مقدمة
اذا اردنا تعريف للاختصاص الفلسفي بطرح الأسئلة الجدية المحيرة وترك الأجوبة العادية الفارغة فإننا نذكر الحادثة التالية: " أحد المارة يسير في الشارع ويسأل أحدهم عن الوقت. فيجيب الآخر، الفيلسوف: “ولكن ما هو الزمن؟ ". ولتحديد طبيعة كل شيء نحتاج الى معرفة خصائص الفلسفة والبحث عماهي؟

أولا: طبيعة الفلسفة

1° لكل إنسان فلسفة عفوية.

الفلسفة هي نظام جديد بالنسبة لك. ربما لاحظت أنه يثير فيك أو في من حولك الفضول والخوف معًا، ولكنه أيضًا يثير سخرية متنوعة (راجع الشخصية الكاريكاتورية لبانغلوس في "كانديد" لفولتير الذي يدعي أنه يعلم "علم الميتافيزيقيا واللاهوت وعلم الكونيات"). الفضول لأن الكثير من الناس يشعرون أنه يتطرق إلى أسئلة أساسية دون معرفة أي منها بالضبط. السخرية، لأن الفيلسوف معروف بكونه شخصًا، يغذي نفسه بالتجريد، وغالبًا ما يكون غير مناسب للحياة العادية، ويطرح أسئلة بعيدة كل البعد عن هموم الحياة اليومية ويقترح إجابات معقدة وغير مفهومة للبشر العاديين. لتوضيح أي سوء فهم، لنبدأ بملاحظة بسيطة: أنت وكل شخص تعرفه لديك آراء في مجموعة واسعة من المجالات. يشير كل واحد منا إلى القيم الأخلاقية، على سبيل المثال عندما نعجب بهذا السلوك أو ذاك أو نشعر بالفزع منه، أو عندما نتحدث علنًا عن قضايا حساسة مثل عقوبة الإعدام، والقتل الرحيم، وحماية البيئة، والأخلاق، وما إلى ذلك. كل هذه الآراء تسترشد بفكرة معينة عن الخير والشر، بقناعات حميمة، ورثناها بالتأكيد من تعليمنا، من بيئتنا، لكننا صنعناها بأنفسنا. إن مجموعة هذه الآراء، التي نعتبرها مبررة بصدق، والتي توجه حياتنا وتنظمها، تشكل فلسفة. على هذا النحو، كل إنسان هو فيلسوف ويمارس الفلسفة كما نثر السيد جوردان، أي دون أن يعرف ذلك، بل والأكثر من ذلك: الجميع يسألون أنفسهم أسئلة فلسفية، سواء حول الموت أو السعادة أو الوقت أو حتى أصل الأشياء.

2° الفلسفة العفوية والفلسفة النقدية

كل هذه الآراء تشكل فلسفة عفوية. هذا لا يعني أن الأشخاص المعنيين لا يفكرون، لكن آرائهم تعتمد في معظم الأحيان على التقاليد والتعليم الذي تلقوه والخبرة الحياتية والتأثيرات التي مروا بها وليس على تفكير منهجي وشخصي من شأنه أن يربط بين هذه الآراء المختلفة ويربطها. وربطها بمبادئ مشتركة ومدروسة بعناية والتي اعتدنا أن نسميها بأسماء الأسس. ليست هذه الآراء مجزأة ومستقلة عن بعضها البعض فحسب، بل إنها لا تجد مبررها وتماسكها ووحدتها بالنسبة إلى المبادئ الأولى التي ندركها، والتي تنتج عن تفكيرنا الشخصي والتي نلتزم بها بشكل عام. مدروس ومعقول. ومن ناحية أخرى، إذا اتخذنا هذه الخطوة لإعادة اكتشاف الجذور المشتركة لجميع آرائنا من خلال طرح السؤال النقدي على أنفسنا: "من أين يأتي ما أفكر فيه وما أؤمن به؟ "، ثم انتقلنا إلى فلسفة صريحة واعية بذاتها (ولم تعد عفوية)، باختصار إلى موقف فكري ونقدي نحتفظ له عادة باسم الفلسفة. لقد صاغ الفيلسوف الإيطالي غرامشي هذا السؤال بشكل مشهور: هل من الأفضل أن "نفكر" دون أن يكون لدينا وعي نقدي به، بطريقة مفصلة وعرضية، أي "المشاركة" في تصور للعالم "المفروض" ميكانيكيا من قبل العالم الخارجي، في بعبارة أخرى من قبل إحدى المجموعات الاجتماعية العديدة التي يرى كل فرد نفسه منخرطًا فيها تلقائيًا منذ دخوله إلى العالم الواعي ... أم أنه من الأفضل تطوير تصوره الخاص عن العالم بطريقة واعية ونقدية وبالتالي فيما يتعلق بـ هذا العمل الذي يدين به المرء لعقله... للمشاركة بنشاط في إنتاج تاريخ العالم، ليكون مرشدًا لنفسه بدلاً من القبول السلبي والجبان بوضع الختم خارج شخصيتنا؟ ".  مقتطف من غرامشي من “الكتاب 11” في دفاتر السجون، المجلد الثالث

تمهيد:
" يجب اعتبار الإنسان كائنًا حرًا، وجديرًا بالاحترام." عمانويل كانط

إذا كان بوسعنا أن نتحدث عن البشر والأشياء، فذلك لأن لديهم واقعًا ملموسًا لا جدال فيه، على الرغم من أنه من المحتمل جدًا ألا يكونوا موجودين. ولكننا لا نفهم أن نساوي الإنسان بالشيء، أو أن ننسب إليه نفس القيمة. فحتى أقسى المجرمين لا يمكن تجريدهم من مكانتهم كإنسان. لذلك هناك فرق جوهري بين الأشياء والبشر. لكن على أي أساس هذا الاختلاف؟ لماذا يبدو من المشروع إعطاء قيمة أكبر للأشخاص من الأشياء؟ هل يوجد البشر بنفس طريقة وجود الأشياء؟

 إن مجرد حقيقة الوجود، وحقيقة الموجود، لا يعطي الأشياء في الواقع بُعدًا استثنائيًا.

1. ما هو الشيء المشترك بين الأشياء والأشخاص؟

اولا. هذه هي الحقائق القائمة

كلمة "شيء" لها معنى واسع جدًا، وفي اللغة اليومية، تُستخدم للإشارة إلى جميع أنواع الكائنات. ولكن مهما كانت طبيعة هذه الأشياء، فإن كلاً منها يتوافق مع واقع ملموس ومحدد. كلمة "شيء" تأتي من الدقة اللاتينية التي أدت إلى ظهور كلمة "واقع" باللغة الفرنسية. ومن ثم فإن الشيء ينتمي إلى الوجود: الشيء هو، في مقابل العدم الذي، بحكم التعريف، ليس موجودا. ولذلك فإننا نفهم هنا من مصطلح "الوجود" الحقيقة البسيطة المتمثلة في معارضة كل ما هو غير موجود. وبهذا المعنى الواسع للغاية، يمكننا أن نؤكد أن الأشياء والناس موجودون: إنهم موجودون، لأننا نستطيع أن ندرك حقيقتهم عن طريق حواسنا.

ب. وجود محدود ومؤقت

لا شيء في العالم يمكن الحكم عليه بأنه أبدي – إن لم يكن الله، فلا يزال يتعين علينا أن نؤمن بوجوده. كل شيء قابل للتغيير والمرور. ومع ذلك، يمكن لأشياء معينة أن يكون لها وجود طويل جدًا (الجبال موجودة منذ ملايين السنين) وهو ما يتجاوز بكثير عمر الإنسان. لكن الطبيعة تخضع لإيقاع الصيرورة والتغيير الدائم. وهكذا، يرى أفلاطون أن كل شيء في الطبيعة له نمط وجود متقلب وعابر. بالنسبة له، الأفكار وحدها هي التي لها كائن دائم يفلت من الحركة. والإنسان ليس استثناءً: فهو بطبيعته كائن سريع الزوال وعابر. تميزه المحدودية: وجوده محدود، محدود بالولادة والموت. فالإنسان، على الأرض، لا يمر إلا عبر الأشياء تمامًا. حتى لو أراد ذلك، فلن يتمكن أبدًا من الهروب من هشاشة الوجود والوصول إلى الأبدية. ولكن إذا كان الإنسان محدداً بالواقع والمحدود، فلا يمكن أن نقول إنه اختزل إلى هاتين الصفتين.

مقدمة

ماكس فيبر (1864-1920) هو المؤسس الرئيسي لعلم الاجتماع الألماني، وهو مؤلف عمل كبير لا يزال يدرس في جميع أنحاء العالم اليوم (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، الاقتصاد والمجتمع، "العالم والسياسي"...). هذا الكتاب الأخير:"العالم والسياسي" عبارة عن مجموعة من محاضرتين ألقاهما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، ألقيا على التوالي في عامي 1917 و1919. تتعلق الأولى بـ "مهنة الباحث ودعوته". والثاني، حول "مهنة السياسي ورسالته": يستخدم فيبر مصطلح بيروف، والذي يعني المهنة والحرفة معًا. تحدد "مهنة السياسي ودعوته" ماهية السياسي الجيد في ظروف السياسة الحديثة. يتم تعريفها على أنها النضال من أجل الحصول على سلطة الدولة أو الإطاحة بها أو تحويلها: وفي هذا السياق يقدم فيبر تعريفا للدولة التي أصبحت مشهورة الدولة هي سلطة احتكار العنف المشروع وتعيد توزيعه في شكل قوانين. وفي نهاية المداخلة، يركز على العلاقات المختلفة التي يمكن أن يقيمها السياسيون مع الأخلاق. وعلى هذا فإن الساسة والناشطين يواجهون معضلات أخلاقية، وهناك العديد من الإجابات المحتملة لها: هل ينبغي للسياسي الجيد أن يتبع قناعاته دون أن ينحني على الإطلاق؟ ماذا يفعل عندما تبدو العواقب أسوأ مما لو تنازل عن مبادئه؟ ألقى فيبر هذا المؤتمر في عام 1919، في سياق دولي بالغ الصعوبة: في فترة أزمة كهذه، ما هي الصفات التي يجب أن يتمتع بها السياسي لكي يرقى إلى مستوى الحدث؟

الصفات الحاسمة للسياسي الجيد

بالنسبة لماكس فيبر، يتميز السياسي الجيد بثلاث صفات "أساسية وحاسمة": وهي "العاطفة، والشعور بالمسؤولية، والبصيرة".

العاطفة والمسؤولية

من خلال العاطفة، يجب أن نفهم "الارتباط لسبب ما"، والذي يميزه فيبر عن "الإثارة العقيمة" البسيطة. إن الارتباط الحقيقي بقضية ما لا يعني أن تكون شغوفًا بها للحظة واحدة: بل بالأحرى أن تخدمها، وتشعر بمسؤوليتك تجاهها. لأن الشغف وحده، مهما كان أصيلاً، لا يكفي. إنها لا تجعل من الفرد سياسيا عندما لا تجعل من خدمة "القضية"، وبالتالي المسؤولية أيضا فيما يتعلق بهذه القضية على وجه التحديد، النجم الذي يوجه العمل بطريقة حاسمة. وبالتالي فإن العاطفة الحقيقية لا تنفصل عن الشعور بالمسؤولية. إنه ارتباط دائم بقضية ما، وهو ما لا يتضمن بالضرورة أفعالًا مذهلة، ولكنه يتضمن تحمل الفرد مسؤولياته فيما يتعلق به.

مدرسة الجشتالت Gestalt  مدرسة في علم النفس تعنى بوحدة الشعوراو الوعي واستقلاليته الذاتية كموضوع. ونادت بأن الوعي ليس مكوّنا من عناصر مستقلة على غرار أن جميع مدركاتنا تتكون كموجودات من عناصر عديدة رغم أنها تتعايش جميعها ضمن وحدة كليّة كينونية مستقلة تسمى الموجود او الشيء المستقل. واعتبرت الكل ليس فقط مجموع اجزائه ولا يفهم الكل في انحلال عناصره.

والجشتالت كلمة المانية تعني الشكل او الهيئة او النمط المنظّم الذي يتعالى على مجموع الاجزاء. وظهرت حركة الجشتالت عام 1912 في نفس الوقت الذي ظهرت فيه نظرية السلوكية التي قادها ماكس فرتماير. وهي تعتبر السلوك تعلما ناتجا عن مثيرات خارجية. اما رواد الجشتالت فيعتقدون أن التعلم فهم وادراك وتمييز.. ونظرية الجشتالت جاءت ايضا كرد فعل على البنيوية التي تحاول تجزئة الادراك الى مكونات . (نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة ).

الوعي الادراكي في الفلسفة

هنا نجد أن الوعي بمعنى الشعورالنفسي فهم مستقل ذاتيا يدرك بالممارسة الادراكية الانفرادية. صواب هذا التوصيف حين نعتبر الوعي وهو كذلك خاصية انفرادية تحكم انفراديتها الممارسة الادراكية الواحدية للشيء في كليته. حيث من المتعذر أن يمارس الوعي دوره المعرفي والادراكي بنفس طريقة واسلوب تفكير جميع أو عامة الناس. هذا يعني أن وعي الفرد الواحد لا ينوب عن وعي المجموع تجاه معرفة الشيء او الموجود الواحد.  المقصود الوعي الجمعي يتوزع على عدد مدركي الشيء الواحد بتنوع كيفي بما لا حصر له كما في خاصية عمل عقول الناس كجوهر نوعي غير مبرمج جمعيا بالادراك والتفكير...فليس كل العقول تدرك الموجودات في تنميط واحد مشترك نوعيا.

الحقيقة أن خاصية الوعي من حيث امتلاك الفرد لها هي ثنائية تتالف من خاصية فردية مجمع عليها. حال الوعي يشابه تماما كما في مقولة ديكارت العقل أعدل قسمة ومساواة بين جميع الناس في امتلاكهم له. لكن كما ينطبق على ان العقل جوهر (نوعي) منفرد و ليس نموذجا متقولبا واحديا في التفكير المنمذج الذي ينوب عن العقول الاخرى. فلكل عقل تفكيره الخاص به لكنه عقل يحمل المجانسة النوعية الواحدية البيولوجية والتفكيرية المجردة مع باقي العقول الانسانية عموما.

في مفهوم مدرسة الجشتالت النفسانية ان الوعي او الشعور كليّ لا يقبل التجزئة الى عناصر كما هو حال العناصر الموجودة في تكوينات الاشياء بعالمنا الخارجي والموجودات بالطبيعة. وان مرجعية الشعور هو علم النفس وليس مرجعيته فاعلية بيولوجيا الادراك العقلي.

صحيح جدا ان نقول الوعي جوهرا ادراكيا موحدا شعوريا مصدره العقل. وصحيح ان الوعي او الشعور كليّ التكوين وكليّ الادراك معا بغض النظر عن ان تلك المدركات والموجودات والمواضيع تتكون من عناصر تشكل كينونة موجودية كليّة انطولوجية يدركها الوعي الانفرادي النوعي بواحدية تكاملها الوجودي في مدركات العالم الخارجي ولا يدركها بعناصرها التكوينية في الاشياء والموجودات.

تمهيد : سبق لي ونشرت مقالة بعنوان (ميرلوبونتي ونفي واقعية الحقيقة) وهذه المقالة تكملة لها.
يذهب ميرلوبونتي نحو تناول موضوعات كلاسيكية بالفلسفة بنوع من التغريب الذي يثير نوعا من الحساسية الفلسفية. فهو مثلا لا يعترف بوجود (ذات) مدخّرة في عالم الانسان الداخلي كما ذهب له القديس اوغسطين. طالما ان هذه الذات لا يمكننا التحقق منها كموجود يمتلك استقلاليته الا في مغايرتها المعاشة ضمن عالم خارجي يحتويها.

ويذهب ميرلوبونتي ابعد اكثر الى ان العالم الخارجي ليس حقيقة. وكذلك (الذات) ليست حقيقة.أعتقد انه من المتفق عليه انه بدلالة العالم الخارجي ندرك ذواتنا بمغايرة ادراكاتنا الموجودات. وليس بهذه الخاصية الادراكية المتفردة نستطيع معرفة حقيقة العالم الخارجي ايضا.الذات جوهر فردي لا وجود حقيقي له سوى بالمغايرة الادراكية العقلية للأشياء والتفكير بما حولنا من موجودات في عالمنا الخارجي والطبيعة وموضوعات الخيال الميتافيزيقي.

العالم الخارجي مفهوم وليس مصطلحا لكينونة وجودية متعيّنة ماديا محدودة بابعاد الموضوع سواء اكان الموضوع ماديا أو غير مادي يدركه العقل ويمكنه بها معالجة العالم الخارجي كموضوعات. متى يكون موضوع تفكير العقل غير مادي؟ كل مواضيع تفكير العقل المستمدة من الخيال هي غير مادية بمعنى هي تجريد صوري تتمثّل الواقع. إنها تصورات ذهنية يبتدعها العقل ويعبّر عنها لغويا او يتم التعبير عنها بأنشطة ادبية وفنية. وحتى الصمت الحركي جسديا كما في المسرح الصامت واليوغا واوضاع حركات الجسم الايحائية غير الناطقة لغويا كما في الرقص والباليه وطقوس العبادات الصوفية الوثنية منها والتوحيدية على السواء.

في الواقع ميرلوبونتي كان قريبا جدا من فلاسفة الوجودية وفينامينالوجيا هوسرل وهو محسوب فلسفيا عليهما لذا نجده يكرر المرادف الفلسفي للذات على انها وعي قصدي يحتاج العالم الخارجي لتوكيد ذاتيته الموجودية بالمغايرة في تاكيد وجوده وسط عالم يحتويه كانسان. والذات من دون وعي قصدي هادف يلازمها سلوكيا ومعرفيا لا وجود حقيقي لها على ارض الواقع.

كما انكر ميرلوبونتي مقولة القديس اوغسطين اعتباره الحقيقية – هكذا وردت في اطلاقية غير محددة في ترجمة دكتور زكريا ابراهيم لم يذكر بأي نوع من الحقيقة يقصد اوغسطين كون الحقيقة مفهوما فلسفيا مطلقا يصل احيانا حد البحث عنها يكون ضربا من الميتافيزيقا. والحقيقة ليست مصطلحا فلسفيا متفقا عليه محدود الدلالة بل هي مفهوم لا نهائي مطلق .  انكر ميرلوبونتي مقولة اوغسطين الحقيقة وجودها العالم الداخلي للانسان وهي ادانة صريحة واضحة صائبة. والذات ليست حقيقة استبطانية يدّخرها العالم الداخلي للانسان. متعللا ميرلوبونتي بالمقولة الفلسفية عن الوعي القصدي التي تذهب الى ان الذات لا تعي وتدرك نفسها الا بالمغايرة الموجودية مع محتويات العالم الخارجي الذي ايضا انكره ميرلوبونتي ان يكون وجودا تتحدد موجودية الانسان بدلالة ادراكه العالم الخارجي.

توطئة
 من أصعب تحديات کتابة تأریخ الفلسفة ونشوئها، هو تحدید نقطة البدأ التفلسف  والفیلسوف الأول في تأریخ البشریة برمتها. هذا ما أکده (أنتوني جوتليب)[1] في کتابه "حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلي عصر النهضة" بقوله: "لن يحسم التاريخ أبداً هوية منشيء الفلسفة، فقد يكون أحد العباقرة الفقراء هو من أخترعها ثم غرق في لُجة التاريخ غير المكتوب قبل ألتمكن من الإعلان عن نفسه للأجيال القادمة. اذ ليس هناك ما يدعونا لأن نعتقد بوجود ذلك الشخص، ولكن عندئذ ما كانت الفلسفة لتظهر إلي الوجود. ولحسن الحظ توجد علي الأقل سجلات لإحدى بدايات الفلسفة حتی لو لم نتيقن من أنها لم تُسبق ببدايات أخری زائفة".

إن بذور الفلسفة نبتت في تربة ما، لکنها لم تکن أسیرا للمحددات الجغرافیة المحیطة بها. فمنذ نشأتها، طمحت بتجاوزها وکانت بثابة رحالة تجوب في آفاق غربا وشرقا. ولأن الفلسفة، فکر کلي/کلیاني جامع وکوني في ذاتها، تجاوزت الجغرافیا و انتقلت عبر القارات والثقافات. ولأنها کانت مؤثرا ومتجذرا في فکر الإنسان حیثما کان، تأثرت أیضا بالثقافات والأفکار التي تحتویها. فلذا، کانت حاضرة في کل مجمتع وحضارة عن طریق الفلاسفة اينما کانوا بشکل من الأشکال.

وإن کانت الفلاسفة أبناء بیئتهم الخاصة، لکنهم إجتازوا الأفق الثقافي لمجتماعتهم وذلک من خلال التواصل مع أفکار فلاسفة أخری في غیر مجتمعاتهم أو عصرهم. وأنهم انتجوا فلسفة، لیست محلیة الطابع، بل فلسفة إنسانیة طامحة.

لذا نتساءل: هل هناک تأریخ 'الفلسفة' أم تواریخ الفلسفات؟ هذا السؤال لیس من باب الجدل، إنما دعوة لقراءة التأریخ المتداول للفلسفة من وجهة نظر إنسانیة شاملة تتجاوز "المرکزیة الغربیة" في تدوین الفلسفة وتملیکها. بتعبیر آخر، خطوة نحو التحرر من هیمنة السرد الغربي في استکتاب نشوء وتطور الفلسفة.

 لذا، فالمقال هو دعوة الی استکتاب فلسفي بدیل لتأریخ الفلسفة من وجهة نظر إنسانیة وبنظرة غیر اسعلائیة التي تهمش الآخر/ الغیر الغربي. لحد الآن من یقرا کتب تأریخ الفلسفة، یتبادر الی ذهنه تأریخ ولیس تواریخ للفلسفة والتي تبدأ مباشرة من الیونان وتسمیتها بالمعجزة الإغریقیة. والذین ینکرون هذا السرد، فهم یقومون بدافع ایدولوجی ولیس فلسفي.

تمهيد:
مبحث الابستمولوجيا  في تاريخ الفلسفة احد الاقانيم الثلاث التي قامت عليها الفلسفة منذ عهدي اليونان والرومان حوالي ستة آلاف سنة قبل الميلاد مع ظهور اول فيلسوف اغريقي طاليس.مبحث الوجود، مبحث المعرفة (الابستمولوجيا) والثالث مبحث القيم (الاكسيولوجيا) يهتم بالحق، الخير، الجمال ويمكننا اضافة المنطق وفلسفة الاخلاق.. وتذكر بعض المصادر ان طاليس زار مصر ودرس الفلسفة في الاسكندرية كما زار بابل لنفس الغرض. ومثله فعل فيثاغورس 570 ق .م حيث درس علوم الرياضيات والجبر والهندسة حين زار بابل والتقى علماء البابليين ونقل العديد من مباديء الرياضيات الى بلاد اليونان لعل في مقدمة هذه المباديء هو استعمالات المثلث انه شكل هندسي يتكون من ثلاثة اضلاع ومجموع زواياه 180 درجة احداها 90 درجة وهي الزاوية القائمة. كما نقل بعض المباديء الرياضية والهندسة والمعمار التي كانت تجهلها الشعوب اليونانية. المهم ليس هذا موضوعنا.

من تاريخ فلسفة مبحث الابستمولوجيا

تقول مصادر تاريخ الفلسفة الى أن هوسرل فيلسوف الظاهراتية (الفينامينالوجيا) عمد الى احياء الميراث الديكارتي العلمي في القرن السابع عشر. وكانت رسالة هوسرل ثورة على شتى النزعات اللاعقلية والارتيابية والعدمية التي كانت تنخر  عظام الحضارة الغربية في القرن العشرين .(نقلا عن د.زكريا ابراهيم).

 عند محاولتنا تقصي بعض النقاط التي تحاول ربط تفكير ديكارت فيلسوف الثورة العلمية كما يحب بعض المشتغلين بالفلسفة نعته بها وهو بريء منها. في كتابه الشهير جدا (مقال في المنهج) اثار جملة قضايا تقوم على مركزية الشك بكل شيء جاءنا كموروث يؤثر بحاضرنا ونتداوله فلسفيا. منهج الشك الديكارتي اثار ضجة كبيرة جدا ليس في عصره بل بعد وفاته عام 1900م بقرون طويلة. حتى مفكرنا الكبير عميد الادب العربي طه حسين تأثر بمنهج الشك الديكارتي فاصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) الذي اثار ردود افعال بين مؤيد ومستنكر رافض اثناء وبعد وفاة طه حسين. النقطة التي اود ذكرها ان طه حسين اراد تلبيس منهج الشك الديكارتي موروثنا الشعري العربي باعتساف وتبيئة المصطلح مصريا واسقاطه على تاريخ الشعر العربي واصفا اياه بالمنحول وهو في غالبيته جاءنا موروثا عن شعراء العصر العباسي.

التساؤل لماذا لعب شعراء العصر العباسي الاول والثاني هذه اللعبة ومعلقات شعراء عصر الجاهلية عصر ما قبل الاسلام كانت معلقة على استار الكعبة بقرنين على الاقل قبل ظهور الاسلام وحوالي اربعة قرون سبقت مجيء الشعراء العاسيين.!! من وضع هذه المعلقات الشعرية وهل شعراؤها اسماء عباسية منتحلة غير حقيقية؟  بمجيء القرن الرابع الهجري إذ قام عبقرية اللغة العربية والشعر العربي خليل بن احمد الفراهيدي 100 - 170هجرية بوضع بحور الشعر الستة عشر كما قام بتنقيط القرآن الكريم ووضع نحو وقواعد اللغة العربية وتنقيط حروف اللغة العربية ووضع العلامات النحوية الاربعة الضمة والكسرة والفتحة والسكون والتنوين والشدّة على حروف اللغة العربية التي اجملها ب28 حرفا وبعضهم يعتبرها 29 حرفا باضافة الهمزة كحرف له شكل وصوت.

الفلاسفة واللغة
يقول نيتشة رغم مقولته الجدالية الفلسفية الاستفزازية (موت الاله) ان (اللغة من ابداع الله). كما يقول غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني). ويقول هيدجر(الانسان كائن لغوي وليس كائنا عاقلا). ويقول سيلارز( الوجود لغة). كما يقول فيلسوف اميركي اخر (الله لغة).
اذا اخذنا تفسير عبارة نيتشة اللغة من ابداع الله فلا معنى تسويغي تفسيري في تمرير العبارة سوى استشهادنا بعبارة شيلر قوله ان كل شيء ندركه ميتافيزيقيا كصفات مثالية يخلعها الانسان على معبوده الذي يؤلهه انما نجدها اي تلك الصفات المثالية مجتمعة بالانسان كموجود يلازم الطبيعة يتفاعل معا ويستفيد منها في تخارج انفصالي مستقل عنها.
وهي بطبيعتها الفيزيائية كموجود معطى مخلوق مستقلة انطولوجيا عن الانسان من ناحية التموضع الذاتي فيها او التجانس التكاملي تكوينيا معها.. أنسنة الطبيعة يتمثّل بالاعتياش الاحادي الجانب في علاقة الانسان بالطبيعة فهي الام المرضعة له وهي المصدر في توفير غذائه ومقوّمات حياته.
وقد سبق لفيورباخ الفيلسوف المادي التأملي الصوفي تعبيره أن الانسان بعلاقته مع ذاته ومع موجودات العالم الخارجي والطبيعة هي الاله المتكامل الذي يدركه الانسان بالموجودات التي يحتويها الوجود. الانسان بعد إختراع صناعته لالهه في تأمله الطبيعة وكائناتها وتنوعها البيئي وظواهرها الدائمية منها والمؤقتة وصل لنتيجة ربما لم يكن يدركها لكنه كان يمارسها انه هو إله ذاته كموجود ضمن وجود اكبريحتويه.. بفارق انه يؤمن ايمانا قطعيا انه الاله الانساني في داخله المجتمعة فيه كل الصفات الانسانية وليس الصفات الالهية التي لا يدركها بل تلك التي يرغبها الانسان في معبوده كخصائص نوعية يحاول الاقتداء بها سلوكا موزعا على طقوس دينية يمارسها في محاولته كسب رضى الخالق في تقليده لصفاته التي هي انسانية والتي بدورها تلعب دورا مهما في تهذيب اخلاق العبد في سلوكه المجتمعي. الصفات الالهية هي مفردات يدركها الانسان في ذاته فقط. ولا يدركها بمعبوده لأنه خالق كل شيء المدرك منه وغير المدرك. وادراك الصفات الالهية من قبل الانسان يعني ان الله اصبح موضوعا يدركه العقل بصفاته.

تمهيد
"إن أفضل طريقة للحصول على فكرة جيدة هي أن يكون لديك الكثير منها."
يقال بأن الفلسفة تعطي إجابات غير مفهومة لأسئلة غير قابلة للحل وبأنها تفكير أي نشاط وليست عقيدة. الفلسفة هي نظام الأفكار، ونفس الشيء هو معرفة الفيلسوف وفهم أفكاره. لكن كل شخص لديه أفكار، على مستوى أو آخر: قد تكون لدينا فكرة عن وجبة المساء أو عن إجازة العام المقبل. الفكرة تحدد الفكر: التفكير لا يتكون من إنتاج تمثيلات في رأس المرء، بل من وجود أفكار. في كثير من الأحيان، على سبيل المثال، عندما نواجه سؤالًا فلسفيًا، لا يكون لدينا سؤال: السؤال لا يقول لنا شيئًا، ونجف أمام ورقتنا أو شاشتنا، إلا إذا حاولنا خداع أنفسنا بالتمسك بالأفكار من غيره. وفجأة، ندرك أننا نعمل، وملتزمون بمسار واعد إلى حد ما، لكن قيمته لن نتمكن من تحديدها إلا بعد حدوثها: لقد جاءت إلينا فكرة. لذلك، نحن لا ننتج الأفكار، بل تأتي إلينا. وبالتالي، فإن الفكرة تأتي من امتلاكها، وليس من تنفيذها على الإطلاق: عندما لا تكون لديك فكرة، لا يمكنك علاجها عن طريق صنع واحدة؛ علينا أن ننتظر حتى يأتي – أفضل شيء نفعله هو أن نحاول أن نجعل أنفسنا متاحين، وبهذا المعنى فإن التفكير ليس نشاطًا يمكننا الادعاء به: عندما لا تصلنا أي فكرة، على الرغم من كل الجهود العقلية التي نبذلها. كنا قادرين على تقديم، ونحن لم نفكر. وعلى العكس من ذلك، هناك أشخاص تأتي إليهم الأفكار طوال الوقت. أحيانًا يكون الأمر رائعًا، كما هو الحال مع الفلاسفة الذين تكشف دراستهم للنصوص عن عدة أفكار في كل سطر؛ في بعض الأحيان يكون الأمر مخيفًا، مثل الأشخاص الذين لا يستطيعون الجلوس ساكنين وتحريك الهواء من حولهم باستمرار. لذا، فإن التفكير لا يعني بالضرورة التفكير جيدًا أو بطريقة مثيرة للاهتمام: إذا كانت هناك أفكار غنية ورائعة (على سبيل المثال، أفكار أرسطو في التمييز بين القوة والفعل، وفكرة كانط في قلب النموذج القائل بأن "لدينا معرفة تلقائيًا"، فهناك أفكار أخرى). هي أفكار فقيرة ومبتذلة مثل تلك التي لدينا يوميًا حول الأشياء الصغيرة في الحياة، أفكار لا تعطي شيئًا، وحتى الأفكار، على سبيل المثال في السياسة، والتي يمكننا أن نقول عنها إنها قذرة. لكن في النهاية، تشترك كل هذه الأفكار في أنها أفكار، أي أنها وصلت إلى مؤلفيها، وأنها تكشف أن الطبيعة الحقيقية للفكر لا ينبغي لها مطلقًا أن تكون نشاطًا ذاتيًا كما نتخيله بهذه السهولة. لأن التفكير يتكون من وجود أفكار، والفكرة في حد ذاتها هي حدث. فما المقصود بالفكرة؟

4 - قانون الحقيقة

رابط ضرورة صلة وصل بين الله والعقل: في ٱخر نص بقي لنا من شيلنج، لم يتم ذكر هذه الأطروحة بهذا الشكل فحسب، بل إنها موضوع قانون، وقانون متعال. يتعلق الأمر بمحاضرة ألقاها يوم 17 يناير 1850 على مسامع زملائه في أكاديمية برلين. فيها عبر عن الاهتمام الذي أبداه، في نهاية حياته، بالمسائل الكلاسيكية: وبالتالي، ليس فقط مسألة "to on" الموروثة من أرسطو، ولكن أيضا المسألة التي نوقشت كثيرا منذ العصور الوسطى حول ما يسمى "مصدر الحقائق الأبدية”. إن كون هذه المشكلة الأخيرة قد أثارت اهتمام شيلينج بشكل مباشر هو ما ستتناوله صاحبة هذه الدراسة بالتفصيل. أما الٱن، فتقول إن شيلينج، في هذا العرض، يستحضر قانونا آخر غير قانون العدالة لتوضيح أن الله مرتبط بالعقل أو بعالم الممكنات. إنه قانون وحدة الوجود والفكر ، الذي لا ينبغي الخلط بينه وبين القانون السابق، وهو قانون العدالة. هذا الأخير يتحقق بشرط أن يقرر الله بنفسه الفعالية: إنه "قانون الصيرورة"، قانون افتراضي، ومشروط. ليس هذا هو الحال بالنسبة لقانون وحدة الوجود والفكر، الذي هو قطعي أو غير مشروط: فهو يعمل في اتجاه منبع الفعالية، وبالتالي في استقلال عن الحركة الإبداعية. ولكن ماذا يقول بالضبط؟ أن "ما هو موجود يجب أن يكون له دائما في نفس الوقت علاقة بالمفهوم" (Begriff) (was immer I s t auch ein Verhältniss zum B e g r i f f haben muss) وأن "اللا شيء، بعبارة أخرى، ما ليس له علاقة بالفكر ( Denken)، غير موجود حقا" (was Nichts ist, d. h. was kein Verhältniss zum Denken hat, auch nicht w a h r h a f t Ist). هذا يعني أن الله لن يوجد بالمعنى الدقيق للكلمة إذا لم يكن ذاتا مفردة بشكل أساسي مرتبطة بالكوني، بالفكر الأسمى، بمفهوم المفاهيم، أو بكل الممكنات.

في ما يتعلق بالله، يكون القانون المعني هو الأكثر إلحاحا: كونه نفسه الأسمى، فذلك لأنه ينطبق على الوجود الأسمى فوق كل شيء. وإلا فلن يكون له مجال للتطبيق. توضيح مهم لأن هذا القانون لا تفوته الإشارة إلى ما نسميه عادة "الحقيقة". لكن حتى بمعناها العادي أو الكلاسيكي، فإن الحقيقة تشير إلى علاقة انسجام بين القضية وواقع مرجعها الخاص، وهي العلاقة التي تفترض بالنسبة لشيلنج الوحدة المطلقة للذات والموضوع. وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الحقيقة حول حكم ما إذا كنا لا نفترض، خارج أحكامنا، مجالًا يقتضي فيه الحكم لأجل المطلق أن يطرح نفسه، أو يسند نفسه. هذه الطريقة في التحقيق في مسألة الحكم كحكم للحقيقة هي السمة المميزة للمثالية الألمانية. يربط شيلينج، منذ بداياته، بالمطلق، ويخضع للمطلق الانسجام الذي تشهد عليه قيمة الحقيقة في المعرفة الإنسانية: تتم إعادة إدخال التوافق في قلب المطلق، والمعرفة نفسها - في حد ذاتها ليست معرفة حقيقية إلا لأنها أولاً معرفة المطلق، المعرفة التي يولدها المطلق من نفسه. تظهر هذا المقاربة بوضوح عندما باشر الشاب شيلينج مهمة إعطاء أساس للمعرفة. يرتكز التوافق على الوحدة المطلقة المستمدة من تجسيد الذات المطلقة. وبالتالي فإن الحقيقة هي، في الأساس، وحدة الذات والموضوع المطلقين، أي وحدة الفكر والوجود الأسمى. ما يقدمه لنا الٱن شيلينج الأخير هو هذه الوحدة، ولكن بعبارات معكوسة، فالكلمة الأساسية ليست هي الفكر، بل هي على وجه التحديد الوجود، وليست المفهوم بقدر ما هي الله الذي يسبقه. دعونا نستبعد على الفور سوء الفهم الذي يمكن أن تؤدي إليه مثل هذه الصياغة.

إذا كان الوجود أول (prius) وسابقا على المفهوم، فلا يعني ذلك من وجهة نظر شيلينج الطريق الأولى والأكثر قصرا إلى تحديدات لفكر المطلق: فالوجود، في هذا السياق، على العكس من ذلك، يعني "خارج المقولات"، أو المثال الذي يتجاوز جميع المقولات، أي الحر، المفرد المطلق، إله الأصول. يهاجم شيلينج هنا تألق المفهوم الذي كرسه هيغل والهيجليون.

في هذا العرض الموجز، لن تقر ألكسندرا ما إذا كان غير عادل تجاه هيجل. ومع ذلك، تلاحظ أنه من خلال جعل الغلبة للوجود على المفهوم، للواحد على الكوني، سعى شيلينج إلى إبعاد نفسه عن المفكر الذي هو قريب جدا منه؛ ذلك لأنه بالنسبة لشيلنج أكثر من هيجل نفسه، فالوجود لا يستبعد المفهوم.

أما سوء الفهم الآخر الذي يتعين علينا أن ننحيه جانبا فيتعلق بالحقيقة. فهل قانون وحدة الوجود والفكر هذا، لأن الوجود هو الأول، لا يشتق منه إذن؟ وهذا ليس على وجه التحديد ما يقترحه شيلينج، لأنه يرى أن هذا القانون لا يأتي من الله، وبعبارة أخرى من الوجود: كيف يمكن ذلك إذا كان صحيحا أنه يفسر هذه الرابط الضروري الذي يربط الله بالمفهوم؟ وبموجب هذا القانون، لا يمكن لله ألا يكون ذاتا قابلة للتنبؤ، ولا يمكن أن يكون الله مفهوم المفاهيم، أي شيئًا (سائلًا) (aliquid) بالمعنى الإجمالي للكلمة، الكل، الشامل. وبفضل هذا القانون يمكننا أن نقول حقا إنه موجود؛ أي ليس شيئا، ولا يمكن التنبؤ به: بدونه، هذه العبارة لن تكون حقيقة " (wäre keine Wahhrheit)، كما لاحظ شيلينج. ولهذا يمكننا القول إن قانون وحدة الوجود والفكر هو قانون الحقيقة. وبدونه لن يكون الله جماع الممكنات. إذا كان بإمكانه أن يقول "أنا الحق" (يوحنا XIV 6)، فذلك لأن القانون يربطه بعالم الحقائق، لأنه من الضروري أن يكون الله شيئًا، أو أن يكون الواحد هو الكل. ولذلك فإن قانون الحقيقة موجود في مبدإ المعادلة السحرية «الله هو الوجود»، وهي معادلة بدونها لا يكون لقانون العدالة أي معنى لأنه يفترض أن هذه المعادلة نفسها مكتسبة، لأنه يفترض أن الله يتصل إلى مجموعة شاملة من الممكنات. والمسألة إذن هي أن نعرف هذه المرة من أين يتلقى الله قانون الحقيقة بالضبط، إذا كان، كما يريد شيلينج، المطلب الذي يصوغه، أو الضرورة التي هو تعبير عنها، "يتجاوز" فعلا الله. للحصول على فرصة لتوضيح هذا السؤال، من المناسب أن نتناول القول العام، وليس المحدد فقط، الذي وردت فيه هذه الأطروحة: لأي أسباب تمسك شيلينج كثيرا بفكرة أن هناك رابطا ضروريا يصل العقل بالله، أو الحر مطلقا بمحموع الممكنات؟

5- تجنب منزلقين اثنين

هذا العنوان الفرعي وحده يعلن عن برنامج كامل. بالنسبة إلبنا، سوف ىيتعلق الأمر برؤية كيف أراد شيلينج أن يضع نفسه على رقعة الشطرنج الدقيقة للإجابات المتنافرة المقدمة لسؤال تم تناوله على نطاق واسع منذ العصور الوسطى: سؤال "العلم الإلهي" (scientia Dei) ليس فقط في ما يتعلق بما هو يسميه لايبنتز بالحقائق الفعلية (الموجودات المخلوقة، والاحتمالادت المستقبلية)، ولكن أولاً في ما يتعلق بحقائق القانون، التي هي ميتافيزيقية وبالتالي ضرورية (أي الجواهر والمبادئ الأبدية). هدف شيلينج هو تناول مسألة حقائق القانون، أي "الأبدية". والكلمات التي اختارها ليأخذها في الاعتبار مستوحاة بلا شك من لايبنتز: إن التساؤل عن مصدر هذه الحقائق هو التساؤل عن مصدر الإمكانات في مجملها. في الواقع، عند لايبنتز، تصبح الحقائق ممكنات: عندما تكون ضرورية، تغطي جميع الإمكانات؛ وعندما تكون مشروطة، تغطي بعضها فقط.

لكن شيلينج لديه مرجع آخر في ذهنه: فهو يستمد الدعم من كانط، الذي يرى، في العقل، أن هناك "فكرة الواقع الكامل (omnitudo realitatis)"، "وفرة من المادة التي يمكن أن تستخلص منها جميع محمولات الأشياء"، "المفهوم الأصلي" الذي يشكل بالتالي نسيج أي تعريف أو تحديد. لكن، بالنسبة إلى شيلنج، ليس هناك داع لأن تستبعد من الفكرة بهذا المعنى الإمكانات التي تسمح لنا لعبة القوى ببنائها.

وهكذا يضع شيلينج نفسه على الفور في منظور يعطي مسألة المعرفة الإلهية المسبقة دورا خاصا. عادة ما نتساءل: كيف يعرف الله المخلوقات التي خلقها؟ من أين تأتيه الأفكار عن المخلوقات؟ لأن الخلق بشكل أعمى، دون معرفة ما الذي تم خلقه، هو علامة على النقص. لا يستطيع الله أن يخلق كما يرسم رجل أعمى صورة عمياء. إذا كان الله لديه علم مسبق بكل شيء، فذلك لأنه لا يستطيع أن يخلق أي شيء دون أن يعرف مسبقا ما سيفعله – وقد لاحظ آباء الكنيسة المسيحية ذلك بالفعل. أليس من الضروري إذن أن يكون الله الخالق محكوما بشيء آخر غير إرادته؟ فيتلقى معلومات عن المخلوقات من هيئة غير هيئة إرادته؟ والسؤال هو أن نعرف ما هي هذه الهيئة الأخرى وما علاقتها بالذات الإلهية. لا يدعي شيلينج أنه صاغ السؤال بهذه العبارات: نحن مدينون للمدرسيين بصياغته. لكن ليس أيا منهم، لأن القديس توما الأكويني تجنب المشكلة، في رأي شيلينج: لقد حدد مصدر هذه المعرفة المسبقة مباشرة في الله، أو في الجوهر الإلهي. ولكن ماذا يشرخ بذلك؟ يرى شيلينج ببساطة أن الجوهر الإلهي يمكن للأشياء أن تشارك فيه وتحاكيه، وليس أن الأشياء يمكن أن تشارك فيه: “من لا يرى على الفور أن هنا جاءت لتحل محل فكرة قدرة الأشياء على المشاركة في الجوهر الإلهي أو تقليده [...] قدرة الجوهر الإلهي على السماح لنفسه بالمشاركة فيه أو تقليده. وبعبارة أخرى، فإن مثل هذا الحل ناقص إلى حد كبير : فهو لا يوضح بأي حال من الأحوال إمكانية وجود المخلوقات نفسها، لكنه يفترض ذلك مسبقا. إذ كيف يمكن لله أن يعتبر نفسه قدوة إذا لم يكن لديه علم بالمخلوقات الممكنة التي يمكن أن تقلده؟ إذا لم يحل إلى شيء آخر غير نفسه؟ هذه صعوبة كان مفكر مثل دونس سكوت قد أدركها بالفعل: كون الله قابلًا للتقليد لا يفسر أنه يعرف مخلوقاته الممكنة، وأن ذكاءه يأخذها في الاعتبار على هذا النحو، وأنه يضعها كأشياء؛ بل هذه الحقيقة (أن الله لديه علم بكل ما يمكن أن يقلد جوهره) هي التي تفسر الحقيقة الأولى (أن الله قابل للتقليد). إن إمكانية الخلق لدى الله وبالتالي تقليده تفترض، بمعنى آخر، أن الأشياء ممكنة؛ إنها تفترض، بالنسبة لشيلنغ، "إمكانية أصلية للأشياء" (ursprüngliche Möglichkeit)، أي مصفوفة مستقلة عن جوهر الله وإرادته.. في ما يتعلق بهذه النقطة الدقيقة للغاية، تعلم شيلينج درس لايبنتز: لا يمكننا أن نجعل مصدر الممكنات يعتمد على مرسوم سيادي، لكننا لا نستطيع فصل الأخير تماما عن الله سواء على حساب المجازفة بتأكيد اثنين بدلاً من واحد. إنها مسألة تجنب مأزقين بدلاً من مأزق واحد: المأزق الإرادي، ولكن أيضاً المأزق الثنائي. يعتمد شيلينغ هنا، بشكل واضح، على مقطع دقيق من "الثيوديسا" حيث يبحث لايبنتز عن نوع من الطريق الأوسط بين هذين المأزقين (§§ 182-186):

1/ أول ما امتلكه بيير بايل، وفقا لايبنتز، من ميزة التحديد الدقيق (§§ 182-3) يتوافق مع الأطروحة الديكارتية الصحيحة، والتي يدينها شيلينج بدوره باعتبارها خاطئة. تتحدث لنا هذه الأطروحة بالتأكيد عن “الحقائق” بالمعنى الضيق للكلمة، وهي أحكام، وبالتالي “عمليات الإرادة الإلهية” كما يقترح لايبنتز لصالح ديكارت. ولكن كما يؤكد شيلينج نفسه بقوة، لا يوجد سبب لإسقاط الفرق (البشري) على الله بين السمع والرغبة، بين المعرفة والإرادة: بالنسبة لإله ديكارت، فإن الأمر نفسه هو الرغبة (velle) والمعرفة (cognoscere) لذا، أخذ لايبنتز في الوقت نفس على محمل الجد التمييز بين الاثنين حتى يتم تجنب العواقب الشنيعة التي يمكن استخلاصها دائمًا من الأطروحة الديكارتية. هذه الأطروحة، بحسب لايبنتز، تركز كثيرًا على ما تسميه هي نفسها "حرية" إلهية، ولا تركز بشكل كافٍ على ضرورة ما يفلت من أي مرسوم على وجه التحديد - أي لبس فقط الحقائق بالمعنى الدقيق للكلمة، رياضياتية (نصف أقطار الدائرة متساوية)، ميتافيزيقية (لكي تفكر يجب أن توجد)، ولكن أيضا الممكنات، فكرة المخلوقات. الآن ترقى الفرضية الديكارتية، من وجهة النظر هذه، إلى التأكيد على أن الله يصبح واعيا بما يخلقه بفضل الحقيقة الوحيدة التي يخلقها: معرفة الله بمخلوقاته ترجع فقط إلى قدرته على خلق هذه المخلوقات. وهو ما يصل إلى القول بأنه يخلق بشكل أعمى، مما يعرض للخطر مكانة حقائق الأشياء التي يعرفها. تُجرد هذه الأشياء من أي ضرورة عندما نعتبر أنها يجب أن تكون مطلوبة حتى تكون معروفة. إن مثل هذا اللاتمييز في الصفات الإلهية يؤدي إلى ضرر بالموضوعات العلمية. يأخذ شيلينج هنا من لايبنتز الحجة التي بموجبها يخلط ديكارت لسوء الحظ بين مستوى الوجود ومستوى الجواهر. لأن الحقيقة لا تعتمد على الإرادة الحرة: فالحقيقة ضرورية، وليست الحقائق حقائق يقررها الله .

2/ لكن هناك نقطة أخرى يعاب عليها لايبنتز، وهي المأزق المعاكس والذي من مصلحتنا أيضا أن نحدده كما فعل تومايوس (1655-1728): هذه هي الأطروحة التي دافع عنها تلاميذ دونس سكوت، والذين بالنسبة إليهم - كما قال لايبنتز (§ 184) – “الحقائق الأبدية ستبقى عندما لا يكون هناك فهم، ولا حتى فهم الله”. إنها أطروحة جذرية، وهي ليست بعيدة كل البعد عن أطروحة جميع الاسكتلنديين. لأن دونس سكوت أكد أن المعقولات ليست موجودة مسبقا في جوهر الله عند تعقلها؛ وأن العقل الإلهي هو الذي ينتجها. لذلك، يجب أن نكون اسكتلنديين بطريقة خاصة جدا لنذهب إلى حد القول إن هذه الأخيرة موجودة بمعزل عن الفعل الذي يراها الله من خلاله، أي يعرفها. وكما يؤكد شيلينج، فهي أطروحة لا تستحق إلا الاسكتلنديين "المتطرفين" (äussersten)، الذين وجدوا في الواقع - لم يقل شيلينج - في سكوت نفسه صيغا غامضة للدفاع عن عالم واضح لا يعتمد على نفسه. بأي حال من الأحوال على العقل الإلهي. ويمكننا أن نذكر هنا اسمين على الأقل، اسم جون ويكليف (1330-1384) الذي أصبحت أطروحته في زمن قياسي بمثابة إحباط للاسكتلنديين أنفسهم، واسم فاسكيز (1549-1604) الذي كانت أطروحاته، على الأقل على طرفي نقيض من ذلك، وكان لهم بعض الأتباع في الأوساط اليسوعية. وفقًا لهؤلاء المتطرفين، كما يؤكد شيلينج، فإن مصدر الحقائق لا يعتمد كثيرا على الله لدرجة أنه موجود "بمعزل عن أي علاقة بالله": يأخذ الاستقلال معنى مطلقا بحيث يقتصر إلى حد كبير على المظهر الخارجي؛ سوف يصبح الله واعيًا للحقيقة والممكن في عالم خارج فكره. وهي أطروحة يرفض شيلينج نفسه تأييدها، لكنه لا يتخلى عنها لصالح أطروحة لايبنتز. وهذا ما يجعل الرحلة التاريخية التي يدعونا إليها مثيرة للاهتمام. دعونا نرى الآن كيف تختلف عن أطروحة لايبنتز.

ومثل لايبنتز دون أدنى شك، فهو يسعى إلى إيجاد نوع من الطريق الأوسط بين المأزقين اللذين ذكرناهما للتو. لكن المصطلحات التي يفكر بها حول هذا المسار الأوسط ليست هي المصطلحات التي استخدمها لايبنتز. أعتقد أن لدينا دليلًا خطيرا للغاية، على الرغم من أنه متحفظ للغاية، حتى قبل أن يذكر شيلينج بدوره المأزقين الشديدين: فهو يذكر "الاسكتلنديين" بعبارات إيجابية ويقترح أن دونس سكوت قد ترك الباب مفتوحا لطريق مقبول بين الشعاب المرجانية. وإذا كان الاسكتلنديون "المتطرفون" الذين أشار إليهم لايبنتز لا يقدمون أي مساعدة ــ ولايبنتز على حق ــ فمن المؤكد أن هذه ليست الحال بالنسبة لكل اسكتلندي. إذا كان الأسكتلنديون المتطرفون يفرضون على الله عالماً معقولاً مستقلاً عن الله، فإن أسكتلنديين آخرين يحافظون على رابط الاعتماد والضرورة بين هاتين الهبئتين: فالجواهر، بالنسبة إليهم، مصدرها في مبدأ "متميز عن الله" ولكنه، في في نفس الوقت، هو "ضروري" (connecessarium). والأفضل من ذلك بكثير، وفقا لشيلنج، أن دونس سكوت نفسه كان سيميز هذا المبدأ في ما أسماه على نحو مناسب "Ens Diminutum"، والذي كان يعني بالنسبة إليه موضوع العلم الإلهي، وهو التمثيل. إن حجة شيلينج ليست مقنعة للغاية لأن الفكرة، بالنسبة إلى سكوتس، ("الوجود الموضوعي" للشيء) هي في الواقع إنتاج للذكاء الإلهي. ولكن يمكننا أن نجادل، لمتابعة معناه، وبالاعتماد على سكوت، أن كل شيء معقول هو قبل كل شيء ممكن، وممكن منطقيا، وغير متناقض، وأنه إلى هذا الحد يكون مستقلا عن الذكاء الإلهي، على غرار مبدإ عدم التناقض. لكن سكوت لا يقول بهذا المعنى أن الممكن يفرض على الله نفسه: فهو كممكن منطقي، ليس له اتساق.

لذلك من اللافت للنظر أن شيلينج يريد هنا بأي ثمن أن يجد في أفكار سكوت شيئا يعطي الماء لمطحنته الخاصة. في الحقيقة، بالنسبة لسكوت، فإن مصدر الإمكانات لا يختلف عن الله، عن عقله - وهي أطروحة، على أي حال، لا يمكن أن تستجيب لمقصد شيلينج، وهي التشكيك في مصفوفة الجواهر لأن هذه الأخيرة توفر غذاء للفكر ويمكنها جعل الله على اتصال مع الفكر. لكن هذا الأمر لا يمكن أن يوجد منفصلاً عن الله، مجردا عنه: يجب أن يحافظ على علاقة مع الله. وما قيمة الحل الذي يقترحه لايبنتز ضد الانفصال بين هذا المصدر والله؟

يكمن حل لايبنتز في هذه الكلمات القليلة التي يتحمل شيلينج عناء اقتباسها: "إنما، الفهم الإلهي، في رأيي، يشير لايبنتز، هو الذي يجعل الحقائق الأبدية حقيقية، [...] بدون الله، لن يكون الأمر ممكنًا فحسب. لن يكون هناك أي شيء موجودا، ولكن لن يكون هناك أي شيء ممكنا" هذا يعني أننا لا نستطيع أن نؤكد أن مصدر المعرفة الإلهية المسبقة لا يعتمد على الله بشكل مطلق أكثر من التأكيد على العكس من ذلك أنه يعتمد عليه بشكل مطلق: فهو يعتمد عليه بمعنى أنه بالنسبة إلى لايبنتز "ملكة" الله، أي فهمه؛ ولا يعتمد عليه بمعنى أنه ليس نتاج قوته. ومع ذلك، فإن هذا الحل ليس في الواقع حلاً من وجهة نظر شيلينج، وقبل كل شيء لأنه يترك دون إجابة سؤال معرفة "كيف يرتبط هذا الفهم" في الواقع بمجموع الإمكانات. فإذا اتصل بها على أنها كيانات "صاغها" (sich ausdenkt) من نفسه، "فلا نرى في هذه الحالة كيف يتم تمييزه عن الإرادة الإلهية"؛ ولذلك فإننا نعود إلى المأزق الديكارتي. إذا كان يرتبط بها ككيانات "يكتشفها" (entdeckt)، على العكس من ذلك، "على أنها موجودة هنا" (als schon da seyende)، فذلك لأنه يفترض مسبقا هيئة "سابقة" (Vorausgeseßtes) مستقلاة عنه، شيء يُسمع أو يُحدس، وأنه ليس هو نفسه إذ لا نستطيع أن نقول إنه الأصل؛ ولذلك فإننا لم نتقدم أكثر في ما يتعلق بمصدر المعرفة الإلهية المسبقة.

ونتيجة لذلك، فإن حل لايبنتز ليس حلا واحدا حقا... لذا يجب إعادة بدء البحث. ومن أجل إعادة إطلاقه، يظل شيلينج منتبها للمزالق التي أراد لايبنتز تجنبها والتي هي الحدود المتطرفة التي يجب أن نبحث عنها بدقة. ومع ذلك، يلفت شيلينج الانتباه إلى نقطة غابت عن لايبنتز: ما هو هذا "je ne sais quoi" (nescio quod) الذي هو ضروري مع الله والذي يكون للجواهر في الواقع مصدرها؟ لم يذهب لايبنتز إلى هذا المجهول لسبر أغواره، بل افترضه كموضوع ضروري للفهم الإلهي، ولكن دون توضيحه.

6-  ما تدين به الحرية للحقيقة

في بداية هذا المطلب، أكدت ألكسندرا رو أن توضيح مصدر الجواهر الأبدية والإمكانية الأصلية للأشياء، هو في نفس الوقت توضيح للعلاقة التي تربطها بالله نفسه. ثم أشارت إلى أن لايبنيز، وفقا لشيلينج، لم يقلق بشأن ذلك، معتقدا أن الوولفيين من بعده لم يكونوا أفضل حالًا: من المؤكد أنهم شعروا أن هناك حاجة إلى شيء آخر غير الفهم الإلهي لتبيان من أين يستمد الله معرفته بالممكنات؛ لكنهم سمحوا لأنفسهم بأن ينخدعوا بالكوني، أو ينبهروا به، وبذلك يتخلون عن التفرد الذي يحدد الله نفسه. العقلانية الضعيفة، وهي تتحاشى الله، سهلت عليها المهمة. لحسن الحظ، كان كانط، وفقا لشيلينج دائما، قد أعاد المثل الأعلى فوق الفكرة، ومن خلال التأكيد على التفرد بالإضافة إلى الكوني، والواحد بالإضافة إلى مملكة الإمكانات، إلى الكلية، حتى لو لم يجن الفائدة الممكنة من تمييز  مماثل.

هنا يعلن شيلينج عن دينه (بتسكين الياء) ودين العصر الحديث تجاه المفهوم الذي وضعه كانط بالفعل في أساس المفهوم الشامل للإمكانات: وهو على وجه التحديد، "الكائن المفرد"، "كونه الأكثر واقعية". إذا كان المصدر المطلوب، مصدر الكوني، لا يجب أن يعتمد بشكل مطلق على الله أكثر من ألا يعتمد عليه بشكل مطلق، فكيف يمكننا أن نتصور ذلك؟ 

استعان شيلينج بالمفهوم الذي وجده عند أرسطو، وهو مفهوم الهيولى: المادة هي تلك التي، بامتياز، تعتمد نسبيا على الآخر الذي هو مادة؛ فهي غير موجودة لذاتها بل هي للآخر (هي بغير وجود لذاته). ومع ذلك، فهي لم تتخلق من العدم ، لأنها العدم الذي انطلاقا منه يمكن للآخر أن ينتج بالفعل. فهي إذن في علاقة ضرورة مشتركة مع الآخرية القادرة على الإنتاج. هذا، وفقا لشيلينج، هو وضغ المبدإ الذي هو مصدر الجواهر الأبدية: إنه متميز عن الله لأنه المادة التي يمكن لله فعلا أن يعرف بها مخلوقاته. ولذلك فهو لا يتوقف عليه بشكل مطلق، بل يفرض نفسه بالضرورة على الله. وهنا نجد الضرورة الغامضة التي تربط الله بالممكن، والمثل الأعلى بالفكرة. ويبدو أن شيلينج يحاول أن يجعلها واضحة من خلال استدعاء قانون، قانون وحدة الوجود والفكر، قانون الحر والممكن. بموجب هذا القانون، لا يمكن لله ألا يكون الجوهر الشامل، ولا يمكنه ألا يفكر، ويلج إلى الفكر، ويحضر في كل الإمكانات، أي يعرفها. ولكن أين ينشأ قانون هذه الضرورة؟ ويبقى السؤال مطروحا. لا تشير ملاحظات شيلينج إلى مصدر يمكن تحديده بوضوح، على الأقل بشكل صريح. ومع ذلك، يمكننا أن نحاول، بجهد أخير، البحث عن مصدره.

يبذل شيلينج نفسه جهدا أخيرا عندما يحدد كيفية يتحقق هذا القانون من نفسه: لله ييهب الكون نفسه إلى الأبد، أي أنه ينضاف إلبه بكل ضرورة، دون أن يقرر الله ذلك، دون أن يكون حرا في اتخاذ القرار. صيغ شيلينج هي تلك التي يستخدمها في مكان آخر للإشارة إلى واقعة أن يقدم نفسه لله إلى الأبد الإمكان الأصلي للأشياء (Urmöglichkeit)، بعبارة أخرى مصدر الإمكانات، الجواهر الأبدية: من اختصاص الله وحده أن يكون الكوني، "في حد ذاته" يجب أن يكون كذلك، ولكن على وجه التحديد لأن الله هو هذا الآخر دون أن يكونه لأجل لاشيء، بطريقة غير مطلوبة، وبالتالي في ما يتعلق بذاته بطريقة عرضية (zufällig)، يتعلق الأمر بشيء يطرأ له"، أي شيء غير متأصل في جوهر الله .

تبرز هذه الصيغ حقيقة أن ربط الفكر بالوجود ضروري بكل تأكيد، لكنه ليس ضروريا بمعنى أنه قد يكون مدرجا في الله ذاته كنوع من اللزوم؛ لأنه لو كان الحال كذلك، لما كان الله خارج نطاق الكوني أو الحر بإطلاق، يفترض في ذاته ما يأتي لينضاف إليها.

كذلك الكوني يأتي إلى المتفرد (أو الفكر إلى الوجود)، ليس كمحموله الأساسي على وجه التحديد، ولكن كعرض (symbébèkos). يجب أن يظهر عالم الإمكانات لله: وبهذه الطريقة "تترابط في ما بينها". ولكن إلى الله تؤول مصفوفة الإمكانات؛ ليست الذات الإلهية هي التي تجذب المحمول، بل المخنول هو الذي يطرأ أمام الذات الإلهية. الإمكان الأصلي للأشياء يحضر أمام الله فجأة من خلال الانضمام إليه تعالى من تلقاء ذاته.

هذه الواقعة تفترض أن الإمكان الأصلي للأشياء علة ذاته، وأن لا شيء يمكن أن يأتي منه يسبقه، وأنه بالتالي لا يختلف عن انبثاقه، وأن الضرورة تقف إلى جانبه تماما. كذلك من المشكوك فيه تنفيذه قانونا قد يوضع في استقلال عنه أو عن حدثه.

تعتقد ألكسندرا أن قانون الحقيقة ليس في عقل شيلينج سوى صياغة لحدث مماثل، حدث يجد نفسه التفرد الإلهي من خلاله في اتصال مع الكوني، أو الله مع العقل، أو الوجود مع الفكر، أو الواحد مع كل الإمكانات.

الحقيقة إذن هي هذا الحدث نفسه الذي يجب أن تكون الحرية موضوعا له، أي شيئًا يجب طلبه، خلقه. هذا هو الدين (بتسكين الياء دائما) الذي أراد شيلينج التأمل فيه، وحتى يترك الحرية الإلهية سليمة، وضعنا وجها لوجه مع هذه الأطروحة المربكة، لكنها لا يمكن أن تكون أكثر عمقًا: المتفرد يلتزم بدينه إلى الأبد بقدر ما يلتزم بالعقلانية، بقدر ما تسير الأخيرة أمامه، وتفرض نفسها عليه في ما بعد. عرض مثير للانتباه كون العقل نفسه، عالم الحقائق، عالم الإمكانات: عرض ضروري كما ينص قانون الحقيقة، العرض الذي ينبه الحرية الإلهية إلى قوتها الخاصة وإلى هذا القانون الآخر الذي هو قانون العدالة.

في المحطة الثالثة من هذه الجولة/المغامرة، اخترت أن أقدم للقارئ الكريم هذه المقالة التي نشرت على النت في شهر شتنبر 2009 غير موقعة باسم كاتبها.

في مقدمة هذه المقالة، نقرأ أن أفلاطون قال مرارا إن الفلسفة هي البحث عن الحقيقة. وأضأف أنها ذهاب المرء إلى الحقيقة بكل روحه، مدفوعا بقوة الحب. ولأن الحب يعني الرغبة، ولأن الرغبة تعني الافتقار، فيمكن قراءة تاريخ الفلسفة باعتباره تاريخ الفكر الحر الساعي إلى الحقيقة. لم يعد لدى العاشق الريان ما يرغب فيه. فهل يتوقف بعد ذلك عن الحب؟ هل الاعتراف بالحقيقة يعني التنازل عن حرية الفكر؟ إن تحول النفس الذي تتجه به نحو الحقيقة موصوف بشكل خاص في بداية الكتاب السابع من الجمهورية . تُظهر لنا استعارة الكهف أولاً سجناء مقيدين بالسلاسل منذ الطفولة بطريقة لم يتمكنوا من رؤية أو سماع أي شيء سوى الظلال والأصداء. القيود هنا هي صورة الحالة الإنسانية: فالنفس، عند عودتها إلى الوجود الأرضي، مقيدة بجسد يجب أن تخضع لأوامره واضطراباته بشكل سلبي إلى حد ما. بعد أن شربت مياه نهر ليثي (Lèthè) قبل وجودها الجديد، عادت إلى الأرض بعد أن نسيت ما كانت تعرفه. اسم هذا النهر "ليثي" يشير إلى الحجاب الذي يخفي النسيان. السجناء في الكهف هم إذن تلك النفوس الفاقدة للذاكرة التي ظلت مقبمة في عالم مظلم: العالم الحسي، عالم الأجساد، هو سجنهم، وبالتالي فهم في وضع يسمح لهم بالاعتقاد بأنه وحده هو الواقع الوحيد. عالم الأوهام والمعتقدات الخاطئة والآراء الباطلة، عالم تسود فيه الدوكسا ويُقتل فيه أي شخص يرغب في تحريرهم. ولنتخيل الآن أن أحد هؤلاء السجناء قد تم إبعاده عنوة، وإجباره بعد رفعه إلى الخارج على النظر إلى ضوء الشمس، "ألا تظن أنه سيعاني ويثور؟" "، أنه سيحتاج إلى النزول إلى الكهف قبل أن يوافق على تعويد بصره على سطوع الضوء، أي أن يتعلم التعرف على الحقيقة؟

1. إن التعرف على الحقيقة هو تحرير نفسك

يقول مينون في محاورة تحمل اسمه كعنوان إن الاعتراف بالحقيقة لا يعفي "من الألم ووقت البحث". لن تتذكر النفس إلا بشرط أن تعي جهلها، أو ترغب في المعرفة، أو تحب البحث، أو تطرح الأسئلة بشكل جيد، أو على الأقل تستمع إلى سقراط الذي يطرحها.

يعتبر منهجه (المايوتيك، أو إلينخوس أو الجدل السقراطي، أو فن توليد الأفكار) فعالا بشكل خاص في نوع من التجربة الفلسفية التي ينظمها مع عبد صغير. سخصية رمزية؟ يشترك العبد والسجين في أنهما ليسا حرين، أي أنهما في حالة حرمان. يمكننا أن نفترض أن هذه الحرية التي يفتقران إليها هي حرية الفكر. لكن السجين يظن أنه يعرف، ولهذا يجب استخدام القوة لانتزاعه من أوهامه، بينما يعترف العبد بجهله. عندما يطلب منه سقراط مضاعفة مساحة سطح المربع، يبدأ العبد بإعطاء حل “ساذج” ويقع في الخطإ. ثم ما يلبث أن يقع في حالة من السبات، وهي حالة شائعة بين أولئك الذين استجوبهم سقراط والتي ربما تكون متناظرة مع حالة النسيان التي تسببها مياه نهر ليثي. يجب الآن البحث داخل نفسه عما سيكشف عنه [بالمعنى الحرفي لكلمة "الحقيقة" باليونانية أليثيا (alethêa)]، وأن يكون لديه معرفة بها لا تتوافق مع أي معرفة مكتسبة.

قال سقراط لمينون: "تفحص في ما سيكتشفه أيضا، انطلاقا من هذا الذهول، وهو يتباحث معي، دون أن أفعل أي شيء آخر غير استجوابه، وعدم تعليمه". يجد العبد الحل… “ومع ذلك فهو لم يكن يعرفه قبل قليل… ففي من لا يعرف، دون أن يعرف عنها شيئا، هناك آراء صحيحة عن هذه الأشياء التي لا يعرفها». عبد مينون لم يجد في نفسه حلاً جاهزاً للمشكلة؛ اكتشف قدرته على التفكير في واقع واضح انطلاقا من الشكل المرسوم على الرمال. يوجد اعتراف بالحقيقة (التذكر) عندما تستعيد النفس قدرتها على التفكير وتحررها (تجعلها نشطة بالمعنى السبينوزي). اعتراف شخص بالحقيقة يعني تأكيد حريته في التفكبر. بإمكان كل النفوس القيام بذلك، لكنها لا ترغب كلها فيه. لأن التجربة السقراطية ليست تجربة حرية خلاقة، بل هي تجربة فكر يجد استقلاله المنطقي ( اللوغوس، الفكر الحاضر في اللغة، موجودان بالفعل قبل أن أتكلم: تولد المايوتيك كلمات الأفكار الموجودة قبلا).

حرية الفكر هذه قريبة تمامًا مما يسميه ديكارت الإرادة الحرة، حرية الحكم التي تقود العبد إلى العثور على الحقيقة لأنه قادر على ذلك شريطة أن يوضع على الطريق، التي ستقوده نحو اكتشافات أخرى بعد أن تذوق الٱن متعة هذا البحث. "ذلك لأن هناك دائما، في نشوة الفهم، متعة الشعور بكوننا مسؤولين تجاه الحقائق التي نكتشفها. أيا كان المعلم، تأتي لحظة يكون فيها الطالب وحيدا تماما عندما يواجه المشكلة الرياضية: إذا لم يحدد عقله لفهم العلاقات، وإذا لم ينتج التخمينات من تلقاء نفسه، ولم يقم بإضاءة حاسمة، تبقى الكلمات علامات ميتة، كل شيء محفوظ عن ظهر قلب". (جان بول سارتر، مواقف1). إن الحرية الفكرية تحتاج إلى استيعاب القواعد اللازمة للوصول إلى الصائب من الحلول، ولكنها حرية حية، قادرة بالتالي على الشعور بالمتعة اعتمادا على جهودها الذاتية.

إذا كان في فكرة الاعتراف بالحقيقة وجود المفرد، فذلك لأنه "لا يوجد سوى حقيقة واحدة في كل شيء، فمن وجدها يعرف قدر ما يمكن أن نعرفه، وعلى سبيل المثال يمكن لطفل تعلم الحساب، بعد قيامه بعملية جمع وفق قواعده، أن يجد نفسه مطمئنا لعثوره على كل ما يعرف العقل البشري أن يجده" ( خطاب في المنهج 1). إن الاعتراف بالحقيقة هو ممارسة الفرد لحرية الفكر، أي توجيه أفكاره بقوة على الطريق (المعنى الأساسي لـ "المنهج") نحو الحقيقة. وبما أن الحقيقة واحدة وأفكارنا في استطاعتنا، فإن حرية الفكر مضمونة بطريقة أو بأخرى بوجود الحقيقة نفسها. إذا كنت أعرف "بوضوح دائما ما هو صحيح وما هو خيت، فلن أواجه صعوبة أبدا في التفكير في الحكم والاختيار الذي يجب علي اتخاذه: وبالتالي سأكون حرًا تماما، دون أن أكون غير مبالٍ على الإطلاق" ( تأملات ميتافيزيقية IV ). إن الاعتراف بالحقيقة يعني تجربة وإثبات حرية التفكير للفرد.

2 . هل يمكن للحرية أن تتخلى عن نفسها؟

لكن السؤال المطروح أيضًا هو احتمال التخلي عن حرية التفكير. ما المعنى الذي يمكن أن يكون لهذه الفرضية؟ إذا أخذنا كلمة "التخلي" بالمعنى الدقيق للكلمة، اختيار قول لا، فسيصبح من الواضح بسرعة أن السؤال أكثر من مجرد مفارقة: سخيف. لأنه يفترض نوعا من الانتحار لحرية التفكير وهو ما قد يبدو غير محتمل. في سياق آخر، بالتأكيد، ولكن بنفس المعنى، يلاحظ روسو أن "التخلي عن الحرية يعني التخلي عن صفة الإنسان". إن تلك الحرية، باعتبارها القدرة على الاختيار والقرار بوعي، بوضوح وبطواعية، يمكن أن تختار اختفاءها بنفسها، تبدو بالتالي غير محتملة، بل ولا يمكن تصورها.

ومع ذلك، يوضح إتيان دو لا بويتي أنه في المجال السياسي، ولكن أيضا على نطاق أوسع، خلال وجودنا، يمكن أن تكون العبودية طوعية: "الحرية لوحدها، شيء لا يرغب فيه الناس" و"الناس المستعبدون يفقدون، فصلا عن الشجاعة الحربية، حيويتهم في كل الأشياء الأخرى، وتكون قلوبهم ضعيفة ورخوة، غير قادرة على كل الأشياء العظيمة". كانط في كتيبه بعنوان "ماذا يعني التوجه في التفكير؟" يستحضر أيضا ما يمكن أن يجعلنا نتخلى عن حريتنا في التفكير: الكسل، الإهمال، الجبن، وحتى التواطؤ في مواجهة السلطة. إن الدوغمائيات تتغذى على موافقة جمهورها؛ فهي لا تحتاج دائما إلى اللجوء إلى العنف لفرض نفسها، بل تحتاج فقط إلى أن تعجب الٱخرين. تجد الرقابة حججا في ضرورة ضمان النظام والأمن، تضمن لها الدعم بين الأشخاص الذين تؤثر عليهم. لكن هذا ليس كل شيء. "إن حرية الفكر يعارضها في المقام الأول الإكراه المدني. صحيح أنه يقال إن حرية الكلام أو الكتابة يمكن أن تسلبها منا قوة عليا، ولكن ليس حرية التفكير". وهنا أيضا الوهم الذي من خلاله يدعم ضحاياها (الدوغمائيات) الرقابة: من خلال الاعتقاد بأن حرية الفكر تظل بعيدة المنال بشكل نهائي، فإنهم يقبلون عن طيب خاطر حرمانهم من كل حرية الاتصال. لا أحد يستطيع أن يمنعني من التفكير في ما أريد! في بالفعل: لا يمكن لأحد أن يحرمني من أفكاري – إلا بقتلي، وهو أمر غير مستبعد. "لكن،" يتابع كانط، "هل كنا سنفكر كثيرا ونفكر جيدا إذا لم نفكر، إذا جاز التعبير، بشكل مشترك مع الآخرين، الذين يشاركوننا أفكارهم والذين ننقل إليهم أفكارنا؟" الفكر هو ملكة، لكن التفكير هو استخدامنا لهذه الملكة. ومع ذلك، في هذا الاستخدام تقع حرية التفكير، وهذا الاستخدام، لكي يكون حقيقيا ومثمرا، يحتاج إلى معلومات، إلى تبادلات، إلى مناقشات وحتى إلى مواجهات. لكي "نفكر كثيرا"، نحتاج إلى التفكير بشكل مشترك مع الآخرين. والشرط نفسه ضروري لنكون قادرين على "التفكير جيدا"، أي التفكير بشكل صحيح.

إن الوصول إلى الحقيقة لا يعني التخلي عن حرية التفكير: بل على العكس من ذلك، الوصول إلى الحقيقة ممكن فقط للفكر الحر في نشاطه. وهو ما يفترض حرية حقيقية في التواصل لأن أحد المعايير التي تسمح لنا بالاعتراف بالحقيقة في نهاية النقاش هو اتفاق العقول على نتيجة: بما أن العقل البشري كوني ومنسجم مع ذاته لدى الجميع، فإن الإجماع يكون (يجب أن يكون؟) ممكنًا. من الضروري كذلك أن يحرص الجميع على عدم إخضاع عقولهم "لأي قانون آخر غير ذلك الذي يعطي نفسه لنفسه" وإلا، يضيف كانط، "تضيع حرية الفكر بسبب عدم الانتباه بالمعنى الحرفي لهذه العبارة". وبالتالي فإن التخلي عن حرية التفكير ليس أمرا مستبعدا كما بدا لنا سابقا، لكنه على ما يبدو ليس فعلا إراديا بقدر ما هو نوع من لامبالاة مقترنة بضعف الشخصية(لا بويتي) ممزوجة بازدراء الذات، أو حتى بجبن كسول ( كانط). فالسبب في ذلك إذن ليس معرفة الحقيقة، بل على العكس من ذلك، اللامبالاة التامة تجاهها، المصحوبة ربما بكراهية العقل؟

3. محبة الحقيقة، عم يكون التخلي؟

هل يمكن بالأحرى أن تكون كراهية الحياة هي السبب وراء هذا التخلي؟ حتى الآن، اعتبرنا الحقيقة والمعرفة المرتبطة بها ضمنيًا قيمتين إيجابيتين و"حيويتين" بشكل بارز، مشتركتين بين جميع الفلاسفة، إن لم يكن بين سائر البشر. لكن صوتا ارتفع: “ما الذي فينا يريد الحقيقة؟ […] تساءلنا عن قيمة هذه الإرادة. مع الاعتراف بأننا نريد الحقيقة، لماذا لا نرغب بالأحرى في اللاحقيقة؟ أو اللايقين؟ […] يبدو لنا أن المشكلة لم تُطرح قط حتى الآن، وأننا أول من عاينها، فكر فيها، تجرأ عليها […]”، هكذا ينفتح "ما وراء الخير والشر" حيث يريد نيتشه وضع حد لفلسفة القيم القديمة، تحطيم أفكار ومثل ما بعد سقراط بالمطرقة. يجب علينا عكس "النظرة" التقديرية التي كانت لدينا عنهم، وإجراء تحويل للقيم (الفضيلة، الخير، الجميل، العدل، الحقيقة، إلخ)، لأن واجبنا تجاه أنفسنا هو "التغيير المستمر بالنور والنار لكل ما نحن عليه" ( العلم المرح).

لكن لماذا الحقيقة خطيرة على الحياة؟ وبأي حياة يتعلق الأمر؟ بالحياة العنيفة لكل ما يؤكد نفسه، حياة اللعب والرقص الديونيسي، هذه الحياة التي يجب أن نحبها مع مخاطر فقدانها بينما نكتسب متعة إضافية، أي الحياة: "سر أعظم متعة في الوجود يكمن في العيش بشكل خطير”. يجب أن نحب الحياة، نؤمن بأن الحياة فوق كل اعتراض، فوق كل شك، بأنها تقول نعم بكل براءة. في حين أن الحقيقة السقراطية "عدمية"، أن الروح الحارسة (daïmôn) لسقراط لا يمكنها إلا أن تقول لا، أن المثل الأفلاطوني للمعرفة الكاملة بالحقيقة تفترض مسبقا هذا "التحرر" للروح الذي يشكل موت الجسد، ومن ثم تصبح الفلسفة بأكملها نفيا لهذا العالم حيث نحن نؤيد المبالغة في تقدير العوالم الميتافيزيقية. "هل ترغب في ذلك مرة أخرى ومرات لا تحصى؟ هل ترغب في الحياة، هذه الحياة، كما تعيشها الآن، إذا كان عليك أن تعيشها مرة أخرى ولمرات لا تعد ولا تحصى؟" تتيح لنا مطرقة العود الأبدي اختبار دقة رغباتنا بجعلها ترن كقطعة معدنية. لم تعد الحقيقة في عالم الأفكار، بل في الوجود حيث هي "خفيفة ووثابة"، محتفى بها في معرفة جديدة في خدمة الحياة ومتحررة من أي "روح كهنوتية" وكذلك من أي "مثل نسكي". العلم المرح" معرفة إبداعية ومدمرة للأصنام القديمة، حتمية وبدون ضرورة، مرحة ومأساوية، معرفة جمالية، مسكونة بالكامل بهذه الحقيقة الوحيدة: الحياة ليس لها معنى. عرفت التراجيديا اليونانية كيف تعطي هذه الحقيقة شكلاً شعرياً قادراً على جعلها محتملة لنا. ما الفن الذي سيظل قادرا على القيام بذلك؟

خاتمة

أكد بول فاليري على أن هناك في "المعرفة" "ولادة"، وأن هناك في كل معرفة ولادة جديدة، من الذات إلى الذات كما من الذات إلى الحقيقة. ويقال أيضا عن الولادة إنها خلاص. استعارة المايوتيك تؤيد هذا التفسير. ومهما كان المحتوى الذي نعطيه لهذه فكرة الحقيقة، سواء كانت ما قبل سقراطية (التراجيديا اليونانية)، أو سقراطية أو معادية لسقراط (نيتشه)، فإن معرفة الحقيقة هي إما تحرير للفكر، أو مظهر لحرية الفكر كقوة للعقل، أو تعبير عن التأكيد الحر للحياة كقوة بلإرادة. ليس من عواقب الاعتراف بالحقيقة التنازل عن حرية التفكير.

(يتبع)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المرجع: https://www.assistancescolaire.com/eleve/ TSTMG/philosophie/travailler-sur- des-sujets-du-bac/reconnaitre-la- verite-est-ce-renoncer-a -sa-liberte-de-penser-sept- 2009-tt_phi_rde70# pageanswer

المرجع:  https://www.cairn.info/revue-philosophique -2014-2-page-175.htm

تمهيد

ماكسيم رودنسون (1915-2004)، مؤرخ وعالم اجتماع ماركسي، متخصص في الإسلام والحضارات العربية. كان والداه شيوعيين يهوديين روسيين بولنديين فرا من المذابح في روسيا ليستقرا في باريس، وتوفي والده في أوشفيتز حيث تم ترحيله عام 1943. درس رودنسون اللغات الشرقية وأصبح أستاذا للغة الإثيوبية الكلاسيكية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا عام 1955، وكان قد دافع في عام 1950 عن أطروحته في التاريخ وأصبح دكتورا. وأصبح من أعظم المستشرقين المعاصرين، إذ كرّس حياته لدراسة الإسلام والحضارات العربية. لكنه اشتهر كمؤرخ الأديان، كان يتحدث العربية والعبرية والتركية. اشتغل عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي من عام 1937 إلى عام 1958. لكنه ترك الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1958 لأنه رفض مضامين العضوية الحزبية التي اعتبرها شكلا من أشكال الالتزام الديني. اشتهر بكتابه سيرة محمد (1961م)، وهو دراسة مادية لظروف ظهور الإسلام، بالإضافة إلى سلسلة من الكتب التي ألفها طوال حياته حول العلاقات بين المذاهب الناتجة عن فكر محمد والاقتصاد الاجتماعي وأحوال المجتمعات الإسلامية. وبقي ماركسيا ولكنه ذاع صيته بين الخمسينيات والتسعينيات، كأحد أشهر المستعربين في فرنسا. يتمتع بثقافة موسوعية رائعة، حيث ألف آلاف التقارير، وكان أيضًا شخصية مؤثرة في اليسار الفكري، حيث طلبت منه وسائل الإعلام بانتظام التعليق على الأحداث الجارية في البلدان الإسلامية. يُعرف رودنسون أيضًا بمواقفه بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث عمل منذ عام 1967 في المفاوضات بين اليهود والفلسطينيين، منتقدًا السياسة الإسرائيلية المتمثلة في الاستعمار وإذلال الفلسطينيين. لكنه رفض بشكل تام اعتماد الفلسطينيين والعرب الكفاح المسلح من أجل التحرير من الاستيطان الصهيوني على غرار ما فعلته جبهة التحرير الجزائرية مع الاستعمار الفرنسي.  لكنه خلص الى النتيجة التالية:" "الصهيونية هي حالة خاصة جدًا من القومية. إذا تم نزع سلاح النقد من النوع القومي البحت أمامه، فمن ناحية أخرى، يكون النقد الكوني أكثر رسوخًا من الناحية الفكرية." فكيف ساهم هذا المستشرق في نقد العقل اليهودي وقدم الورقات اليسارية الأولى في تفكيك المشروع الصهيوني؟

الترجمة

"ظهرت كلمة "الصهيونية" في نهاية القرن التاسع عشر للإشارة إلى مجموعة من الحركات المختلفة التي كان عنصرها المشترك هو مشروع إعطاء جميع يهود العالم مركزًا روحيًا أو إقليميًا أو دولة، يقع بشكل عام في فلسطين. لقد ضمن نجاح الصهيونية السياسية والموجهة نحو الدولة الأولوية وحتى التفرد بهذا المعنى للكلمة. وبمجرد تحقيق هدفها، وجدت الحركة الأيديولوجية من النوع السياسي نفسها في مواجهة مشاكل جديدة تتطلب تعريفا جديدا. وكثيرًا ما استخدم الأيديولوجيون المناهضون للصهيونية مصطلح "الصهيونية" بطريقة متساهلة. يرى البعض أن الصهيونية تنبع من رسالة قومية دائمة لليهود، وبالتالي فهي مشروعة ومفيدة. وبالنسبة للآخرين، فهو يمثل خيانة أساسية للقيم العالمية، سواء تلك الخاصة بالدين اليهودي، أو الإنسانية الليبرالية، أو الأممية البروليتارية. وبالنسبة للآخرين، وأحيانًا لنفس الأشخاص، فإن هذا قبل كل شيء هو انبثاق شرير إما للجوهر الضار لليهود أو للرأسمالية الإمبريالية. وسوف ندرس هنا بشكل أساسي الأيديولوجيات التي تهدف إلى إعادة تجميع اليهود، أولاً في الإطار العام للاتجاهات نحو إعادة التجميع أو إنشاء مركز دولة للأقليات المشتتة و"المدنيّة"، ثم فيما يتعلق بالمفاهيم اليهودية المختلفة التي، على مر العصور، التاريخ، يفضل فلسطين كموقع لمثل هذا المركز. سيتم تفسير تحديث الأول فيما يتعلق باليهود كنتيجة للإمكانيات التي فتحت أمام مشروع واقعي من هذا النوع بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية في نهاية القرن التاسع عشر، وهو مشروع ساعده أيضًا واقع الوضع اليهودي في أوروبا. وسنتناول بإيجاز نتائج تحقيق هذا المشروع في فلسطين العربية، أولاً بالنسبة للعرب، وخاصة الفلسطينيين، ثم بالنسبة للكيان اليهودي والتوجه الصهيوني نفسه. عندها فقط يمكننا تحديد عناصر التقدير والنقد الأخلاقي.