وانسجاماً مع هذا الموقف حمل جمال الدين لواء الدفاع عن اللغة العربية لكونها الرابط الذي لابديل منه بين أفراد الأمة . فهي تؤدي الى التحام , ورأي التحام , في نسيج الأمة وبنيتها . وأكثر من ذلك حيث شاهد أن ( الجامعة اللغوية ),وهي التسمية التي أطلقها الأفغاني على وحدة اللسان العربي , تنطوي على ما هو أخطر من تلك الصيغ والتعابير والمفردات اللغوية . فهي ( الجامعة )التي تحفظ تراث الأمة وآدابها وحضارتها وتاريخها , كما أنها – وهذا شيء مهم بذاته – تنطق بقرآنها .
ولم يكن جمال الدين , في دفاعه عن اللغة العربية , ينطلق من فراغ , وإنما انطلق في ذلك الوقت من حالة كانت سائدة في بلدان المشرق العربي, وهي حالة العجمة في اللسان العربي . وقد أفرزتها سياسة التتريك التي كانت متبعة آنذاك في بلدان المشرق.) فثمة تيار مستعجم , محتقر للغة العربية وآدابها وتراثها , راح يطل برأسه , وكان " اسلوباً عجيباً لإضعاف لغة القوم , والتدرج بقتل التعليم القومي "كما يصفه الأفغاني .وقد رفع الصوت منبهاً دور التعليم والقيمين عليها الى هذا الخطر المحدق بالعرب الذين باتوا مستهدفين لا في أوطانهم وحسب وإنما أيضاً في تراثهم وحضارتهم وآدابهم , والأهم أنهم باتوا مستهدفين في قرآنهم .
ولعل أكثر ما كان يقزز نفس الأفغاني مشاهدته لواحد من العرب وهو يرطن في لغته ويتباهى بازدرائها . ومما أثار حفيظته أن ظاهرتي الرطانة وازدراء اللغة انتشرتا بشكل لم يسبق له مثيل في أوساط المثقفين والأدباء . وهذا ما حدا الأفغاني , على التأسيس لتيار من المنشئين والأدباء المتمسكين بأصول لغتهم وتقاليدها , والرافضين لأي رطانة أعجمية أو سجع أو تزويق لغوي مبالغ فيه , وهي أمراض ثلاثة كانت تعث في جسد اللغة العربية وتحيله الى جسد رخو , ميت ,ولا حياة فيه .
وفي كل ذلك كان الافغاني يصدر عن خطة واعية إذ أن اللغة العربية هي العمود الفقري للثقافة العربية , وأن القضاء على الأولى يعني القضاء على الثانية . وأكثر من ذلك حيث أن لاشيء يجمع فيما بين العرب مثلما تجمع بينهم لغتهم. فهي عنصر أول وأساس في وحدتهم وجمع شملهم . وحفاظاً على هذه الوحدة يجب أن تنهض نخبة من الأدباء والمثقفين للذود عن لغة الضاد . ليس هذا وحسب وبل لتطوير وتحديث أساليب الكتابة الأدبية والفكرية بحيث تصبح اللغة العربية لغة عصرية بمكنتها استيعاب وهضم كل ما يجد على صعيد الأدب والفكر والعلم . وعندها يسقط أي ادعاء آخر بقصور اللغة العربية وبعدم قدرتها على هضم المعارف الحديثة , وعندها أيضاً – وهذا الأهم – يحافظ العرب على وحدتهم الثقافية والسياسية " فلا جامعة ( وحدة ) لقوم لالسان لهم – يقول الافغاني – ولا لسان لقوم لاآداب لهم , ولا عز لقوم لا تاريخ لهم , ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم وتنسج على منوالهم ".