذا المجال، للوصول إلى تحديد دقيق لمدى الاختلاف والاتفاق بين تلك الاتجاهات الفكرية، كما هدفت الدراسة إلى تسليط الضوء على آراء المفكرين في التراث العربي والإسلامي وأطروحاتهم في ظاهرة التمايز والتفاضل بين الناس، وهو ما يعرف اليوم بالتدرج الاجتماعي، ولطبيعة موضوع البحث اعتمدت هذه الدراسة على منهجين هما: المنهج المقارن والمنهج التاريخي، باستخدام أداة تحليل المضمون. وقد توصلت الدراسة من خلال استعراضها لجهود المفكرين في التراث العربي الإسلامي إلى أسبقيتهم على علماء الاجتماع في العصور الحديثة، الذين تناولوا ظاهرة التدرج الاجتماعي، وأن محددات ومعايير التدرج الاجتماعي التي تعرضها الاتجاهات النظرية لعلم الاجتماع، كانت قد حددها مفكرو التراث العربي الإسلامي، باعتبار أن ظاهرة التدرج الاجتماعي حظيت باهتمام كبير في المجتمعات العربية الإسلامية، وأن لها جذورها التاريخية والاجتماعية، وإدراكاً رئيساً لأهميتها ودورها في تقدم ونمو المجتمع المبنية على وحدته، مع إتاحة الفرصة للناس لكي يتفوّقوا دون أذى بغيرهم، ووفق ضوابط معينة. كما توصلت الدراسة إلى أن غالبية الدراسات الاجتماعية العربية المعاصرة،الخاصة بالتدرج الاجتماعي، تأثرت في تفسيرها لظاهرة التدرج الاجتماعي، بالاتجاهات النظرية الغربية، ولم تكن هناك إشارة لأي من مفكري التراث العربي الإسلامي، وكان هناك شبه تغييب لجهود هؤلاء المفكرين، عند تفسير نتائج تلك الدراسات، مما قد يكون حرم المجتمعات العربية من الإفادة من نتائج تلك الدراسات.‏
موضوع الدراسة:‏
يعد التدرج الاجتماعي من الظواهر الاجتماعية المعقدة، التي تعتمد على العديد من العوامل التي تختلف من مجتمع لآخر، كما تعد هذه الظاهرة في معظم المجتمعات بمثابة عملية دينامية تسمح بمزيد من التغيرات في تكوينها وكذلك في الخصائص العامة للمستويات والدرجات المتباينة، كما أن التدرج الاجتماعي من العمليات الاجتماعية المهمة التي تعمل داخل البناء الاجتماعي للمجتمع ويلقي الضوء على ما يحدث في البناء الاجتماعي ويساهم في تحديد طبيعة هذا البناء ومدى استقراره وديناميته والمرحلة التطويرية والتنموية التي يمر بها(1).‏

أنفاستعتمد دراستنا لهذا الموضوع على تفكيك البناء الفني للسيرة، وهذا من خلال الكشف عن الأسس الفنية والأدوات التعبيرية التي وظفها الراوي لإنجاز عمله والمتمثل في سيرة الملك الظاهر بيبرس، ومن أبرز الأسس:‏
1 ـ دراسة البناء السردي للسيرة:‏
إن الكشف عن البناء السردي المتبع في السيرة لا يمكن تجليته للقارئ إلا بعد تفكيكه إلى وحدات تعبيرية تقنية ارتكز عليها السارد في تقديم السيرة، ومن هذه الوحدات:‏
الراوي، حيث يكثر استعمال هذا المصطلح في السيرة الشعبية عامة وفي سيرة الظاهر خاصة، حيث إن المؤلف في كل انتقال من حكاية لأخرى يلجأ إلى تقنية تعبيرية كرّرها كثيراً، فألفها القارئ وحفظها السامع، هذه التقنية هي: "قال الراوي"، وهو بهذا العمل يعيد إنتاجاً مروياً، وأحداثاً وقصصاً.. إلى متلقين هم في أغلب الأحوال لم يطلعوا بعد على الأحداث، أو هذا المروي الجديد.‏
وإذا علمنا أن الراوي في السير الشعبية عامة ينتظم في نمطين:‏
1. راوٍ مفارق لمرويّه: يتدخل دائماً فيما يرويه.‏
2. راوٍ متماهٍ2 بمرويّه: يترك للمروي أن يروى دونما تدخل مباشر فيه.‏
ومن خلال تحليل البناء الفني للسيرة يظهر لنا أن الراوي المفارق لمرويه يحتل مساحة كبرى داخل العملية السردية المتحكمة في بناء السيرة، أما الراوي المتماهي في مرويه، فإن وجوده بالسيرة جدّ قليل فمن أمثلة النوع الأول: "قال الراوي: وأما ما كان من أمر المقدم إبراهيم وسعد"(3) وكذلك قوله: "ثمّ إن الملك أعطى الكتاب إلى النجاب، وقال لوكيل الخزنة: أعط خلعتين، واحدة إلى جمال الدين شيحة، والثانية لأبي علي البطرلي"(4)، وقوله أيضاً: "أما ما كان من أمر المقدم معروف بينما هو في دير الشقيف، وإذا داخل عليه رجل تاجر، وقدم إليه هدية قماش وغيره، وقال له: إكراماً إلى جدك أبي السبطين الإمام علي عليه السلام، أن تأخذ مني هذه الهدية، فقال له المقدم معروف: قبلتها.‏
ولكن لأي شيء تقدم لي هذه الهدية"(5)، والسيرة عموماً تعج بهذا النوع من الراوي، فلا يترك مجالاً لأبطال وشخصيات السيرة أنْ تعبر عن أفعالها، وإنما يدفعها بتدخله إلى قول ما يريده الراوي.‏

أنفاسأبو حيان التوحيدي شخصية فذة قلما نجد لها مثيلا في تاريخ الحضارة الإسلامية ، شخصية يمكن بسهوله وصفها بأنها شخصية عظيمة بكل معاني الكلمة ، ولعل عمق شخصية هذا الأديب هي السبب الذي حذا بكثير من المؤرخين والباحثين قديما وحديثا إلى مقارنته بأدباء ومفكري عصره بل وبسابقـيه ، ولعل هذه المقارنات إن دلت على شيء فإنما تدل على صعوبة تصنيفه ضمن نطاق ضيـق ، وكلنا نعلم صعوبة تصنيف أمثال هؤلاء العباقرة ضمن التصنيفات الضيقة ، فكل من يتعامل مع التوحيدي ولو من خلال مؤلف واحد يدرك بعمق صعوبة تنميطه وتصنيفه إذ إن ما يثير الاهتمام كثيرا في هذا المفكر هو ذلك الإشعاع النادر الذي ينبع منه ، وما يستفزنا هو ذلك الجانب المشع في شخصيته وفكره ، والمقصود بالإشعاع ليس فـقـط ذلك الجانب الموسوعي في ثـقافـته وفكره ، إذ الأمر أكبر من ذلك بكثير ، إضافة إلى أن صفة الموسوعية صفة يشترك فيها كثير من مؤلفي التراث ، إن المقصود بالإشعاع هو ذلك الجانب الذي يجعل من التوحيدي صورة وافـية دقـيقة الملامح لعـصر كامل بكل ما يحمله من تناقـضات وما يحـبل به من غنى ، إنه ، إن صح التعـبير ، صورة صادقة عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري . إن حادثة إحراق التوحيدي لمؤلفاته على سبيل المثال تمثل حدثا تاريخيا أثار انتباه الكثير من المؤرخين ؛ القدماء منهم والمحدثين على حد سواء ، بحيث إن التوحيدي استطاع من خلال هذا الحدث أن يعبر عن أعمق درجات الوعي بحقيقة الوجود الإنساني ، تعبيرا عن رفض عميق وجدري لأن تتحول حياة الإنسان بكل ما تحمله من معنى إلى مجرد جسد يحمل حلية زائفة ، جسد لا روح فيه ، إن التوحيدي يعـلن صراحة وبشكـل لا هوادة فيه عن رفضه لطغيان القيم المادية على حياة الإنسان ، إنه إعلان لرفضه أن تـنقلب القيم والموازين ، فحينما تـنقـلب هذه الموازين ويصير توزيع الخيرات أمرا موكـولا إلى مقاييس الشطارة والظرف والخفة بل والمكر والخداع ، يصرخ أبو حيان بكل قوة ليعلن انسحابه من اللعبة ، لأنه في مثل هذه الظروف يعجز الكرام من الناس عن نيل المكانة اللائقة بقيمتهم وقدرهم ، وتتاح الفرص للأنذال والساقطين ممن يملكون الاستعداد للتضحـية بكرامتهم وكـبريائهم ـ هذا إذا كانوا أصلا يملكون منها شيئا ـ من أجل لقمة عيش أو حظوة عند أمير أو وزير، التوحيدي يرفض وبكل إصرار أن تصير المقاييس البهلوانية " الظرف والخفة والشطارة…" مقاييس للتفاضل بين الناس ، ويعلن أن ما ينبغي أن يتخذ حكما بين البشر يجب أن يكون شيئا آخر غير ذلك : الخلق والعلم والدين والعقل …سمّها ما شئت لكنها قيم الإنسان الحقيقية التي جاءت الأديان السماوية والأرضية لترسيخها وجعلها قاعدة في حياة البشر ، لهذا فلا غرابة أن يعلن التوحيدي وهو المثقف الحر ، عن رفضه بكل قـوة متخذا كـتبه ـ وهي أغلى ما يملك ـ ليعبر عن رفضه ، كتبه التي تمثل آخر ما فضل من معاناة عمر طويل بعد أن فقد الصاحب والولد ، لقد قرر أن يضحي بهذا الولد البار معلنا بشكل مؤلم عن تفاهة الحياة من غير قيم نبيلة يرجع إليها ويحتكم إليها .

أنفاس 1 - تمهيد :‏
ليس من السهل أبداً تعقب ابن خلدون في كتاباته قصد الإمساك على موضوعة من الموضوعات التي عالجها في إطار رؤية معرفية شاملة. ذلك أن ابن خلدون إنما ينهج في مقارباته التحليلية إلى ضرب من الرؤى الكلية التي تجمع الأشتات إلى بعضها بعض قصد تأليف حقيقة معاينة. ومن ثم فالرؤية الحضارية التي باشرها ابن خلدون لم تكن لتكتب فصلاً في التاريخ وآخر في السياسة، وثالثاً في الدين... وإنما الهم في رؤية ابن خلدون أن يأتي كل ذلك في نسق معرفي واحد، يبدأ بالتفكير المجرد لينتهي إلى التسجيل المحايث للتجارب التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية.‏
تلك هي الخاصية التي أردت التوقف عندها في معالجتي للكتابة الدينية عند ابن خلدون، باعتباره شاهداً على العصر. غير أنني ـ وقد أكون بعيداً عن المتعارف عليه في شأن الرجل ومنهجيته ـ أقدم فهماً خاصاً، يتفصد عن قراءة متأنية للمقدمة على وجه الخصوص. ومنه أكون طرفاً في الدلالة التي أرادها لمنهجه وكتاباته. وليس أمامي إلا النص أنقض غزله لأصل إلى الوجه الديني في الطرح الخلدوني للشهادة.‏
2 ـ هندسة المقدمة:‏
إن المتصفح لكتب التاريخ العربي التي صنفت قبل ابن خلدون، يلحظ ظاهرة لا تخطئها العين أبداً... فكل مصنف إنما يبدأ من البداية الأولى، ثم يتدرج من بدء الخليقة إلى أيام الناس زمن التحرير، وكأن الكتابة التاريخية إنما هي من قبيل استحصاد القائم في الذاكرة من أخبار وقصص وروايات، سواء تأسست أخبارها على مصادر يقينية ثبتة، أو كانت مجرد أساطير تتدفأ بها الذاكرة القومية في مجالس السمر والحكايات.‏
غير أن هذه الملاحظة لا يمكن لها أن تنتقص من قيمة المرويات ونصوصها، أو تشكك في مصادرها، لأنها استندت في كثير من رواياتها إلى أحاديث صحيحة... ولكن الشك يقع على الأخبار التي استقاها المؤرخون من مصادر شفاهية تقوم مادتها على الرواية وحسب. كما عمد المؤرخون كذلك إلى نظام السنوات، يروون لكل سنة حوادثها الكبرى التي أثرت في واقع الناس، وحولت وجهة الأحداث من طرف إلى آخر.‏
لم تسعف وفرة المادة التاريخية وتداخل رواياتها المؤرخ ليقف منها موقف المتفحص المتأمل، ولم يمهله طول الكتاب وضخامته ليقف منه موقف الناقد. وربما استلذ المؤرخ توارد الأخبار وتتاليها فاستنام لهدهدتها وغرابتها، وفوَّت على نفسه فرص الاستفاقة لها ومراجعتها..