" إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم؛ إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء " [1]
كارل ماركس “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”
1- مقدمة:
يُعدّ الفيلسوف الاقتصادي الألماني كارل ماركس (Karl Heinrich Marx: 1918-1883) [2]- مؤسس النزعة الماركسية - واحداً من الآباء الخمسة الأوائل لعلم الاجتماع، ويصنف على أنه أكثرهم نفوذاً وتأثيراً في الفكر السوسيولوجي المعاصر كما هو الحال في الفلسفة الحديثة، ولا غرو أنه ترك بصمته المميزة في مجال الفلسفة الاجتماعية الحديثة، وقد قدر له أن يؤسس لنظرية المادية التاريخية التي تشكل الإطار المنهجي والتاريخي لعلم الاجتماع الماركسي الذي استطاع أن يسجل حضوره في التاريخ بتدفق كبير من الأعمال والدراسات الهامة في تاريخ السوسيولوجيا العالمية.
ومع أن كثيراً من الباحثين يصنفون كارل ماركس من بين الفلاسفة أو الاقتصاديين فإنهم ينظرون بعين الاعتبار إلى الجوانب السوسيولوجية لفكره، ويقدرون عالياً إسهاماته في مجال علم الاجتماع. ويمكننا القول في هذا السياق: إن معظم أعمال ماركس وكتاباته العبقرية ة تبحث في المجتمع وفي ظواهره وقوانينه الاقتصادية والفكرية والسياسية، وقد لا نبالغ إذا قلنا: إن ماركس كان قد أراد للعلوم الإنسانية جميعاً أن تنحو نحواً اجتماعياً لتباشر المجتمع بالدراسة والتحليل والاستكشاف. ومن هنا جاءت دعوته التاريخية إلى تحويل الفلسفة من فكر يجول في الآفاق العادية إلى علمٍ اجتماعي مهيباً بها ألّا تقف عند حدود التفسير متطلعاً لها أن تسعى إلى التغيير ومن صلب هذا التوجه يقول: "كل ما فعله الفلاسفة حتى الآن هو تفسير العالم بطرائق مختلفة - لكن المهم هو تغييره".
ولد كارل ماركس عام 1818 في مدينة ترير (Treves) -التابعة يومئذ لمملكة بروسيا- حالياً لأب يعمل في سلك المحاماة. درس في جامعتي بون وبرلين في مجال التاريخ والعلوم الإنسانية وفي رحاب هاتين الجامعتين درس كلاسيكيات الفلسفة الألمانية المثالية والمادية، وحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة، وكانت أطروحته تتناول مقارنة بين رؤى كل من ديمقريطس وأبيقور.. وقد سجن بسبب أفكاره وكتاباته الصحفية الثورية وطرد من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، وانتقل إلى لندن ليعيش بقية حياته متخفيا متنكرا تحت أسماء مستعارة كثيرة، وأهم ما يميز حياته الشخصية والعلمية صداقته الأبدية مع فريدريك أنجلز الاشتراكي الألماني، التي بدأت في عام 1844 واستمرت بعد موت ماركس، إذ بقي إنجلز وفيا لماركس وعائلته حتى أنه ترك ثروته الكبيرة لأسرة ماركس بعد وفاته، وقد شاركه تأليف عديد الكتب ومنها: الأسرة المقدسة (Th Holly Family )، والأيديولوجيا الألمانية، والبيان الشيوعي.