تمهيد:
اننا لكي نحاول سد الثغرات الغائرة الخاطئة التي تخترق هيكل وجسد تاريخ الفلسفة كما اشارت له نظرية التحول اللغوي وفلسفة اللغة ونظرية فائض المعنى التي بدأت مطلع القرن العشرين وتبلورت الى نضج فلسفي متشظ منتصف القرن العشرين في تنصيب فلسفة اللغة الفلسفة الاولى على هرم مباحث الفلسفة يلازمها في المقدمة تنحية مبحث الابستمولوجيا الفلسفة الاولى القارة في تاريخ الفلسفة منذ ما قبل القرن السابع عشر عصر ديكارت.
بات على رواد الفلسفة المعاصرة بعد دخول فلسفة اللغة نفق التشظي الفلسفي اللغوي المسدود اعقاب ما جاءت به فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات. التوجه نحو مراجعة أخطاء افكار الفلاسفة على مر العصور وليس تحميل تاريخ فلسفة اللغة الاخطاء المتراكمة في البحث عن حفريات معرفية جديدة غير مسبوقة تقودها قراءات حديثة تبدأ من دراسة اثنولوجيا تاريخ الاقوام البدائية التي ليس لها تاريخ كما فعل شتراوس وليس انتهاءا بالخروج على جميع طروحات عصر الانوار والحداثة كما وليس وقوفا امام مرحلة ما بعد الحداثة مع الفلاسفة الذين يرغبون مجاوزة ما بعد الحداثة الى ما بعدها.. اللغة ليست مشكلة الفلسفة بل اراء الفلاسفة التضليلية الخاطئة هي المشكلة.وهم الجدل الهيجلي
سبق لي وكتبت أكثر من مقال منشور لي على مواقع ومنصات الكترونية تتوزعها مؤلفاتي تعنى بالفلسفة والفكر طعنت بها حقيقة الزيف الجدلي الهيجلي المثالي ليس من منطلق رؤيته الفلسفية المثالية الدارجة عنه من ان كل شيء يتم بالفكر قبل سيرورة الواقع. بل لما امتاز به جدل هيجل من تلفيق مصطنع كان مثار ليس تشكيك كبار الفلاسفة الذين عاصروه، بل الاهم ان هيجل صاحب الجدل التلفيقي لم يكن مؤمنا هو بما يقول به عن جدله فلسفيا كونه كان على دراية كاملة انه يبحث عن جدل تخييلي وسط تلاطم امواج من التلفيق والتنظير الانفصامي عن صيرورة الواقع وحركته التطورية بمعزل عن الحياة.
الحقيقة التي اكتشفها العشرات من الفلاسفة والمفكرين ان جدل هيجل الوهمي الافتراضي ليس مقتله في نزعته المثالية المتمركزة حول تغليبه جدل الفكر داخل العقل على جدل المادة والواقع في التاريخ بتضاداته الاصطراعية خارج ارادة الانسان. هذه المثلبة التي وقف ضدها بكل قوة ماركس ومن ورائه انجلز ،فيورباخ، شتيرنر، شتراوس، واخرين غيرهم انشقوا جميعهم عن هيجل باسم تبنيهم اليسار الجدلي المادي منصرفين الى معالجات فلسفية بحثية حاولت تجاوزطروحات هيجل كليّة.
ما اطلق عليه هيجل الجدل الديالكتيكي قبل ماركس كان ضربا من الوهم التلفيقي مركزه الفكر الذي لا علاقة تربطه بالواقع ولا بالتاريخ. كما لم يكن يمتلك هيجل قدرة الاعتراف ان هناك من العلاقات التي لا حصر لها التي تحكم الحياة والتاريخ والطبيعة انما تقوم على نوع من التكامل المعرفي التخارجي فيما بينها الذي لا يحكمه التضاد الجدلي داخل الظاهرة الواحدة في نفي طرف او اكثر لا نعدام المجانسة التكوينية النوعية بين المتضادين بما ينفي طرف التضاد السالب والابقاء على الطرف الموجب باستحداثه الظاهرة النوعية الجديدة. اي ليس كل تغيير جديد بالحياة يتوجب دخوله نفق الديالكتيك الذي تمليه طبيعة العقل الجدلية كما اشار هيجل له..لا يوجد طبيعة جدلية تسم العقل بالفطرة وانما يوجد انعكاس جدلي واقعي على العقل.
من اهم ميزات اثبات الجدل الهيجلي انه وهم تلفيقي لا علاقة له بالمادة ولا بالواقع ولا بالتاريخ هو ما ناتي على ذكر بعضه:
1.يعتبر هيجل جدل الواقع هو الانعكاس الطبيعي الذي يربط تكوين طبيعة العقل الجدلية بالواقع اللاجدلي. اي ان طبيعة العقل الجدلية هي التي تصور لنا جدلية الواقع والاسبق عليه ولولا طبيعة العقل البيولوجية الجدلية لما كان يحصل جدلا بالحياة ولا في الواقع المادي واخيرا في التاريخ. حسب هيجل المحرك القبلي لجدل الواقع هو طبيعة تكوين عقل الانسان الجدلية. ولو لم يمتاز العقل البشري بجدل ديالكتيكي طبيعي موجود تكوينيا في بيولوجيا العقل بالفطرة فان كل ما يحصل بالواقع من تضاد جدلي وسيرورة تطورية وينسب له انه جدل ديالكتيكي لا وجود له ولا قابلية ذاتية على انبثاقه حركيا تطوريا تغييريا كما طرحه هيجل.
2. بملخص العبارة حسب الفهم الهيجلي للجدل ان هيجل بطروحاته الفلسفية التنظيرية الجدلية التي اخترعها بكفاءة وهمية عالية لم يكن مؤمنا بوجود جدل يحكم المادة والواقع والتاريخ يرتبط جدليا مع طبيعة العقل الجدلية التي قال بها. ولم يكن بمستطاعه التراجع عن مقولته الجدلية التلفيقية المصطنعة هذه.
لم يكن بمقدور هيجل صاحب فلسفة الفكرة الميتافيزيقية المطلقة التي هي عقل كل شيء يدرك، واثقا ثقة جازمة مطلقة ان ما قاله حول ما يطبع العقل من طبيعة جدلية فطرية بيولوجية هو الضرورة الحتمية التطورية لاستحداث جدل واقعي مادي تاريخي متطور. نتيجة هذا التصور الفلسفي الجدلي الهيجلي الخاطيء كان انشقاق ماركس عن هيجل وهجره الفلسفة وتوجهه نحو دراسة الاقتصاد السياسي بحثا عن جدل يحكم الحياة والتاريخ. ونجح بمساعدة زميله انجلز انجاز هذه المهمة في كتابة مخطوطته الاولى حول المادية الجدلية التاريخية الجزء الاول من كتاب راس المال الموسوعة الفلسفية الاقتصادية السياسية.
3.ذكر هيجل ان بداية الجدل الديالكتيكي تقوم على وحدة صراع الاضداد، واغفل عن عمد وربما سهوا ان وحدة صراع الاضداد لا تتم بين طرفين لا تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة التي هي التكوين النسيجي الذي يربط طرفي التناقض بوشيجة احتواء الطبيعة التجانسية الواحدة لهما. بمعنى في حال انعدام المجانسة النوعية التي تجمع الاضداد لا يحدث جدل ديالكتيكي بينهما يقوم على النفي ونفي النفي. والصراع المتضاد الذي لا ينتج عنه نفي الطرف السالب فهو جدل عقيم لا ينتج عنه جدل استحداث الظاهرة المستحدثة التطورية الجديدة من قبل الطرف الموجب. احتدام تصارع الاضداد لا يتم الا داخل وحدة تجانسية تشاطرهما النوعية التكوينية الواحدة.
كروتشة والجدل الهيجلي
اعتبر عديدون من الفلاسفة ان بنديتو كروتشة الفيلسوف الايطالي 1866- 1952 الذي عاصر هيجل المهتم بفلسفة الفن وعلم الجمال والتاريخ انه الوريث المجدد للهيجلية. ترجم للعربية من مؤلفات كروتشة حول فلسفة الفن والجمال (المجمل في فلسفة الفن) و(فلسفة الجمال). كما تاثر كروتشة بالماركسية وطروحاتها الايديو لوجية.
كروتشة لم يقل مثل سلفه هيجل الجدل هو تناقض اضداد داخل وحدة كلية متجانسة التكوين العضوي او الظاهراتي. الذي ينتج عنه نفي طرف التضاد السالب وبقاء الضد الموجب الذي يحمل معه صفات وتكوينات الظاهرة المستحدثة الجديدة ناتج عملية التضاد الجدلي.
ما يؤخذ على فهم كروتشة الخاص حول الجدل الديالكتيكي:
كروتشة قال الجدل نوعين- طبعا لم يقل حسب التصنيف الكلاسيكي جدل مادي وجدل مثالي – بل قال يوجد (جدل المتناقضات) و(جدل المتمايزات). ومن حيث هذا التفريق لا وجود لجدل متمايزات حسب معايير الشروط الثلاث لضوابط الجدل من جهة واهمال البعد الرابع حول ما سبق لنا ذكره (وحدة المجانسة النوعية بين الاضداد) التي جاء التعبير عنها ضمنيا في الشرط الجدلي الديالكتيكي الماركسي (وحدة وصراع الاضداد) هنا المقصود بوحدة الاضداد اجتماعهما ضمن محتوي نوعي تجانسي يلائم التقائهما المتضاد. المقصود بوحدة وصراع الاضداد هو انهما متداخلان في (واقع) متجانس من حيث التكوين الاحتوائي لهما ومساعدة الظروف الخارجية على إتمام حدوث جدل التضاد بينهما.
كروتشة بتعبيره عن جدل المتناقضات انما كان يعني الجدل المثالي والمادي معا رغم اختلافهما الجوهري على انه الجدل الكلاسيكي الذي جاء به هيجل مقلوبا على راسه ليعيده ماركس واقفا على قدميه في ماديته.
اما جدل المتمايزات حسب تصنيف كروتشة فهو بمختصر العبارة اللاجدل الذي لا يمكن حدوثه لا على صعيد المادة ولا على صعيد الطبيعة والتاريخ. جدل المتناقضات هو جدل طبيعة الاشياء والموجودات المتجانسة في حيّز احتوئي تجانسي يجمعهما. المتناقضات هي اقطاب قد تدخل بعلاقات جدلية مع اشياء اخرى تشاركها المجانسة النوعية وتشاركها حتمية التضاد الصراعي معها الذي يقود الى حصيلة نفي القطب السالب من جهة واستحداث القطب الموجب للظاهرة الجديدة بدلا عن القديمة التي انّحلت وتفرقت تضاداتها داخليا.
في المتمايزات لا تتوفر لها عوامل الجدل لا الطبيعي ولا المصنّع، المتمايزات كينونات موجودية تعيش باستقلالية مادية انطولوجية عن اي نوع من علاقة ذاتية مع غيرها من موجودات. كينونتها الموجودية هو تمايزها عن غيرها باستقلالية تامة. لا يمكن للارادة الذاتية للموجودات من غير كائنات الطبيعة المتمايزة عدا الانسان ان تخلق ذاتيا فيها حركة او دافع الدخول بجدل صراع ينفي أحدهما الطرف الاخر. كما لا قدرة للانسان خلق نوع من المجانسة النوعية الجامعة لاكثر من متمايزين بغية الدخول في جدل صراع النفي المتضاد.
اذن لا يمكن حصول جدل ديالكتيكي في المتمايزات ولا في علاقات تربطها بغيرها من متمايزات. الجدل هو تناقض نفي مع غيره من اضداد وليس تناقض تعايش تخارج معرفي بينها كما هو حال المتمايزات في معايشتها بعضها لبعض من غير تضاد نافي طرف او أكثر...
في جدل المتناقضات يمكن ان يلعب الانسان والظروف الموضوعية عوامل مساعدة تحفيزية بين قطبين متجانسين الدخول في صراع تضاد النفي الجدلي. اما جدل المتمايزات الافتراضي فهو جدل تكون التناقضات فيه داخلية لا تقوم على مبدا صراع النفي لقطب او اكثر. لذا فهو أقرب الى التخارج المعرفي منه الى التضاد الاصطراعي الجدلي النافي والمستحدث للظاهرة التطورية الجديدة. تضاد المتمايزات ليست جدلا يحكمه النفي وشروط الديالكتيك..
كما وقع هيجل بالخطأ الاكبر حين قال طبيعة العقل الجدلية هي التي تخلق تصوراتنا ان نفهم سيرورة الواقع جدليا. وكما أهمل هيجل ضرورة حضور الوسط التجانسي الذي يحتوي المتضادات ويجمعها كذلك أهمل كروتشة ذلك.
الجدل الحقيقي المنتج للتطورالنوعي لا يحدث خارج وحدة علائقية تستوعب المجانسة النوعية للمتضادات. وحدة صراع الاضداد في التعبير الماركسي المعهود يعني ان الجدل لا يحصل خارج وحدة علائقية تجانس تركيبة الاضداد داخلها. فالتضاد الجدلي الذي يحصل في المادة لا يمكننا استنساخه على حركة التاريخ ولا على صراع الطبقات ولا على غيرها من ظواهر الحياة. المجانسة النوعية في جمعها الاضداد بوشيجة الجدل اذ لا يكفي توافر صراع اضداد من دون حلبة رقص يلعبان جدليا عليها.
والانسان كينونة متمايزة بالضرورة الفطرية الموروثة وكذلك بالخبرة الانثروبولوجية المتراكمة المكتسبة عبر ملايين السنين والعصور ورغم ذلك فهو لا يستطيع الدخول في معارك جدلية مع كل ظواهر الحياة التي يصادفها كي يدحرها ويستفرد بخلق التطور الجديد ضمن تلك العملية الجدلية. فالتضاد الجدلي بين قطبين متناقضين او أكثر انما يتطلب امتلاك كل قطب مجانسة نوعية هي مشابهة لما يمتلكه القطب الاخر من كيفية وصفات كي يتمكن المتضادان الدخول في معترك علاقة جدلية تقوم على النفي واستحداث التطور الجديد.
جدل المتناقضات هو الجدل الديالكتيكي الماركسي الفاعل حسب ضوابط واحكام قوانين جدل الديالكتيك الثلاث، وحدة صراع الاضداد، تحولات الكم الى كيف، وقانون نفي النفي. اذن وحسب كروتشة ايضا المتناقض هو الكيفية المتجانسة مع مثيلتها ضمن وحدة وصراع الاضداد. وهو ما لا ينطبق على المتمايزات المستقلة التي لا تجمعها بغيرها نوع من المجانسة النوعية التي هي ارضية ظهور الجدل الديالكتيكي.
اغرب شيء طرحه كروتشة حول الجدل محاولته الغاء الاستقلالية الانطولوجية في اختلاف كل متمايز عن غيره بالماهية والصفات مثلا مابين المتناقضات من جهة والمتمايزات من جهة ثانية رغم معرفته ان المتمايز والمتناقض مفردتان لا تجمعهما مجانسة نوعية واحدة تلغي ما بينهما من حدود الاستقلالية الانفصالية.
المجانسة النوعية (الصفات والجوهر) في المتمايزات هي خاصية النوع. فهي قد تلتقي وتشترك بمجانسة نوعية تشابهها من نوعها لكن لا نجد جدلا ديالكتيكيا يحدث بينهما. مثال ذلك المجانسة النوعية المستقلة في شجرة لا يجعلها تدخل صراعا جدليا مع اشجار اخرى لها نفس الماهية والصفات. والسبب ان المتمايز المستقل ذاتيا يطغى على طبيعة المجانسة بغيره بما يعزز الانفصالية المستقلة للشجرة والاشجار عن الدخول في معترك جدل نوعي نافي لجنسه.
علي محمد اليوسف