1
شُعورُ الإنسان بالحقيقة في البُنى الاجتماعية يُمثِّل الخُطوةَ الأُولَى في طريق تحرير المعاني المعرفية من العلاقات المصلحية في المجتمع، التي تُؤَسِّس فلسفتها على أساس تفريغ الإنسان مِن إنسانيته ، وتحويله إلى كِيانٍ هَش يَدُور في فَلَك المَنفعة الماديَّة الفَجَّة ، وشيءٍ هامشي ضِمن ثنائية العَرْض والطَّلَب . والعلاقاتُ المصلحية تُؤَدِّي إلى توليد تفسيرات جديدة للعناصر الوجودية في المُحيط الإنساني، فيُصبح من الصعب التعبير عنها في إطار فلسفة اللغة،لأن التفسيرات الجديدة التي لا تقوم على قاعدة فكرية متينة ، تَجعل الأشياءَ عاجزةً عَن حَمْل المعاني ، وتَدفع العناصرَ إلى الغرق في فَوضى المُصطلحات . وإذا انفصل الدال ( المَظهَر ) عن المَدلول ( الجَوهَر ) ، برزت ظواهر اجتماعية تَحْمِل بِذرةَ انهيارها في داخلها ، لأنَّ الحياة قائمة على التوازن بين السَّطْح الظاهري والعُمْق الباطني ، وكُل خَلَل في هذا التوازن سَيُؤَدِّي إلى الانهيار . ولا يُمكن لفُروع الشجرة أن تنطلق في السماء ( كُل ما عَلاكَ سماء ) ، إلا إذا كانت جُذورها راسخة في أعماق الأرض .

 1
الربط بين الوَعْي الإنساني والمعنى الجوهري للفِعل الاجتماعي، لا يتمُّ وفق إجراءات ميكانيكية أوْ مُصَادَفَات عَبَثِيَّة ، وإنَّما هو حراك ذهني مَقصود ، له امتداد واقعي هادف.وهذا الامتداد يَكشف ماهيَّةَ الوسيلةِ وطبيعةَ الغايةِ ، والبُنيةَ الرمزية اللغوية التي تقوم بمُهمة ترسيم الحدود الفاصلة بين الفِعل الاجتماعي ( السلوك الإنساني الإرادي الذي يَملِك مسارًا واضحًا وهدفًا مُحَدَّدًا ) وبين الفاعل الاجتماعي ( الشخص الذي يَملِك وَعْيًا ذاتيًّا ويقوم بدَور واقعي في بيئته المُحيطة ). والتمييزُ بين الفِعل والفاعل في البُنى الاجتماعية يَبدو سهلًا وبسيطًا للوَهْلَة الأُولَى، ولكنَّه شديد التعقيد ، لأنَّ البُنى الاجتماعية عبارة عن تراكمات تاريخية ، ومفاهيم مُخْتَلِطَة مِن الماضي والحاضر ، وأزمنة مُتَشَعِّبة ، وأمكنة مُنْفَتِحَة ، وحَيَوَات مُمْتَزِجَة ، ومُتواليات وجودية مِن الفِعل ورَد الفِعل . وكُلُّ عُنصر اجتماعي في هذه الصِّيَغ المُتكاثرة عبارة عن بناء قائم بذاته ، ويَملِك صَوْتًا خاصًّا به . وفي ظِل اختلاط الأصوات في الحياة الماديَّة السريعة ، يُصبح مِن الصعب التمييز بين الفِعل ورَد الفِعل مِن جِهة ، والفِعل والفاعل مِن جِهة أُخرى . وفي كثير من الأحيان ، يتمُّ حَصْر الوَعْي الاجتماعي في دائرة الأثَر بدُون ظُهور للمُؤثِّر . والأمرُ يُشبِه السَّيْرَ في غابة كثيفة الأشجار ، فنحن نرى الأشجارَ ماثلةً أمامَنا ، ولها وجود مادي مَحسوس ، ولكنَّنا لا نَعرِف هُوِيَّةَ الأشخاص الذين قاموا بزراعتها ، ولا نَعلَم شيئًا عن زمن زراعتها . أي إنَّنا نتحرَّك في الغابة مُحَاصَرِين بالأشجار ، ومَحصورين ضِمن ظُروف آنِيَّة بلا أدنى معرفة بهُوِيَّة الزارع ، ودُون امتلاك أيَّة فِكرة عن زمن الزراعة .

 1
بُنية الفِعل الاجتماعي تستند إلى تحقيق الذات ، وتعتمد على توفير السِّيادة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إفساح المجال لتعبيرِ الإنسان عن كِيانه ، وتفعيلِ أحلامه ، وإشباعِ رغباته ، وامتلاكِ السِّيادة على الفِعل الاجتماعي في المنظومة الثقافية ، والتَّحَكُّمِ بالفاعلية الأخلاقية في حركة التاريخ . وإذا خَضَعَ الفِعلُ الاجتماعي للفِعل الثقافي، فإنَّ مُجْتَمَعًا جديدًا سَيَظهر ، مالكًا حُرِّيته ، ومُتَحَرِّرًا مِن تأثير المصالح الشخصية التي يتم تقديمها كمصالح عامَّة للسَّيطرة على العقل الجَمْعي ، وخِداعه ، وأدلجته ، وتوجيهه نَحْو تكريس مُسلَّمات فكرية افتراضية ، لا حقيقة لها على أرض الواقع ، وتجذير لوازم اجتماعية لَيست بلازمة ، مِن أجل الهَيمنة على الخِطَاب الاستغلالي ، وصَبغه بهالةِ الإنسانية ، والهَيمنة على مسارِ الشُّكُوك ، وصَبغه بهالةِ اليقين . وهذه الأوهامُ المُتكاثرة لا يُمكن كَشفها إلا بنقل اللغة من النظام الرمزي إلى المنظومة الاجتماعية ، لأنَّ اللغة هي الكَوْن العقلاني الذي يَمتلِك الآلِيَّاتِ المعرفية ، والأدواتِ الإبداعية الكاشفة عن قواعد المنهج العِلْمي في بُنية الفِعل الاجتماعي .

 1
العواملُ المُحدِّدة لطبيعة السلوك الإنساني في المجتمع ترتبط بشكل وثيق بالدوافع النَّفْسِيَّة للأفراد ، ومصالحهم الشخصية ، وهذه العوامل لا تُوجد في ماهيَّة العلاقات الاجتماعية بشكل تجريدي هُلامي ، وإنَّما تُوجَد بشكل منطقي انسيابي ، لأنَّ المعنى الاجتماعي _ جُزئيًّا وتفصيليًّا _ يعتمد على التَّوليد لا التَّجريد ، أي إنَّه يعتمد على اشتقاق الأفكار من الواقع المُعاش ، وتكريسها في الحقائق الاجتماعية والتجارب الإنسانية من خلال طرح الأسئلة المصيرية ، والبحث عن إجابات عقلانية ، ودَلالات فكرية ، وآليَّات عملية ، من أجل الانطلاق من الذات الإنسانية إلى الطبيعة الماديَّة للأحداث اليومية ، ومِن العَرَض الهامشي في البيئة إلى الجَوهر اللغوي في الوجود . لذلك ، تُمثِّل عمليةُ التَّوليدِ مَنبعَ الدَّلالات الاجتماعية المركزية في الحياة ، أمَّا التَّجريد فهو عملية فصل الأفكار عن الأشياء ، والخُروج من الواقع إلى الذهن ، والانتقال من الصوت إلى الصدى ، والتَّحَوُّل من التفاصيل الجُزئية إلى الأشكال الصُّوَرية ، وهذه العملية ذات الخُطُوَات المُتسلسلة شديدة الخُطورة ، لأنَّها تُحوِّل العلاقاتِ الاجتماعية إلى أشياء ذهنية بلا امتداد واقعي ولا تطبيق عملي ، كما أنَّها تُحوِّل الروابطَ بين الأشياء إلى كِيانات مُستقلة عن الشعور الإنساني والظواهر الثقافية والتجارب الحياتية . والعلاقاتُ الاجتماعيةُ إذا تحوَّلت إلى أشياء، فإن الإنسان سيتحوَّل إلى شيء ، ويَخسر طبيعته ، ويَفقد مَاهِيَّته .

 1
التحولات الرمزية في اللغة تمنح العلاقاتِ الاجتماعية القُدرةَ على إعادة صياغة إفرازات العقل الجمعي . وإعادةُ الصياغة تعني توليد نظام معرفي يُوظِّف عناصرَ الفِعل الاجتماعي في سياق التحولات الشعورية للفرد والجماعة ، ويُوازن بين التفاعليةِ الذاتية ( صورة الذات في مِرآة الذات ) والهُويةِ المُجتمعية ( شرعية المجتمع في عملية توحيد الذات والموضوع ) . وتَصَوُّرُ الفردِ عن نَفْسِه يُحدِّد طبيعةَ التعامل معَ مُجتمعه ، أي إنَّ الفرد ينتقل من شُعوره الوجداني الشخصي إلى شخصية المجتمع الذي ينتمي إلَيه ، وهذا الانتقال ضروري لتكريسِ الخلاص الجماعي في السلوك الإنساني ، وتجذيرِ المشاعر الفردية الجُزئية لإنقاذ الكُل المُجتمعي . وإذا نجح العقلُ الجمعي في تطهير المجتمع من ثنائية ( الاستغلال / الابتزاز ) ، استغلال الفرد للمجتمع كرافعة للأحلام الشخصية ، ووسيلة لتحقيق الخلاص الفردي ، والهروبِ من المسؤوليات والتحديات ، وابتزاز المجتمع للفرد من أجل تحويله إلى آلةٍ بلا رُوح ، ومُجرَّد رَقْم مَنسي في أرشيف التغيرات الاجتماعية ، فعندئذ ستتحوَّل أُطُرُ البناء الاجتماعي إلى تيارات ثقافية ديناميكية ، تقوم على الحركة الفكرية والنشاط العقلاني والحيوية الواقعية من أجل تحقيق التكامل والانسجام بين الفرد والمجتمع ، وهذا يَحمي الفردَ مِن التحوُّل إلى كَبش فِداء ، ويحمي المجتمعَ مِن التحوُّل إلى خشبة مَذبح . والعلاقاتُ الاجتماعية لا تقوم على حسابِ أعداد الضحايا ، وتحويلِ الضحايا إلى أرقام ، وتأسيسِ ظواهر حياتية قائمة على المُتاجرة بالتضحيات ، وإنما تقوم على بناءِ المفاهيم الأخلاقية وتطبيقها على أرض الواقع ، وبناءِ المعنى الوجودي المُتماسك ، والمُتَّصِل بتوحيد الزمان والمكان ، وعدم الفصل بين التاريخ والجُغرافيا .

  • تقديم
    يستأثر التّواصلُ الإشهاريُّ بأهميّة بالغةٍ في عصرِ الاقتصادِ الرأسماليّ المُشرعِ على تحولاتِ السّوقِ. إنه-بهذا المعنى-أسُّ العمليّة التجاريّة؛ فبواسطتهِ يَتَأتى للشركاتِ الترويجُ لمنتجاتها، وتحقيقُ الأرباحِ المنشودةِ. وبواسطتهِ، أيضاً، يغدُو بِمُكنةِ هذه الشّركاتِ خلقُ مستهلكٍ شرهٍ، وجائعٍ، لا يني يطلبُ المزيدَ لإشباعِ رغباتٍ دائمةِ التفجُّر في داخلهِ. وبعبارة أُخرى، يتحدّد الإشهارُ-استناداً إلى تعريفاتِ القواميس-بِعَدِّهِ شكلاً من أشكالِ التّواصلِ الجماهيريِّ؛ وُكْدُه حَفزُ المُستهلكِ على شراءِ منتجٍ ما، أو اعتناقِ تصورٍ في الحياةِ.

الإشهارُ، استتباعاً، نشاطٌ مركبٌ أو عملٌ تقنيٌّ يقتضي تضافر مجهوداتِ مختصّين في مجالاتٍ معرفيّة مختلفةٍ. بيانُ ذلك؛ أن المرسلةَ الإشهاريّة ليست حيزاً غفلاً؛ بل إنها-كما سنتعرّف ذلك مع جُون ماري درُو-فضاءٌ منظمٌ من العلاماتِ والرّموز المتماهيّة، والتي تستمدُّ نُسغها من الثقافة والأعماقِ الميثولوجيّة والأنثربولوجيّة والنفسيّة والاجتماعيّة للمستهلكِ. وبهذا، فهي تستبطنُ استراتيجيّة غايُتها المُثلى إقناع المستهلكِ، طوعاً أو قسراً، بجدوى وفعاليّة المنتجِ المُسْتَهْلَكِ.

1
التفاعل الإنساني مع عناصرِ التاريخ وتراكيبِ البُنى الاجتماعية ليس له قانون ثابت ، لأن شرعية التفاعل الإنساني مُستمدة مِن قُدرته على توليدِ قوانين جديدة ، وكسرِ القوالب الجاهزة ، والخُروجِ مِن الأُطُر المفروضة على أنظمة المجتمع التي تُعْتَبَر المُحرِّك الحقيقي لتاريخ الفرد والجماعة . والتوليدُ المُستمر للقوانين المعرفية يهدف إلى تكوين أنساق مجتمعية وظيفية تستطيع الربطَ بين حركة التاريخ والحراك الاجتماعي في الظواهر الثقافية ، باعتبار أن الثقافة هي النسقُ الحاكم على انعكاسات الشعور في الواقع المادي ، والسياقُ المُتحكِّم بفلسفة العلاقات الاجتماعية ، التي تعتمد على المبادئ الأخلاقية ، وتستند إلى المعايير الإبداعية .
2

 1
وظيفة الطاقة الرمزية في اللغة هي تجذيرُ الفكر الاجتماعي في الشعور الإنساني ، وتكريسُ الشعور الإنساني في الظواهر الثقافية ، مِمَّا يَدفع باتجاه توليد أنظمة فكرية نَقْدِيَّة ، تستطيع ضبطَ حركة التاريخ اللغوي في التحولات الاجتماعية ، واستعادةَ العناصر المعرفية التي غابت في طَوَايا التاريخ . وهذا يعني أن مفهوم النقد في الأنظمة الفكرية يقوم على الرابطة بين التاريخ اللغوي والتاريخ الإنساني ، ويستمدَ القُوَّةَ مِنهما ، مِن أجل إنشاء إطار عقلاني يستوعب التَّغَيُّرَ في تفاصيل بناء المجتمع ، والتَّغييرَ في جُزئيات تفسير المعرفة . والإشكاليةُ في هذا السِّياق تكمن في عَجْز الأنساق الاجتماعية عن التمييز بين النَّقْد والنَّقْض بشكل عملي تطبيقي . والقُدرةُ على التعريف اللغوي لا تستلزم بالضَّرورة القُدرةَ على التأطير الواقعي ، لأنَّ الذاتي يختلف عن الموضوعي ، والنظري يختلف عن العملي ، ووضعُ النظرية يختلف عن تطبيقها .