أنفاسلا يخفى على أحدٍ أن جزءاً كبيراً من النصّ يسقط منه حالما نفرّغه من رؤوسنا فوق أوراقنا، وأن جزءاً آخر منه يسقط حالما يُترجم، وجزءاً آخر يختفي حين يترجَم إلى لغةٍ ثالثةٍ وهكذا..‏
ومع هذا الفقدان المستمرّ لعناصر النصّ تبرز أمام القارئ الحصيف مهمّةٌ ليست سهلةً، وهي محاولة إعادة ترميم النصّ واستكمال ما فقده، وممارسة ما يمكن أن أسمّيه بعمليّة "استحضار الغائب واستبعاد الحاضر" من أجل الإمساك بالبعد المفقود منه.‏
ويتحكّم بنا أثناء عمليّة القراءة ذاكرتنا اللغويّة والثقافيّة الجاهزة، بما تراكم فيها من سبائك تعبيريّةٍ تقليديّةٍ اعتدنا قراءتها أو كتابتها، وأضحت جزءاً عضوياً من بناء شخصيّتنا اللغويّة. وسنجد أنّ من الصعب علينا أن نتخلّى عن هذه الوحدات أو السبائك التي توارثناها لأجيالٍ عديدة، أو ربّما لجيلٍ واحدٍ أو جيلين لا أكثر. وبدون التخلّص من هيمنة هذه السبائك على ذاكرتنا لن نكون قادرين على تحكيم أنفسنا فيما نقرأ، والخروجِ بأحكامٍ عادلةٍ على الكاتب والنص.‏
وأقصد بالوحدات أو السبائك التعبيريّة الجاهزة تلك التي وُلدنا ونحن نسمعها في أحضان أمّهاتنا، فبتنا لانرى فيها أكثر من بُعدٍ واحد، فلا تثير فينا، مثلاً، غرابةً أو استهجاناً، حتى إن كان فيها ما يدعو إلى ذلك حقاً، فالألفة قد قتلت عندنا القدرة على قراءة البعد الخفيّ فيها والذي لا يراه عادةً إلاّ الآخرون ممّن لم يقعوا في أسْر هذه الألفة.‏
ونلمس ذلك في أمثلةٍ بسيطةٍ من وقائع حياتنا اليوميّة. فلا يوجد شاميٌّ يستغرب أن يسمع من أمّه الكلمة المحبّبة التي تدلّل بها أمّهات الشام أطفالها (انشالله تقبرني). فقط عندما يسمعها مصريُّ أو خليجيٌّ أو مغاربيٌّ ينتفض استهجاناً واحتجاجاً على هذا الدعاء العجيب الذي تدعو به الأمّ على نفسها، حتى إن كانت تتمنّى به لولدها طول العمر بحيث يتاح له أن يدفنها بنفسه؛ وأنا شخصيّاً لم أتنبّه إلى ما في هذا التعبير من قسوةٍ وغرابة، بل لم أحاول ربط اللفظ (تقبرني) مطلقاً بالمعنى الأصليّ والحقيقيّ لهذا الفعل وهو الدفن، حتى نبّهني، وقد تجاوزت الثلاثين، زميلٌ لي من مصر: ما هذا التعبير الغريب الذي تستعمله الأمّهات عندكم في الشام؟!‏

أنفاسملخص الدراسة :
تناولت الدراسة ظاهرة التدرج الاجتماعي في المجتمعات وفق التراث النظري لها، والاتجاهات المعاصرة لها، وسعى الباحث لإبراز الجهود العلمية التي بذلها المفكرون والفلاسفة في المجتمعات العربية والإسلامية في مجال التدرج الاجتماعي، من خلال مقارنة ذلك بما كتب في التراث العربي الإسلامي في هذا المجال، للوصول إلى تحديد دقيق لمدى الاختلاف والاتفاق بين تلك الاتجاهات الفكرية، كما هدفت الدراسة إلى تسليط الضوء على آراء المفكرين في التراث العربي والإسلامي وأطروحاتهم في ظاهرة التمايز والتفاضل بين الناس، وهو ما يعرف اليوم بالتدرج الاجتماعي، ولطبيعة موضوع البحث اعتمدت هذه الدراسة على منهجين هما: المنهج المقارن والمنهج التاريخي، باستخدام أداة تحليل المضمون. وقد توصلت الدراسة من خلال استعراضها لجهود المفكرين في التراث العربي الإسلامي إلى أسبقيتهم على علماء الاجتماع في العصور الحديثة، الذين تناولوا ظاهرة التدرج الاجتماعي، وأن محددات ومعايير التدرج الاجتماعي التي تعرضها الاتجاهات النظرية لعلم الاجتماع، كانت قد حددها مفكرو التراث العربي الإسلامي، باعتبار أن ظاهرة التدرج الاجتماعي حظيت باهتمام كبير في المجتمعات العربية الإسلامية، وأن لها جذورها التاريخية والاجتماعية، وإدراكاً رئيساً لأهميتها ودورها في تقدم ونمو المجتمع المبنية على وحدته، مع إتاحة الفرصة للناس لكي يتفوّقوا دون أذى بغيرهم، ووفق ضوابط معينة. كما توصلت الدراسة إلى أن غالبية الدراسات الاجتماعية العربية المعاصرة،الخاصة بالتدرج الاجتماعي، تأثرت في تفسيرها لظاهرة التدرج الاجتماعي، بالاتجاهات النظرية الغربية، ولم تكن هناك إشارة لأي من مفكري التراث العربي الإسلامي، وكان هناك شبه تغييب لجهود هؤلاء المفكرين، عند تفسير نتائج تلك الدراسات، مما قد يكون حرم المجتمعات العربية من الإفادة من نتائج تلك الدراسات.‏
موضوع الدراسة:‏
يعد التدرج الاجتماعي من الظواهر الاجتماعية المعقدة، التي تعتمد على العديد من العوامل التي تختلف من مجتمع لآخر، كما تعد هذه الظاهرة في معظم المجتمعات بمثابة عملية دينامية تسمح بمزيد من التغيرات في تكوينها وكذلك في الخصائص العامة للمستويات والدرجات المتباينة، كما أن التدرج الاجتماعي من العمليات الاجتماعية المهمة التي تعمل داخل البناء الاجتماعي للمجتمع ويلقي الضوء على ما يحدث في البناء الاجتماعي ويساهم في تحديد طبيعة هذا البناء ومدى استقراره وديناميته والمرحلة التطويرية والتنموية التي يمر بها(1).‏

أنفاستعتمد دراستنا لهذا الموضوع على تفكيك البناء الفني للسيرة، وهذا من خلال الكشف عن الأسس الفنية والأدوات التعبيرية التي وظفها الراوي لإنجاز عمله والمتمثل في سيرة الملك الظاهر بيبرس، ومن أبرز الأسس:‏
1 ـ دراسة البناء السردي للسيرة:‏
إن الكشف عن البناء السردي المتبع في السيرة لا يمكن تجليته للقارئ إلا بعد تفكيكه إلى وحدات تعبيرية تقنية ارتكز عليها السارد في تقديم السيرة، ومن هذه الوحدات:‏
الراوي، حيث يكثر استعمال هذا المصطلح في السيرة الشعبية عامة وفي سيرة الظاهر خاصة، حيث إن المؤلف في كل انتقال من حكاية لأخرى يلجأ إلى تقنية تعبيرية كرّرها كثيراً، فألفها القارئ وحفظها السامع، هذه التقنية هي: "قال الراوي"، وهو بهذا العمل يعيد إنتاجاً مروياً، وأحداثاً وقصصاً.. إلى متلقين هم في أغلب الأحوال لم يطلعوا بعد على الأحداث، أو هذا المروي الجديد.‏
وإذا علمنا أن الراوي في السير الشعبية عامة ينتظم في نمطين:‏
1. راوٍ مفارق لمرويّه: يتدخل دائماً فيما يرويه.‏
2. راوٍ متماهٍ2 بمرويّه: يترك للمروي أن يروى دونما تدخل مباشر فيه.‏
ومن خلال تحليل البناء الفني للسيرة يظهر لنا أن الراوي المفارق لمرويه يحتل مساحة كبرى داخل العملية السردية المتحكمة في بناء السيرة، أما الراوي المتماهي في مرويه، فإن وجوده بالسيرة جدّ قليل فمن أمثلة النوع الأول: "قال الراوي: وأما ما كان من أمر المقدم إبراهيم وسعد"(3) وكذلك قوله: "ثمّ إن الملك أعطى الكتاب إلى النجاب، وقال لوكيل الخزنة: أعط خلعتين، واحدة إلى جمال الدين شيحة، والثانية لأبي علي البطرلي"(4)، وقوله أيضاً: "أما ما كان من أمر المقدم معروف بينما هو في دير الشقيف، وإذا داخل عليه رجل تاجر، وقدم إليه هدية قماش وغيره، وقال له: إكراماً إلى جدك أبي السبطين الإمام علي عليه السلام، أن تأخذ مني هذه الهدية، فقال له المقدم معروف: قبلتها.‏
ولكن لأي شيء تقدم لي هذه الهدية"(5)، والسيرة عموماً تعج بهذا النوع من الراوي، فلا يترك مجالاً لأبطال وشخصيات السيرة أنْ تعبر عن أفعالها، وإنما يدفعها بتدخله إلى قول ما يريده الراوي.‏

أنفاسأبو حيان التوحيدي شخصية فذة قلما نجد لها مثيلا في تاريخ الحضارة الإسلامية ، شخصية يمكن بسهوله وصفها بأنها شخصية عظيمة بكل معاني الكلمة ، ولعل عمق شخصية هذا الأديب هي السبب الذي حذا بكثير من المؤرخين والباحثين قديما وحديثا إلى مقارنته بأدباء ومفكري عصره بل وبسابقـيه ، ولعل هذه المقارنات إن دلت على شيء فإنما تدل على صعوبة تصنيفه ضمن نطاق ضيـق ، وكلنا نعلم صعوبة تصنيف أمثال هؤلاء العباقرة ضمن التصنيفات الضيقة ، فكل من يتعامل مع التوحيدي ولو من خلال مؤلف واحد يدرك بعمق صعوبة تنميطه وتصنيفه إذ إن ما يثير الاهتمام كثيرا في هذا المفكر هو ذلك الإشعاع النادر الذي ينبع منه ، وما يستفزنا هو ذلك الجانب المشع في شخصيته وفكره ، والمقصود بالإشعاع ليس فـقـط ذلك الجانب الموسوعي في ثـقافـته وفكره ، إذ الأمر أكبر من ذلك بكثير ، إضافة إلى أن صفة الموسوعية صفة يشترك فيها كثير من مؤلفي التراث ، إن المقصود بالإشعاع هو ذلك الجانب الذي يجعل من التوحيدي صورة وافـية دقـيقة الملامح لعـصر كامل بكل ما يحمله من تناقـضات وما يحـبل به من غنى ، إنه ، إن صح التعـبير ، صورة صادقة عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري . إن حادثة إحراق التوحيدي لمؤلفاته على سبيل المثال تمثل حدثا تاريخيا أثار انتباه الكثير من المؤرخين ؛ القدماء منهم والمحدثين على حد سواء ، بحيث إن التوحيدي استطاع من خلال هذا الحدث أن يعبر عن أعمق درجات الوعي بحقيقة الوجود الإنساني ، تعبيرا عن رفض عميق وجدري لأن تتحول حياة الإنسان بكل ما تحمله من معنى إلى مجرد جسد يحمل حلية زائفة ، جسد لا روح فيه ، إن التوحيدي يعـلن صراحة وبشكـل لا هوادة فيه عن رفضه لطغيان القيم المادية على حياة الإنسان ، إنه إعلان لرفضه أن تـنقلب القيم والموازين ، فحينما تـنقـلب هذه الموازين ويصير توزيع الخيرات أمرا موكـولا إلى مقاييس الشطارة والظرف والخفة بل والمكر والخداع ، يصرخ أبو حيان بكل قوة ليعلن انسحابه من اللعبة ، لأنه في مثل هذه الظروف يعجز الكرام من الناس عن نيل المكانة اللائقة بقيمتهم وقدرهم ، وتتاح الفرص للأنذال والساقطين ممن يملكون الاستعداد للتضحـية بكرامتهم وكـبريائهم ـ هذا إذا كانوا أصلا يملكون منها شيئا ـ من أجل لقمة عيش أو حظوة عند أمير أو وزير، التوحيدي يرفض وبكل إصرار أن تصير المقاييس البهلوانية " الظرف والخفة والشطارة…" مقاييس للتفاضل بين الناس ، ويعلن أن ما ينبغي أن يتخذ حكما بين البشر يجب أن يكون شيئا آخر غير ذلك : الخلق والعلم والدين والعقل …سمّها ما شئت لكنها قيم الإنسان الحقيقية التي جاءت الأديان السماوية والأرضية لترسيخها وجعلها قاعدة في حياة البشر ، لهذا فلا غرابة أن يعلن التوحيدي وهو المثقف الحر ، عن رفضه بكل قـوة متخذا كـتبه ـ وهي أغلى ما يملك ـ ليعبر عن رفضه ، كتبه التي تمثل آخر ما فضل من معاناة عمر طويل بعد أن فقد الصاحب والولد ، لقد قرر أن يضحي بهذا الولد البار معلنا بشكل مؤلم عن تفاهة الحياة من غير قيم نبيلة يرجع إليها ويحتكم إليها .

أنفاس 1 - تمهيد :‏
ليس من السهل أبداً تعقب ابن خلدون في كتاباته قصد الإمساك على موضوعة من الموضوعات التي عالجها في إطار رؤية معرفية شاملة. ذلك أن ابن خلدون إنما ينهج في مقارباته التحليلية إلى ضرب من الرؤى الكلية التي تجمع الأشتات إلى بعضها بعض قصد تأليف حقيقة معاينة. ومن ثم فالرؤية الحضارية التي باشرها ابن خلدون لم تكن لتكتب فصلاً في التاريخ وآخر في السياسة، وثالثاً في الدين... وإنما الهم في رؤية ابن خلدون أن يأتي كل ذلك في نسق معرفي واحد، يبدأ بالتفكير المجرد لينتهي إلى التسجيل المحايث للتجارب التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية.‏
تلك هي الخاصية التي أردت التوقف عندها في معالجتي للكتابة الدينية عند ابن خلدون، باعتباره شاهداً على العصر. غير أنني ـ وقد أكون بعيداً عن المتعارف عليه في شأن الرجل ومنهجيته ـ أقدم فهماً خاصاً، يتفصد عن قراءة متأنية للمقدمة على وجه الخصوص. ومنه أكون طرفاً في الدلالة التي أرادها لمنهجه وكتاباته. وليس أمامي إلا النص أنقض غزله لأصل إلى الوجه الديني في الطرح الخلدوني للشهادة.‏
2 ـ هندسة المقدمة:‏
إن المتصفح لكتب التاريخ العربي التي صنفت قبل ابن خلدون، يلحظ ظاهرة لا تخطئها العين أبداً... فكل مصنف إنما يبدأ من البداية الأولى، ثم يتدرج من بدء الخليقة إلى أيام الناس زمن التحرير، وكأن الكتابة التاريخية إنما هي من قبيل استحصاد القائم في الذاكرة من أخبار وقصص وروايات، سواء تأسست أخبارها على مصادر يقينية ثبتة، أو كانت مجرد أساطير تتدفأ بها الذاكرة القومية في مجالس السمر والحكايات.‏
غير أن هذه الملاحظة لا يمكن لها أن تنتقص من قيمة المرويات ونصوصها، أو تشكك في مصادرها، لأنها استندت في كثير من رواياتها إلى أحاديث صحيحة... ولكن الشك يقع على الأخبار التي استقاها المؤرخون من مصادر شفاهية تقوم مادتها على الرواية وحسب. كما عمد المؤرخون كذلك إلى نظام السنوات، يروون لكل سنة حوادثها الكبرى التي أثرت في واقع الناس، وحولت وجهة الأحداث من طرف إلى آخر.‏
لم تسعف وفرة المادة التاريخية وتداخل رواياتها المؤرخ ليقف منها موقف المتفحص المتأمل، ولم يمهله طول الكتاب وضخامته ليقف منه موقف الناقد. وربما استلذ المؤرخ توارد الأخبار وتتاليها فاستنام لهدهدتها وغرابتها، وفوَّت على نفسه فرص الاستفاقة لها ومراجعتها..

أنفاسالـتـصوف فـلسفـة ونـظـرة إلى الحـياة ورؤيـة للـوجـود . إنـه نـوع مـن الـتـعامـل مـع الحـقـائـق الـكـونـية بـشـكـل عـام ، ومع الـقـضـايا الإنـسـانـيـة بـشـكـل خـاص .
فـعـلى الـمسـتـويـات الاقـتـصادية والـسيـاسـية والاجـتـماعـيـة والأخلاقـية… يـمـثـل الـتـصوف مـوقـفـا بـامتـيـاز . إنـه مـوقـف رافــض للـمـظاهـر الـسـلـبـيـة في كـل مـجـالات الـحـياة الـتي يـلامـسها .
إنـه بـشـكـل أو بـآخـر سـعي إلى تـصحـيـح الأوضاع الـتي تـعـاني اعـوجـاجـا واضطـرابا .
فـعـلى الـمـستـوى الـسيـاسي يـمـثـل الـتـصوف رفـضا لـكـل أشـكـال الـمـرض الـسيـاسي من تـنـازع عـلى الـسـلـطـة وتـعـال وظــلـم واستــبــداد ، إنـه سـعي إلى تــلـطــيـف أجــواء الـنــزوع الـسيـاسي نـحـو الاستـعـلاء وتـحـطـيـم الآخـر بـشـكـل مـن الأشـكـال سـواء مـنـها ما كـان مشـروعـا أو مـا كـان بـخـلاف ذلك .
وعـلى الـمسـتـوى الأخـلاقي ، يـمـثـل الـتـصـوف تـصحـيـحـا للـسـلـوكـيـات الـمـرضـية الـقـائـمة عـلى حـب الـعـاجـلة دون الآجـلـة ، وتـكـريـسا لمـبـدأ الـعـدل والـتـوازن بـيـن الـقـيـم الـروحـيـة والـقـيـم الـمـاديـة . فــقـد اكـتـفى الـكـثـيـر مـن الـنـاس في الـعـصر الأمـوي الـذي ظـهـر فـيه الـتـصوف ـ  على سـبـيـل الـمـثـال ـ بـالـسـعي إلى جـني أكــبـر قــدر مـمـكـن مـن الـمـال ، وتـحـقـيـق أكـبـر حـظ مـمـكـن مـن الـمـتـع واللـذائــذ الـدنـيـويـة الـمـادية ، ضـاربـيـن عـرض الـحـائـط بـالـقـيـم الـروحـيـة والإنـسانـيـة الـتي أتى بـهـا الإسـلام وســعى إلى تـرسـيخـها ، فـقـد تحـولـت حـيـاتـهم إلى حـيـاة فـارغـة من الـمـعـنى ومن الـروح ، حـياة تـعـتـبـر كـل شيء في الـمـال والجـاه . وكـل مـجـتـمع تـسـود فـيـه هذه الـقــيـم يـستـحـيـل أن تـتـحـقـق فـيه الـعـدالـة الاجـتـماعـية في تـوزيـع الخـيـرات بـشـكـل يـراعي حـق الـضعـيـف ونـصيب الـفـقـيـر ، وهـذا الـنـوع من الحـياة يـحـيا بـالـمـال ويـموت بمـوتـه وفـقـدانـه ، وتـصـيـر الحـيـاة بـعـد الـمـوت سعـيـا إلى نـيـل الـمـال أو إلى استـرجـاع مـا ضاع مـنـه أو أنـفـق بـشـتى الـطرق والـوسائـل ، المـشـروع مـنها والـمحـرم عـلى حـد سـواء . في هـذا السـيـاق يـأتي الـتـصوف لـيعـيـد الاعـتـبـار للـقـيم الـروحـية ، ولـيعـيـد الأمـور إلى نـصابـها .
   إن نـقـطـة قـوة الـتـصوف في هـذا الـمجـال لـيـست في محـاولـتـه إصلاح الـوضع بـقـدر ما تـكـمـن الـقـوة في طريـقـة معـالجـتـه لهـذه الأوضاع  وطريـقـة تـعـامـلـه مع هذه الأمـراض .

أنفاستتجلى أزمة الموقف الحضاري في موقفنا من كل بُعد فيه، سواء كان التراث القديم أو التراث الغربي أو الواقع المعاش للناس.
1 -  فقد نظرنا إلى التراث القديم نظرة المستشرقين وكأننا متفرّجون عليه ولسنا أصحابه، نعيب عليه قصوره وكأننا لسنا مسؤولين عنه. نكرّر ما قيل ونجمع بين أجزائه، وأقصى ما نفعله نشر المخطوطات دون تغيير أو تطوير أو إعادة اختيار. في حين أنّ التراث القديم ليس منفصلا عنّا، بل هو جزء منّا، ونحن جزء منه، كوّننا وأعطانا تصوّراتنا للعالم، وأمدّنا بموجهات للسلوك. نحن مسؤولون عنه بقراءتنا له مثل مسؤولية القدماء الذين أبدعوه. كما تركناه بلا موقف منّا إزاءه في القراءة والتفسير والفهم والتأويل. نكرّر الاختيارات القديمة، والمذاهب السالفة ولا نعرف كيف نشأت وأيّ أغراض خدمت. وبالرغم من تغيّر الظروف القديمة ونشأة ظروف جديدة تتطلّب اختيارات بديلة، فإننا نكرّر الاختيارات النمطية القديمة التي تعارض في أهدافها ومنطلقاتها الظروف الجديدة التي نعيشها اليوم وكأنّ التراث جسم ميت، وجثّة هامدة، ننقلها بلا واقع أو تاريخ أو حياة أو عصور أو أصحاب أو أهل، ومن ثمّ يخرج الطلاب من جامعاتنا وهم منفصلون عنه نفسيّاً يتصوّرونه "كتباً صفراء"، و"قيل وقال"، لا أمَل فيه، لا يثير قضيةً، ولا يقدّم حلاّ، فيتوجّهون إلى الثقافات المعاصرة حيث يجدون فيها أنفسهم فيزداد شعورهم بالقطيعة مع التراث القديم كلما ازداد "التغريب"، ممّا يجعل بعضهم يقوم بردّ فعلٍ على ذلك فيتمسّك بالقديم كلّه، ويرفض المعاصرة كلّها، فتنقسم الأمة إلى فريقين: فريق يرى صِلته بالتراث صِلة انقطاع ثم قطيعة، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث صلة اتصال ثُمّ وصال. الأول يرى في التراث كلّ شيء والثاني لا يرى في التراث أي شيء.
ولم ندرس علم أصول الفقه بأكمله وهو ما يعبر عن إبداع المسلمين وإحساسهم بالعالم ووضع مناهج الاستدلال بعيداً عن الإشراق، وأحكام منطق اللغة بعيداً عن الخطابة والجدل، ووضع شروط للتواتر والآحاد بعيداً عن الروايات الموضوعة التي تُلهب الخيال وتتحوّل إلى جزء من الأساطير الشعبية، ووضع أحكام للفعل ووصف مناهج للسلوك بعيداً عن الكبت والحرمان والازدواجية والنفاق. لم ندرس إبداع المسلمين في وضع مناهج للرواية لضبط النقل أو وضع أصول المنطق الحسي الذي يقوم على المشاهدة ومجرى العادات أو المنطق الأرسطي ووضع منطق بديل يقوم على قياس الغائب على الشاهِد، وقياس الأولى، وأن ما لا دليل عليه يجب نفيه. لم نعتنِ بكيفيّة نشأة العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية (اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلاّ في إطار (تاريخ العلوم والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلاّ في إطار "تاريخ العلوم عند العرب" كجزء من تاريخ العلم كما يفعل الغرب، ولم نحاول نحن معرفة الصّلة بين التوحيد والعقل، بين التوحيد والطبيعة، وكيف استطاع القدماء بعقلية التوحيد اكتشاف الرياضيات وقوانين الطبيعة. فوُضِعَ ابن رشد مع باقي الفلاسفة، وابن خلدون مع باقي المؤرخين دون إدراك للنوعية والاختيار.

أنفاس يتحدث هذا المقال عن إحدى الأساطير العربية القديمة هي أسطورة ثمود، وذلك من خلال ما جاء في القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسرد كتب التاريخ والمغازي، بهدف إعادة بناء تلك الأسطورة، وذلك من خلال كتاب (العرب والغصن الذهبي إعادة بناء الأسطورة العربية) للمستشرق الأوكراني الأصل، الأمريكي الجنسية الدكتور ياروسلاف ستيتكيفيتش،  وقام بالترجمة الناقد العراقي أ/ سعيد الغانمي، والصادر عن المركز الثقافي العربي بيروت – الدار البيضاء 2005 .
**عرض موجز:
في هذا الكتاب «العرب والغصن الذهبي» يفتح المؤلف آفاقاً أمام القارئ العربي لم يعهدها في قراءة التراث الأدبي، فهو إذ يقرأ قصة ثمود، تلك القبيلة العربية البائدة، من خلال ما كتبه عنها الإخباريون والقصاص والمفسرون، فإنه يعيد قراءة تاريخها على صعيدين: يعنى الأول بكشف التاريخ الفعلي الذي عاشته ثمود عبر التاريخ، كما كتب في الوثائق والمدونات، ويعنى الثاني بكشف الأسطورة التي تركتها ثمود في الخيال العربي قبل الإسلام.  وما إن تمّ ترميم هذه الأسطورة العربية، حتى صارت أساساً للدراسة المقارنة للأسطورة والرمز، بدءاً من غصن ثمود الذهبي، وصولاً إلى نقاش أدبي شديد التركيز للملاحم الكلاسيكية الأولى والثانوية (جلجامش وهوميروس وفرجيل) .
تدافع المقدمة عن وجود «ميثولوجيا» عربية، وتتابع في قسمها الأكبر، الآثار المبعثرة لأوصال الأسطورة في الثقافة العربية.  ويقدم الفصل الأول المصادر النصية الأساسية للكشف عن الغصن الذهبي، ومن بينها القرآن الكريم، وكتب الحديث، والسيرة النبوية، وقصص الأنبياء، وكتب التفسير، ودوائر المعارف. وعلى أساس هذه المواد نستطيع ترميم أسطورة ثمود العربية، ونبدأ معها بتلمس المعضلة الملغزة للغصن الذهبي الثمودي الذهبي.
ويوضح الكتاب كيف يبرز البعد المأساوي للأسطورة الثمودية إلى الصدارة في التراث الشعري العربي الكلاسيكي في مقابل البعد الأخلاقي الذي يبرز في كتب التفسير، ثم يقدم تاريخاً مغايراً للتدوين الأسطوري، لأفول مدينة القوافل الثمودية.  ويناقش السابع الوجه الأسطوري والكارثي في «الصيحة» النهائية التي ميزت دمار ثمود.
أما الفصل الثامن فيتخذ من «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر نقطة انطلاق له ليصل إلى تذييل الدراسة المقارنة للملحمة القديمة والكلاسيكية بنظرة تفضي إلى مزيد من التحديد والتأويل لرمز الغصن الذهبي. وأخيراً تضع الخاتمة الغصن الذهبي العربي في قلب أسطورة عربية تنتج تطابقاً رمزياً لقدار، ذابح ناقة صالح ، وصالح بني ثمود نفسه، وصولاً إلى العصور اللاحقة.