هرب الكاتب الفرنسي التنويري والفيلسوف الساخر "فولتير" Voltaire من باريس إلى إنجلترا عام 1726 بعد أن اتهمه "دوق روهان" Duc de Rohan بالتشهير. وبعد نفي دام ثلاث سنوات، حصل على إذن بالعودة إلى باريس عام 1729. في عام 1734هرب مرة أخرى إلى منطقة "شامبانيا" Champagne الفرنسية التي تشتهر بالكروم، وحيث استبدل رأس المال المتطور والكريه الرائحة بأفدنة من مزارع الكروم المخططة بدقة. ومرة أخرى، اصطدم الفيلسوف ذو اللسان الحاد بالرقابة الفرنسية.

يهرب فولتير مرة أخرى، وهذه المرة هربًا من العاصفة التي أحاطت بنشر رسائل فلسفية (المعروفة أيضًا باسم رسائل تتعلق بالأمة الإنجليزية). وهي سلسلة من المقالات كتبها فولتير بناءً على تجاربه في بريطانيا العظمى بين عامي 1726 و1729. نُشر الكتاب أولاً باللغة الإنجليزية عام 1733 وبالفرنسية في العام التالي، حيث كان يُنظر إليها على أنها هجوم على نظام الحكم الفرنسي وتم قمعه بسرعة.

قام الكتاب المصمم على شكل رسائل بتصنيف الحياة الدينية والسياسية والثقافية في بريطانيا، مشيدًا بالدولة الجزيرة لمناصرة الحرية والتجارة. لقد تطلب الأمر أيضاً أكثر من بضع ضربات شديدة على النبلاء الفرنسيين. تم حرق المجلد غير المشروع، الذي لم يتم مسحه من قبل الرقابة الملكية، من قبل الجلاد الملكي لتراه كل باريس. تم إصدار مذكرة اعتقال بحق فولتير، والتي في حالة تنفيذها، ستؤدي إلى وصوله إلى سجن الباستيل.

وبدلاً من أن يتعفن في زنزانة سجن رطبة، كان فولتير على بعد أكثر من 140 ميلاً، حيث لجأ إلى ملاذ تحت سقف "قلعة سيري" Château de Cirey والحماية التي توفرها العلاقات العائلية للماركيز "فلورنت كلود دو شاتليه" Florent-Claude du Châtelet. على مدى السنوات الخمس عشرة التالية، عاش فولتير في سيري، وكتب سيلاً مستمراً من الرسائل ليظل على اتصال مع أصدقائه في باريس وغيرهم ممن كانوا في الخارج. ساعدت تلك الرسائل في الترويج لمسرحياته وأعماله التاريخية ومقالاته، مع إبقائه على اطلاع بآخر التطورات الفكرية. وقد خاض أيضاً علاقة عاطفية متقدة من القلب والعقل مع "إميلي دو شاتليه" Emilie du Châtelet، زوجة المركيز.

أثناء وجوده في سيري، كتب فولتير ونشر واحداً من أبرز الكتب في حياته المهنية المثمرة للغاية: "عناصر فلسفة نيوتن" Éléments de la Philosophie de Newton، وهو أول تقطير لميتافيزيقا العالم الإنجليزي يظهر باللغة الفرنسية. من خلال إعلان نفسه مؤيداً لنيوتن – وضد "رينيه ديكارت" René Descarte الذي هيمنت آراؤه حول الزمان والمكان والمادة على التفكير العلمي والفلسفي – أشعل فولتير حرباً داخل جمهورية الآداب، وهي التجمع الفضفاض من الرجال والنساء المتعلمين الذين شكلوا المجتمع الفكري في أوروبا.  وانتشرت الرسائل عبر أوروبا والقناة الإنجليزية لتشريح حجج فولتير. وطبعت كتيبات وكتب رداً على ذلك، وأجاب فولتير بالمثل.

كتاب من تأليف الباحث المصري باسم خفاجي، صدر في العام 2005 عن المركز العربي للدراسات الإنسانية، يتكون من مقدمة وستة فصول، بسط من خلالها الدارس أهم السمات المميزة لذهنية الإنسان الأمريكي، إذ أورد الكاتب أن التعرف على تلك الخصائص النفسية يكتسي أهمية بالغة لجهة فهم الدوافع الثاوية خلف السياسات التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية، ومعرفة الوسائل القمينة بالتأثير على دوائر صنع القرار بالبلد الذي يُعد القوة الأولى عالميا.

أولا: سيكولوجية المهاجرين الأوائل

إن تاريخ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية يفسر إلى حد بعيد تَكَوُّن شخصية أمريكية ذات خصائص فريدة، إذ تكونت أمريكا أساسا من مهاجرين منبوذين وفدوا من أوروبا لدوافع متعددة، إما هربا من الملاحقة القضائية بسبب الجرائم التي اقترفوها، أو فرارا من الاضطهاد الديني على غرار البروتستانت الذين عانوا من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية، أو طمعا في بلوغ مستوى معيشة أفضل في ظل انسداد الآفاق أمامهم بأوروبا الغارقة في مستنقع الطبقية وقتئذ، حيث كان النبلاء يستأثرون بالمزايا المادية والاجتماعية، ولذلك رأى هؤلاء المهاجرون في أمريكا أرض الفرص والأحلام، متبنين بذلك نظرة واقعية تتطلع إلى المستقبل وتشدد على التخفف من أثقال الماضي.

وعطفا على ما سبق، آمنت طائفة كبيرة من المهاجرين المتدينين الأوائل بفكرة "شعب الله المختار" التي سوغت لهم ارتكاب جرائم شنيعة ضد السكان الأصليين من الهنود الحمر، إذ اعتقدوا بأنه يتعين استخدام القوة لتحقيق مصالح الأمة الأمريكية، ذلك أن مظاهر السلطة والثراء التي يتمتعون بها تدلل على أنهم يحظون بالعناية والمباركة الإلهية بحسب زعمهم.

ثانيا: مقارنة بين الشخصيتين الأمريكية والأوروبية

لا يميز بعض المراقبين بين الأمريكي والأوروبي اللذين يصنفان معا تحت مسمى واحد هو "الغرب"، والحال أن ثمة فروقا مهمة بين الشخصيتين، إذ يعطي الأمريكي الأولوية لعلاقات القوة والمكانة المادية مقارنة باعتبارات أخرى حاضرة لدى الأوروبيين مثل الانتماء الطبقي والجغرافي، ولئن كان الأوروبيون شغوفين بابتكار الأفكار النظرية، فإن الأمريكيين المشهود لهم بالنزعة العملية والبراغماتية لطالما نجحوا في تطوير تلك الأفكار وتطبيقها تطبيقا مثمرا ومفيدا لهم (الرأسمالية، النظريات الفيزيائية كالنسبية... إلخ).

وإلى جانب ذلك، يميل الأمريكي إلى التمسك بفرديته ورفض أي تدخل فعلي للدولة لضمان الحقوق العامة للمجتمع (مثل فرض ضرائب كبيرة على الأثرياء لصالح الفئات الأقل حظا)، أما الأوروبي فيجنح إلى دعم فكرة الدولة الاجتماعية واستبعاد الفردانية المتطرفة.

ومن جهة أخرى، تُعتبر العلمانية الأوروبية أكثر تشددا في موضوع استبعاد الدين من الحياة العامة نظرا إلى الدور التاريخي السلبي الذي لعبته الكنيسة في إعاقة النهضة العلمية والفكرية بأوروبا، أما في أمريكا فلا يخفى تأثير الدين بهذه الدرجة أو تلك في المجال العام (وهو ما نلمسه في قضايا مثل الإجهاض)، كما يتم توظيف الدين لخدمة أغراض السياسة الأمريكية المتعلقة بالهيمنة على الشعوب الأخرى.

السرد الوطني شرط أساسي للاستقلال الحقيقي. تخلق معظم الأمم والشعوب قصة تأسيسية، سواء كانت تاريخية أو أسطورية، كمصدر للكرامة والقوة والفخر التي تعتمد عليها في بناء الهدف والهوية. لم يتم بعد تقديم تاريخ فلسطين الطويل وتراثها الغني برؤية متماسكة للاستمرارية الثقافية، لأسباب اجتماعية ودينية وسياسية.
واجهت الرواية الفلسطينية تحديات كبيرة، داخلية وخارجية. داخلياً، يشكل الانقسام بين حركتي فتح وحماس عائقاً كبيراً. أما خارجياً فإن الاحتلال الإسرائيلي وقمع الأصوات الفلسطينية تعيق إمكانات حركة المقاومة الفلسطينية التي تناضل من أجل التحرير تحت وطأة آلاف السنين من السيطرة الاستعمارية. ومن أهم شروط التحرر، الارتقاء بالخطاب الفلسطيني على المستويين المفاهيمي والوطني في كافة المجالات، وخاصة في فترة الجمود السياسي.
كتاباتنا هي تجاربنا وجزء من ذاكرتنا الوطنية الذي سيشكل تاريخنا الذي سيؤثر على تحديد هويتنا الوطنية. إن "التاريخ بالنسبة للأمة بقدر ما تكون الذاكرة بالنسبة للفرد. فكما أن الفرد المحروم من الذاكرة يصبح مشوشا وتائها، لا يعرف أين كان ولا إلى أين يتجه، كذلك الأمة التي تحرم من تصور ماضيها تصبح عاجزة عن التعامل مع حاضرها ومستقبلها. وباعتباره وسيلة لتحديد الهوية الوطنية، يصبح السرد، والكتابة وسيلة لتشكيل التاريخ.
في السياق الفلسطيني، التاريخ ليس مجرد مقدمة، بل هو متأصل بعمق وينتقل بين الأجيال، مما يشكل مشاعر وعناصر متبادلة والتي تشكل الهوية الوطنية بشكل تدريجي. إن جذور الهوية الفلسطينية تسبق ظهور وعي فلسطيني عام بهذه الهوية، حيث بدأ سكان فلسطين ينظرون إلى أنفسهم كوحدة سياسية متميزة في أوائل القرن العشرين. وحتى يومنا هذا، يمكن القول إن الهوية الفلسطينية لا تزال تتطور وتشهد تغيرات بسبب عوامل مثل الاحتلال الإسرائيلي، والنضال من أجل الوحدة الوطنية، والتغيرات الإقليمية والعالمية، والخوف من فقدان مستقبل هذه الهوية أو تشويهها.

اقتحم الشعبويون اليساريون المشهد السياسي في أوروبا خلال العقد الأخير، وتمكنوا أيضاً من إدراج أجنداتهم الاشتراكية الصريحة في برلماناتهم وإحداث تغيير جوهري سيظل مطبوعاً في الثقافة السياسية لأوروبا. ومن المثير للدهشة أن الأكاديميين لم يعيروا هذا الأمر سوى القليل من الاهتمام. فكيف أصبحت الحركات والأحزاب الشعبوية اليسارية بارزة في أوروبا خلال السنوات العقد الماضي؟ وإلى أي مدى لعب الركود الاقتصادي والأزمة المالية الكارثية عام 2008 دوراً في إثارة هذه الحركات؟

كانت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، إلى جانب نظيراتها من يمين الوسط، هي المهيمنة في السياسة الأوروبية. PSOE في إسبانيا، وحزب العمال في المملكة المتحدة، Labor Party والحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا SPD ، والباسوك في اليونان PASOK . كانت جميع الأحزاب السياسية من يسار الوسط بمثابة قادة اليسار بلا منازع. لكن أدى تراجعهم إلى انقسام في الجانب الأيسر من الطيف الأيديولوجي.

فبعد "الطريق الثالث" الذي تبناه "توني بلير" Tony Blair  بدأت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الأوروبية في تبني المزيد من جوانب الرأسمالية، وأداروا ظهورهم لعدم المساواة في الدخل وإخفاقات السوق الأخرى مثل عمليات الإخلاء العشوائية.

وقد خلق هذا، فضلاً عن صعود "انقسام العولمة"، مرحلة حيث أصبحت الأحزاب الشعبوية اليسارية قادرة على تلبية احتياجات الناخبين الذين ظلت نوعية حياتهم على حالها أو انخفضت بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

على الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظي به صعود الحركات الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا، إلا أن الشعبويين اليساريين لم يخضعوا لقدر كبير من التدقيق. تتميز الشعبوية على نطاق واسع بخطابها المناهض للمؤسسة والذي يمكن رؤيته في كل من الشعبوية اليمينية واليسارية. وإلى جانب هذه الخاصية، لم يتفق الأكاديميون على الصفات الشاملة التي تربط بين معسكري الشعبوية اليميني واليساري.

وبالنظر على وجه التحديد إلى الشعبوية اليسارية، جاءت معظم الأبحاث كرد فعل على استكشاف أمريكا اللاتينية للشعبوية اليسارية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، فإن الشعبوية اليسارية "تُعرّف العدو من حيث حاملي الهياكل الاجتماعية والاقتصادية، ونادراً ما يكونون مجموعات معينة.

شهدت دولتان أوروبيتان على وجه التحديد صعود الشعبوية اليسارية بطريقة قوية ومتشابهة بشكل خاص: اليونان وإسبانيا. كان لدى كل من البلدين نظام حزبين يتوازن بين يسار الوسط ويمين الوسط قبل أزمة عام 2008، وتعرضت صناعاتها المصرفية لأضرار بالغة، وبلغت البطالة مستويات قياسية، وخلقت إجراءات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي وضعا اقتصاديا لا يطاق بالنسبة للبلاد مما أفقرالمواطنين.

بسبب أوجه التشابه العديدة في حالتي اليونان وإسبانيا، سنقارن صعود الشعبوية اليسارية في كلا البلدين ونبحث في آثار الانهيار الاقتصادي عام 2008 على صعود هذه الحركات. أجد أن أزمة 2008 لعبت دورا حاسما في صعود الشعبويين اليساريين في كلا البلدين، ولكن بقدرات مختلفة. في اليونان، دفعتهم الصعوبات الاقتصادية التي واجهها الأفراد إلى التصويت لصالح حزب جديد يرفض تدابير التقشف. ومع ذلك، في إسبانيا، كان التصور الاقتصادي السيئ للبلاد هو الذي دفع البعض إلى التصويت لصالح انتفاضة الشعبويين. وفي كلتا الحالتين، ساعد الشك في وحدة أوروبا في صعود هذه الأحزاب، لكنها فعلت ذلك بشكل أكبر في اليونان مما كانت عليه في اسبانيا. هذه النتائج مهمة لأنها تظهر أن الأزمة المالية لعام 2008 كانت حافزاً للشعبويين اليساريين الذين جلبوا عدم الاستقرار السياسي إلى أوروبا وساعدوا في تعزيز المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي.

كتاب من تأليف الباحث في العلاقات الدولية كرار حيدر سالم السعيدي، صدر في العام الحالي (2024) عن دار الورشة للطباعة والنشر ببغداد. انصرف هذا المؤلف إلى بسط أهم السياسات التي اتبعتها روسيا في أفق استعادة دورها الريادي في النظام الدولي، مع التطرق إلى السيناريوهات القادمة المرتبطة بتلك المكانة، وبمستقبل النظام الدولي الذي يقر العديد من المراقبين أنه يعيش مرحلة انتقالية تسير به نحو اتخاذ صبغة جديدة تخلع عنه رداء التوجه الأحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

أولا: الاستراتيجية العسكرية الروسية والطموحات الجيوسياسية للكرملين

اتخذت استراتيجية روسيا الأمنية خلال ولاية بوتين الأولى (2000 - 2004) طابعا دفاعيا إزاء التهديدات المتنوعة التي كانت تحيق بها (النزعات الانفصالية في الداخل كما حدث في الحرب الشيشانية، النزعة التوسعية لحلف شمال الأطلسي... إلخ). ولكن في الفترة الرئاسية الثانية (2005 – 2009)، ما لبث أن سلكت السياسة الروسية نهجا أكثر حدة وجرأة كرد فعل على تهميش دورها ومصالحها القومية في ظل السياسات الأمريكية الأحادية المنزع (مثال العراق وكوسوفو).

أ) آسيا الوسطى والقوقاز:

تكتسي جمهوريات آسيا الوسطى (أوزبكستان، تركمانستان، كازاخستان، طاجكستان، قيرغيزستان) أهمية بالغة بالنسبة للسياسة الروسية لما تزخر به تلك الدول من موارد وثروات طبيعية كالبترول والغاز والذهب واليورانيوم، كما أنها تعتبر سوقا للصادرات العسكرية الروسية، دون إغفال توفرها على خطوط نقل الطاقة الروسية إلى الخارج، كما أنها تُعد منطقة عمق استراتيجي لروسيا لصَدِّ تَمَدُّد الناتو إلى تخوم روسيا. وينسحب ما سبق أيضا على دول القوقاز (جورجيا، أرمينيا، أذربيجان) التي لها نفس الثقل الاقتصادي والعسكري الذي تملكه جمهوريات آسيا الوسطى، فضلا عن توفرها على منافذ بحرية تعطي متنفسا لروسيا، وقد تجلى ذلك بوضوح في الغزو الروسي لجورجيا سنة 2008.

ب) أبعاد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط:

إن الشرق الأوسط لا يقل أهمية في منظور صانع القرار بروسيا بسبب توفره على ثروات هائلة ومنافذ بحرية حيوية (كالبحر المتوسط) وأنابيب نقل الغاز الروسي، بالإضافة إلى الاعتبارات الأمنية المتمثلة في التصدي لخطر الجماعات المتطرفة التي تهدد أراضيها، وهي العوامل التي تفسر إلى حد بعيد التدخل العسكري الروسي في سوريا سنة 2015. وفي نفس السياق، تبدو روسيا حريصة على نسج علاقات متينة بقوى إقليمية متعددة داخل الشرق الأوسط، ومن أبرزها إيران ودول الخليج العربي وتركيا.

مصطلح الكوسموبوليتانية مشتق من الكلمة اليونانية kosmopolites، والتي تعني "مواطن العالم". تم استخدامه لأول مرة من قبل المتهكمين ثم الرواقيين لاحقاً، الذين استخدموه لتحديد الأشخاص على أنهم ينتمون إلى مجتمعين متميزين: المجتمع المحلي والمجتمع الأوسع "المشترك". هذا الفهم للكوزموبوليتانية لا يشير إلا إلى واحد من معانيها. ومفهومه اليوم واسع، ولا يكفي تعريف واحد ليشمل كل معانيه. ويمكن التمييز بين العالمية الأخلاقية والسياسية؛ يمكن فهم العالمية باعتبارها منظوراً للعدالة العالمية وكمفهوم يتم من خلاله الحديث عن حقوق الإنسان ونظرية العدالة. ويمكن أيضاً فهم الكوسموبوليتانية على أنها موقف أخلاقي، حيث ينخرط الأفراد مع الآخرين في الحوار والتفاهم من أجل تجاوز ضيق الأفق. كما يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه يتم التعبير عنه في الظواهر الثقافية، كما هو الحال في أنماط الحياة والهويات. الكوسموبوليتانية هي وجهة نظر معيارية يمكن من خلالها تجربة العالم وفهمه والحكم عليه، وهي أيضاً حالة يتم من خلالها إنشاء القوانين والمؤسسات والممارسات التي يتم تعريفها على هذا النحو.
تشمل الكوسموبوليتانية أربع وجهات نظر متميزة، ولكنها متداخلة: (1) التماهي مع العالم أو مع الإنسانية بشكل عام والذي يتجاوز الالتزامات المحلية. (2) موقف الانفتاح والتسامح تجاه أفكار وقيم الآخرين المتميزين. (3) توقع الحركة التاريخية نحو السلام العالمي. و(4) موقف معياري يؤيد الأهداف والأفعال العالمية.
للكوزموبوليتانية جانب جماعي مثل نظريات عالم الاجتماع الفرنسي "ديفيد دوركهايم" David Durkheim حيث كان الكثير من أعمال دوركهايم معنياً بكيفية الحفاظ على سلامة المجتمعات وتماسكها في الحداثة، وهو العصر الذي أصبحت فيه الروابط الاجتماعية والدينية التقليدية أقل عالمية بكثير، وظهرت فيه مؤسسات اجتماعية جديدة. لقد أرسى مفهوم دوركهايم للدراسة العلمية للمجتمع الأساس لعلم الاجتماع الحديث، واستخدم أدوات علمية مثل الإحصائيات والمسوحات والملاحظة التاريخية في تحليله للسلوك الاجتماعي في الجماعات الكاثوليكية والبروتستانتية. وللكوزموبوليتانية جانب يتمحور حول الفرد، وقد طورها الفيلسوف الألماني التنويري "إيمانويل كانط" Immanuel Kant بشكل خاص. يعتقد كانط أن العقل هو مصدر الأخلاق، وأن الجماليات تنشأ من ملكة الحكم النزيه. كانت آراء كانط الدينية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظريته الأخلاقية. لقد رسم كانط تشابهاً مع الثورة الكوبرنيكية في اقتراحه للتفكير في موضوعات الخبرة باعتبارها تتوافق مع أشكال حدسنا المكانية والزمانية وفئات فهمنا، بحيث يكون لدينا معرفة مسبقة بتلك الأشياء. وقد أثبتت هذه الادعاءات تأثيرها بشكل خاص في العلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، التي تعتبر الأنشطة البشرية موجهة مسبقاً بواسطة المعايير الثقافية.

إن الموجات القوية المتزامنة من التكامل الأوروبي والتفضيلات المناهضة للهجرة التي تجتاح أوروبا، والتي تستفيد من الخطابات الشعبوية، تعكس مخاوف المواطنين الاقتصادية الناجمة عن الأزمة المالية، والمخاوف الثقافية الكامنة، والشكوك واسعة النطاق تجاه المؤسسات الدولية، والإحباط من الأزمات المالية والسياسية العالمية. توفر الأبحاث الانتخابية وأبحاث الرأي العام المتوفرة روايات مجزأة ومتضاربة حول الأصول النفسية لهذه التفضيلات المناهضة. نحاول تحديد إطار نظري شامل جديد يركز على رد الفعل كتوجه سياسي، وتقديم اختبار تجريبي للنظرية المقترحة باستخدام بيانات من المسح الاجتماعي الأوروبي. إن تفسير رد الفعل السياسي كمحرك للتفضيلات السياسية يمكن أن يدفع البحث إلى الأمام حول التحديات التي تواجه التمثيل الديمقراطي، وخاصة فك الارتباط السياسي، والاحتجاجات العنيفة، والتصويت الشعبوي، والأحزاب المناهضة للمؤسسة في سياق الأزمات المالية والسياسية.

يمكن مقارنة حجم المواقف التي يتخذها الرجال والنساء المختلفون تجاه التغيير الاجتماعي بالطيف الشمسي. وعلى الطرف المقابل يقف التطرف ورد الفعل الذي لا هوادة فيه.

تهدف هذه المقالة إلى التعبير نظرياً عن الخصائص النفسية للرجعية باعتبارها توجهاً سياسياً جماعياً في سياق الأزمة المالية وصعود السياسات الحزبية الشعبوية، وتقديم اختبار تجريبي للرجعية كمحرك رئيسي للمقاومة المتزامنة. تفضيلات التكامل في الاتحاد الأوروبي والهجرة. يُشار إلى الرجعية على أنها النظير الأيديولوجي للتطرف والتقدمية. في شكله المعاصر، يستخدم الباحثون هذا المصطلح بشكل متزايد لوصف خطاب الأحزاب الشعبوية اليمينية والنظرة السياسية لمؤيديها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

إن الإشارات إلى "العقل الرجعي"، و"المزاج الرجعي"، و"القلب الرجعي"، و"المد الرجعي"، و"الناخب الرجعي"، و"الأحزاب الشعبوية الرجعية والمعادية للأجانب" تعترف بالروابط المفاهيمية بين الرجعية وكراهية الأجانب، والمطالب المناهضة للهجرة، العنصرية، والتشكك المناهض للخبراء، والمشاعر المناهضة للمؤسسة، والمواقف المناهضة للاتحاد الأوروبي، لكنها تترك خصائصها النفسية غير مستكشفة إلى حد كبير.

عرّف الأكاديمي والسياسي اليوناني "كونستانتينوس ديمرتزيس" Konstantinos Demertzis الرجعية بأنها "مفهوم جماعي يصف توجهاً سياسياً معقداً، يجمع بين العاطفة الاستيائية والرغبة القوية في العودة إلى الماضي". يعتمد التوجه الرجعي على قيم المحافظة والنفور مما هو جديد. إن طابعها العاطفي هو المشاعر المعقدة للاستياء، ومزج الغضب والخوف والأمل والحنين والخيانة والشعور بالظلم المتصور. إن الأدلة على الرجعية يمكن تتبعها تجريبياً في المشاركة والدعم الخامل للأعمال السياسية غير القانونية والعنيفة، والتي يحركها شعور متزايد بالركود الاقتصادي، والقلق الناجم عن الأزمة المالية، والمخاوف الاقتصادية والثقافية لدى العديد من المواطنين.

"هل يمكن للجامعة ( وبالتالي كيف لها) أن تؤكّد استقلالية لا مشروطة ، وتطالب بضرب من السيادة ، ونوع جدّ أصيل ، ونوع استثنائيّ من السيادة ، دون المجازفة بالوقوع في خطر كبير، بل من الواجب ، بحكم التجريد الممكن لهذه السيادة المستقلّة ، أن تسلّم نفسها وأن تستسلم دون شرط ، وأن تكون لقمة سائغة و أن تشترى بأيّ ثمن؟" (  دريدا).

" نحن نعرف ذلك جيدا، لا توجد فعلا هذه" الجامعة دون شروط" . لكن يجب على الجامعة، مبدئيا و توافقا مع الغرض من وجودها صراحة، وبفضل جوهرها المعلن، أن تظلّ الحيّز الأقصى للمقاومة النقدية - والأكثر من نقدية - مقاومة لكلّ سلطات التملّك الدغمائي وغير العادل."(  دريدا).

"يمكن للمقاومة ، بوصفها لامشروطة، أن تجعل الجامعة في مواجهةٍ لعدد كبير من السلطات : سلطات الدولة ( وبالتالي السلطات السياسيّة للدولة - الأمّة وبتوهّمها السيادة غير القابلة للقسمة : وهو ما تكون به الجامعة متقدّمة لا تقدّما كوسموبوليتيكيا ، بل أيضا كونيّا، ممتدّة إذن إلى ما وراء المواطنة العالمية والدولة- الأمة بوجه عام)، و لسلطات اقتصادية ( تمركز الرأسمال الوطني والدولي)، وللسلطات الاتصالية والايديولوجية والدينية والثقافية ، الخ . وباختصار لكل السلطات التي تحدّ من الديمقراطية القادمة" .(  دريدا)

************

  " يعني هذا العنوان المقترح أولا أنّه يجب على الجامعة الحديثة أن تكون دون شروط. ونعني " بجامعة حديثة"، تلك التي أصبح نموذجها الأوروبي، بعد تاريخ وسيط غنيّ ومعقّد، مهيمنا، أي " كلاسيكيا"، منذ قرنين، في دول من نوع ديمقراطي. تتطلب هذه الجامعة، ويجب عليها أن تشهد بذاتها الاعتراف من حيث المبدأ، فضلا عما نسمّيه الحرية الأكاديمية، حرية لامشروطة في التساؤل والاقتراح لا بل أكثر من ذلك ، الحقّ في القول عموميّا كلّ ما يقضيه بحث أو معرفة أو فكر عن الحقيقة. وتبدو الإحالة إلى الحقيقة، وإن ظلت جدّ مبهمة أساسية جدا كي نجد أنفسنا، مع النور، على شارات رمزية لأكثر من جامعة. تضطلع الجامعة بالحقيقة . فهي تصرّح ، وتعدُ بالتزام دون قيد ولا حدّ تجاه الحقيقة.

 تمنح منزلة الحقيقة وصيرورتها دون شكّ، مثل قيمتها، الفرصة لنقاشات لا تنتهي (حقيقة التطابق أو حقيقة الإلهام، والحقيقة بوصفها موضوع خطاب نظري- تقريري أو أحداث شعرية- إنجازية، الخ). غير أنّ هذا يناقش، بطريقة مميّزة، في الجامعة وفي الأقسام التي تنتمي إلى الإنسانيات. ولنترك جانبا هذه المسائل الخطيرة معلقة الآن. ولنؤكّد فحسب استباقا على أن هذه المسألة الشاسعة للحقيقة وللأنوار، مسألة الأنوار Ilustracion, Iluminismo, Enlightenment, Illuminismo,كانت دوما متصلة بالإنسان. وهيتلزم بمفهوم الإنسان في حدّ ذاته، ذاك الذي أسّس في الآن نفسه النزعة الإنسية والفكرة التاريخية للإنسانيات. ويشكلّ اليوم الإعلان المتجدّد والمعاد صياغته " لحقوق الإنسان" ( 1948) وتأسيس المفهوم الحقوقي" للجريمة ضدّ الإنسانية" ( 1945) ، أفقا للعولمة وللحقّ الدولي الذي يفترض منه السهر عليها.( أحتفظ بالكلمة الفرنسية " للعولمة mondialisation من أجل " الكوكبة" globalization - Globalisierung حتى احتفظ بالإحالة إلى "عالم"« monde » (world, Welt, mundus) الذي ليس الكوكب globe ولا الكوسموس cosmos ،ولا الكون l'univers).نحن نعرف أنّ الشبكة المفاهيمية للإنسان ، للإنسان في حدّ ذاته ، و لحقّ الإنسان وللجريمة ضدّ إنسانية الإنسان تنظّم مثل هذه العولمة . تريد هذه العولمة إذن أن تكون أنسنة humanisation . لكن، إذا ما بدا مفهوم الإنسان في ذات الوقت ضروريا وإشكاليا دوما، فسيكون هذا إذن ، أحد مبررات أطروحتي ، وإذا ما شئتم، إحدى أطروحاتي في شكل إفصاح عن اعتقاد ، لا يمكن مناقشته أو إعادة صياغته، كما هو ودون شرط ، ودون مسلّمات ، إلاّ في فضاء " الإنسانيات "الجديدة ". لكن لتكن هذه النقاشات نقدية أو تفكيكيّةdéconstructives ، وهو ما يعني المسألة وتاريخ الحقيقة في علاقتها بمسألة الإنسان، بما يخصّ الإنسان، بحق الإنسان ، وبالجريمة ضد ّ الإنسانية الخ..، يجب أن يجد كلّ ذلك مبدئيا في الجامعة وبامتياز، وفي " الإنسانيات" Humanités، حيّزه للنقاش اللامشروط ودون مسلمات ، وفضاءه المشروع للعمل وإعادة البناء. لا من أجل التقوقع عليها، بل على العكس، للعثور على أفضل منفذ إلى فضاء عموميّ جديد غيّرته تقنيات جديدة للاتصال والإعلام والتوثيق وإنتاج المعرفة. ( ومن بين المسائل الخطيرة التي تطرح هنا، لكنها المسألة التي يجب عليّ أن أتركها مفتوحة، بين الجامعة والخارج السياسي- الاقتصاديّ، هي مسألة سوق النشر والدور الذي يلعبه في عملية الأرشفة والتقييم والشرعنة للأعمال الجامعية). ليس أفق الحقيقة أو الأفق الخاص بالإنسان بالتأكيد حدّا قابلا للتحديد كثيرا. لكن أفق الجامعة والإنسانية هو كذلك أيضا. نحن نعرف ذلك جيدا، لا توجد فعلا هذه الجامعة دون شروط . لكن يجب عليها ، مبدئيا وفي التوافق مع هدفها الصريح ، وبفضل جوهرها المعلن، أن تظلّ الحيّز الأقصى للمقاومة النقدية - وأكثر من نقدية - مقاومة لكلّ سلطات التملّك الدغمائي وغير العادل. وحينما أقول " أكثر من نقدية" ، فإني أقصد " تفكيكيّة" ( لم لا نقول ذلك مباشرة ودون مضْعَيَة للوقت؟). أطلب الحقّ في التفكيك بوصفه حقّا لامشروطا في طرح الأسئلة النقدية لا على تاريخ مفهوم الإنسان فحسب، بل على تاريخ مقولة النقد بالذات ، على تاريخ شكل ونفوذ المسألة1، على الشكل. (1).