1
الأفكارُ الكامنةُ في العلاقات الاجتماعية تُولِّد مَعْنَاها الوجودي وشرعيتها الحياتيَّة اعتمادًا على سُلطةِ مَصَادر المَعرفة، واستنادًا إلى هُوِيَّة المعايير الأخلاقية. وهذه الأفكارُ لا يُمكن تطبيقُها على أرض الواقع لِتُصبح تاريخًا حَيًّا للفردِ ووُجُودًا حُرًّا للجماعة ، إلا في ظِلِّ صناعة مُستمرة لمفاهيم الوَعْي الحضاري الذي يُوَازِن بَين منظومةِ ( الخِبْرَة / المَصلحة ) ومنظومةِ ( الفِطْرَة / البَرَاءة ). وكُلُّ مُوَازَنَةٍ في تاريخ الأفكار تُؤَدِّي إلى تَوَازُن في البُنية الوظيفية لفلسفة المُجتمع كَآلِيَّة للتأقلم مع الواقع ، وإعادةِ تَكوين أنساقه بما يَضمن تحقيقَ المَنفعةِ الفرديَّةِ والجماعيَّةِ . وإذا كان المُجتمعُ يَقُوم على التسلسل الهَرَمي لمصادرِ المعرفة والمعاييرِ الأخلاقية ، فإنَّ الأفكار تَقُوم على التَّرَاتُب الثقافي للتجاربِ الحياتيَّة والوَعْيِ الحضاري ، وهذا مِن شأنه ضَمان استمرارية البناء الاجتماعي ، ومُواصلة تَتَبُّع آثاره المعرفية في المَعنى اللغوي ، والسُّلوكِ اليَومي ، والحقيقةِ الوجودية ، والإدراكِ الذهني ، والمُمَارَسَةِ الوِجدانيَّة . والبناءُ الاجتماعي لَيس موقفًا فلسفيًّا مَعزولًا عن الحياة ، وبعيدًا عَن مُشكلات الواقع ، ولكنَّه تَكوينٌ لحياة جديدة ، وإنتاجٌ مُستمر للعناصر الفكرية القادرة على اكتشاف الطبيعةِ الإنسانية والعقلِ الجَمْعي، وتفسيرٌ دائمٌ للنسيج الاجتماعي لتحريره مِن الخَوف تُجَاه المُستقبل ، وتحويلٌ للتجربة الفردية الذاتية إلى منهجٌ لقواعد التحليل اللغوي للتاريخ والحضارة معًا .
وسائل التواصل الاجتماعي وآثارها السلبية على الصحة النفسية والعقلية - د. حسام الدين فياض
انتشرت في العقد الماضي وسائل التواصل الاجتماعي بشكل غير مسبوق نتيجة التطور والتقدم التكنولوجي الهائل، حيث أصبحت المنصات مثل: (Facebook، Twitter، Instagram، TikTok) جزءاً من الروتين المعتاد للكثيرين من معظم الأفراد على مستوى العالم. فإذا كنت تقضي ساعات كل يوم في تصفح حسابك على مواقع التواصل، فأنت لست وحدك من يفعل ذلك. ففي معظم المجتمعات يقضي الشخص العادي في المتوسط من 2 إلى 4 ساعات يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يكون الاستخدام مرتفعاً بشكل خاص بين المراهقين والشباب، الذين لا يزالون يطورون هويتهم وشعورهم بالذات. ومعنى ذلك، أن هناك العديد من أفراد المجتمع يفضلون قضاء بعض الوقت على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن إن تحول هذا السلوك إلى استخدام مفرط سيؤثر على صحتنا العقلية والنفسية وأنشطة حياتنا اليومية مثل: العمل أو علاقاتنا الاجتماعية، فهذا ما يسمى بإدمان مواقع التواصل الاجتماعي.
تشير دراسات الصحة النفسية والوقائية في هذا السياق إلى وجود أشكال عدة للممارسات المرضية والإدمانية لمنصات التواصل الاجتماعي: كثرة التحقق من الهاتف كل بضع دقائق، وترقب أحدث الإشعارات، وانشغال الذهن وتشتت الفكر بمواقع التواصل، التعلق بمنشوراتك والشعور بالإحباط حين لا تتلقى أية ردود أو تفاعلات كافية. بالإضافة إلى حالة التأهب النفسية التي تصيبك حين تنشر منشوراً جديداً أو تغريدة جديدة، وتبدأ بترقب ماذا سيرد الناس؟ وماذا سيقول الناس؟ وهل سيهاجمني أحدهم؟ هل سيعيد أحدهم نشر هذه التغريدة وانتقادي أو الاستهزاء مني؟ كل هذه الممارسات هي شكل من أشكال الأمراض النفسية التي تورثها منصات التواصل الاجتماعي لدى مستخدميها، والتي تزيد من فرص تعرض الإنسان للاكتئاب والقلق والأرق واضطرابات الأكل واضطرابات النوم، فكيف نتخلص من سموم مواقع التواصل الاجتماعي؟
الجوهر الأساسي للأنساق الثقافية - إبراهيم أبو عواد
1
الأنساقُ الثقافية الواعية في تفاصيل البناء الاجتماعي تُمثِّل أساليبَ حياتيةً لفهم العلاقة المركزية بين الكائن والكَينونة ( الرابطة المصيرية بين الإنسان والوجود ) ، وهذا الفهمُ ضروري لِتَوليد المَعنى في التاريخ بِوَصْفِه هَيكلًا معرفيًّا قائمًا بذاته ، وتفجيرِ الطاقة الرمزية في اللغة بِوَصْفِها تأويلًا مُستمرًّا للوَعْي والإدراك . وإذا أدركَ الإنسانُ مَعنى العناصرِ في واقع اللغة ولُغةِ الواقع ، فإنَّه سَيُصبح قادرًا على فَكِّ الارتباط بين مَصدر المعرفة الوجودي والتراكيبِ الفكرية التي تقع خارجه ، مِمَّا يَمنح بُنيةَ اللغةِ القُدرةَ على تحريرِ الزمان مِن الوَعْي الزائف ، وتخليصِ المكانِ مِن اليقين الوهمي ، فَيُصبح الفِعْلُ الاجتماعيُّ نَسَقًا ثقافيًّا يَمتاز بالتفاعلِ معَ الذات والموضوع ، والفاعليَّةِ في المجال الحَيَوي للإنسانِ في المُجتمع ، والمُجتمعِ في التاريخ ، والتاريخِ في العَالَمِ . والفِعْلُ الاجتماعي مُقْتَرِن برمزية اللغة التي تَحتاج _ كَي تُصبح فِعْلًا وفاعليَّةً وتَفَاعُلًا _ إلى ابتكارِ أنساق ثقافية مُتميزة ، واختراعِ ظواهر إنسانية إبداعية ، وتأسيسِ مُصطلحات فلسفية جديدة . وهذه المنظومةُ الاجتماعية الشاملة ( الابتكار/ الاختراع / التأسيس ) تُحدِّد الفُروقَ بين بُنى مَصادرِ المعرفة مِن جِهَة ، ونَماذجِ رَمزيةِ اللغة مِن جِهَة أُخْرَى. وإذا كانت اللغةُ فَضَاءً تتكرَّس فيه الروابطُ بين المَعَاني ، فإنَّ المُجتمع نِظام مِن القِيَم الأخلاقية والمَصْلَحِيَّة في آنٍ معًا . والنَّزعةُ الرُّوحيةُ والمَنفعةُ الماديَّةُ وَجْهَان لِعُملة واحدة ، لا تَعَارُض بينهما ولا تَضَاد . وهُمَا يَدُوران في فَلَك الخِطَاب اللغوي الرمزي المُسيطِر على العلاقات الاجتماعية ، حِينَ تتجلَّى في مَسَار الوُجود الحُر ، وحِينَ تَنعكس على مَصير الثقافة الحَيَّة .
فلسفة علم المجتمع عند كارل ماركس: الإنسان صانعاً لتاريخه - د. حسام الدين فياض
بالرغم من مضي أكثر من قرن من الزمان على وفاة كارل ماركس* فلا يزال فكره يشغل حيزاً من اهتمام الباحثين والمفكرين الذين ينتمون إلى أكثر من تخصص ولا يكاد يخلو مؤلف واحد اهتم بتاريخ النظرية إلا ووقف على ما كتب ([1]). لأن ماركس يعتبر أحد أهم المنظرين الثوريين**، والفلاسفة الماديين النقديين تأثيراً في التاريخ الإنساني، فما تزال أفكاره حتى الآن تجتذب المثقفين في أماكن كثيرة من العالم على الرغم من تهاوي الكثير من الصروح السياسية والاقتصادية، التي قامت على هدي أطروحاته في القرن العشرين المنصرم ([2]).
شهد ماركس ظروف التصنيع المبكر في أوروبا وما نتج عنه من آثار سلبية على الطبقة العاملة، مما دفعه إلى الاهتمام بسرعة التخطيط لإحداث عملية التحول الاجتماعي، والإقرار بضرورتها، فنكب بجهد لا مثيل على دراسة وتفسير وتحليل ونقد العوامل، التي أدت إلى ظهور الرأسمالية والمبادئ، التي ارتكزت عليها للحفاظ على وجودها واستمرارها، وذلك بهدف القضاء عليها وتجاوزها إلى تشكيلة اقتصادية - اجتماعية ينتفي فيها استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ([3]). بهذا نجد أن الفلسفة الماركسية شكلت مدخلاً ثورياً للتغيير الاجتماعي والتقدم الإنساني.
درس ماركس طبيعة هذا الاستغلال وحلله وتنبأ بالنتائج التي سيفضي إليها، فهذا الاستغلال قد اتخذ صور شتى عبر التاريخ، من اقتصاد المرحلة العبودية إلى الإقطاعية وأخيراً إلى الرأسمالية، حيث انقسم أفراد المجتمع فيها إلى ساد وعبيد ثم إلى إقطاعيين وفلاحين، وأخيراً برجوازيون وعمال. وفي كل ذلك كانت قوانين الاقتصاد السياسي هي التي تتحكم بوجود وتطور وفناء نظام اجتماعي – اقتصادي معين، ومجيء نظام أرقى منه ([4]). وينطلق ماركس في تفسيره لطروحاته من افتراض أن موقع الأفراد والجماعات من ملكية وسائل الإنتاج هو الذي يحدد وضعهم الاجتماعي في بناء القوة داخل المجتمع، فإما أن ينتمون إلى الطبقة المسيطرة أو الطبقة الخاضعة، ومعادلة القوة هذه ذات بُعد تاريخي لا يمكن تجاهله في النظرية الماركسية، لهذا أوضح ماركس في البيان الشيوعي 1848، " بأن كل التاريخ السابق لم يكن إلا تاريخ صراع طبقي "([5]). إن هذا الفهم للتاريخ، يصوره كتاريخ قوة تحركه صراعات القوى وتناقضاتها، التي تتمثل في الطبقات الاجتماعية، حيث كان يوجد دائماً طبقات تمتلك وطبقات لا تمتلك، وتبعاً لذلك طبقات حاكمة وطبقات محكومة. لذا فإن الأغلبية الساحقة من البشر حسب التصور الماركسي كانت تعمل بمشقة.
في راهنية تجذير الوعي الإيكولوجي - مولاي عبد الحكيم الزاوي
أضحى التفكير في علاقة المجتمع المدني بالقضايا الكبرى للإنسانية، من بين الانشغالات الراهنة اليوم لمختلف مباحث العلوم الانسانية، وتحديدا سوسيولوجيا التنظيمات، بما هي مبحث نظري وتطبيقي يهم تفكيك العلاقات التي تؤسس للممارسات المدنية في علاقتها بالبيئة. هذا الانشغال السوسيولوجي يروم البحث عن مداخل أولية في تفسير وتحليل مظاهر التغير الاجتماعي والثقافي داخل المجتمعات الانتقالية، كبنيات مجتمعية تشهد على استمرارية الأنساق التقليدية في أشكال مدنية حديثة، من خلفية الثابت والمتحول، الاتصال والانفصال، التقليد والتحديث...
تاريخيا، اعتبرت إشكالية النهوض من معضلة التأخر التنموي منذ منتصف القرن الماضي محور جل تدخلات المجتمع المدني بهدف تذليل فجوة التفاوت، وتجسير التأخر التاريخي، واستكمال شروط واليات بناء الدولة المدنية الحديثة، دولة التنظيمات والمؤسسات والهياكل القانونية. وعلى قدر الأهمية المثلى التي تحظى بها العملية التنموية كانشغال مركزي بالمغرب وخارجه، فإنها لم تعد تخضع اليوم قياسا بالمنجز الجمعوي للعشوائية والارتجالية، وإنما أصبحت توظف استراتيجيات تنبني على التخطيط والحكامة بشكل يتيح تحقيق غايات محددة.
تتناسل من داخل التمهيد عدة أسئلة كبرى، تسائل منجزنا المدني في تداخله مع الشأن البيئي من قبيل: هل استكمل الفضاء المدني بالمغرب شروط المواطنة؟ وهل استوعبت النخب الجمعوية شروط الترافع عن الساكنة وأولويات المطالب؟ ألا يعيق تصحر النسق السياسي وتكلسه الفكري تشكل الفضاء المدني؟ هل التجربة التاريخية الجمعوية بالمغرب ناجزة للقيام بمداخل أولية للتفكير في أسباب العطب وعسر التحول في سوسيولوجيا التنظيمات؟ هل يمثل الفضاء الجمعوي العمق المجتمعي؟ أم يعكس إخفاقات الانتماء السياسي وفشل المشروع المجتمعي؟ وهل الترافع عن البيئة اليوم يشكل ترفا أم ضرورة كونية في مجتمع لم يستكمل بعد نضاله الحقوقي؟
البناء الاجتماعي وفلسفة التاريخ - إبراهيم أبو عواد
1
المضامينُ الفكرية في البناء الاجتماعي تُمثِّل إطارًا مرجعيًّا لفهمِ المَعنى الكامن في الظواهر الثقافية الذي يُؤَثِّر على السُّلوكيات اليومية ، ومصدرًا معرفيًّا لفهمِ تأثير اللغة الرمزي في عملية التفاعل بين الأفراد ، التي تُؤَدِّي إلى تحليل المفاهيم الجَوهرية في العلاقات الاجتماعية ، وإعادتها إلى أنويتها التاريخية الداخلية ، وجُذورها الفلسفية العميقة . وفلسفةُ التاريخ هي القُوَّةُ الدافعة للمجتمع ، والرافعةُ الأخلاقية للفِعل الاجتماعي المُستند إلى الوَعْي العميق والإدراكِ النابع مِن تَعَدُّد زوايا الرؤية للأحداث والوقائع ، والحاضنةُ الحضارية للواقع المادي المُنبثق عن الرُّوح المَعنوية المُتَحَرِّرَة مِن الأحكام المُسْبَقَة والعُقَدِ التاريخية . وفلسفةُ التاريخ لَيْسَتْ كَينونةً هُلاميَّة ، وإنَّما هي صَيرورة معنوية ومادية في حالة ولادة مُستمرة ، وهذا يُساهم في تَكوين أنساق وجودية _ فرديَّة وجماعيَّة _ لتحليلِ مُعطيات الواقع اجتماعيًّا ، وتفسيرِ إفرازات الخَيَال رمزيًّا ، وتأويلِ العقل الجَمْعي لُغويًّا . والعقلُ الجَمْعي يَفهم العلاقاتِ الاجتماعية استنادًا إلى المَعنى الذي تَحْمِله.وهذا المَعنى صادر عن الشرعية التي تُمثِّلها البُنى الوظيفية في المُجتمع، التي تُحَدِّد كيفيةَ تفسيرِ فلسفة التاريخ، ورَبْطِها مع الطبيعة النَّفْسِيَّة للفرد، والماهيَّةِ الوجودية للجماعة . وكما أنَّ فهم الفرد والجماعة لا يَتِم إلا مِن خَلال الرابطة المصيرية بينهما ، كذلك فهم السُّلوك والثقافة ، لا يَتِم إلا مِن خلال المسار الحياتي الذي يُوحِّدهما شكلًا ومَوضوعًا .
2
مُكَوِّنَاتُ البناء الاجتماعي ناتجةٌ عن الوَعْي التاريخي بدور الفرد في تثبيت كَينونته الإنسانية في مركز السُّلطة المعرفية ، التي تَقْدِر على دَمْج تاريخ المُجتمع وتاريخ الأفكار ضِمن سِياق إنتاج الخِطَاب العقلاني ، الذي يُحدِّد الآلِيَّاتِ اللغوية لِتَتَبُّع آثار المعرفة في الفِعْل الاجتماعي والمسؤولية الأخلاقية . وإذا كانَ جَوْهَرُ الفِعل الاجتماعي تعبيرًا مُستمرًّا عن روابط الهَيمنة ، فإنَّ جَوْهَرَ المسؤولية الأخلاقية تَجَاوُزٌ دائم لضغط الغرائز وقَسْوَةِ الأنساق الاستهلاكية.وهذا التجاوزُ الدائمُ يُولِّد تصوُّراتٍ إبداعية تُعيد بناءَ مصادر المعرفة في المُجتمع، لحماية الفرد مِن الاغتراب في اللامَعنى . وإذا كانت المعرفةُ هي رِحلةَ البَحث عن المَعنى ، فإنَّ وَعْي الفرد هو بُوصلة لإيجاد الهُوِيَّة . والمِحَكُّ الحقيقيُّ هو تحديد الاتجاه الصحيح . والاتِّجَاهُ أهمُّ مِن الطريق ، والخُطوةُ أهمُّ مِن الخريطة .
التنوع الثقافي في بنية العلاقات الاجتماعية - إبراهيم أبو عواد
1
التَّنَوُّعُ الثقافي في بُنية العلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر امتدادًا للوَعْي بالدَّور المركزي للإنسان في المُجتمع والتاريخ ، وهذا الوَعْيُ يُمثِّل الشرعيةَ الوجودية للفِعل الاجتماعي الذي يُحدِّد خصائصَ سُلطةِ المعرفة ، وملامحَ هُوِيَّةِ التاريخ ، وشُروطَ التأويلِ اللغوي ، ومعاييرَ البناءِ الأخلاقي . والفِعْلُ الاجتماعي لَيس نظريةً مُجرَّدةً ، أوْ تَيَّارًا فلسفيًّا مَعزولًا عن الأحداث اليومية والوقائع التاريخية ، وإنَّما هو نظامٌ مُتكامل قادر على بعث الحيوية في التَّنَوُّع الثقافي ، وتحويلِ ماهيَّة الواقع المُعاش إلى هُوِيَّة فكرية مُتَجَذِّرَة ، ونَقْلِ فلسفة التُّراث مِن الحَيِّز الذهني الزمني إلى المُمَارَسَة السُّلوكيَّة الحَيَّة ، وتكريسِ كَينونة الحضارة كَتُرَاث مُشْتَرَك للإنسانية ، بِوَصْفِهَا مَعْنًى رُوحيًّا للحياة ، وقِيمةً ماديَّة للوُجود ، ولَيس بِوَصْفِهَا نظامًا لتجذير سِيَادة الغالب على المغلوب ، أوْ سِياسةً لتأطير العلاقة بين السالب والمسلوب. وهذا مِن شأنه إعادة إنتاج المعرفة كَمنظومة مُتفاعلة مع البيئة والطبيعة، لإعادة تشكيل التاريخ وَعْيًا حضاريًّا ، ومُمَارَسَةً حياتيَّةً ، وإدراكًا لُغويًّا ، ورُؤيةً كَوْنِيَّةً ، ودَمْجِ الماهيَّة الواقعيَّة معَ الهُوِيَّة الفكرية في صَيرورة التاريخ ، الذي يُعاد تفكيكُه وتركيبُه باستمرار ، مِن أجل تحقيق التواصل بين العلاقات الاجتماعية وسُلطةِ المعرفة مِن جِهَة ، وبين كَينونة الحضارة وفلسفة التاريخ مِن جِهة أُخْرَى .
المنهج النقدي في الروابط الإنسانية - إبراهيم أبو عواد
1
الروابطُ الإنسانيةُ في المُجتمع تشتمل على منهج نَقْدِي في داخلها ، وهذا المَنهجُ يُمثِّل تراكمات فكرية قادرة على تنظيم نَفْسِها ، واختيار مَسَارها المُستقل عن صراع الفرد معَ ذاته . والنَّقْدُ لَيس تبريرًا لهذا الصِّرَاع، وإنَّما مُحاولة للسَّيطرة عليه اجتماعيًّا ، وتفسيره منطقيًّا، وتوظيفه واقعيًّا، مِن أجل اكتشاف عُيوب الفرد وثَغَرَات شخصيته ، وإعادة بناء الفرد كقاعدة للبناء الاجتماعي ، تحتضن المراحلَ الزمنية في ثقافة الوَعْي ، بِوَصْفِها مشروعًا غَير مُكتمل ، وإنَّما يَسعَى إلى الاكتمال ، وذلك بالاندماج معَ حركة التاريخ العقلانية ، وإنسانيةِ الفِعل الاجتماعي . وكُلُّ مَنهج نَقْدِي يَمتلك القُدرةَ الذاتية على تحديد الأجنحة المُتصارعة في الظواهر الثقافية والأنساق الحياتية ، لأنَّ المُجتمع لَيس نهرًا جاريًا وَفْقَ خَط مُستقيم مَرسوم مُسْبَقًا ، وإنَّما هُوَ روافد مُتشابكة ومُخْتَلِطَة ، تَبتكر مَسَاراتها الخاصَّة بها ، ولا تُوجَد خُطَّة جاهزة للسَّيطرة على هذه الروافد التي تُغيِّر طبيعتها باستمرار ضِمن صَيرورةِ التاريخ والهُوِيَّةِ المعرفية والفِعلِ الاجتماعي . وإذا كانَ التاريخُ يُغَيِّر جِلْدَه باستمرار تَبَعًا لاختلافِ سياسات التأويل والتوظيف ، وتَعَدُّدِ زوايا الرؤية للأحداث ، فإنَّ الفرد يُغيِّر حُلْمَه باستمرار تَبَعًا لاختلافِ مُستويات الوَعْي والإدراك ، وتَعَدُّدِ أبعاد حُقول المعرفة . وهذا يدلُّ على استحالة أن يظل المُجتمعُ ثابتًا في ظِلِّ التَّغَيُّر المُسيطر على التاريخ والفرد . بَلْ إنَّ الثَّبات الفِكري في عَالَم مُتَغَيِّر يُشكِّل خَطَرًا على ماهيَّة الحقيقة الاجتماعية ، ويجب على الفرد أن يُغيِّر أفكارَه إذا تعارضتْ معَ الأدلة. والأفكارُ لَيْسَتْ مَقصودةً لذاتها، ولا تَقُوم بِنَفْسِها، وإنَّما هي وسائل لتحقيقِ الوَعْي المَعرفي،وتَوليدِ التاريخ الجديد الذي يُعبِّر عن المعايير الأخلاقية التي تُجسِّد المبادئَ الحَيَّةَ والحُرَّةَ ، صُورةً ومَعنى ، ظاهرًا وباطنًا . والمبادئُ ثابتة ، والأفكار مُتَغَيِّرَة .