لا يمكننا أن نتحدّث عن مجمل القيم الإنسانية في المجتمعات العربية المعاصرة بمنأى عن بنية هذه المجتمعات، و أنماط الثقافات السائدة في هذه المجتمعات، والتي تفعل فعلها اليومي في أنساق هذه المجتمعات، و أنظمتها المعرفية و السياسية.
ويبدو أن القيم الإنسانية في المجتمعات العربية المعاصرة بدأت تنكمش شيئا فشيئا، أو بتعبير آخر بدأت تتراجع و تضمحل، فقيم الحقّ والخير و الجمال و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و العدالة الاجتماعية و السياسية لم تعد بنية عليا من بنى الخطابات المعرفية السائدة في عالمنا العربي المعاصر، و لم تعد بنية يُعتدّ بها، ويُطالب بسيادتها في شرائح هذه المجتمعات، لأنّها لم تعد فاعلة في السلوك اليومي الذي يمارسه المواطن العربي، ولا في ثقافته، و طموحاته، و توجّهاته الجديدة.
إنّ الخيبة العامة التي أصابت الإنسان العربي في فرحه وطموحه، و تطلعاته، لهي خيبة كبيرة جدا، كان لها أثرها الواضح في انحراف مسار توجهاته الإنسانية المحكومة بمجمل القيم الإنسانية النبيلة التي كان يعتدّ بها المجتمع العربي قبل قرون سابقة والتي كانت تمجد الكرم والحق والخير، و التي كانت تبدو جلية في أدبياته وكلاسيكياته التاريخية و الحكائيّة.

 1
إنَّ ما يُحدِّد طبيعةَ الروابط الاجتماعية لَيس الأفعال الارتجالية والمشاعر الساذَجة ، وإنَّما الصيغة العقلانية بين منطقِ اللغة الرمزي والمنظورِ المعرفي السلوكي. وهذا المنظورُ لَيس تصوُّرًا ذهنيًّا أوْ فِكْرَةً مُجرَّدة ، وإنَّما هو رؤية وجودية للأحداث اليومية والوقائع التاريخية، نابعة مِن فلسفة الماوراء الاجتماعي، أي: رؤية الدوافع الخَفِيَّة التي تختبئ وراء الأحداث ، وقراءة ما بين السُّطور ، وتحليل العلاقة النَّفْسِيَّة بين الذات والموضوع ، وعدم الغرق في اللحظة الآنِيَّة ، لأنَّ الهدف من الروابط الاجتماعية هو حِفْظ مصادر المعرفة الإنسانية للوُصول إلى بَر الأمان ، ولَيس تَشتيت الجُهود في محاولات اختراع تاريخ وهمي يُوازي التاريخَ الحقيقي ، مِن أجل إعادة تصميم الذاكرةِ الجمعية ، والمفاهيمِ الذاتية ، والمعاييرِ الفكرية ، لإحداث توافق صُوَري بين الدليل اللغوي والدَّلالة الاجتماعية. يجب أن تكون العلاقةُ بين اللغة والمجتمع انعكاسًا لتاريخ المعنى الوجودي في تَحَوُّله الطبيعي لا الاصطناعي. والتَّحَوُّل الطبيعي يعني انتقالَ المُمَارَسَة العملية إلى النظرية الفكرية إلى الرمزية اللغوية ، وبالعَكْس ، وهذا الانتقال يَنتج عن عملية طرح الأسئلة المصيرية على الذات والمُجتمع ، والبحثِ عن أجوبة منطقية . وبما أنَّ الفِكْر موجود في جميع الروابط الاجتماعية ، فلا بُد أن تتحوَّل الروابط الاجتماعية إلى بيئة خِصْبة لتوليد الأسئلة والأجوبة معًا ، مِمَّا يُقَدِّم زخمًا كبيرًا للتفاعلات المعرفية بين الفرد واللغة مِن جِهة ، واللغة والمُجتمع مِن جِهة أُخرى .

 1
طبيعةُ العلاقات بين الأشياء، وماهيَّةُ الروابط بين العناصر ، تُوضِّحان المعاييرَ الأخلاقية لمضامين الوَعْي الإنساني ، وتُعبِّران عن الجوانب الفلسفية للظواهر الثقافية، وتُحدِّدان النُّظُمَ الرمزية للتجارب الذاتية للأفراد ، ضِمن مَسَارِ المُجتمع وحركةِ التاريخ ، وهذه الأنشطةُ الحيوية مُجتمعةً تَدفع باتجاه تأسيس عملية التفاعل الاجتماعي على قاعدة فكرية صُلبة ، تُولِّد الحقائقَ الاجتماعية القادرة على حَمْل المعاني الوجودية ، وإيصالها إلى مُستويات الواقع المادي . وبما أن المعاني الوجودية مُختلفةٌ ، وخاضعةٌ لأدوات تفكيك مُتَنَوِّعة ، ومُحتاجةٌ إلى آلِيَّات تأويل مُتَعَدِّدة ، صارت الحقائقُ الاجتماعية الحاملة للمعاني الوجودية ذات طبيعة رمزية ، تُحَلِّل عناصرَ الوَعْي الذي يُكوِّن الظروفَ المُحيطة بالفرد والجماعة ، وتُفَسِّر تراكيبَ السُّلوك الذي يتأثَّر بالعواملِ النَّفْسِيَّة والأحداثِ الحياتيَّة . ومنظومةُ ( عناصر الوَعْي / تراكيب السُّلوك ) تُشكِّل المنظورَ الاجتماعي الثقافي في مَسَارِه الأُفُقي ( وَصْف طبيعة الاتصال بين الأفراد ، والتواصل بين مُكَوِّنات المُجتمع ) ، ومَسَارِه العمودي ( وَصْف العمليات العقلية في الوقائع التاريخية ، وتَقويم العلاقات الاجتماعية ، وتَقييمها مِن خِلال فاعليَّة الظواهر الثقافية ) . والصِّلَةُ الوثيقة بين المنظومة والمنظور في بُنية المجتمع تُساعد الفردَ على التأقلمِ معَ المُحتوى المعرفي ، والتَّكَيُّفِ معَ الرُّوح العقلانية ، والتَّمَيُّزِ عَن المُسَلَّمات الافتراضية ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تجاوزِ هَشَاشة الواقع الاجتماعي ، وإعادةِ بنائه وَفْق المفاهيم الفكرية الإبداعية ، وهذا يَكشف الدَّوْرَ الحاسم للفِعْل الاجتماعي في التنمية المعرفية والنهضة الثقافية .

"الموطن هو أيضًا مبدأ الاختراع. أينما وجد النضال يوجد الانفتاح والتاريخ"
كان بورديو ، عالم اجتماع مهمًا ، معترفًا به في الخارج ، مفكرًا ملتزمًا أثارت مواقفه الجدل. إنه يفكك الآليات التي يتم من خلالها إعادة إنتاج الانقسامات الاجتماعية وكان يدعي أنه يتبع ماركس ودوركهايم وماكس فيبر ، وغيرهم من المؤلفين المختلفين. في خطاب ألقاه في مؤتمر عام 1977 ، حدد بيير بورديو أن دور عالم الاجتماع هو "إعطاء السلاح". ويضيف أن عالم الاجتماع يجب أن لا يثق في علم الاجتماع ، أي "الإغراء لتحويل القوانين أو التنظيمات التاريخية إلى قوانين أبدية". يكفي أن نقول إن بورديو كان يعتقد دائمًا أن عمله مفتوح للممارسة وأن عمله قبل كل شيء هو علم اجتماع ذو نطاق نقدي. لقد دشن بورديو القطيعة مع الإثنولوجيا البنيوية: يأخذ هذا الانفصال شكلًا من مقالات الإثنولوجيا القبايلية ، وما زال بيت القبائل أو العالم المقلوب نصًا للإلهام البنيوي على طريقة ليفي شتراوس. يستخدم بورديو الطريقة الهيكلية ويظهر أن التناقض بين المساحة الداخلية للموقد / الفضاء الخارجي وبشكل عام التناقضات يسار / يمين ، ماء / نار ، مطبوخ / نيئ ، نهار / ليل إلخ. من خلال التنادد مع المذكر (الخارج) والمؤنث (الداخل). لكن البنيوية تهتم قبل كل شيء بالتمثيلات والعمليات المنطقية المدرجة فيها ، وبالتالي فهي لا تفكر في الجسد إلا على أنه تمثيل للجسد ، متجاهلة مادته.إنها في القرابة باعتبارها تمثيلًا وكذلك الإرادة أن ينفصل بورديو عن الإثنولوجيا الكلاسيكية. . هذا تحقيق في "الزواج العربي" ، أي الزواج من ابنة العم الموازية الأبوية (ابنة العم الأب) ، والتي تشكل حالة زواج الأقارب مع نظرية ليفي شتراوس (راجع الإشعار المخصص لذلك مؤلف). لذلك فإن ما يسمى بقاعدة الزواج الخارجي التي ذكرها عالم الأعراق البشرية لا تعمل هنا. يبدو النموذج الإثنولوجي غير فعال عندما يتعلق الأمر بتحليل الممارسة. لكي نفهم ، يجب أن نضع "الزواج العربي" في سياق المنطق العملي: فمن ناحية ، يعتبر منطق الشرف عدم النجاح في تزويج البنت أمرًا مخزًا. من ناحية أخرى ، هناك مسألة وراثة التراث. من المسلم به أن الزواج الخارجي يسمح نظريًا بالتبادل ، لكن هذا التبادل ممكن عمليًا فقط إذا أثبتت المجموعة أولاً تماسكها وتمكنت من إعادة إنتاج وتجميع كل من رمزي (شرف) ورأس مال اقتصادي.

 1
المعايير الإنسانية في العلاقات الاجتماعية تحتاج إلى أدوات تحليل قادرة على رَبْط السُّلوكيات اليومية بحيوية النُّظُم اللغوية، كما تحتاج إلى آلِيَّات واقعية قادرة على تَكثيف الظواهر الثقافية باعتبارها أشكالًا للتفاعلات الرمزية ، ومضامينَ معرفيةً لإشباع رغبات الفرد في التواصلِ مع ذَاته ومُحيطه ، والتعاملِ معَ الآخرين باعتبارهم بؤرةً لدائرة المعنى المعرفي ، التي تتداخل مع شخصية الفرد وسُلطةِ المجتمع . وهذا التداخل لَيس حركةً ميكانيكيةً كعقارب الساعة التي تُشير إلى الزمان، وإنَّما هو حركة قَصْدِيَّة واعية في ماهيَّة الكِيَان التاريخي، لإعادة تفسير الزمان ، لَيس كشيء مضى وانقضى، وإنَّما كَنُقطة ارتكاز جوهرية في المكان الذي يُعَاد بناؤه باستمرار ، ويتم استحضاره من ذاكرة اللغة ، لحراسته من الغياب ، وحمايته مِن أنماطِ التفكير الاستهلاكي ، وقوالبِ الوَعْي المُزيَّف . وإذا كانَ الزمانُ وُجُودًا للمَعْنَى ( المَدلول ) في المَبْنَى ( الهَيكل الوظيفي الحاضن للمَدلول ) ، فإنَّ المكان تجسيد لتصوُّراتِ الفرد عن كَينونته ، ومفاهيمِه حَول الحياة ، في ظِل حركة الزمان المُندمجة معَ التغيُّرات الطارئة على الفِكْرِ الإنساني، وتحوُّلاتِ الشُّعور، والمنظورِ الأخلاقي، ومصادرِ المعرفة .

عرف علي الوردي[1] كواحد من أهم الشخصيات الفكرية في العراق منذ أواسط أربعينات القرن الماضي، فقد كانت كتاباته متميزة في نقد وتقييم الكثير من الظواهر والمفاهيم الاجتماعية التي تعتمل في المجتمع العراقي. كان صاحب "منطق ابن خلدون" من أوائل المفكرين الذين حاولوا التقعيد لعلم اجتماع عربي مستقل عن النظرة الاستشراقية، من هذا المنطلق نال هذا الرجل شهرة واسعة تجاوزت حدود العراق.
يشكل هذا الكتاب الذي نقرأه" دراسة في سوسيولوجيا الإسلام أو دراسة التاريخ الاجتماعي للإسلام" محطة هامة في مشروع علي الوردي، لإرساء قراءة جديدة للتاريخ الإسلامي. فهذه الدراسة هي في الأصل رسالته التي تقدم بها لنيل شهادة الماجيستر من جامعة تكساس سنة 1948، ولم تترجم من الإنجليزية إلا بعد وفاته. نعتمد في هذه القراءة على الطبعة الثانية التي نشرت سنة 2019، عن دار الوراق للنشر، ترجمة رافد الأسدي. تقع هذه الدراسة فيما يقارب 150 صفحة من الحجم المتوسط، وتتشكل من توطئة ومقدمة بالإضافة إلى ستة فصول ثم خاتمة.

 1
التحولات الثقافية في المجتمع ترتبط بالبُنية الوظيفية للإنسان في الحراكِ التاريخي وحركةِ المشاعر الواعية لا الساذجة . وهذا الارتباطُ يتكرَّس في صَيرورة الوجود باعتباره انتقالًا دائمًا مِن كَينونة المجتمع إلى كِيَان الإنسان . وبما أنَّ الوجود انتقال دائم ، فإنَّ الحقائق الاجتماعية الناتجة عن هذا الوجود ستكون ظواهر إنسانية ذات حركة مُستمرة في القيم المعرفية والمعايير الأخلاقية . لكنَّ الإشكالية تَكمُن في القيود الاجتماعية التي تُحَاصِر وُجُودَ الفردِ والجماعةِ ، وتَمنع تَحَوُّلَ الحقائق إلى قوانين تُساهم في بناء الوَعْي الحاضن للظواهر الإنسانية . ولا بُد مِن إيجاد أدوات تحليلية وتَكوين آلِيَّات فكرية لتحويل الظواهر الإنسانية إلى بُنى ثقافية على تماس مُباشر مع السلوكِ اليومي والأحداثِ الحياتية . وإيجادُ الأدواتِ وتكوينُ الآلِيَّاتِ يُمثِّلان تمهيدًا لإنشاء علاقة تبادلية بين الوَعْي الثقافي والمعنى الاجتماعي . وهذا التمهيدُ لَيس مَقصودًا لذاته ، وغَير مُنفصل عن مسار المجتمع ، ولكنَّه طريقة عقلانية لاكتشاف طريق الفرد في المجتمع ، وطريقِ المُجتمع في التاريخ . وكُل تمهيد سَيَؤُول إلى فلسفة قادرة على تأويل الوَعْي والمعنى ضِمن أُطُر الفِعل الاجتماعي.ويُمكن القَول باختصار، إنَّ الفلسفة طريقة لاكتشاف الطريق.

 1
بُنية المجتمع الإنساني عِبارة عن شبكة مِن أنظمةِ التاريخ المعرفية ، وأنساقِ المعنى المُنظَّمة ، وظواهرِ الوُجود الثقافية ، وتقاطعاتِ اللغة الرمزية . وهذه الشبكة تُمثِّل الأساسَ العقلاني للمنهج الفكري الذي يَمنح الشرعيةَ للبناء الاجتماعي ، ويُكوِّن المفاهيمَ المركزية الحياتية التي تُنظِّم النشاطَ الاجتماعي ، وتَقُوده نَحْوَ تحقيقِ الحاجات الإنسانية ، وتَلبيةِ الرغبات الفردية، وتَفعيلِ الأحلامِ الجماعية. وبما أن أفراد الجماعة مُرتبطون بعلاقات أخلاقية ، ومُلتزمون بمبادئ التاريخ المُشترك ، ومُنخرطون في عمليات نفعية مُتبادلة ، فلا بُد أن تَظهر قواعد جديدة للوَعْي الاجتماعي ، تَكُون بمثابة أنوية لِسُلطة التفاعل بين الذاتِ والشَّيء مِن جِهة ، والحقيقةِ والفِعْل مِن جِهة أُخرى . وسُلطة التفاعل ذات طبيعة تراكمية ، لا تُولَد دَفْعَةً واحدةً ، وإنَّما تُولَد وَفْق مراحل قَصْدِيَّة غَير تلقائية ، حَيث تَبدأ هذه السُّلطةُ بالتَّشَكُّل كمفهوم ، ثُمَّ تُصبح سُلوكًا مُعاشًا وعادةً يوميَّةً ، ثُمَّ تتحوَّل إلى قِيَم وجودية ومعايير إنسانية ، ثُمَّ تَصِير كِيَانًا فلسفيًّا يَعترف به الأفراد ، ويَلْتَفُّون حَوله ، لأنَّه يُحقِّق المنفعةَ الشخصيَّة ، والمصلحةَ العامَّة . وكُلُّ كِيَان فلسفي إذا صارَ ضرورةً للمُجتمع أفرادًا ومُؤسسات ، فإنَّه سيتطوَّر إلى بناء اجتماعي . وإذا اكتملَ هذا البناءُ ، فإنَّ المنظومة الإبداعية الحياتية ستصبح كاملةً ، وقابلةً للتطبيق على أرض الواقع . وهذه المنظومة هي التي تُولِّد خصائصَ الفِعل الاجتماعي ، وتُحدِّد وظيفةَ الإنسان الاجتماعية داخل النسق الحضاري الشامل ، وتُعطي الزخمَ للنشاط الاجتماعي كَي يتحرَّر من الضغوطات الماديَّة ، وتُجمِّع العناصرَ الفكرية المُبعثرة في تفاصيل الحياة الاستهلاكية ، وتُؤَسِّس الوَعْيَ الإنساني على قاعدة اجتماعية صُلبة . وهذا الحراك يتشكَّل في الذهن قبل الواقع ، ويتجسَّد في التصوُّرات قبل المَوجودات.