أُغْرُومْ * ، نص : أحمد الوكيلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

vassily-kandinskyعند الغبش , وجدت نفسها ممتدة قرب جثة لحمية ضخمة بشوارب ستالينية , تحاملت على نفسها وغادرت الفراش , غسلت وجهها ولبست جلبابها وانصرفت بهدوء .. حتى لا يستيقظ ستالين !! ضاغطة على اوراق النقود التى كسبتها من ليلتها وكأنها تخنقها .. تنتقم منها ..
في طريق عودتها الى منزلها مرت بعدد هائل من "الشماكرية"  ذكرانا و اناثا مثلهم مثل النفايات المرمية على جنبات الطرقات. تسلل خيالها وخرج من جسدها المهلك والمتعب و ارتمى في احضان الماضي , بدأ ينبش في الذاكرة المتعبة بقلة النوم والسهر الدائم .. جراح مثخنة .. العمل بالبدن لتوفير الخبز .. الخبز علة وجودها !! تمنت لو كان الوأد عرفا ساريا في هذا الزمن الجاهلي الذي  تموت كل يوم مرات ومرات .. تموت للحصول على الخبز. ابوها قتله البحث عن الخبز , أمها الخبز قوس ظهرها وشيب رأسها وكمش جلدها .. وها هي تكمل لعبة البحث عن الخبز ..!!


منذ ظهور علامات البلوغ عليها وبروز المخفي  والمعلن في جسدها , وهي تعاني من مطاردة الذئاب والثعالب والكلاب ... البشرية !! كانت فتاة ريفية – نسبة الى منطقة الريف بالمغرب – ذات جمال لائق , شعر أشقر طويل , وعيون سوداء كبيرة مثل قاع الكأس وقامة معتدلة يقولون ان اصولها جرمانية !!. الحب والخوف وأشياء اخرى دفع أمها ان تحرص على ابقائها في المنزل خوفا على شرف ابنتها الوحيدة والوقوع في العار. ميلودة تحس بأنوثتها .. والثورة تعم جسدها ..  تأخر الفارس وتأخرت معه الاحلام .. ما  هي إلا شهور حتى تزوجها المقدم الملقب ب " امحمد الوحش" , كانت الثالثة . تزوجته رغما عن انفها وقلبها وعقلها وجسدها ... فهو رجل سلطة !! يتزوج متى شاء ويطلق حسب مزاجه .. مرت الايام , وانتهت سبعة ايام ديال الباكور.. فطلقها !! " انها بنت صغيرة كلها علل , تمشي الله ينعل لرباها " .. هكذا كان يعلل لأصحابه قرار طلاقه لميلودة بنت فطومة  ..
بكت هي وامها حتى انتهت الدموع !! لم يستطيعا فعل شيء سوى الاذعان و التسليم لقدر الله ..  " هكذا قدر الله " !! يقولون لهما من اجل التخفيف عنهما .. ف المقدم من دار المخزن , القانون من تحت رجله يفعل ما طاب له في الدوار , ليس فوقه إلا القايد والملك !! حياة  البؤساء جحيم لا ينتهي من قهر الى احسن منه , ومن درك الى درك , الى فقدان المعنى ..
في صباح خريفي باكر جمعا أمتعتهما ورحلا عن الدوار قاصدين المدينة هروبا من الفضيحة وكلام بني ادم , والبحث عن "أغروم" – كلمة بالريفية تقال للخبز -  فالمرأة الثيب " الهجالة" رمز العار والنقمة وسوء المنقلب ..
لم تستيقظ من حلم يقظتها إلا بتحية جارتها :
-صباح لخير..ورباح , أللالة فاطمة , علا السلامة..!!
ردت التحية رغما عنها , فهي تعلم ما تحمله هذه التحية من لمز وهمز شيطاني مضمر حتى الوضوح. فتحت باب منزلها الحديدي الذي رهنته بثمن لحمها .. أمها السبعينية التي أخد منها الزمن كل شيء , لم يترك لها الا هيكل عظمي وروح طيبة بداخله تحمل معها العلقم .. ذلك نصيبها من الحياة الدنيا !!
-صباح الخير ألوليدة,
-صباح الخير
كالعادة , سالت امها عن ابنها امين , ولد المقدم " آمحمد الوحش " , هل ذهب الى المدرسة؟ هل تناول الفطور؟.. فامين هو الزهرة الوحيدة التي بقيت في حقلها وحصلت عليها من الحياة. انه يكبر بداخل هيكلها المقهور , فهو نجمتها التي تهتدي بضوئها ؟؟ انها تنفق من لحمها ودمها من اجل توفير الخبز لابنها و امها التي تنتظر وقت الرحيل , فليس هناك ما يدعوها الى البقاء !!
الحياة بالنسبة لميلودة وهم اصبح يقينا مطلقا لا يمكن التخلص منه إلا بقلب الأدوار والتخلص من الماضي ودفنه ولو مرحليا لإرضاء الذات , والتعايش مع الوهم اليقين فهناك اسرة صغيرة تشكل اركان هذا التعايش !! الى حين ..
عندما انتهت من الاستحمام , وهي تنشف شعرها امام المرآة احست ان وجهها بدأ يتغير ويشحب ويفقد جماله .. قانون الحياة يزحف على مملكتها وعلى وجهها , عنقها , صدرها .. بعض الخدوش من فعل الوحش الذي قضت الليل معه , سن اليأس يطرق بابها , وما سن اليأس ؟؟ فهل هناك يأس اكبر من الذي عاشته وتعيشه !! لقد حسم امرها عندما ولدت بنت فقير كادح هلاكه الزمان والمرض والبحث عن الخبز .. الم تكن نتاج لذة عابرة ؟؟, لذلك فهي بدون اتجاه ولا غاية ولا امل ولاشيء غير مقاومة المستحيل والإذعان للأيام وقسوتها. الكل يسميها عاهرة ّ!! من دون نساء العالمين !!.. هل عندما ولدت كتب على جبهتها ميلودة  مومسا ؟؟ من تسبب وكان المسئول في ما هي عليه , "الله ينعل في لكان حيلة وسبب " !!
في سن مبكرة تيقنت ان وجودها يتحدد في جسدها فهو مطلب المطالب ووقود الليالي الحمراء .. لم تستطيع ولو مرة  اسكات عواء الذئب في الجنس الخشن .. دائما تفعل ما يطلب منها للحصول على الخبز المبلل بعرق العار... موقعها الاجتماعي جعلها تعرف وعن كتب الاقنعة الآدمية وأبالسة الانس . المسكينة لم تهزها نسمات الحب ولم تعشه بل مرت من جانبه !! عاشت اوهامه في اغاني المطربين و دندنات السكارى في اليالي الكحلاء . لا تعرف من الحب إلا الورود الاصطناعية , تمارس نوع من الاحتيال على ذاتها وعلى الاخرين , لمجابهة الحياة الجافة المخشنة .
حياتها حلما يتحول باستمرار لا زمان له ولا مكان .. دائمة البحث عن المرجع الذي تأوي اليه من اجل اثبات ذاتها وتجنب الصراع العنيف بين الانا والانا التي ليست انا.
لترتاح من شدة الارهاق وتعب الليل , وازدحام الاشياء في رأسها , تمددت على السرير , وأغمضت عينها مسدلة الستار على واقعها وماضيها السحيق , لتصطدم بوجه والدها وهو يرتل القران كما كان يفعل ايام زمان .. قبل ان يتركها في القرية , مات أو قتله البحث عن الخبز .. وخلف الدنيا  وراء ظهره !! و زوجه وصبية وحصير من ”السمر" وجلبابا احمر عليه العديد من الرقع .. رأته وقد اسند ركبته الى صدره وظهره مقوس احدب وعنقه بين ركبته , يتأمل وردة حمراء مرمية على الارض !! توجهت نحوه وقبلت رأسه الاصلع ويده البدوية الخشنة .. اعطاها الوردة الحمراء وانسحب في هدوء تاركا الحياة ملطخة بالمأساة والهزيمة الوجودية.
استيقظت على قبلة ابنها العائد من المدرسة , ضمته ضمة على غير العادة, والدمع يسقط على خديها الشاحبين , عادت الى نومها لتلتقي بالأب مرة اخرى وتخرج جسدها لتنكشف للعدم . للعيش دون انقطاع ..لها وحشة كبيرة للأصل , لتراب .. انها تعشق رائحته .. عبق البداية والنهاية ..!!

Ahmed Loukili

* أحمد الوكيلي طالب باحث في علم النفس الاجتماعي , جامعة نورث كارولينا , أمريكا
*أغروم : كلمة يطلقها الريفيون شمال المغرب على الخبز .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة