anfasse" الإنسان هو أيضا محل للجهل، هذا الجهل يمكنه أن يتجاوز كينونته الخاصة وأن يستعيد ذاته انطلاقا مما يفوته."      ( ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء)
من الفراغ يبدأ المرء أو من الحطام الذي يتركه الإنسان أثناء أفوله، يبدأ فيه فعل ما يتأمل معنى هذا الأفول ويستثمر الفسحة التي يتركها له الفراغ لكي يستأنف مجددا حركته نحو ذاته ونحو المجال الذي انبثق منه. لكنه لا يعلم بالضبط من الذي يبدأ فيه فعل التأمل لاسيما وأنه يشعر في داخله بالفزع ويحس بالفراغ بعد طول النظر ومراكمة العمل، فكيف لأنا لا يمتلك إنيته أن يتأمل الفراغ سواء كان في داخله أو في المحيط الخارجي المحيط به؟ كيف له أن يزعم امتلاكه لذاته أثناء تأمله وركضه نحو ذاته؟ و كيف وهذا الفعل الذي ينفلت منه يند عنه ليس فقط قبل أن يبدأ الكتابة وإنما حتى أثناء فعل الكتابة نفسه؟
لا يعلم هذا الآدمي الوجهة التي عليه أن يقصدها ولا الموضوع الذي ينبغي أن يتأمله طالما أنه يسبح في الفراغ وتحاصره المرايا المحدبة والأرواح الثقيلة وطالما أنه محاط بالعدم والصحراء. من هذا المنطلق كان يخشى دائما البداية ويتحاشى منطق الوصية ولغة الوعظ والإرشاد لأنه كان يجهل من الذي سيبدأ فيه أثناء فعل البداية عينها أو كان يتحاشى أن يقوم في داخله آمر مهما كان مصدره من الأرض أو من السماء، فرد أو جماعة يحاول أن يفرض عليه فعل التأمل وحركة الابتداء ويجبره على التوجه قسرا نحو مبتغى مغاير للقبلة التي اتخذها قصيا.
 انه يعلم فقط أن كائن يحيا ويتكلم وينتج لاسيما وأن اللغة تجعله ممثلا بارعا للتعبير والجسد يمكنه من البروز في العالم والعمل يقوي لديه رغبة الاستحواذ والتملك.

anfasseالفلسفة والمؤسسة: أية علاقة؟
بين الحين والاخر يغلب الحديث عن مبادئ تدريس الفلسفة؛ وعن الغايات والأهداف المتوخاة منها؛ على كل المناقشات الدائرة في صفوف مدرسي الفلسفة، وبين من يعتبر أن الحديث عن الاهداف واضح وضوح الشمس، وبين من يعتبر أنها غامضة وملتبسة، أود معالجة هذه المسألة من زاوية بحثية، ذلك أن كل معالجة لموضوع مبادئ وغايات الدرس الفلسفي، لا يستطيع أن يكون جازما ولا على يقين بالنتائج التي قد يتوصل إليها ناهيك عن مصداقية النتائج، لذا جعل البعض من هذا الموضوع مجالا للبحث السوسيولوجي، والبعض الآخر موضوعا للتأمل الفلسفي.
إن الحديث عن أهداف وغايات الدرس الفلسفي، هو وجه من أوجه العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة / المجتمع، فمن يحدد الأهداف والمبادئ؟ من يضع الخطط الاستراتيجية للتدريس؟ هل يمكننا أن نضع غايات لتدريس الفلسفة؟ وهل تخضع الفلسفة لمبادئ معينة؟ ولماذا ينبغي أن تخضع لها؟
إن الإلمام بتدريس الفلسفة منذ الفيلسوف الحكيم سقراط، سيجد أن طرق التدريس تختلف باختلاف السياقات الزمنية والمكانية معا، إلى درجة أننا لن نجد طريقة واحدة ونمطية للدرس الفلسفي، بل على العكس من ذلك، سنجد تنوعا في الأساليب، وهو تنوع يبرره إلى حد ما اختلاف الرؤى والتصورات، كما اختلاف الغايات في نفس الوقت. هكذا يستطيع كل مدرس أن يحدد لنفسه المسارات التي يقطعها درسه في الفلسفة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التفكير في بيداغوجية تدريس الفلسفة لم تبدأ إلا بعد أن أرست الفلسفة مكانتها في المنظومة التربوية، وعلى هذا الأساس اعتبرنا أن إشكالية الغايات والأهداف هي وجه من أوجه العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة. ذلك أن المؤسسة حينما تحضر بقوة باعتبارها المشرع الحقيقي ولا أحد ينازعها في شرعيتها، تحول دورها من دور التعاون والتشارك مع الفاعلين الحقيقيين والمعنيين المباشرين بالتدريس، إلى دور القائم على الواجب وحماية السياسات الموجهة، أي إلى الإلزام سواء في صيغته القانونية أو الرقابية.
لهذا الاعتبار نود الوقوف على هاته العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة من خلال عرض وجهة نظر تعتبر نفسها سوسيولوجية، نابعة من اهتمام عميق بالمسألة ومن تجربة تربوية، ويتعلق الأمر بمعالجة مصطفى محسن للعلاقة: المؤسسة والمجتمع في كتابه: "نحن والتنوير: عن الفلسفة والمؤسسة ورهانات التنمية والتحديث وتكوين الإنسان في أفق الألفية الثالثة".

anfasse" كل حركة ثقافية تريد أن تستبدل الرأي والتصورات القديمة المتعلقة بالعالم عامة... يجب أن تدأب في رفع المستوى الفكري للطبقات الشعبية أكثر فأكثر وذلك كي تعطي شخصية للعنصر الشعبي الذي لا شكل له."[1]
توطئة:
السياسي والثقافي هما توأمان يسيران جنبا إلى جنب ولا يمكن تصور أحدهما بمعزل عن الآخر، فالسياسة الصالحة هي التي تنتج ثقافة مبدعة والثقافة المتفتحة هي التي تساهم في إسناد وترشيد سياسة ديمقراطية. والآن يعاد تشكيل السياسة على الصعيد الكوكبي أخذا بعين الاعتبار الموروثات الثقافية بحيث تندمج الدول التي لها ثقافات متشابهة في كيان واحد على غرار الاتحاد الأوروبي وتتصادم الدول التي لها ثقافات مختلفة وغريبة عن بعضها البعض على غرار الشرق والغرب. وهكذا أعادت العولمة تقسيم المعمورة بعد زوال الحرب الباردة ونهاية الاستقطاب الثنائي إلى شرق اشتراكي وغرب رأسمالي، وأعادت كذلك رسم الحدود السياسية لكي تتوافق مع التنوع الثقافي وتحترم الخصوصيات الحضارية.
من المعلوم أن حضارة اقرأ كانت ولا تزال واحة تترعرع فيها الثقافة المبهرة وينشأ فوق مسطحها الفكر الأصيل وتتفاعل على أرضها الخصوصيات وتترجم إليها ومنها العديد من المعارف والعلوم،بل إنها الأرض التي أنجبت العديد من النظريات والبدائل وكذلك الكثير من الرموز والقادة في مجالات عديدة وتخصصات دقيقة. لكن هذه المكانة اللائقة التي تتبوأها أمتنا وهذه الدرجة الرفيعة التي وصلت إليها ثقافتنا تعاني في الآونة الأخيرة من العديد من النقائص وتكافح ضد جملة من العاهات التي أبعدت عنها رونق الإبداع وجمالية الذوق وتدفق الإنتاج.

anfasse.org"إننا نعيش في مجتمع يسير بمعظمه نحو الحقيقة، أعني في مجتمع ينتج وينشر خطابا همه هو الحقيقة، أو يعتبره الناس كذلك، وله من جراء ذلك سلطة خاصة... "ميشيل فوكو
لعل السؤال الذي يظل أكثر إحراجا بل ربما الأكثر إزعاجا بالنسبة إلى العقول اليوم، فلاسفة كانوا أو علماء أو نقادا هو سؤال:" ما الحقيقة؟" ، ذلك أن هذه الكلمة مشبعة بالالتباس والغموض وتختلط بكلمات أخرى تتداخل معها في المعنى وتتشاكل في الدلالة مثل البداهة ، اليقين، الصلاحية، الصواب أو تتناقض معها وتفترق مثل الخطأ، الوهم، الكذب والظن والرأي، وهكذا لم يتولد عن هذه الكلمة سوى تماثلات لأفكار فضفاضة وما نسميه حقائق لا يعدو أن يكون سوى تماثلات لأفكار لا وجود لها في الواقع.
زد على ذلك أننا لا نكاد نظفر برؤية متماسكة تفضي إلى وضع حد جامع مانع لمفهوم الحقيقة  تنقضي بمقتضاه فوضى الآراء حول قضية منزلتها الإبستيمولوجية في العلوم تصورات وانجازات بشكل يجعل النقد الابستيمولوجي يتحول إلى تفلسف موضوعي أو على الأقل يقترب من موضوعية العلوم الإنسانية.
ولعله لا يمكن أن نفهم هذه الفوضى إلا بالعودة إلى أزمنة البدء أيام كان العالم لم يزل بعد محاطا بالأسرار وأيام كانت المفاهيم تلمع في لحظة تشكلها الأولى وأيام كانت الكلمات لم تزل تمتلك سرية الإيماءة وسلطان الإشارة لنساءل النظريات والتجارب والنصوص في طزاجتها الأولى ونرتحل بين ثناياها وتفاصيلها إقبالا وإدبارا. طالما كانت الرحلة تعبيرا عن إصغاء الكائن لنداء الأقاصي تترجم رغبته في العبور من المجهول إلى المعلوم ومن المحدود المختزل إلى المطلق الخصب وذلك بتحطيم الأطر الضيقة والمقاربات المسقطة والمناهج الصارمة والتخلص من شروط الزمان والمكان.
نحن لا نزعم هنا تقديم القول الفصل في مسألة "مكانة الحقيقة في العلوم" وحسم الأمر بتقديم نظرة نهائية بل سنكتفي بتدقيق النظر في مواطن الشبهة والخلاف والبحث عن معنى الحقيقة بتوسيع دائرة التشخيص والمقارنة وبتكثيف الأسئلة حول هذه القضية. وأول ما يتبادر إلى الأذهان هو وجود جملة من الصعوبات تمنع الإحاطة بالموضوع وتوقع الفكر في نوع من الكبر والغرور.

anfasse.orgفلسفة هيجل: مضمونها، أنواعها:
تنقسم فلسفة هيغل إلى ثلاثة ميادين معرفية كبرى، كانت محط اهتمام جل الفلاسفة ويتعلق الأمر ب: علم المنطق؛ فلسفة الطبيعة؛ فلسفة الروح؛ وهي ميادين مترابطة في نسق فلسفي متميز يجعل المهتم ينتقل من مستوى إلى آخر ليتمكن من رسم صورة واضحة على هذا النسق الفلسفي. لذلك ففلسفة هيجل هي فلسفة نسقية بامتياز. وتشترك هذه الميادين الثلاث في موضوع واحد، أي انها تدرس نفس الموضوع لكن في مستويات مختلفة وينعلق الأمر ب: "الفكرة الشاملة" أو "الفكرة المطلقة" أو إن شئنا القول "العقل" في صور متنوعة: "العقل" محضا في المنطق، و"العقل" في حالة تخارج في فلسفة الطبيعة، و"العقل" حين يعود إلى نفسه في فلسفة الروح.
فعلم المنطق هو دراسة الفكرة الشاملة لذاتها، معرفة نفسها بنفسها، وهي الحقيقة عينها، لأن الحقيقة " …هي أن الفكرة الشاملة لا تتضمن شيئا آخر يفكر فيه سوى الفكرة الشاملة نفسها …"، وقد أضفى هيغل ها هنا غطاءا لاهوتيا – إن صح القول – على موضوع الفلسفة، لأن " ... موضوعات الفلسفة هي نفسها موضوعات الدين: فالموضوع في كليهما هو الحقيقة. بذلك المعنى السامي الذي يكون فيه الله هو الله وحده، هو الحقيقة .. "  .
ولا ينبغي أن يفهم أن وحدة موضوع أقسام "فلسفة هيجل (الفكرة الشاملة) تلغي التمايز / الإختلاف، بل على العكس تماما تقر به، فالفكرة المطلقة في علم المنطق هي الفكرة بشكل مجرد إطلاقي، تعي ذاتها بذاتها، وتعقل الأمور في نفسها، حيث  أ  =  أ، "العقل" هو "العقل"، لكن في "فلسفة الطبيعة"، الفكرة المطلقة / الشاملة تخرج من ذاتها إلى الآخر. إنها "العقل" في حالة تخارج، نقيض حالتها الأولى وبالتالي ف "العقل" يغدو "لا عقل" أو "اللامعقول". أما في فلسفة الروح فتعود إلى نفسها، حيث الوحدة بين العقل واللاعقل، ويجمل ولترستيس هذا التمايز قائلا: "... المنطق يدرس الفكرة كما هي في ذاتها، وهذه هي الكلي (القضية). أما الطبيعة فهي الفكرة في الآخر، وهي ضد الفكرة في ذاتها، وهذا هو الجزئي (النقيض). أما الروح فهي وحدة المنطق والطبيعة وهذا هو المركب (الفردي)…".

anfasse.orgمدخل :
إن إشكالية ماهية الاختلاف  ابستيمولوجيا ، وفهمها يعد جوهرا في معرفة جوهر المسائل المتعلقة والمنبثقة عن الاختلاف الوجودي في أبعاده الثلاثة والذي قد يُنجز عنه نتائج إثراء لطبيعة الواقع الإنساني .
هذا التوقع الإيجابي سيساعدنا على تقبل الاختلاف وإفرازاته التنوعية .
وإننا هنا، نحاول ان ندخل إلى عمق هذه المسألة تاركين الجوانب الدلالية سواء اللغوية أو الاصطلاحية والتي فضلنا إحالة القارىء إلى بعض مصادرها  .
لأن المشكلة التي تعنينا بدرجة أولى هو ما أشرنا إليه، وكيفية ترك آثارها على واقعنا الثقافي بكل أطيافه.
في البدء كان الاختلاف :
إننا نحاول أن نلم بطبيعة تكون مسألة الاختلاف . علينا أن نحدد محورين أساسيين لفهمها .
المحور الاول :
1 - هناك ثلاث دوائر مختلفة (الآلي، والبيولوجي، والشخصي) وهي تتطابق مع الدرجات الثلاث للواقع (الطبيعة والحياة والشخصية الجوانية).
فالاختلاف الحاصل بين هذه الدوائر الثلاث أنبأ ان الاختلاف له طبيعة إيجابية وضرورية للاستمرارية وصيرورة الحياة، بل هذه التركيبة هي في الأساس من أجل التدافعية والوظيفة التكاملية وليست تركيبة تهديمية.
2 - كما (أن ازدواجية العالم الحي ونعني هنا على مستوى المادة في مقابل الحياة، ففي المادة نرى التجانس، والكم، والتكرار والسببية والآلية وعلى الجانب الآخر، نجد الإبداع والتنوع والنمو والعفوية، نجد الكائن الحي المتعضٌِي  ... فإذا نظرنا إلى بعض خصائص الحياة، نجد أنها تتناقض مع أفكارنا وفهمنا عن المادة في صميم تعريفها، فطبيعة الحياة مناقضة للمادة . فطبقا لعلماء الحياة " القصور في الطاقة "  ENTROPY  هو النقطة الحاسمة في تعريف الحياة. فجميع قوانين الطبيعة ترجع إلى القصور في الطاقة والتي تعني التشوش العام . وعلى عكس ذلك، نجد أن الخاصة الرئيسية للكائن الحي هي حالة " اللا إنتروبي"  " ضد القصور في الطاقة" ) .

anfasse.org"فما زال التأويل هو أصعب جوانب فني بكل تأكيد. وإنني لأرى في نفسي القدرة على أن أتحدث عن هوميروس أفضل من أي شخص آخر."[1]
ارتبط اسم الهرمينوطيقا بهرمس رسول الآلهة أولمب في الميثولوجيا الإغريقية الذي ذكر أنه ينقل الرسائل من زيوس كبير الآلهة وينزل بها من العالم السماء إلى مستوى البشر في الأرض فكان بالتالي خير وسيط بين عالم السر الغيبي وعالم العلن المرئي ولكنها ارتبطت أيضا بالتفسيرات الهيمورية (نسبة إلى الشاعر هوميروس) وكتابي العبارة وفن الشعر لأرسطو ، ولكن محاورة أيون لأفلاطون هي أيضا من الينابيع الصافية التي نهل منها مؤسسي هذا الاختصاص النبيل الذي سمي منهج تفسير النصوص الدينية أو نظرية في التأويل أو فن في الفهم.
ربما من فضائل محاورة أيون الأفلاطونية- المشكوك في صحة نسبتها إليه- أنها أرست التقاليد الأولى السؤال الهرمينوطيقي حول الجدارة والصناعة بالنسبة إلى الراوي وطرحت الأدوار التي يلعبها المؤلف والقارئ وسلطة النص والسياق الاجتماعي الذي تشكل فيه وبحثت في قضايا المعنى والحقيقة والطبيعة والقيمة والإنسان وما يضطلع به من مسؤولية في الحياة. ولعل أهم إشكال مطروح منذ البداية في هذه المحاورة هو: ما علاقة تصور أفلاطون للهرمينوطيقا في محاورة أيون بتصوره للغة ولطبيعة العلاقة بين الكلمات والأشياء في محاورة الكراتيل؟ وهل أن الخطاب الهرمينوتيقي يقتصر على مجال اختصاص معين دون آخر أم أنه خطاب كوني يتناول  جميع التجارب الحياتية وكل الحقول المعرفية دون استثناء؟ بأي معنى نتحدث عن كونية الخطاب الهرمينوطيقي؟ وهل يمكن للهرمينوطيقي أن يرتقي إلى مرتبة الفيلسوف؟   بأي معنى نسند حرفة الفهم والتأويل إلى الشعراء في حين أن أفلاطون أطردهم من المدينة في محاورة الجمهورية لابتعادهم عن الحقيقة واتقانهم فن الكذب والخداع؟
لم ترتبط الهرمينوطيقا عند أفلاطون بالتلاوة الشفوية وبشرح النصوص ولا بالترجمة من لغة أجنبية إلى لغة متداولة ولكنها تنطلق منذ البدء من التجربة اللغوية بماهي علامة على وجود الإنسان في العالم وتستشكل المسألة في فضاء المهرجانات والتباري بالقصائد حيث العلاقة متوترة بين الباث- الراوي والمتقبل- الجمهور وحيث الرسالة تخفي المطلوب وتطلب من المتفرج قدرة على فك الرموز من أجل تحصيل الفهم. يؤكد أفلاطون على أن الهرمينوطيقا فن وأن الماهر فيها هو الذي يظهر في أحسن صورة ويجعل من المعنى هو مقصده الأسنى بقوله على لسان سقراط:" إن فهم هوميروس ليس مجرد حفظ كلماته عن ظهر قلب، ولن يتسنى لإنسان أن يكون راوية قصائد ملحمية ما لم يفهم المعنى الذي يرمي إليه الشاعر لأن الراوية ينبغي عليه أن يؤول عقل الشاعر لمستمعيه. وما كان له أن يؤوله حق تأويله ما لم يعرف ما يعنيه."[2]

anfasse.org"لا تقل علاقة الرسالة النصية بالقارئ عن علاقتها بالمؤلف. فحيث يتوجه الخطاب المنطوق إلى شخص يحدده الموقف الحواري سلفا...يتجه النص إلى قارئ مجهول وضمنا إلى كل من يعرف كيف يقرأ"[1]
تاريخ الرسالة:
منذ أن وجد الإنسان في العالم ومع الآخر احتاج إلى الرسالة من أجل أن يبلغ عن مبتغاه ومراده ، ولذلك لعبت الرسالة دورا اجتماعيا لا يستهان به في تحقيق المعية الوجودية، فهي أداة الإيصال والإخبار والإعلام والتبليغ ولكنها أيضا تمثل رابطة عضوية وصلة حيوية بين أطراف متباعدة ومواقع متنافرة وذلك لكونها تحقق التواصل وتمنح التبادل والتعاون في المعارف والمعلومات والخبرات وتسهل صيد الفوائد وجني الخيرات.
وقد خضعت الرسالة إلى العديد من التحولات فقد بدأت بالإشارة والحركة الطبيعية إلى الخطاب الشفوي الحي والمباشر وبعد ذلك ارتقت إلى مستوى النص المكتوب وقد تبادل الحكام منذ القدم الهدايا والرسائل من أجل نبذ الحرب وتوطيد مقومات السلم وحسن الجوار واشتهرت الرسائل العاطفية التي يحملها الحمام الزاجل والرسائل السياسية التي يحملها الدبلوماسيون وفي ظل الثورة الرقمية وقع تعويض الرسائل البريدية وما يرافقها من طوابع وهدايا بالرسائل الإلكترونية القصيرة المكتوبة بلغة رقمية  والرسائل الصوتية والمصورة عن طريق المحمول وظهرت الدردشات في المنتديات وكان الفايس بوك خير معين على التكلفة الباهضة للمكالمات الهاتفية.
أدوار الرسالة:
كما لعبت الرسالة المكتوبة المتبادلة بين رجال الفكر والعلماء دورا بارزا في تقدم العلوم والفلسفات والفنون وقد تطور في السياق نفسه فن المراسلة وظهر أدب الرسائل ووجدت الرسالة الفلسفية ودون البعض من المفكرين معظم دعاويهم في رسائل وخاصة عند الإغريق والعرب وشملت مواضيع الكون والله والإنسان والسياسة والأخلاق والتاريخ والمجتمع والصداقة والدين واللغة والفقه والبلدان وبرزت مراسلات شعرية هامة أين تبادل الشعراء قصائدهم وعقبوا على بعضهم البعض مدحا وهجاءا وقد تواصل هذا التقليد حتى مع الفلسفة الغربية ونذكر رسائل ديكارت مع الملكة إليزابات والملكة كريستينا ورسائل فولتير الفلسفية ورسالة اسبينوزا في اللاهوتية السياسية وجرت مراسلات واعتمدت الرسالة كقناة للتعريف بالمنتوج الفلسفي وحمايته من الضياع ولتبادل الآراء وطلب النصرة من الحكام وربط جسور المودة والاحترام معهم.

anfasse.org"كذب الظن لا إمام سوى العقل  مشيرا في صبحه والمساء"
أبو العلاء المعري
ميزة الإنسان أن كائن عاقل وهذه العقلانية تؤهله للسكن في العالم وتنظيم حياته وعلاقاته مع نفسه وغيره ودرء المفاسد وجلب المنافع ولذلك نراه يستعمل عقله في كل كبيرة وصغيرة ويبذل كل ما عنده من جهد من أجل عقلنة وجوده والظفر بفهم معقول للواقع الذي يحيا فيه.
وقد يسيء الإنسان استخدام عقله فيوجهه ضد نفسه وضد مبادئه فينتج نوع من المعقولية المضادة للعقلانية وتصبح عقلانيته من الأمور اللامعقولة ويعلن عجز العقل عن الدخول إلى دوائر عديدة مثل الغيبيات وعالم العاطفة والوجدان واللامنطوق واللامنقال مثل عالم الصمت والسكوت وينتصر إلى الدين والتصوف والحواس والتجربة والغرائز ويكشف عن محدودية العقل في إدراك الكل وفي الوعي بمصادراته وفي عقل نفسه ويضع شغل العقل جنبا الى جنب مع وسوسة الشيطان وينفر من الحجج العقلية لكونها بالغة التعقيد ومرهقة للنفس ومذهبة للصحة والاعتدال ويصيح: كفانا اختناقا بالعقل فربما غيابه أفضل بكثير من حضوره والحياة ربما تكون سهلة عندما يزهد الناس في استعماله.
في المقابل هناك اشادة بدور العقل في حياة الإنسان نظرا لأنه أساس التكليف ومصدر القيم والمعان والحقائق وهو قوة تجريد وجوهر بسيط وقدرة تمييز منزه عن المادة من جهة ولكنه مقارن للجسد في الفعل  يتضمن مجموعة من المبادئ والقوانين ويختص في إدراك المعاني  وتصور حقائق الأشياء.
ان المشكلة ليس في العقل في حد ذاته بل في طرق استعماله، إذ هناك الاستعمال اليومي للعقل من أجل مواجهة المشاكل والتغلب على الصعوبات التي يواججها الإنسان في الحياة اليومية وهنا ينحط العقل إلى مرتبة الوسيلة الذرائعية من أجل تحقيق الرغبات وإشباع الحاجات، وهناك استعمال عمومي للعقل ويتمثل في الدور السياسي والحقوقي الذي يلعبه العقل في تنوير الحشود وتثقيف الجمهور وهناك يعجز العقل عن الارتقاء إلى مرتبة الفكر ويظل مجرد ملكة تعنى بالتشريع للشأن العام. أما الاستعمال الثالث فهو الاستعمال النقدي له وهو النظر إليه بوصفه مملكة للغايات الجوهرية للإنسانية جمعاء وهنا يتحول إلى فعل تواصلي وحديقة لتحقيق نعمة الحرية.

anfasse.orgيعتبر مفهوم "الحرية" من بين أبرز مفاهيم الحداثة في فكر عبد الله العروي، حتى أنه أفرد له كتابا باسمه [1] ، بل إنه أول مفهوم يستهل به سلسلة المفاهيم ليختمها بمفهوم العقل، إلا أن لمفهوم الحرية مكانة بارزة في سلسلة المفاهيم، بحيث أنه لا دولة إلا دولة الحرية ولا عقل إلا العقل الحر غير المقيد أو الخاضع للرقابة الذاتية ولا يتجلى المفهوم فقط في الدولة وفي العقل بل قد تتجلى حتى في الاقتصاد فنقول الاقتصاد الحر وفي الدين فنتحدث عن حرية الاعتقاد قبل الاعتقاد… هذا بالإضافة إلى الحريات السياسية والمدنية… إلا أن كل هذه التجليات ترجع إلى الحرية من حيث هي مبدأ. ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: لماذا يخط العروي كتابا عن الحرية؟ ألا يوجد هذا المفهوم في الثقافة العربية الكلاسيكية؟ ألم يعش المجتمع العربي الإسلامي التقليدي تجربة للحرية؟ وإذا كان قد عرفها، فما هو نوعها؟ وهل تطابق المفهوم الغربي للحرية أم أنها تختلف عنه ؟
1 - مفهوم الحرية التقليدي
بدءاً الحرية – حسب الأستاذ عبد الله العروي – شعار ومفهوم وتجربة [2] فإن تكلمنا عنها كمفهوم، فإنها غير متواجدة في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية، وحتى إن وجدت بذور المفهوم فهو غير مكتمل [3] أما كتجربة فموجودة في المجتمع الإسلامي الكلاسيكي، أما كشعار فقد رفعت شرقا وغربا، ولكن ما هي الأدلة التي تبين أن المجتمع الإسلامي عرف الحرية كتجربة معاشة في حين لم يعرفها كمفهوم؟

anfasse.org

" التجربة التي أكونها عن أناي يمكن أن تؤثر في التجربة التي يكونها أنا آخر عن أناه".
أدموند هوسرل
يتداول الحديث اليوم عن الإنسان كضحية للدعاية والاستهلاك والآلة ولبعض تشويهات السلطة والإفراط في الحلم والرغبة وللانخراط في عدة أنشطة وممارسات تحط من قدره وتنقص من قيمته وكل هذا له هدف واحد وهو فقدان الإنسان لهيئته ووجه الذي يبرز به أمام الآخر. فكيف يتراءى لنا الشخص الانساني في ظل تجلي عالم الأشياء؟ ثم أين يقيم هذا الكائن البشري؟ هل في عالم الكلام أم في عالم مشترك مع الآخر؟

1- ثمة إنسان:il ya un homme

إن الناس المنتشرين في الزحام  وحيث الاكتظاظ الذين ينشغلون في اليومي ويفكرون في قوتهم لا يستحقون بالفعل هذا الاسم لأنهم لا يواكبون التغيرات الحاصلة خارج ذواتهم رغم تغييرهم للآلات والوسائل التي يستعملونها والفيلسوف وحده هو الذي يستيقظ ليفكر في الإنسان في حد ذاته بمعزل عن عالم الأشياء وفي قلب عالم الأشخاص.

لقد فهم الإنسان منذ القدم على أنه كائن وسائطي فهو ليس ملاكا ولا أحمقا وإنما الاثنين معا، إذ هو حيوان عاقل يوجد في مرتبط وسطى بين الأحمق والملاك، وهو أيضا كون صغيرMicrocosme يعكس في ذاته صورة ونظام وترتيب الكون الكبيرmacrocosme ، بيد أن تلاشت الحدود وبان الوضع المبهم لواقعة الحمق وتحطيم الكوسموس قد أدت جميعها إلى النظر إلى الإنسان على أنه لا يظهر سوى مرة واحدة في خطوط التطور. أما اليوم فقد أصبح الإنسان ذلك المخلوق الغامض الذي لا يمكن أن نعثر له على مكان وهو ما عناه هيجل بقوله أن الإنسان تقمص للنفي عندما يفكر ويتكلم ويفصل الماهيات عن الموجودات والأشياء عن الأشخاص فهو الثقب الذي يدخل منه العدم إلى العالم عند سارتر والكائن الموجود هناك عند هيدجر، لكن هل يعقل أن نقبل هذا النفي الدائم للإنسان لذاته؟

الإنسان يملك قدرة على أن يكون ماهو وعلى أن يكون ما ليس هو إذ هناك دائما مشروع يرسمه لنفسه ويسعى إلى تحقيقه أو لنقل الإنسان هو مشروع جوهري وبالتالي يكون ما يريد أن يكون أي أن وجوده هو كل ما أراده. إن ما ينبغي رفضه هو بالضبط الأمر التالي:أن يكون الإنسان مجرد لاشيء.

عندئذ لكي نكون فكرة فلسفية عن الإنسان ينبغي أن ننطلق من الأحداث والأزمات والحروب التي مرت بها الإنسانية، إذ عانى الإنسان ثقل وعيه بالأشياء التي تسبب الشقاء تحمل أكثر مما كان يتصور أي الموت. كل شخص يحمل موته كسلاح وحيد تحت يده يهدد به غيره وفي ذلك تكمن مأساته.