1
العواملُ المُحدِّدة لطبيعة السلوك الإنساني في المجتمع ترتبط بشكل وثيق بالدوافع النَّفْسِيَّة للأفراد ، ومصالحهم الشخصية ، وهذه العوامل لا تُوجد في ماهيَّة العلاقات الاجتماعية بشكل تجريدي هُلامي ، وإنَّما تُوجَد بشكل منطقي انسيابي ، لأنَّ المعنى الاجتماعي _ جُزئيًّا وتفصيليًّا _ يعتمد على التَّوليد لا التَّجريد ، أي إنَّه يعتمد على اشتقاق الأفكار من الواقع المُعاش ، وتكريسها في الحقائق الاجتماعية والتجارب الإنسانية من خلال طرح الأسئلة المصيرية ، والبحث عن إجابات عقلانية ، ودَلالات فكرية ، وآليَّات عملية ، من أجل الانطلاق من الذات الإنسانية إلى الطبيعة الماديَّة للأحداث اليومية ، ومِن العَرَض الهامشي في البيئة إلى الجَوهر اللغوي في الوجود . لذلك ، تُمثِّل عمليةُ التَّوليدِ مَنبعَ الدَّلالات الاجتماعية المركزية في الحياة ، أمَّا التَّجريد فهو عملية فصل الأفكار عن الأشياء ، والخُروج من الواقع إلى الذهن ، والانتقال من الصوت إلى الصدى ، والتَّحَوُّل من التفاصيل الجُزئية إلى الأشكال الصُّوَرية ، وهذه العملية ذات الخُطُوَات المُتسلسلة شديدة الخُطورة ، لأنَّها تُحوِّل العلاقاتِ الاجتماعية إلى أشياء ذهنية بلا امتداد واقعي ولا تطبيق عملي ، كما أنَّها تُحوِّل الروابطَ بين الأشياء إلى كِيانات مُستقلة عن الشعور الإنساني والظواهر الثقافية والتجارب الحياتية . والعلاقاتُ الاجتماعيةُ إذا تحوَّلت إلى أشياء، فإن الإنسان سيتحوَّل إلى شيء ، ويَخسر طبيعته ، ويَفقد مَاهِيَّته .
الخيال واللغة وأنساق المجتمع - إبراهيم أبو عواد
1
التحولات الرمزية في اللغة تمنح العلاقاتِ الاجتماعية القُدرةَ على إعادة صياغة إفرازات العقل الجمعي . وإعادةُ الصياغة تعني توليد نظام معرفي يُوظِّف عناصرَ الفِعل الاجتماعي في سياق التحولات الشعورية للفرد والجماعة ، ويُوازن بين التفاعليةِ الذاتية ( صورة الذات في مِرآة الذات ) والهُويةِ المُجتمعية ( شرعية المجتمع في عملية توحيد الذات والموضوع ) . وتَصَوُّرُ الفردِ عن نَفْسِه يُحدِّد طبيعةَ التعامل معَ مُجتمعه ، أي إنَّ الفرد ينتقل من شُعوره الوجداني الشخصي إلى شخصية المجتمع الذي ينتمي إلَيه ، وهذا الانتقال ضروري لتكريسِ الخلاص الجماعي في السلوك الإنساني ، وتجذيرِ المشاعر الفردية الجُزئية لإنقاذ الكُل المُجتمعي . وإذا نجح العقلُ الجمعي في تطهير المجتمع من ثنائية ( الاستغلال / الابتزاز ) ، استغلال الفرد للمجتمع كرافعة للأحلام الشخصية ، ووسيلة لتحقيق الخلاص الفردي ، والهروبِ من المسؤوليات والتحديات ، وابتزاز المجتمع للفرد من أجل تحويله إلى آلةٍ بلا رُوح ، ومُجرَّد رَقْم مَنسي في أرشيف التغيرات الاجتماعية ، فعندئذ ستتحوَّل أُطُرُ البناء الاجتماعي إلى تيارات ثقافية ديناميكية ، تقوم على الحركة الفكرية والنشاط العقلاني والحيوية الواقعية من أجل تحقيق التكامل والانسجام بين الفرد والمجتمع ، وهذا يَحمي الفردَ مِن التحوُّل إلى كَبش فِداء ، ويحمي المجتمعَ مِن التحوُّل إلى خشبة مَذبح . والعلاقاتُ الاجتماعية لا تقوم على حسابِ أعداد الضحايا ، وتحويلِ الضحايا إلى أرقام ، وتأسيسِ ظواهر حياتية قائمة على المُتاجرة بالتضحيات ، وإنما تقوم على بناءِ المفاهيم الأخلاقية وتطبيقها على أرض الواقع ، وبناءِ المعنى الوجودي المُتماسك ، والمُتَّصِل بتوحيد الزمان والمكان ، وعدم الفصل بين التاريخ والجُغرافيا .
عن كتابِ "الــإشهارُ بتصورٍ آخر"، لـجون ماري درُو - عبد الرّحيم دَودي
- تقديم
يستأثر التّواصلُ الإشهاريُّ بأهميّة بالغةٍ في عصرِ الاقتصادِ الرأسماليّ المُشرعِ على تحولاتِ السّوقِ. إنه-بهذا المعنى-أسُّ العمليّة التجاريّة؛ فبواسطتهِ يَتَأتى للشركاتِ الترويجُ لمنتجاتها، وتحقيقُ الأرباحِ المنشودةِ. وبواسطتهِ، أيضاً، يغدُو بِمُكنةِ هذه الشّركاتِ خلقُ مستهلكٍ شرهٍ، وجائعٍ، لا يني يطلبُ المزيدَ لإشباعِ رغباتٍ دائمةِ التفجُّر في داخلهِ. وبعبارة أُخرى، يتحدّد الإشهارُ-استناداً إلى تعريفاتِ القواميس-بِعَدِّهِ شكلاً من أشكالِ التّواصلِ الجماهيريِّ؛ وُكْدُه حَفزُ المُستهلكِ على شراءِ منتجٍ ما، أو اعتناقِ تصورٍ في الحياةِ.
الإشهارُ، استتباعاً، نشاطٌ مركبٌ أو عملٌ تقنيٌّ يقتضي تضافر مجهوداتِ مختصّين في مجالاتٍ معرفيّة مختلفةٍ. بيانُ ذلك؛ أن المرسلةَ الإشهاريّة ليست حيزاً غفلاً؛ بل إنها-كما سنتعرّف ذلك مع جُون ماري درُو-فضاءٌ منظمٌ من العلاماتِ والرّموز المتماهيّة، والتي تستمدُّ نُسغها من الثقافة والأعماقِ الميثولوجيّة والأنثربولوجيّة والنفسيّة والاجتماعيّة للمستهلكِ. وبهذا، فهي تستبطنُ استراتيجيّة غايُتها المُثلى إقناع المستهلكِ، طوعاً أو قسراً، بجدوى وفعاليّة المنتجِ المُسْتَهْلَكِ.
المبادئ الأخلاقية في التاريخ والمجتمع - إبراهيم أبو عواد
1
التفاعل الإنساني مع عناصرِ التاريخ وتراكيبِ البُنى الاجتماعية ليس له قانون ثابت ، لأن شرعية التفاعل الإنساني مُستمدة مِن قُدرته على توليدِ قوانين جديدة ، وكسرِ القوالب الجاهزة ، والخُروجِ مِن الأُطُر المفروضة على أنظمة المجتمع التي تُعْتَبَر المُحرِّك الحقيقي لتاريخ الفرد والجماعة . والتوليدُ المُستمر للقوانين المعرفية يهدف إلى تكوين أنساق مجتمعية وظيفية تستطيع الربطَ بين حركة التاريخ والحراك الاجتماعي في الظواهر الثقافية ، باعتبار أن الثقافة هي النسقُ الحاكم على انعكاسات الشعور في الواقع المادي ، والسياقُ المُتحكِّم بفلسفة العلاقات الاجتماعية ، التي تعتمد على المبادئ الأخلاقية ، وتستند إلى المعايير الإبداعية .
2
الاستعارة والاستعادة في البناء الاجتماعي - إبراهيم أبو عواد
1
وظيفة الطاقة الرمزية في اللغة هي تجذيرُ الفكر الاجتماعي في الشعور الإنساني ، وتكريسُ الشعور الإنساني في الظواهر الثقافية ، مِمَّا يَدفع باتجاه توليد أنظمة فكرية نَقْدِيَّة ، تستطيع ضبطَ حركة التاريخ اللغوي في التحولات الاجتماعية ، واستعادةَ العناصر المعرفية التي غابت في طَوَايا التاريخ . وهذا يعني أن مفهوم النقد في الأنظمة الفكرية يقوم على الرابطة بين التاريخ اللغوي والتاريخ الإنساني ، ويستمدَ القُوَّةَ مِنهما ، مِن أجل إنشاء إطار عقلاني يستوعب التَّغَيُّرَ في تفاصيل بناء المجتمع ، والتَّغييرَ في جُزئيات تفسير المعرفة . والإشكاليةُ في هذا السِّياق تكمن في عَجْز الأنساق الاجتماعية عن التمييز بين النَّقْد والنَّقْض بشكل عملي تطبيقي . والقُدرةُ على التعريف اللغوي لا تستلزم بالضَّرورة القُدرةَ على التأطير الواقعي ، لأنَّ الذاتي يختلف عن الموضوعي ، والنظري يختلف عن العملي ، ووضعُ النظرية يختلف عن تطبيقها .
التفسير الاجتماعي والتأويل اللغوي - إبراهيم أبو عواد
1
تفسير الظواهر الاجتماعية يرتبط بتأويل الرموز المعرفية في اللغة.وكُلُّ مُجتمع إنساني لا يعيش داخل اللغة، سيجد نَفْسَه بلا هُوِيَّة ولا بَصْمَة ، وهذا يعني أنَّ إيقاع الحياة اليومية سيعيش في الفراغ ( خارج الزمان ) ، وتاريخ التحولات الشعورية سيعيش في العَدَم ( خارج المكان ) . لذلك ، يجب على الإنسان إعادة اكتشاف اللغة ، لَيس مِن أجل إكمال نَقْصِه أوْ توسيع أُفُقه فَحَسْب، بَل أيضًا مِن أجل تكوين منظومة وجودية قادرة على تكوين الدَّلالات اللغوية في الأنساق الاجتماعية ، وتفجيرِ الطاقة الرمزية في اللغة ، كَي تصبح اللغةُ قادرةً على توليدِ الأزمنة والأمكنة باستمرار ، وتأسيسِ قواعد منهجية لتفسير الظواهر الاجتماعية ضِمن صَيرورة ثقافية ، تستطيع تحويلَ الشكل إلى مَضمون، وإحالة المَضمون إلى مُستويات الوعي الفردي والجماعي . وعمليةُ ارتباط المَضمون بالوَعْي تُجسِّد فلسفةَ اللغة رمزيًّا واجتماعيًّا ، لأن هذه العملية هي التي تُشكِّل نظامَ المعرفة الإنسانية الذي يتكوَّن مِن المَعْنى والوَعْي بالمَعْنى . وهذه الثنائيةُ الفكرية تُمثِّل مركزَ الظواهر الاجتماعية ، الذي يُحوِّل الطاقةَ الرمزية في اللغة إلى كُتلة إنسانية في المجتمع .
المعنى الإنساني وسلطة المعرفة - إبراهيم أبو عواد
1
البُنية الاجتماعية هي التجسيد الحقيقي لأحلام الإنسان ضِمن منظومة إنتاج الوَعْي ، وتوظيفه في السِّياقات الثقافية ودَلالاتِ الهُوية التاريخية . وهذا التجسيدُ لَيس فلسفةً للوجود الاجتماعي في الوَعْي الإنساني فَحَسْب، بَل هُو أيضًا صِيغة عقلانية تَرْمي إلى إعادة بناء التاريخ المُتَشَظِّي في أعماق الإنسان وتفاصيلِ المُجتمع ، من أجل تحقيق التكامل بين الخصائص الجوهرية لحركة التاريخ والمعاني الحَيَّةِ لرمزية اللغة . وهذا التكامل مِن شأنه كشف المفاهيم الفلسفية المركزية التي تُسيطر على أعمال الإنسان ، وتتحكَّم بسُلوكه ، وترسم مسارَ حركته في غُربته الوُجودية واغترابه عن ذاته . وإذا نجح الإنسانُ في إيجاد علاقة منطقية بين طاقةِ التاريخ المُحرِّكة للأحداث الواقعية وطاقةِ اللغة المُحرِّكة للمشاعر الدفينة ، فإنَّه سَيَنجو من الاغتراب الذاتي ، ولَن يَشعر بالصراع بين الوَعْي المعرفي وانتحارِ المَعنى . ومُشكلةُ الإنسان في الأنساق الحياتية تتَّضح في طبيعة تركيب العَالَم الذي يعيش فيه ، فهو يعيش في عَالَم يَنتحر فيه المَعنى ، وتَؤُول فيه قيمةُ الكِيان الإنساني إلى شُعور بالغُربة وانفصالٍ عن الذات ، وتصير شُروطُ الكَينونة الإنسانية معاييرَ استهلاكية فاقدة للرُّوح والغاية . وينبغي استنباط حُلول عملية لهذه المُشكلة من المعرفةِ النقدية والخِبرةِ الحياتية والتجربةِ الاجتماعية ، للحفاظ على تماسك المجتمع الإنساني في وجه التحديات الوجودية والأزمات الوِجدانية .
معالم طريق الإنسان في الحياة - إبراهيم أبو عواد
1
تحويل الأفكار الثقافية إلى ظواهر اجتماعية يتطلَّب إزالة الحدود بين الشعور والوَعْي ، وفتحهما على تاريخ الوجود الإنساني بكل تفاصيله . والغايةُ من هذه العملية تكوين أساس منطقي للمجتمع ، باعتباره نظامًا للمعاني الرمزية في سُلوكيات الفرد واتِّجاهات الجماعة ، ومنظومةً للتجارب الوجدانية والتغيرات المادية . ولا يُمكن للمجتمع أن يجد هُويته الشخصية ومَعناه الوجودي وماهِيَّته التاريخية إلا إذا انفتحَ على نَفْسِه ، وفَكَّ العُزلةَ عن أنساقه الداخلية ، وكَسَرَ الحواجزَ بين دَلالات الوَعْي وتطبيقاته . والإشكاليةُ المركزية في بُنية العلاقات الاجتماعية لَيست شُعور الفرد بالغُربة ، وإنما اغتراب المجتمع عن ذاته ، بسبب غرقه في متاهة النظام الاستهلاكي المُغلَق ، وهذا يُشعِر الفردَ بأنه مُنفصل عن الفاعلية الشعورية والتفاعلِ الاجتماعي ، وأنَّه يَدُور في حَلْقة مُفرَغة ، وعاجز عن إيجاد مكان له في سِياق عملية الاتِّصال بين أجزاء المجتمع . وإذا وَجَدَ الفردُ نَفْسَه خارج عملية الاتِّصال الاجتماعي ، فقد القُدرةَ على التواصل مع العناصر الثقافية والمُكوِّنات اللغوية . وهكذا تتكرَّس القطيعةُ المعرفية بين التَّصَوُّرات الذهنية المُجرَّدة والتطبيقات الاجتماعية المحسوسة .