
لعل السؤال الذي يظل أكثر إحراجا بل ربما الأكثر إزعاجا بالنسبة إلى العقول اليوم، فلاسفة كانوا أو علماء أو نقادا هو سؤال:" ما الحقيقة؟" ، ذلك أن هذه الكلمة مشبعة بالالتباس والغموض وتختلط بكلمات أخرى تتداخل معها في المعنى وتتشاكل في الدلالة مثل البداهة ، اليقين، الصلاحية، الصواب أو تتناقض معها وتفترق مثل الخطأ، الوهم، الكذب والظن والرأي، وهكذا لم يتولد عن هذه الكلمة سوى تماثلات لأفكار فضفاضة وما نسميه حقائق لا يعدو أن يكون سوى تماثلات لأفكار لا وجود لها في الواقع.
زد على ذلك أننا لا نكاد نظفر برؤية متماسكة تفضي إلى وضع حد جامع مانع لمفهوم الحقيقة تنقضي بمقتضاه فوضى الآراء حول قضية منزلتها الإبستيمولوجية في العلوم تصورات وانجازات بشكل يجعل النقد الابستيمولوجي يتحول إلى تفلسف موضوعي أو على الأقل يقترب من موضوعية العلوم الإنسانية.
ولعله لا يمكن أن نفهم هذه الفوضى إلا بالعودة إلى أزمنة البدء أيام كان العالم لم يزل بعد محاطا بالأسرار وأيام كانت المفاهيم تلمع في لحظة تشكلها الأولى وأيام كانت الكلمات لم تزل تمتلك سرية الإيماءة وسلطان الإشارة لنساءل النظريات والتجارب والنصوص في طزاجتها الأولى ونرتحل بين ثناياها وتفاصيلها إقبالا وإدبارا. طالما كانت الرحلة تعبيرا عن إصغاء الكائن لنداء الأقاصي تترجم رغبته في العبور من المجهول إلى المعلوم ومن المحدود المختزل إلى المطلق الخصب وذلك بتحطيم الأطر الضيقة والمقاربات المسقطة والمناهج الصارمة والتخلص من شروط الزمان والمكان.
نحن لا نزعم هنا تقديم القول الفصل في مسألة "مكانة الحقيقة في العلوم" وحسم الأمر بتقديم نظرة نهائية بل سنكتفي بتدقيق النظر في مواطن الشبهة والخلاف والبحث عن معنى الحقيقة بتوسيع دائرة التشخيص والمقارنة وبتكثيف الأسئلة حول هذه القضية. وأول ما يتبادر إلى الأذهان هو وجود جملة من الصعوبات تمنع الإحاطة بالموضوع وتوقع الفكر في نوع من الكبر والغرور.