انفاسمن "غرائب الفلسفة" التي يذكرها الفيلسوف الفرنسي إتيان صوريو، في آخر كتبه، حادثة طريفة وقعت له عندما كان يدرس الفلسفة بجامعة ليون؛ فقد زاره شخص على وشك التقاعد من عمله العسكري، كمساعد في قوات المشاة، يريد أن يتعلم الفلسفة. ويسأل الأستاذ هذا الطالب الغريب، عن الدراسات التي تلقاها في هذا الميدان. فيجيب: "لقد حفظت كتاب المونادلوجيا". وفجأة، وبكل تمكن واعتداد، شرع يتلو عليه: "المونادة التي سنتحدث عنها ما هي إلا جسم بسيط، وبسيط تعني بدون أجزاء"… لقد حفظ الرجل عن ظهر قلب، على الأقل، بداية كتاب ليبنتز في المونادلوجيا.
بقدر ما يدعو هذا الموقف إلى الضحك فإنه يدعو كذلك إلى الإشفاق على مثل هذه النفس ذات الإرادة الطيبة والتي ضلت طريقها بدون شك. لكن، وبالمثل، ألا يوجد أولئك الذين حفظوا تواريخ الفلسفة، أي أسماء المؤلفات وسنوات الميلاد والوفاة، هم كذلك على طريق الضلال؟ صحيح أن الوقائع التاريخية يجب معرفتها في الفلسفة وهي تدخل ضمن ما يثير الحماس والانفعال الفلسفي؛ لكن المشكل المطروح هنا لا يتعلق بمعرفة ما يمكن أن يخلق "حمى فلسفية"، بتعبير صوريو، ولكن بمعرفة ما إذا كانت الفلسفة تصلح موضوعا للتعلم؟ أي ما إذا كان يوجد في الفلسفة شيء ينشأ عن امتلاكه نوع من المتعة عندما يرتاح الفكر؟ وبالتالي هل للفيلسوف الحق في الاستنتاج أم أن كلمته الأخيرة ستكون هي: "ابحث، وإبحث دائما، لكن لا تعثر على شيء!"؟من المؤكد أن أفلاطون يعلمنا شيئا ما عندما يقول: إن العلاقات التي تجعل سيولة الظواهر معقولة، لا تقل بدورها واقعية عن تلك الظواهر ذاتها، كما أن تلك العلاقات تمنح نوعا من الثقة والراحة الفكرية بخصوص الصلابة التي تضفيها على صورتنا عن العالم. كما يعلمنا ليبنتز أن تطابق الفكرة التي لدينا مع البريق الصادر عن نجمة بعيدة أو مع المذابح التي ينفذها الإنسان في الإنسان، لا ينبغي أن يفهم كفعل راهن لأحدهما على الآخر، وإنما كانسجام أو توافق، وهو بذلك يعلمنا كيف ندخل في علاقة توافق هارموني مع أفكار أخرى، وحقب أخرى.


فلسفة -انفاسسمى القدماء الأرض والسماء بما تحتويه من شمس وقمر وكواكب ونجوم ثابتة باسم "العالم" يقول الشريف الجرجاني في التعريفات " العالم لغة: ما يُعلم به الشيء، واصطلاحاً: عبارة عن كل شيء ما سوى الله من الموجودات لأنه يُعلم به الله من حيث أسماؤه وصفاته". وذكر الغزالي مثل هذا فقال " ونعني بالعالم كل موجود سوى الله تعالى ونعني بكل موجود سوى الله تعالى الأجسام كلها وأعراضها" وفي لسان العرب "العالم هو الخلق كله، وقيل هو ما احتواه بطن الفلك"  وهذا الاصطلاح مرادف لما نسميه اليوم "الكون" Universe. على أن مصطلح الكون كان يعني عند الفلاسفة والمتكلمين شيئاً آخر. يقول الجرجاني "الكون اسم لما حدث دفعة كانقلاب الماء هواء، فإن الصورة الهوائية كانت ماء بالقوة فخرجت منها إلى الفعل دفعة فإذا كان على التدريج فهو الحركة، وقيل الكون حصول الصورة في المادة بعد أن لم تكن حاصلة فيها"
موضوع العالم وخلق العالم وقدمه أو حدوثه من الموضوعات الفلسفية الأساسية التي عالجها القدماء، وعالجتها المعتقدات الدينية كافة. وكان لكل معتقد ديني تصور عن هيئة العالم وكيفية نشأته. فقد تصور الهنود القدماء الأرض قوقعة عظيمة تحملها أربعة أفيال عملاقة تقف على ظهر سلحفاة، وعلى الرغم من بدائية هذا التصور إلا أنه لا يخلو من معان أهمها: الشعور بتحدب سطح الأرض وإلا لما اختار الهنود القوقعة، والثانية معرفة أن اليابسة محاطة بالماء من جميع أطرافها. ولعل في اختيار هذا التكوين الحرج الذي تقف فيه الأفيال على ظهر سلحفاة إشارة يُستفاد منها في تفسير حصول الهزات الأرضية.
كما أعتقد الروس أن الأرض قرص يطفو على الماء تحمله ثلاث حيتان عظيمة، ويتضح من هذا التصور شُح المعلومات التي يمكن استنباطها من هذا التصور البدائي مقارنة بتصور الهنود، فالأرض وفقاً لهذا التصور مستوية إلا أن طفوها على سطح الماء يجعلها غير مستقرة في إشارة لتفسير الهزات الأرضية ربما

انفاس" العمل ليس مجرد ضرورة قاسية لا يستطيع الإنسان التملص منها بل هو في الوقت ذاته الإمكان المتاح له حتى يبلغ جدارة عالية"[1]
استهلال:
لم يوجد الإنسان فقط ليتأمل ويحب الحياة وينظم الشعر ويؤلف الموسيقى ويلهو ويلعب بل وجد أيضا ليعمل ويشقى ويكابد وينتج ويحول ظواهر الطبيعة إلى أشياء نافعة وينمى ثرواته ويمتلك جملة من خيرات ويطور فرديته ويستقل نسبيا عن الجماعة التي وجد ضمنها في السابق لاسيما أنه "كلما أخلد إلى الكسل كلما صعب عليه أن يعزم على العمل"[2]، لكن التوتر سيبرز والإشكال سيظهر عندما يجد المرء نفسه حائرا أمام إيجاد تفسير لعمله فهل هو وسيلة لتحقيق الربح بتقاضي أجر أم أنه غاية إنسانية نبيلة؟ وهل يعمل لتلبية الضرورة الطبيعية أم لتجسيم اختيار ثقافي؟ هل العمل هو مصدر الملكية وطريق نحو السعادة أم أنه يضفي معنى على الحياة؟
ما يزيد من حيرتنا هو تحول العمل من الحرفة إلى المانيفاكتورة ومن علاقة إنتاج داخل المصنع إلى علاقة تبادلية بين الدول في إطار التقسيم العالمي للعمل "عمل على تأبيد التبادل اللامتكافىء وتفاقمه"[3]، وقد انعكس التقسيم التقني للعمل كذلك سلبا على العمال وعوض أن يخلصهم من الملل صار هو الذي يسبب لهم ذلك وصاروا يعملون دون متعة وكما يقول دي توكفيل:"كلما تقبل مبدأ تقسيم العمل تطبيقا أكثر تقدمت الصنعة وانحط الصانع" وبالتالي عوض أن يحفظ العمل كرامة العامل ويحقق له الازدهار والرخاء المادي فاقم من بؤسه وجعله ينحط عن كرامة طبيعته ويحن إلى حياة البدائي الهمجية الحرة الواسعة.
إن الذي يدعونا إلى الاستشكال الفلسفي المعاصر لظاهرة العمل هو المفارقات التي أصبحت تطرحها والاحراجات التي بات تخلفها عند الإنسان العادي ومحترف الثقافة وممتهن الصناعة وخاصة تواجدها على عتبة البطالة والاستعباد وبين نحتها لماهية الإنسان وتسببها في فقدان الذاتية والتحول إلى آلة عاملة غير قادرة على التمتع باستهلاك قليل مما تنتجه.

يصنف بعض الفلاسفة (هيجل) وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج التفكير الادراكي الجدلي للعقل، وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة، وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.
تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا. كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه.
وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس.

تعد مشكلة الخوف من الموت وطبيعته تقليدياً من دائرة اختصاص الدين، والدين ينكر عادة الطابع المتناهي للموت، إذ يؤكد استمرارية الشخصية الانسانية سواء في شمولها النفسي – البدني او كنفس متحررة من البدن، مؤكدا على طابعها الممّيز المألوف. ومن ثم فأن الفلسفة لم تشرع في الاهتمام بالموت الا حينما اصبح التأكيد الذي يطرحه الدين مشكوكا فيه وموضع ريبة، او حينما بدا هذا التأكيد في تناقض لا مفر منه مع شهادة حواسنا المباشرة التي لا جدال فيها.( )
وحينما اصبح الرد الديني على الموت موضع تشكك سعت الفلسفة الى دعمه بحجّة عقلانية، وعندما غدا الامر متعلقا بالتناقض راحت الفلسفة تسعى الى الوصول من خلال النظر العقلي الى رد مؤكد مماثل لذلك الذي طرحه الدين منذ وقت طويل، او تصدت للوصول الى التصالح مع الموت منظورا اليه باعتباره نهائيا او بحسبانه خلودا غير شخصي, خلود الانسان كنوع.وهناك امكانية ثالثة، فالعجز عن تقبل الحل الديني يمكن ان يؤدي بالفيلسوف الى الاهمال الكلي للمشكلات التي يطرحها الموت، والى انكار انها تقع في دائرة اختصاص الفلسفة.(2)
وفي غياب اقتناعات دينية محددة تماما، كما كان الامر في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في بلاد الاغريق على سبيل المثال، وفي القرنين الثاني والاول قبل الميلاد في روما، نجد الموت لا كموضوع للفسلفة فحسب، وانما كمحرك لها ايضا، لكنه مع مجيء المسيحية، ووعدها بالبعث والحياة الخالدة، في العالم الاخر تقلصت الضرورة الحيوية لقيام الفلسفة بتناول الموت.حيث غدت الفلسفة ذاتها تابعة للاهوت لاسباب عديدة. لكن سيكون من الخطأ الاستنتاج بأن الانشغال بالموت قد اختفى في العصر المسيحي فالظهور التدريجي لتصور محدد للحياة الاخرى، التي طورها اللاهوت وجعلها الشعر، والنحت، والتصوير، واقعية بصورة مرئية.(3)

1. الحداثة والعلمانية
في تفسيرنا العنوان يتوجب علينا توضيح العلاقة بين (الحداثة والعلمانية) هل هي علاقة جدلية ام علاقة معرفية تكاملية ام معرفة متوازية في توازي احدهما الاخر. العلمانية هي بداية الخروج من معطف الماقبل حداثي في النهضة وعصر الانوار وبلغت العلمانية اوجها في الحداثة ووصلت قمتها المتطرفة اكثر في مجيء ما بعد الحداثة.. التي افصحت عنها في راديكالة متطرفة الفلسفة البنيوية.
العلمانية واقع معيش يكفل للانسان كرامته وتحفظ له كامل حقوقه بالحرية المسؤولة التي تقوم على جملة القوانين الوضعية التي ينتفع منها الانسان.
الاستقلال في التضاد الافتعالي مابين العلمانية والدين ليست علاقة جدل نفي أحدهما في بقاء الاخر. لكن بينهما ترابط ميتافيزيقا الدين, وتاريخية منهج العلمانية التي تسود هيمنته على كل ما يجتنب الديني الخوض في معترك انقياده للعقل المادي. ما يثبته العلم بالتجربة في الرياضيات والفيزياء والكيمياء لا يخوض معتركها الدين.
الحداثة لا تقاطع الديني كمقدس ولا تسعفه بالتكامل المعرفي معه. لذا يكون الاسلم ان يحكم الاثنين نوعا من التوازي الاستراتيجي الذي يحفظ الاستقلالية لكليهما.
من الخطا التفكير ان منجزات العلم ستترك الجوانب الروحية النفسية يقررها إستفراد التدّين الوضعي ويقرّه مستقلا بالوصاية عليه وحده..

"من جاني أنا مقتنع بأن المقاربة الفينومينولوجية للموضوعات وللظواهر الاستطيقية أعطت نتائج صالحة حتى الآن، وأن تطبيقها في دراسة الأعمال الفنية، على سبيل المثال، يفتح آفاقا واعدة للمستقبل، وأيا ما كان بالنسبة للإستطيقا أو بالنسبة للأنظمة المرتبطة بها، فأنا لا أطالب مع ذلك باستبعاد المناهج الأخرى، أو الاستعمال الوحيد للفينومينولوجيا، وكل باحث عليه أن يقرر هو نفسه أي منهج يناسبه، وبأي تساؤلات سيبدأ. المطالبة بالتطبيق الحصري لهذا المنهج أو ذاك يقود عموما إلى مقاربات أحادية الجانب، وإلى مسبقات تتعلق بالضبط بالدوران لا أقل ولا أكثر."
Roman Ingarden

تقديم:

نتوخى من هذا المقال أن نرسم أفقا فلسفيا من شأنه أن يقربنا من الفضاء الفلسفي الشاسع والغني، الذي تبلورت في إطاره استطيقا رومان إنجاردن الفلسفية الفينومينولوجية خلال القرن العشرين، في الفترة الممتدة من سنة (1931 إلى 1970)، وهي الفترة التي شهدت ميلاد أسلوب جديد في التفكير الإستطيقي الحديث على يدي فيلسوف عظيم وقطب لامع من أقطاب الفلسفة الفينومينولوجية، الذي إليه يرجع الفضل، كما يقر بذلك هانزجيورج جادامير، واصفا إياه بالفيلسوف الفينومينولوجي البولندي العظيم، في كونه أول من كشف هذا الطريق(1)، ويعد إنجاردن من أوائل المنتسبين لمبدع الفلسفة الفينومينولوجية العظيم إدموند هوسرل، الأستاذ الذي تتلمذ على يديه جيل بكامله من الفلاسفة الفينومينولوجيون النابهون، وفي مقدمتهم رومان إنجاردن البولندي الأصل الذي تفرد بنيل ثقة الأستاذ، مما جعله في مستوى نقد ومراجعة وتصحيح ما أنجزه إدموند هوسرل، في إطار مشروعه الفلسفي الفينومينولوجي والمنهجي، مما جعل منه حجة في تصحيح المذهب وتقويم المنهج.

تمهيد: صوت اللغة تعبير خارجي وصمت الفكر رؤية لغوية داخلية لا صوت لها. وصمت الفكر وصوت اللغة نسختان تحملان نفس الابجدية المنطوقة خارجيا والصامتة داخليا في ادراك الاشياء من حيث حقيقة التفكير هو لغة. نسختان لابجدية تصويرية واحدة في التعبير عن المدركات المادية خارجيا والخيالية داخليا، فهما يمثلان تطابقا بالدلالة واختلافا بالمفهوم ماجعل فلسفة اللغة المعاصرة ونظرية العقل والمعنى تدور في حلقة دائرية مغلقة مرتكزها اللغة بما هي ضوابط نحوية تراوغ في التعبير عن المعنى. يكتنفها عدم وضوح التفريق في التعبير عن حقيقة واحدة هي ان اللغة ابجدية صوتية تجريدية تطابقها لغة تجريدية تحمل نفس الرؤية الخيالية هي الفكر الصامت في تعبيرهما عن تجريد اللغة للمادة او الموضوع المستمد من مصنع الخيال الذاكراتي حيث يصبح الفكر واللغة دلالة لمعنى محدد لفهم الواقع او موضوعات الخيال.
ميزات لغة الانسان
اكتسب اختراع اللغة تعريفه الفلسفي المعاصر عند الانسان من صفة اللغة انها(صوت) يحمل معنى ودلالة مصدره ما تطلقه حنجرة الانسان المتطورة فسلجيا عبر الاف السنين في ملازمتها اللسان التدريب على اطلاق صوت ذي معنى لا صوت حيواني لا معنى له، وباختلاف تدني قدرة وعي الحيوان تطوير اصواته الى نوع من لغة تواصلية لعدم ادراكه ان الصوت يمكن تطوره الى ابعد من اشباع حاجتي رغبة الجماع وحاجة تحذير نوعه من الخطر الذي يتهدد بقائه من استهداف الكائنات الاخرى للاضعف في الطبيعة...

لعل الحديث عن حضور الفلسفة الأفريقية عند الغرب يقودنا إلى التسليم أولا بوجود تراث فكري فلسفي أفريقي  يمنحنا مشروعية الاعتراف بتاريخ الفلسفة الأفريقية، أو الحكمة الأفريقية، تماما كما جرت العادة أن نقول بتاريخ الفلسفة اليونانية، وإن كان هذا التاريخ هو أيضا نتاج تركيبة أفكار مستمدة من حضارات أخرى ساهمت في تأسيسه. ثم إنه ينبغي أن نشيد بالدور الذي لعبته الفلسفة الأفريقية في تطوير وإعادة صياغة تاريخ الفلسفة لاسيما فلسفة أفلاطون وأرسطو والذي يتجلى أساسا في التفاسير والشروحات وجمع الأعمال وتصنيفها التي عرفت بها مدرسة الإسكندرية في مصر. فمدرسة الإسكندرية كجزء من تاريخ الفكر الأفريقي القديم مهد المجال لظهور فلاسفة فكروا من داخل هذه المدرسة، سيحدثون بدورهم تأثير قويا على العقل الأوروبي في العصرين الحديث والمعاصر. ومن بين هؤلاء الفلاسفة الأفارقة نذكر القديس أوغسطين  Saint Augustin أو سانتوس أورليوس أوغسطينوس *Santus Aurelius Augustinus كما يكتب باسمه الروماني القديم.

         لقد حاول أوغسطينوس الأفريقي أن يؤسس تراثا فكريا متماسكا مزج فيه بين الفلسفة واللاهوت المسيحي في العصر الوسيط، وهو بذلك يعد مرجعا أساسيا بالنسبة للعديد من الفلاسفة في ذلك العصر كالقديس طوما الأكويني الذي استند إلى نظرية أوغسطينوس حول الثالوث في "خلاصته اللاهوتية"، ثم في العصر الحديث حيث سيأخذ ديكارت نظريته عن الكوجيطو، ونيقولا مالبرانش في الخيال، ثم في الفلسفة المعاصرة نجد الفيلسوف الألماني هوسرل في فكرته عن الفينومينولوجيا، وهيدجر في الزمان والوجود، وفيتجنشتاين في نظريته حول اللغة. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على قوة الفكر الأوغسطيني، أو بالأحرى قوة الفلسفة الأفريقية وامتداداتها داخل الفكر العلمي والفلسفي في العالم الغربي.

يصنف بعض الفلاسفة (هيجل) وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج التفكير الادراكي الجدلي للعقل، وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة ، وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.
تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا.
كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي(مدرسيا) يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه. والاهم انه لا يوجد عقل ذو طبيعة جدلية بالفكرة ينقاد له تفسير الواقع جدليا.
وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس.

 دور فرنسا في تطور الفلسفة الحديثة واضح بما فيه الكفاية؛ حيث كانت فرنسا هي البادئة العظيمة. في أماكن أخرى، ظهر أيضا، بدون شك، فلاسفة عباقرة؛ ولكن لم تكن هناك في أي مكان، كما هو الحال في فرنسا، استمرارية متواصلة للإبداع الفلسفي الأصيل. في أماكن أخرى، جرى المضي قدما في تطوير هذه الفكرة او تلك، في البناء المحكم بهذه المواد او تلك، في إعطاء مزيد من الامتداد لهذا هذا المنهج او ذلك؛ ولكن في كثير من الأحيان جاءت المواد والأفكار والمناهج من فرنسا. لا يمكن أن يكون هناك شك في تعداد جميع المذاهب، ولا الاستشهاد بجميع الأسماء. سنقوم بالاختيار؛ ثم سنحاول فصل السمات المميزة للفكر الفلسفي الفرنسي، وسنرى لماذا ظلت مبدعة وفيم تتمثل قوة إشعاعها.
كل الفلسفة الحديثة مشتقة من ديكارت. لن نحاول تلخيص مذهبه الفلسفي: كل تقدم في العلم والفلسفة يجعل من الممكن اكتشاف شيء جديد فيهما، حتى نتمكن بكل سرور من مقارنة هذا العمل بأعمال الطبيعة، التي لن يكتمل تحليلها أبدا. ولكن مثلما يقوم عالم التشريح بعمل سلسلة من الجروح في العضو أو في الأنسجة التي يدرسها بدوره، فإننا سنقوم بتقطيع عمل ديكارت إلى مستويات متوازية يقع الواحد منها أسفل الآخر، للحصول منها تباعا على رؤى أعمق فأعمق.
يكشف المقطع الأول من الفلسفة الديكارتيّة عن فلسفة الأفكار "الواضحة والمتميّزة"، تلك التي نقلت الفكر الحديث بشكل نهائي من نير السلطة إلى عدم الاعتراف بأي علامة أخرى للحقيقة غير البداهة.
بعد ذلك بقليل، من خلال البحث في معنى مصطلحات "البداهة"، "الوضوح"، "التمييز"، نجد نظرية عن المنهج. فقد حلل ديكارت، من خلال اختراع هندسة جديدة، فعل الإبداع الرياضي. وصف ظروف هذا الإبداع. ومن ثم فإنه جلب إجراءات البحث العامة، التي اقترحتها له هندسته.
من خلال تعميق هذا الامتداد للهندسة، نصل إلى نظرية عامة عن الطبيعة، التي تُعتبر آلية هائلة تحكمها القوانين الرياضية. لذلك زود ديكارت الفيزياء الحديثة بإطارها، بخطة لم تتوقف أبدا عن العمل بموجبها، في نفس الوقت الذي قدم فيه نموذجا لكل تصور ميكانيكي عن الكون.
تحت فلسفة الطبيعة هذه توجد الآن نظرية عن العقل أو، كما يقول ديكارت، عن "الفكر"، باذلا جهدا لتحليل الفكر إلى عناصر.بسيطة: مهد هذا الجهد الطريق لبحث لوك وكوندياك. قبل كل شيء، سنجد هذه الفكرة القائلة بأن الفكر موجود أولاً، وأن المادة تُعطى بعد ذلك، ويمكن أن توجد فقط كتمثيل للعقل بالمعنى الدقيق للكلمة. جاءت كل المثالية الحديثة من هنا، وخاصة المثالية الألمانية.