أنفاسللنظر الى أبعاد معينة بغية فهمها يتطلب الأمر مقاربتها من منظور مقارن يبلور رؤانا المركبة عندما يتم تشغيل هذا المنظور لإستدعاء علائق المعنى في إطار النظرة النقدية وجدليتها المصوبة نحو التضاد والإختلاف ذلك ((فإن المعاني يمكن أن تفهم على نحو وافٍ فقط في ضوء الإشارة الى التضادات والإختلافات المحددة التي تزيح المعاني المرتبطة بها )) .. ولكي نستحضر ما بعد الإنسان لابد من إستجلاء مفهوم ما بعد الحداثة في سياق التجاذبات النقدية مع إطروحة الحداثة وما قبل الحداثة من تطورات فكرية أسست في ما بعد لما وصلت اليه الموجة العولمية من آلية فكرية في العالم مع دينامية إجتماعية في العالم الغربي ..
يمكن القول أن الكائن الإنساني كان محكوماً ومحدداً بالفكر اللاهوتي الذي يركز على الحياة الأخروية ، ويشل من إرادة الإنسان بوصمه بالإثم والذي يتطلب منه صرف كل همه في سبيل التطهر إنتظاراً ليوم الدينونة لمحاسبته على عمله الدنيوي المدنس .. ثم حكم الإنسان بالفكر الماورائي الذي يرى أن وجوده وأفعاله مخلوقة له من قبل القوى القصوى على حد وصف أرسطو أي قوى خارجة عن إرادة الإنسان وإمكاناته .
       بعد ذلك ومع بزوغ عصر النهضة الأوربية والتطورات التاريخية الكبرى حل الفكر الحداثي الذي يبنى على أساس أن الإنسان جوهر فكري هو عين ذاته .. يفكر بعقله المستقل ، له وعيه الناضج ويمارس سلطته على الطبيعة والأشياء بملئ إرادته ومطلق حريته . وقد ترافق المد الحداثي مع نشوء العلمانية التي إرتبطت بظهور البرجوازية حيث حررت الإنسان من هيمنة الكنيسة ، فالعلمانية هي : (( الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض )) حسب تعريف جون هوليوك ( 1817 – 1906 ) ، حيث نما الفكر البراغماتي الذي هدف أولاً الى تعظيم الإنتاج كهدف لوجود الإنسان الذي إنتهى الى موجات إستعمارية في الخارج وقيام الدول القومية في الداخل مبتناها الفصل بين العلم والأخلاق .. وفي مرحلة لاحقة أعتبر الإستهلاك هو الهدف النهائي لوجود الإنسان فيما لاح في الأفق من أن آلية السوق (( الخالية من القيم )) صارت تهدد سيادة الدولة القومية وكذلك تهددها مشكلات تفكيكية (( مثل ظهور النزعات الأثنية )) فيما تم إستبدال النموذج الإستعماري العسكري بنماذج أخرى كالإستعمار الإقتصادي والثقافي .. الخ

أنفاس"النهر للمنبع لا يعود
النهر في غربته يكتسح السدود"

                  عبد الوهاب البياتي

بداية أراني متفقا مع قول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت بفطرية العقل، وكونه أعدل الأشياء قسمة بيننا معشر البشر، فديكارت يقول فى مؤلفه الشهير "مقال عن المنهج"(1): "العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس (بالتساوي). إذ يعتقد كل فرد أنه أوتى منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة فى الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطيء الجميع فى ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة فى الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي فى الحقيقة التى تسمى بالعقل السليم أو النطق، تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن إختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا فى طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا فيما ينظر فيه الآخر، لأنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل المهم هو أن يُحسن استخدامه. وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل. والذين لا يسيرون إلا جد مبطئين يستطيعون حين يلزمون الطريق المستقيم أن يسبقوا كثيرا من يعدون ويبتعدون عنه".
ولندلف من مقولة ديكارت إلى القول بأن نصيب الإنسان العربي من العقل ليس أقل من نصيب غيره من إخوته فى الإنسانية، ولو ألقى تجار الآلام فى روعه غير ذلك. فالأرجح ـ كما أسلفنا ـ أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وعليه يصير مقبولا، ونحن بصدد الحديث عن العقل العربي، ألا نفرق بينه وبين غيره من عقول أمم الأرض. فالعقل الذى يسكن أجسادنا معشر البشر واحد، سواء كان صاحبه عربيا أو أفريقيا أو أوروبيا أو آسيويا أو أمريكيا! كل ما فى الأمر أننا معشر العرب نوجه أفكارنا فى إتجاهات خاطئة ونسلك طرقا جدبة، ناسين أنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل المهم ـ كما قال ديكارت ـ أن نُحسن إستخدامه، فهو بوصلتنا فى طريق الحياة، إن ضل ضللنا وإن أصاب أصبنا!

أنفاس"لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما: والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة". ديكارت  
لم يشهد تاريخ  الفكر في عصر من العصور فلسفة بلغت من النفوذ والسيادة على الأفكار وذروة العقلانية والتنوير ما بلغته فلسفة ايمانويل كانت في القرن التاسع عشر. يعتبر هذا الفيلسوف الألماني فيلسوف النقد الأكبر في تاريخ الفكر الإنساني، ومؤسس العقل الأوربي بدون منازع وربما العالمي الحديث كله. ومع ذلك من الصعب جدا أن تكتب سيرة إيمانويل كانت ـ والعهدة على الشاعر الفكه الظريف هاينرش هاينه لأنه لم يكن له حياة ولا سيرة حياة.  وقد وصف الأستاذ عباس محمود العقاد، الرجل بآلة مفكرة، آلة عظيمة بلا شك ولكنها آلة كسائر الآلات: تسير بميعاد وتقف بميعاد. وتأكل وتشرب وتنام وتستيقظ وتقرأ وتكتب وتتريض بميعاد. وكانت رياضة كانت المشهورة هي نزهته اليومية بعد الظهر.كان يخرج في الساعة الرابعة بالتمام والكمال لا يقدم دقيقة ولا يؤخر دقيقة ومهما كان حال الطقس، غائما، ماطرا، عاصفا ..وفي كل الفصول و امتلأ الطريق بالسابلة أم صفر وكان الناس في الطريق  الذي سمي بعد ذلك باسم الفيلسوف على يقين من أن صاحبهم لن يخل بالموعد لأي سبب. وإذا  ظهر في الطريق أومأ بعضهم إلى بعض وأخرجوا ساعاتهم وضبطوها. تروي كتب الأدب والسير أن كانت أخل بموعد نزهته اليومية مرتين.في المرة الأولى عندما سمع بصدور كتاب التربية للفيلسوف الفرنسي روسو والمرة الثانية عندما اندلعت الثورة الفرنسية. لقد كان كانت رجلا غريب الأطوار حقا.  وندر أن غادر مدينة كونجسبرغ ولم ير في حياته جبلا ولعله لم ير البحر قط  عن كثب. وصحيح أن الرجل كان آلة في أسلوب معيشته وعاداته الروتينية ولكنه لم يكن آلة في عقله ونفسه وروحه.فقد كرس حياته المديدة كلها للفكر والفلسفة،ولم  يتزوج ولم يخطر في باله موضوع الزواج إلا مرتين ولم يبلغ منهما حد المكاشفة، والسبب في ذلك لأنه كان فقيرا فوقف في المرتين عند التفكير والتردد والموازنة بين دخله ونفقات الزواج ومسؤولية العائلة. وبعد ذلك لم يفكر في الزواج وحين يطرح عليه السؤال في هذا الموضوع كان يغير مجرى الحديث ولا يتلقاه بقبول حسن ويعتبر ذلك تدخلا في شؤونه الخاصة. كان كانت يستمتع بالحديث مع النساء المثقفات. وقد ورد في إحدى رسائله إلى إحدى النساء حين دعاها إلى لقاء آخر «وإني أبعث إليك بقبلة، وأرجو أن يكون الهواء متعاطفا، حتى لا تفقد القبلة حرارة عاطفتها».

أنفاس1- مفهوم الفن في فلسفة (فـ-نيتشه)
يحتل الفن في فلسفة نيتشه مكانة الصدارة، ففلسفته تستدعي الفن بشكل قوي إلى الحد الذي يجعله يقول "وفي هذا الكتاب ذاته تتردد عبارة صعبة بمقتضاها لا يجد العالم تبريره سوى كظاهرة فنية أو جمالية" (ص: 16 ميلاد المأساة). كما يضيف قائلا في مكان آخر "لأن كل حياة تقوم على المظهر والفن والوهم وزاوية النظر والمنظارية والخطأ" (ص17، ميلاد المأساة) فالفن عنده هو النشاط الميتافيزيقي بامتياز.
*       فما هو الحد الذي يعطيه للفن؟ إن الفن صنع للمظاهر (Apparences). والمظهر عند نيتشه ليس تمثيلا للحياة، بل هو الحياة. المظهر هو الحقيقة لأنها لا يمكن أن تقوم سوى كمظهر. ليس المظهر زيفا أو وهما أو ظلا للحقيقة كما يزعم أفلاطون الذي أقصى الشعراء من جمهوريته. من هذا المنظور قام نيتشه بقلب الأفلاطونية، معيدا الاعتبار للحسي والشهوي (le Sensible, le Sensuel) بعدما تم ابتلاعه من طرف المافوق حسي (le Supra-sensible).
        فهو لا ينفك يتحدث عن الفيلسوف-الفنان في مقابل الفيلسوف النظري.
        إن الفن يتعدى كونه مجرد نشاط خاص بالفنان، ليتحول على يديه إلى منظار للحياة.
        يتبنى نيتشه مفهوما للفن يخرج من حدود الدائرة الجمالية، ويتحول إلى نشاط ميتافيزيقي أكثر منه نشاطا خاصا بالفنان وحده، فإذا أمكن تجاوز الميتافيزيقا فلا يكون ذلك سوى بواسطة الفن الذي يصوغ ميتافيزيقا جديدة هي إثبات للحياة، وتبجيل لها، واحتفال بها عوض الميتافيزيقا القديمة التي قامت على نفيها لصالح ما يتجاوزها أي لصالح العدم وإرادة العدم أي إرادة إنكار ونفي الحياة.
        ها نحن نرى أن الفن مشروع لمجاوزة الميتافيزيقا لأنه هو نفسه يحل محلها كنشاط ميتافيزيقي يقوم بالقضاء على النزعة العدمية (Nihilisme) التي طالما شكلت خلفية للميتافيزيقا، وبذلك يعتبر الفن مفتاحا لاستراتيجية نيتشه الفلسفية الرامية للقضاء على العدمية. في المصطلح النيتشوي توجد عدة أسماء لمسمى واحد، وعدة محمولات لنفس الموضوع: سقراطية أفلاطونية، مسيحية، ميتافيزيقا، حداثة، فكلها تشير إلى النزعة العدمية وإلى إرادة نفي الحياة.

أنفاسيمثل المرور بنظرية النماذج مرحلة حاسمة في المبحث الحالي.إذ أن فكرة القرابة بين النموذج والمجاز هي شديدة الخصوبة بحيث جعلها ماكس بلاك عنوانا لمصنف بتضمن بالخصوص تحديدا لهذا المشكل الإبستمولوجي: "النماذج والأنماط الأصلية" (التمهيد لمفهوم النمط الأصلي يفصل لاحقا).
تكمن الحجّة المركزية في كون منزلة الاستعارة بالنسبة إلى اللغة الشعرية كمنزلة النموذج بالنسبة إلى اللغة العلمية من جهة العلاقة بالواقع. غير أن النموذج في اللغة العلمية هو أساسا وسيلة استكشافية يسعى إلى اختراق التأويل غير المطابق بواسطة التخيل والتي تخط الطريق نحو تأويل جديد أكثر مطابقة.
إن النموذج حسب لغة كاتب آخر مجاور لماكس بلاك هو ماري هاس هو وسيلة إعادة وصف.
هذه هي العبارة التي أتمسك بها فيما بعد تحليلي. زد على ذلك مهما يكن فهمنا لمعناها في استعمالي الإبستيمولوجي الأولى. إن النموذج لا ينتمي إلى منطق الحجة بل إلى منطق الاكتشاف.
 ألا ينبغي إذن أن نفهم أن منطق الاكتشاف هذا لا يختزل في علم نفس الإبداع دون أي مصلحة إبستيمولوجية مخصوصة بل انه يشهد مسارا عرفانيا ومنهجا عقلانيا له قوانينه الخاصة ومبادئه الخاصة.
لا يظهر البعد الابستيمولوجي الخاص بالخيال العلمي إلا إذ ميزنا  منذ البدء بين النماذج وفق تكوينها والنماذج وفق وظيفتها، يوزع ماكس بلاك وتراتبية النماذج وفق ثلاثة مستويات. لدينا في الدرجة السفلى "النماذج حسب السلم Les modèles à l’échelle" مثل تصميم لسفينة أو تكبير لشيء صغير جدا (ساق ناموسة) أو تصوير بطيء لمقطع من لعبة أو تمثيل Simulation ونمنمة miniaturisation مسار اجتماعي، إلخ...
هذه النماذج من جهة كونها نماذج لشيء ما تحيل إليه في علاقة لا متماثلة Asymétrique تصلح  كخطة لإظهار الشيء في الهواء وكيف يستغل وما هي القوانين التي تتحكم فيه. إنه من الممكن أن نحل الرموز بالنموذج وأن نقرأ على ضوئه – خصائص الأصلي. وحدها بعض الخصائص تكون ملائمة لنموذج ما دون بعض آخر... إن نموذج ما لا يكون وفيا إلا لخصائصه الملائمة.

أنفاسيشكل مذهب أهل الإعتزال أحد المذاهب الكلامية الكبرى في تاريخ الإسلام, حيث حاول مشيخة المذهب إعادة قراءة موضوعات الله و العالم و الإنسان إعتمادا على العقل المحض و بحضور قرآني , و رغم اختلافهم فقد اتفقوا في المنهج و الأصول و كانوا في ذلك يصدرون عن نزعة نقدية أسست للهدم و البناء بشكل مسؤول و مهذب , فساهموا في إنشاء لاهوت وقف صلدا و صامدا أمام الزنادقة و المجوس..فصح بحق أن يكون علم الكلام المعتزلي رياضيات العقل التجريدي.
و نظرا لكوننا لا نقدم هنا دراسة كاملة تحيط بعناصر المذهب فسأقتصر على عرض عام لنظريتهم في المشكل الإنساني و الطبيعي و كذلك مسألة المسائل و التي منها انطلقوا لفهم العالم و الإنسان , إنها مشكلة الذات و الصفات مع ذكر لبعض من رجالاتهم بشكل وجيز.
ولعل ما يلحظه القارئ لفكر المعتزلة هو منهجهم التحليلي للميتافيزيقا و مشكل الحرية اعتمادا على ملكة العقل الحرة , و هو موقف يذكرنا بعكس ما قام به أهل العرفان و الذوق حينما فكروا في اللغة و هدموها هدما فأسسوا بذلك لعالم لغوي خاص أقرب للغو بمخالفته لمنطق اللغة الطبيعية , و بانبنائه على كيان عجيب قوامه الهمس و الغمز اللغوي و الرمز و الإشارة.
لقد رأت الصوفية في اللغة العادية نفس ما رآه علماء الرياضة والمنطق: عقبة أمام المعرفة, فأنتج العقل العلمي و المنطقي لغة أسست على الرموز الرياضية و المنطقية يسهل تطويعها في مجال البحث العلمي و حاجات الإنسان اليومية. و على الرغم من أن اللغة الطبيعية تستطيع استيعاب القضايا العلمية الكبرى إلا أن فك رموز الكون المكتوب بلغة حسابية صارمة و تحقيق التقدم في هذا المجال يلزم استخدام أسلوب المعادلات الرياضية و كذلك يوجب إتباع لغة منطقية تفي بغرض التعبير الدقيق لدنيا الفكر بعيدا عن الإعتبارات السيكولوجية.. فكان أن إنتهى العلم الدقيق و المنطق إلى طريقة لقراءة العالم عكس المتصوفة الذين هدموا اللغة من أجل هدم العالم و المعرفة فأسقطوا حالاتهم النفسية على الخالق و رسله..عليهم السلام فأنطقوهم بعجائب الأمور.
و إذا كانت لغة المتصوفة, في حالات الفناء و الإتحاد و الشطح.. منتجة للاعقل و الباثولوجيا فإن العلم الدقيق بنى بلغته الصارمة نسقا معرفيا منتهاه فك طلاسم الوجود بمنهج علمي ينتج اليقين, و لم يتنكب الطريق كالدراويش لإزدرائهم حضور العقل في كل عمليات التفكير العليا .. وبتزويرهم معاني الطبيعة و اللغة و الوحي تحت مسمى منهج الذوق الذي يعطي معنى يختلف عن ما نفهمه نحن بعقولنا من الأشياء.
فالمعنى موجود بثبات في الكون و القرآن و ما علينا سوى قراءتهما من أجل فهم المعنى الواضح.. و كذلك أقول كفى من الصراخ و العويل و أكذوبة التأويل المتعدد..أو فهم خاص -عالم- للعلماء و فهم -هابط- للرعاع و العامة-الدهماء -و هذا تقسيم قديم في التاريخ كرسته الفلسفة المشائية.. و كان إبن رشد أحد الذين إرتكبوا خطأ فادحا بتقسيم المعرفة إلى نوعين : معرفته هو و أستاذه أرسطو و معرفة الرعاع..و هذا غاية في الدجل. فخالق العباد لم يميز بين الناس إلا بالتقوى, أما العلم: فعقول البشر جميعا قادرة على إستيعابه و فهمه , فهو لا ينتج, و إنما: يكتشف .إن المعنى يسكن مصادر المعرفة و ما العقل والحواس سوى وسائل..و المشكل ليس في اللغة..بل في سلوك الإنسان الفكري و إحترامه لشروط التفكير الصحيح..أو لا.

أنفاسنظم منتدى الجاحظ الذي يرفع منذ انبعاثه شعار:"من أجل تنوير عربي إسلامي" يوم الأربعاء 4 جوان   2008 مناظرة بين فيلسوفين عربيين مميزين هما المصري حسن حنفي والتونسي أبو يعرب المرزوقي وقد تمحور الجدل حول عدة قضايا أهمها العلاقة بين الدين والفلسفة وأزمة الفلسفة اليوم ودورها في عقلنة تعامل الهوية مع العولمة.
اللافت للنظر أن الحوار بين الفلاسفة العرب هو حوار حول الماهيات وأن النتيجة هي لا غالب ولا مغلوب أي بعيدة عن منطق الانتصار والهزيمة وأن الفوز الأكبر يحصل للثقافة العربية لما وقع تحريكه وتم فتحه من إشكاليات ورهانات نحن في أمس الحاجة إليها في عصر المثقف الاستعراضي والفكر المنمط والذوق الهابط، وهذا اللقاء هو مواصلة لتفاعل تاريخي حول قضايا شؤون الحكم والتنوير والإصلاح الديني ودور المرأة في المجتمع وتجديد العلوم وقد حصل بين أرض الزيتونة وأرض الأزهر منذ ابن خلدون أين وجد خير الدين الى جانب الطهطاوي والثعالبي الى جانب محمد عبده والطاهر الحداد الى جانب قاسم أمين والطاهر بن عاشر الى جانب على عبد الرازق وبورقيبة الى جانب عبد الناصر وخضر حسين الى جانب طه حسين وهاهو التفاعل يستمر فنرى أبو يعرب المرزوقي المنتصر الى التيار الاسمي في الفلسفة العربية ممثلا في الغزالي وابن تيمية وابن خلدون ضد التيار الواقعي يجادل حسن حنفي صاحب مشروع "التراث والتجديد" والمنتصر الى التيار العقلاني والذي يمثله المعتزلة وابن رشد والساعي الى إعادة بناء علوم الدنيا وخاصة علم الكلام وعلم أصول الفقه وعلوم الحكمة وعلم التصوف على ضوء متطلبات العصر والذي تقدم خطوات هامة في سبيل انجاز مشروعه.
1*ماهي علاقة الفكر الديني والفلسفي وتحديات الراهن؟
حسن حنفي:
مصدر المعرفة الانسانية ثنائي وهما بعدان: الأول فلسفي والثاني ديني، الفلسفي أقرب الى المنهج منه الى الموضوع يتميز بالطابع البرهاني العقلاني ويرتكز على التأمل الذاتي وتحليل الخبرة المعيشة، علاوة على ذلك ان الفلسفي بعيدا أن يكون إيمانيا تسليميا ولا يعتمد على سلطة بل مرتبط بالتفكير والتساؤل والحرية والخلق وممارسة النقد ويرى تعدد الآراء.

أنفاس"الأنسنية"، مصطلح يعتمده المؤلف في هذا المقال للدلالة على النزعة الإنسانية القائلة بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، تمييزا لها عن  "الإنسانيات" باعتبارها مادة الدراسة الجامعية التي تُعنى باللغات والفنون والآداب والتاريخ، أو بمعنى أكثر حصرا باعتبارها دراسة المؤلفات الكلاسيكية الإغريقية والرومانية. وكذلك تمييزا لتلك النزعة عن "الإنسانوية" التي تستخدم للدلالة على الميل أو النزوع إلى الإنسانية أو ادعائها. ويعود الفضل في نحت مصطلح الأنسنية ( كمرادف للمصطلح الغربي Humanism ) للأستاذ فواز طرابلسي، في إطار ترجمته لآخر مؤلفات المفكر الراحل إدوارد سعيد، وهو كتاب (الأنسنية والنقد الديمقراطي)، فقد اقتضت الترجمة الوافية نحت مصطلح عربي يستوعب كافة المضامين الفكرية التي أودعها إدوارد سعيد كتابه الأخير، والتي تُبرز تطوره الفكري والأدبي وقد تأوج في التزامه النهج الأنسني (1).
ومن الصعب علينا فهم دلالة مصطلح الأنسنية حق الفهم، بمعزل عن المشكلات الإنسانية والظروف التاريخية التي مرت بعصور من استخدموه من مفكرين وفلاسفة، وهو ما يحتم علينا تتبع البدايات الأولى لاستخدامه. فقد أُطلق هذا المصطلح، أول ما أُطلق، للدلالة على الحركة الفكرية التي يُمثلها المفكرون الأنسنيون Humanists في عصر النهضة، من أمثال الشاعر الإيطالي الكبير  فرنشسكو بتراركه ورفاقه (*). وهي حركة أوضح سماتها السعي إلى الإعلاء من سلطان العقل، ومقاومة السلطة والجمود، وسبيل أنصارها التمرد علي قيود القرون الوسطى وتحطيمها (2).
ويظل اقتراح المفكر المصري إسماعيل مظهر باعتماد النشورية، وليس الأنسنية، ترجمة للمصطلح الغربي Humanism، وكذلك اقتراحه اعتماد النشورى، وليس الأنسني، ترجمة للمصطلح الغربي Humanist، الأكثر تعبيرا عن مضمون تلك الحركة الفكرية المشار إليها سلفا. فالنشورية من النشور بمعنى البعث، وبالتالي هي الأكثر تعبيرا عما قصد إليه المصطلح الغربي من إحياء الآداب القديمة وبعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة (3). 

أنفاس"الحداثة التي تخصنا:
لقد قيل لنا أن الفلسفة النقدية المطبقة على التاريخ لها مهمة مبدئية وهي التفكير في الحدود التي تطمح ان تتخطاها معرفة ساعية نحو المطلق عن التاريخ في حد ذاته. ان تناول التاريخ كمفرد جمعي يشيد موضوعه بنفسه - التاريخ- هو التعبير الأكثر وضوحا عن هذا الطموح، لكن هذا الاختبار ليس هو الاختبار الوحيد. إذ يعارضه بالتناظر شكل ثان أكثر تكتما من الادعاء نفسه: يتمثل في الارتفاع بالحاضر التاريخي المشيد الى المطلق بالاعتماد على الملاحظة وبالنظر المحقق في كل الأشكال التي سبقته وبالخصوص الأشكال الثقافية.
يتخفي هذا الطموح وراء خصائص براقة لمفهوم قد سلم منذ البدء من كل تذبذب في مستوى تخطي الحدود هو مفهوم الحداثة. لا ترفع المطالبة المستحيلة المتعلقة بهذا المفهوم الا عندما أعطيناه صياغته النهائية والصحيحة وإلا تكلمناه وكتبناه الحداثة التي تخصنا. 
لا يتعلق الأمر البتة على الأقل سوى بالفكرة التي يشيدها زماننا عن نفسه في اختلافه وجدته بالمقارنة مع الماضي. وكثيرة هي التعابير المترادفة مع فكرة الحداثة مثل خاصتنا وزمننا وعصرنا وحاضرنا.
ان السؤال هو الآتي: كيف يقدر زمننا أن يفكر في نفسه بشكل مطلق؟
انه أكثر الأسئلة دقة بالتناظر مع السؤال الذي اهتممنا به منذ قليل أعلاه: يتعلق الأمر اذن بالتاريخ برمته من حيث هو مفرد جمعي يطمح أن يطرح نفسه بشكل مطلق كموضوع لذاته: التاريخ في حد ذاته.
يرتد الطموح الى المعرفة المطلقة بالانتقال الى هذا الموقع غير الثابت الى المعارض المضبوط لهذا المفرد الجمعي والذي يعني اللحظة التاريخية المفردة والآنية من التاريخ الحاضر.
بيد أن هذا الطموح هو اليوم حيا أكثر حتى ولو أن ما يعتبر نقيضه قد وقع التخلي عنه بصفة عامة. مما لا شك فيه أن المطالبة التي تحركه مازالت قائمة مثل البقية تقريبا تحت تأثير النقد والالتصاق المرجعي بالتاريخ الكلي تحت مسميات تاريخ العالم أو التاريخ الكوني والتي تتقاطع في عمقها التيارات التاريخية المشخصة من طرف المؤرخين.
انه يمكن أن توجد لاأدرية صارمة تجاه فكرة الحداثة غير قابلة للتطبيق. لكن لماذا لا نطمح بالفعل الى القول في أي وقت نعيش ولماذا لا نقول اختلافه وجدته بالمقارنة مع كل الأوقات الأخرى؟

أنفاسالحرية هي صيغه متكاملة ومتفاعلة في حياة الإنسان تنبثق من فاعليته الفكرية والسلوكية وترتفع خارج إطار الفردية و السكونية ,تدفع الواقع نحو الاتساع والتنوع في اختيار المواقف والتعامل معها بفاعليه وبشكل يحقق انتفاع الجميع  من اختيارها كواقع يحض على تفعيل الإبداع والسلوك بعيدا عن الأنانية وجميع أشكال الصدام المبنية على تحقيق النفعية ضمن واقع مختلط بجميع الأمزجة والأهواء الفردية المتنوعة وتعزيز القيم المتساوية البعيدة عن الامتياز ضمن الواقع المعاش .
الحرية واقع يتسم بحرية الفكر والقول والفعل بدون غائية ولا تبعية وبعيدة عن التسلط والفوقية ,إنها تنتمي إلى واقع التبادل والتكافؤ في جميع المواقف السلوكية والفكرية ذات طبيعة سلمية وغير تابعة للقيم الفوقية والدونية وغير مؤطرة أو مرتهنة, لتكون قادرة على إحداث الحراك الاجتماعي والثقافي بأعلى قدر من الجدية والموضوعية. وفي واقع الكبت يمكن تصنيف الحرية ضمن قضايا مطلبيه نابعة من حاجات ضرورية لتحقيق التقدم الاجتماعي والحضاري مثل حرية التفكير والتعبير وحرية إقامة النوادي والجمعيات والأحزاب .... إلخ
وبقدر امتلاك كلمة الحرية من فضاءات واسعة يمكن استخدامها كصيغة واقعية لتبرير التصرف والاتجاه في المواقف المختلفة لحركة المجتمع وبنيته المؤسساتية ومجمل بنيته التحتية والفوقية, التي يمكن اعتبارها مصاغة على أساس الحرية, ولمعرفة منشأ الحرية علينا دراسة الذاكرة السلفية وتتبع صيغتها المفاهيمية فالحرية هي الحرية منذ الأزل إلى ما لانهاية لكن مدلول استخدامها تبدل ويمكن أن نؤشر على ذلك تاريخياً .
في المجتمعات البدائية كانت حرية جمع الثمار والصيد وحرية التنقل والجنس والإنجاب وغيرها من المواقف التي تتكيف المجتمعات وفق حاجاتها وتأمين بقائها .
فالحرية لم تكن محدودة الأبعاد لأنها ناتجة عن الضرورة وبالتالي كانت الأفعال الناتجة عنها نشطة لأنها تعبر عن الحاجة والبقاء .
ويمكن أن يوجه إلينا النقد لأننا نستخدم مفاهيم على مجتمعات لم تكن تعي ذاتها ولم تكن تعي أفعالها وتصرفاتها , لكننا غير قادرين على دراستها وفق حالتها فلسنا أفراداً منها وبيننا وبينها مسافات هائلة من الوعي لكن عندما نسقط إدراكنا على سلوكها إنما نسقطه كمقياس على هذا السلوك وفق طبيعة عصرنا الراهن ومفاهيمه, وبعد تغيير البنية الاجتماعية للمجتمع وانتقاله إلى عصر السيادة والعبودية تغيرت  بنية الحرية وأُسسها وأساليب استخدامها وأصبحت من خصائص مجتمع السادة .

أنفاسلم يكتف ابن رشد في تلخيصه لجمهورية أفلاطون بتجاوز هذا الأخير إلى أرسطو، بل تجاوز أرسطو، والواقع اليوناني الاجتماعي والتاريخي عموما، إلى الواقع العربي في عصره (وقبله وبعده).    
يبرز اهتمام ابن رشد بالواقع العربي والأندلسي منه خاصة، وبصورة لافتة للنظر، عندما ينتقل مع أفلاطون إلى تحليل أنواع "السياسات" -وهي ما نعبر عنه نحن اليوم بأنظمة الحكم- والمقارنة بينها، وبيان كيف تتحول الواحدة منها إلى الأخرى، وتحليل شخصية الرئيس في كل منها، ثم مقارنة سلوك و"طباع" هؤلاء الرؤساء وكيف يتحول الواحد منهم من صنف إلى آخر. هنا يطنب ابن رشد مع أفلاطون، بل أكثر منه، منبها إلى نماذج من الحضارة العربية ومن الأندلس بلده بصفة خاصة، عاملا هكذا على تبيئة "السياسة" عند العرب مع "السياسة" عند اليونان…
وهكذا فمنذ بداية المقالة الثالثة التي خصصها لهذا الموضوع، وعند الكلام عن شروط رئيس المدينة الفاضلة، يستحضر فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها التجربة الحضارية الإسلامية فيقرر، خارج أفق أفلاطون، أنه: "قد يتفق أيضا أن يكون رئيس هذه المدينة ممن لم يصل إلى هذه المرتبة الرفيعة، مرتبة الرئيس الأول (النبي أو الفيلسوف)، ولكنه يكون عارفا بالشرائع التي سنها الأول" (النبي)، وتكون له القدرة على استنباط  "ما لم يصرح به الأول، فتوى فتوى، وحكما حكما، وهذا النوع من العلوم هو المسمى عندنا بصناعة الفقه؛ كما تكون له القدرة على الجهاد. وقد  يتفق أن لا تجتمع هاتان الصفتان في رجل واحد، بل قد يكون أحدهما مجاهدا دون أن يكون فقيها أو العكس، فهما بالضرورة يشتركان في الرئاسة، كما كان عليه الأمر عند كثير من ملوك الإسلام".
وبصدد تحول السياسة الفاضلة إلى سياسة الكرامة (=طلب الشرف والمجد) يستحضر التحول الذي حصل في  الإسلام مع دولة معاوية فيخاطب قارئه قائلا: "وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحول السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية، من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة (زمن الخلافة الراشدة) ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية. ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر" الأندلس.
وفي نهاية حديثه عن المدينة الكرامية يعقب قائلا: "فهذا النوع من الاجتماعات هو اجتماع الكرامة، يندر أن  يوجد في أمة بسيطة. ولذلك يصعب أن توجد مثل هذه المدن. ولتعلم أن هذا النوع من السياسات ساد عندنا كثيرا".