"الخداع لا يتعارض أبدًا مع العقل، لأن الأمور كان من الممكن أن تحدث بالفعل كما يدعي الكاذب." حنة أرندت، الكذب في السياسة
لم تعد فلسفة الارتياب تهتم بقضايا مصادر الحقيقة وأصل الوجود والمعرفة المطلقة وأسس القانون فحسب وانما صارت تهتم بما يضادها وذلك بغية التخلص من الأكاذيب الاغتراب والأوهام والتخلي عن الأحكام المسبقة الأخلاقوية والتحيزات الاجتماعية الثقافية. لقد أضحت اللغة باراديغم الخطاب الفلسفي في الحقبة المعاصرة واحتل إنتاج المعنى قلب الاهتمامات التشكيلية سواء أكانت ادبية أو فنية واعيد تقويم عملية إصدار أحكام القيمة ذاتها. لقد جعلت فلسفة الظنة منذ سبينوزا ونيتشه وأرندت وريكور من الخطاب الكاذب إشكالا فلسفيا وقضية شائكة وحاولت تشخيص المرض والوقوف عند رأس الأمر والتحري في الموضوع المخادع وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ودفع ما يريبها الى ما لا يريبها والتشكك في قدرة الذات العارفة على قول الصدق. اذ رأى نيتشه في مقدمة نظرية للحقيقة والكذب بالمعنى الخارج عن الأخلاق؛ أن " الكذاب يستخدم تسميات وكلمات صحيحة، ليجعل غير الواقعي يبدو حقيقيًا: فهو يقول، على سبيل المثال، "أنا غني"، في حين أن "فقير" بالنسبة لدولته هو التسمية الصحيحة. إنه يسيء استخدام التقاليد الصارمة عن طريق "الاستبدال الطوعي أو قلب الأسماء. إذا فعل ذلك بطريقة مهتمة وفوق كل شيء ضارة، فإن المجتمع لن يثق به وبالتالي يستبعده. البشر لا يهربون من حقيقة خداعهم بقدر ما يهربون من حقيقة تعرضهم للضرر من خلال الخداع: في الأساس، على هذا المستوى، لا يكرهون الوهم، بل يكرهون العواقب المؤسفة والعدائية لأنواع معينة من الوهم، شعور مقيد للغاية لدرجة أن الإنسان يريد الحقيقة فقط: إنه يطمع في العواقب السارة للحقيقة، تلك التي تحافظ على الحياة؛ تجاه المعرفة النقية وغير المهمة، فهو غير مبالٍ، تجاه الحقائق الضارة والمدمرة، بل إنه يميل بشكل عدائي"1. وأضاف في نفس السياق الجنيالوجي الباحث عن أصل وفصل الخطاب الكاذب في نفس المرجع ما يلي: " "يستخدم الكذاب تسميات وكلمات صحيحة، ليجعل ما هو غير واقعي يبدو حقيقيًا؛ فيقول على سبيل المثال: "أنا غني" عندما تكون كلمة "فقير" هي التسمية الصحيحة لحالته. إنه يسيء التعامل مع الأعراف التي أنشأتها البدائل التعسفية وحتى الانقلابات "الأسماء. إذا فعل ذلك من منطلق المصلحة الذاتية وبطريقة ضارة، فإن المجتمع سوف يسحب ثقته ويستبعده في نفس الوقت. وهنا لا يخشى البشر حقيقة التعرض للخداع بقدر ما يخافون من حقيقة تعرضهم للأذى". بهذا الخداع: على هذا المستوى أيضًا، لا يكرهون الوهم بشكل أساسي، بل يكرهون العواقب المؤلمة والضارة لأنواع معينة من الأوهام، وينطبق تقييد مماثل على الشخص الذي يريد الحقيقة فقط: إنه يرغب في العواقب السارة للحقيقة. تلك التي تحافظ على الحياة، لكنه يظل غير مبال بالمعرفة النقية وغير الفعالة، بل ويشعر بالعداء تجاه الحقائق التي قد تكون ضارة ومدمرة."2 فهل الحاجة الى الاجتماع هي التي تجعل الناس يكذبون على بعضهم البعض ولو مزاحا ؟ وما الجدوى من التمسك بغريزة ارادة المعرفة إذا كانت تتعارض من حيث الوظيفة مع غريزة إرادة الحياة؟

إن للمقولات التي صاغتها العقول العالمة نهاية حتمية حسبما يتموقع مُدركها، مهما كانت جدة تكوينها ومغزى محتواها، وهذا التموقع يجعل من الحكمة التي صاغتها العقول التي نُطلق عليها أمية؛ تصبح نافذة في الوجدان أكثر، ومن شأنها أن تفيد في طلب الانتقال من وضع إلى وضع آخر أحسن منه، لأننا بشكل أو بأخر لسنا عقولا عاملة بالمعنى الدقيق، فإن هذا الوصف يليق بنفر معدود من الذين تجسدت فيهم حكمة العوام كما يقال، قبل أن يشيدوا صياغتهم العالمة لها، وإن كانت هذه الصياغة أحيانا تُفقد الحكمة أشد ما فيها من تأثير ونفاذ.
كما ندرك جيدا الشدة التي تمسك بنا حينما نتصور أمرا ذا بال، وفي الوقت نفس لا ندرك الغوائل التي تلوح من هنا وهناك، ولو كنا قعدنا أمام صورنا الذاتية وقتا من الزمن، للاح لنا لَـمعان قادم من بعيد، يضئ ما أخفته براثين الوجود، ولكنه في طريقه لا يأتي على نحو متفرد خالي من الأخلاط الضاربة في الرؤى الممسكة لأعناق الموجودات.
ولم يكن من الهين أبداً أن يطلب المرء من الوجود غايات أحرى بأن تُمسك في غرف الكنوز وألا تُبدى إطلاقا مهما كانت الحال، فهو وإن كان على وعي مؤكد بأن الأمر لا يقتضي ذلك الانبعاث الثاني الذي يُلتمس عادة بعد الانتقال من نحو إلى نحو، بالرغم من صعوبة ذلك الانتقال، ووعروة الألفة، وبقاء شيء في النفس من المعتاد الذي انتقل من المخفي إلى الواضح، ولا يخفى أن الوضوح أقرب خصال الفكر الذي يتغلغل دون قيد الإدراك ودون رقيب الروح.

ولو كانت أحوال الرجاء ونواحي الأفئدة فارغة من كل ما ينطوي ضمن البواعث الساكنة؛ لصار الوجود أخفى، غير أن الوضوح يأتي بشكل ما من الرغبة في الكشف على المخفيات الجادة، ومن الضروري أن تضيء الحقيقة مهما طال البحث عنها هذا المضمار الخفي، فالخفاء والوضوح، بالرغم من ذلك؛ نجد وجودنا فيه، هو من يحرضنا على طرح الإشكالات، وهو أيضا من يجعل في ذواتنا حركة غريبة تجعلنا نمتطي أي حصان لكي نكتشف ونتوصل بما نظن أنه غير ممكن، إن الخفاء يزرع فينا عجائب قدرة العلة الأولى بتعبيرهم.
وإنه ليحلو عادة أن تقف الذات في ركن قصي، كأنها تُنتزع من أدران الوجود، بحيث تطرد منها الخيالات المتركبة من مساكنة الموجودات، قاصدة الاستشفاء بالقيم التي تستطيع الحياة القيام بها، والحق أنها تطوف بين أبواب منازل الثقافات وحجور صُناعها، لا شيء تنتهي إليه من العلم بجدّة الوجود في العطاء والإخبار، وأنه لا يمكن بحال أن يجود بشيء دون سحق أو قل عصر القوى الموجودة بين النفوس باختلاف أنواعها، وهذا المعطى، لا يغدو غريبا إذا قررنا أن نضيف إليه بعض الممكنات الذاتية التي نستطيع اكتسابها من ذاك السحق الذي يعتري تلك القوى؛ إذ إننا عندما نتذوق بعض ما تجود به، نجد في وعيا طائفا لطيفا صادقا، يخبرنا بأن هذا الإنتاج، لم يأتي هكذا بغتة، إنما الأمر، بلا شك، قد تطّلب، إشراك كل الإحساسات المعروفة بالكلية، ساعة النفاذ إلى المراشد، إذ ذاك، نتحسس عظم الموجودات العاقلة، ونتصاغر أمامها رغما منا.

"هل يتسارع التاريخ؟ " هذا سؤال لا يسعى كتاب "تسارع التاريخ" لجان كريستوف بوتون المولوج سنة 1960 إلى حله، بل إلى كشفه. بهذا المفهوم، يستهدف أستاذ الفلسفة الفرنسي فكرة شائعة جدًا في الفهم المعاصر للتاريخية: الأخيرة، من خلال دخولها الحداثة، كانت ستعدل بشكل جذري علاقتها بالسرعة. وعلى المستوى الفني والجغرافي السياسي والاقتصادي والمناخي أيضاً، لكان مجرى الأحداث قد أصبح قاطرة مجنونة تنطلق بلا سائق. إن الطبيعة الشمولية لهذه الظاهرة ستسمح لنا بإدراك سمة تأسيسية للحداثة: لن يقتصر الأمر على زيادة وتيرة التغييرات باستمرار وحتى زيادة معدل هذه الزيادة، ولكنها ستتبنى إيقاعًا من شأنه أن يمنعها من تشكيل تاريخي. شاء. من خلال خلافة بعضهم البعض في لحظة فورية، سيكونون محصورين في صيرورة نقية، إذا جاز التعبير، بلا ماضي أو مستقبل، بلا ذاكرة أو غاية، محاطين بشرارة الحاضر الأبدي. تم تنظيرها أو تعميمها من قبل عقول متباعدة مثل دانييل هاليفي، أو هارموت روزا، أو بيير نورا، أو بول فيريليو أو بيتر كونراد، وقد لاقت هذه الفكرة نجاحًا كبيرًا، وكانت في حد ذاتها محاطة ببعض الارتباك. حتى أن كريستوف بوتون يقترح أن هناك صلة بين الوجود الكلي لمفهوم التسارع وغموضه: «إن ملاحظة تسارع التاريخ موجودة في الواقع بين المؤرخين وكتاب المقالات والفلاسفة والسياسيين والصناعيين والكتاب والعلماء، وما إلى ذلك. الذين يستثمرون هذا المفهوم من وجهات نظر مختلفة، بمعاني واستراتيجيات متميزة. " يمكن للمرء أن يعتقد تقريبًا أن هذا المفهوم ينطوي على «فهم مسبق» كامل للتاريخية" وفقا لمارتن هيدجر. وبعبارة أخرى، فهو أمر بديهي. إن الحديث عن التسارع لن يأتي من التفسير، بل من الملاحظة: ولن يتم إصدار أي حكم قيمي وراء هذا التحليل. ومع ذلك، يوضح كريستوف بوتون، من مقدمة عمله، أن هذه الفكرة تثير عددًا معينًا من المشكلات. عندما نتحدث عن تسارع التاريخ، أي تاريخ نشير إليه؟ هل هو تاريخ أم قصة، تاريخ أم قصة؟ هل نشير، بمعنى آخر، إلى التاريخ باعتباره سلسلة زمنية للأحداث، أي التاريخ المعاش، أو إلى التاريخ باعتباره معالجة للمعلومات، أو كقصة، أو حتى كنظام - باختصار، التاريخ يُدرَس ويُحكى ويُحفظ؟ ولا يمكن النظر في هذا البديل دون الرجوع إلى منبع المشكلة، إلى التناقض الذي تنطوي عليه عبارة "تسارع التاريخ". في الفيزياء، يشير التسارع إلى زيادة السرعة بمرور الوقت (إقلاع طائرة، صيد حيوان، سقوط حر لجسم)؛ فكيف يمكن للتاريخ نفسه، وهو الوجه العالمي للزمن، أن يتسارع؟ ألا نخلط في التعبير عن أنفسنا بهذه الطريقة بين المعيار والإطار المرجعي؟ ألسنا بهذه الطريقة نرتكب خطأ منطقيا؟ هل يمكننا تطبيق فئة مادية على التاريخ، وبالتالي على التخصصات الإنسانية، مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والجغرافيا السياسية؟ وأخيرا، سنلاحظ، وهذا هو الأمر الأساسي، ظهور "معيارية متأصلة في هذه التجربة": تجربة التسارع تفترض دائما تقييم الحداثة، مهما كانت القيم (التحرر/التراجع) التي تدعو إليها هذه الغاية. وبغض النظر عن البنية السردية التي يُقحم فيها هذا الشعور، فإنه بالضرورة يأخذ بعدا غائيا، يسمح للبعض بتأكيد أن التسارع يؤدي إلى نهاية التاريخ، والبعض الآخر بإدراك حافز التحرر، والبعض الآخر لتحديد المرحلة النهائية. مركزية الإنسان، وما إلى ذلك. الغرض من هذا العمل، كما كتب كريستوف بوتون، "ليس إضافة حجر آخر إلى هذا المبنى. بل إنها مسألة تفكيك لأطروحة تسارع التاريخ." التفكيك ينطوي على التساؤل عن شروط هذا المفهوم: شروط تطبيقه (تعدد استخداماته، المجالات المختلفة التي يشملها)، وشروط ظهوره (نسبه)، وآفاقه الفلسفية (مفاهيم التاريخ أو الحداثة التي يحملها). لأن مفهوم التسارع هو في حد ذاته موضوع تاريخي معقد، يتمحور حول ثلاثة محاور رئيسية، ينشرها المؤلف في فصله الأول.

مقدمة
في عمل طموح وعلمي وسهل المنال، يقارن فانسون سيتو فلسفات ثماني حضارات مختلفة لتحديد الثوابت الدورية، بين المرحلة الدينية والعصر العلمي. إن مسألة أصول الفكر الفلسفي هي إحدى المشكلات التي ميزت تاريخ الفلسفة. إن الإجابة الأكثر شهرة وشائعة لهذه المشكلة هي أيضًا السبب الرئيسي لواحدة من أصعب التحيزات التي يصعب القضاء عليها: لقد ولدت الفلسفة في اليونان وأصولها هيلينية بحتة. ومع ذلك، من هيغل إلى هوسرل، ليس هناك نقص في الفلاسفة اللامعين الذين تبنوا هذا النموذج. منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تمت إعادة ضبط النقاش نحو رؤية أقل مركزية على أوروبا، ويتجه أحيانًا نحو الطرف المعاكس، حيث يتم البحث عن التقارب والتشابه الخيالي أحيانًا بين الفلسفات التي تنتمي إلى عصور وعوالم مختلفة. أحد أسباب النموذج المتمركز على الهيلينية حول أصول الفلسفة يتعلق بالمعايير التي تحدد الفكر على أنه فلسفي. لقد ورثناهم منذ فترة طويلة من اليونانيين القدماء: منذ البداية، اهتم المفكرون اليونانيون بالعالم الحقيقي وسعوا إلى فهمه وشرحه من خلال الأدوات التي يوفرها العقل. وهكذا، كان يُنظر إلى التفكير الفلسفي دائمًا على أنه نوع من التفكير المفاهيمي، يعتمد على الاستدلال والمنطق؛ النصوص والأدب من نفس النوع. ومع ذلك، هناك أشكال أخرى من التفكير والكتابة، مما يعني إعادة تعريف ما يمكن اعتباره فكرًا فلسفيًا. من منظور أوسع، مثل ذلك الذي يقدمه عمل فنسنت سيتو، فإن إعادة التعريف هذه ممكنة. إذا كان العنوان قد يوحي بتسلسل زمني ممتد إلى حد ما لتاريخ الفلسفة على نطاق كوكبي، فإن العنوان الفرعي يحدد أيضًا الهدف الذي يحدده المؤلف لنفسه: يتم تقديم تاريخ الفلسفة هناك كتاريخ مقارن لدورات الفكر الفكري. الحياة في ثماني حضارات. يمثل هذا الكتاب خاتمة مسار بحثي طموح يطبق فيه سيتو منهجًا تم تنظيره بالفعل في مقالات سابقة (انظر هذه القائمة على موقع الفلسفة)، يهدف من خلاله إلى فهم العنصر العالمي لتاريخ الفلسفة من خلال إظهار ما جلبت الحضارة إلى الطاولة. والنتيجة هي رواية حضارية وفكرية ودورية ومقارنة في آن واحد.

مصطلح ما فوق اللغة هو مصطلح إخترعه فلاسفة وعلماء فلسفة اللغة واللسانيات. ما فوق اللغة هو باختصار شديد ان تتكلم عن اللغة العادية التداولية بكمالها النحوي بلغة اخرى ليست اعلى منها بالدرجة النوعية من حيث التراكيب والقواعد والنحو وحسب بل تعتبر اغنى من اللغة الام في اسبيقتها التراتيبية الفطرية النحوية وقواعد اللغة التداولية المتعارف عليها..كما ان اختلاف مافوق اللغة جوهريا عن اللغة العادية التداولية الأم انها فطرية غير مكتسبة. وهذه مسالة اشكالية ليست محسومة. المتعارف عليه أن كل ماهو فطري يكون موروثا جينيا بالوراثة فهل هذا المنطق العلمي ينطبق على فطرية اللغة؟ لا اعتقد ان هذه الاشكالية يمكننا اختصار حسم الاجابة عنها بنعم او لا فالقضية اصعب من ذلك.

قام الفيلسوف فردريك سكينر الامريكي 1904 - 1990  رائد (نظرية السلوك اللفظي) وعالم النفس والمخترع الميكانيكي متعدد الاهتمامات. شغل سكينر كرسي الفلسفة في جامعة هارفرد. باختراع نظريته في السلوك اللفظي في مرجعية اللغة الى علم النفس.

يعتبر الباحثون في علم اللغة واللسانيات سكينر صاحب الكتاب الفريد ( السلوك اللفظي) الذي حاول فيه جعل تعلم الطفل للغة سلوكا تجريبيا يقوم على ثنائية الاثارة والاستجابة حسب هذه الترتيبية اللفظة اللغوية الدالة + الاثارة + رد فعل الطفل + الاستجابة وتتم هذه العملية تحت مراقبة وتوجيه طرف ثالث يشمل الطفل المتعلم والمفردة اللغوية والقائم على تعليمها.. كما ويعتبر الباحثون سكينر ممهّد الطريق امام نعوم جومسكي في نظريته التوليدية اللغوية. رغم الاختلاف الجوهري الذي جرى بينهما لاحقا. ما فوق اللغة هي لغة تخارجية معرفية تجمع بينها وبين اللغة الام وما فوق اللغة لا يلغي اصل اللغة من حيث ثبات نحو وقواعد اللغة الام. بل تحاول ما فوق اللغة تعديل بعض قواعد اللغة الام بالاضافة عليها او حتى اختزال حروفها الابجدية.

 باعتباري من أصدقاء الفلسفة، بشهادة أحد أساتذتها الباحثين الجامعيين بالمغرب على الأقل، خطر على بالي الإقدام على مغامرة ترجمة هذه الدراسة الأكاديمية التي جاد بها جاك بوفريس (Jacques Bouveresse)‏؛ الفيلسوف الفرنسي المولود في 20 غشت 1940 بإبينوي، والذي تتعلق فلسفته بلودفيغ فتغنشتاين والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة وفلسفة العلوم والمنطق. منذ عام 1995، شغل كرسي فلسفة اللغة والمعرفة بالكوليج دو فرانس.

"لا ينبغي أن تكون هناك فلسفة. إنها زلقة من جميع الجوانب. مهنة خطيرة مثل بناء الأسقف." ألان

1. الفلسفة وماضيها
في مقدمة الكتاب الذي نشره عام 1978، بالتعاون مع مايكل آيرز وآدم ويستوبي، "الفلسفة وماضيها"، يبدأ جوناثان ري، بشكل مفهوم ومتوقع، بالإصرار على حقيقة أن الفلسفة تحافظ على علاقة مع تاريخها، علاقة هي من نوع محدد تماما ومختلف تماما عن تلك الذي ترتبط بها العلوم مع تاريخها:
"تاريخ الفلسفة ليس ملحقا اختياريا للفلسفة. إنه يحدد النظريات والخلافات الرئيسية للفلسفة. إنه يقدس المفكرين العظماء والنصوص الأساسية لهذا التخصص؛ ويحدد الاتجاهات والفترات الرئيسية لتطوره. وهو بهذه الطريقة يقدم تعريفا ضمنيا للفلسفة، مشيرا إلى أن كونك فيلسوفا يعني أن تكون خليفة لأفلاطون وأرسطو والبقية، وأن تداوم على الممارسات التي – منذ بداية تاريخ الفلسفة – خلفها هؤلاء الرجال العظماء كإرث. وبطبيعة الحال، لا تزال هناك خلافات حول طبيعة الفلسفة. مثلا، طرح الفلاسفة الغربيون المعاصرون تعريفات مختلفة متنافسة: الفلسفة هي التحليل المفاهيمي، أو البحث عن الافتراضات النهائية للأنساق الفكرية، أو نظرية الممارسات النظرية، أو الصراع الطبقي على مستوى النظرية [إشارة إلى مفهوم الفلسفة الذي دافع عنه ألتوسير]، وهكذا.. لكن هذه التعريفات لن تكون متنافسة إذا لم تهدف إلى أن تكون تعريفات لنفس الشيء، وتحديد "نفس الشيء" هذا يتأثر بتاريخ الفلسفة. وبالتالي فإن مقولاتها لا يتم تطبيقها بأثر رجعي (وربما بشكل خاطئ) على الماضي فقط. تُترجم صورتها عن الماضي إلى واقع الحاضر: فطبيعة الفلسفة الحديثة تتحدد جزئيا من خلال الافتراضات المسبقة غير المدروسة لتاريخ الفلسفة."
أحد الأشياء التي قد تبدو مثيرة للدهشة في هذا المقطع هي فكرة أن تاريخ الفلسفة نفسه قد يكون بصدد القيام بطريقة أو بأخرى بالتحديد، الذي يحلم به الجميع، للموضوع الدقيق الذي يفترض في المفاهيم المتعددة والمتباينة للغاية تمثيله كل منها بطريقته الخاصة، أو ربما التي تمثل كل منها جانبا مختلفا منه. للوهلة الأولى، في الواقع، ما يمكن أن نتوقعه من تاريخ الفلسفة حول هذه النقطة يبدو قبل كل شيء أنه ينتج عددا أكبر من الإجابات المختلفة على السؤال المطروح، وليس بالتأكيد كونه يقربنا من إجابة محددة من شأنها أن تفرض نفسها بشكل نهائي كما لو أنها الإجابة الصحيحة. من المحتمل أن يكون الخيال الفلسفي قادرا على إظهار نفسه، عندما يتعلق الأمر بالإجابة على هذا السؤال، على أنه مبتكر وغير متوقع كما هو الحال عندما يواجه أي سؤال فلسفي آخر. والفلاسفة الذين اهتموا بشكل صريح بهذا النوع من المشاكل غالبا ما بدأوا بملاحظة أن الخلافات بين الفلاسفة حول مسألة ماهية الفلسفة بالضبط كانت كبيرة وبدت غير قابلة للحل مثل تلك التي تظهر في شأن جميع الأسئلة الفلسفية المعتادة. إذا كنا مستعدين، رغم كل شيء، لقبول فكرة أن تاريخ الفلسفة يمكن أن ينجح في النهاية في تزويد الفلسفة بإجابة مقبولة عالميا عن سؤال واحد على الأقل، وهو سؤال هويتها، فإن الاعتراض الواضح هو أن ذلك يتضمن مفهوما عن تاريخ للفلسفة ليس فقط ضربا من تفاؤلية لا شيء يبررها، لكنه أيضا نوع موضع شك إلى أعلى درجة ومتنازع عليه بشدة بشكل عام.

بنوع من الفضول الفلسفي، المصحوب بدهشة الاكتشاف، قادني البحث عما قيل وكتب حول هذا الموضوع إلى هذه الدراسة الرائعة المنشورة على النت بقلم بينوا غوتييه. وبما أن الكتابة ثمرة للقراءة، كانت هذه الترجمة:
عندما نقارن حالة تخصص مثل الفلسفة بحالة تخصص علمي مثل الفيزياء، فمن الصعب عدم التوصل إلى الملاحظة التالية.
من ناحية، نلاحظ اتفاقاً واسعاً، عملياً وصريحاً، على هوية الوقائع التي ينبغي الإبلاغ عنها، أو على النظريات أو القوانين التي تسمح بتحقيق ذلك، أو حتى على الأساليب والأدوات والتقنيات التي تستخدم لاكتشاف وتحليل الحقائق التي يتم تسليط الضوء عليها باستمرار. بالتناسب، حتى لو كان موضوعا لإجماع واسع، فإن تاريخ التخصص لا يعتبر شيئا من المهم الاتفاق عليه؛ بل يعتبر غير ضروري لمتابعة البحث لأن حالة التخصص في لحظة معينة يبدو أنها تحتوي على كل ما، ولا شيء غير ما، تم إنتاجه في لحظة سابقة من البحث ولم يتم دحضه أو تجاوزه في هذه الأثناء. باختصار، ينظر إلى هذا التخصص، على الأقل في الممارسة العملية، على أنه تراكمي ــ وهي طريقة كلاسيكية تماما وممكن تماما، كما ذكرنا ألكسندر بيرد مؤخرا بذلك، اعتبارها تقدمية.

على الجانب الآخر، وهو بالطبع الجانب الفلسفي، لا شيء تقريبا من هذا صحيح. كما كتب مايكل ديفيت، إذا "كان العلماء لا يتعلمون أكثر فأكثر عن العالم فحسب، بل يتعلمون أيضا كيفية اكتشاف الأشياء المتعلقة به"، فمن الملاحظ أيضا أن الفلاسفة، حتى بعد ألفي عام، لم يتمكنوا من إثبات (أو الاتفاق على) أي شيء يتعلق بأي موضوع للتفكير استطاعوا التعاطي له، ولا من تحديد (أو الاتفاق على) كيف استطاعوا أن يأملوا في تحقيق ذلك.

أحد الأسباب التي يتم تقديمها أحيانا لمحاولة تفسير عدم الإجماع الذي نلاحظه بين الفلاسفة هو فكرة أنه ليس من الممكن حقا في الفلسفة تأسيس حقائق يمكن الاتفاق عليها، لأنه لا شيء يجعل القضايا الفلسفية صحيحة. ولكن حتى لو افترضنا أن هذه الفكرة صحيحة، فإن المشكلة هي أنها لا تفسر بشكل كامل الخلاف العام الذي يسود في الفلسفة: حتى لو لم تكن هناك حقائق فلسفية بالمعنى الدقيق للكلمة، أو حتى لو لم يكن من الممكن تصور أننا سوف نجدها في يوم من الأيام، لدينا دليل يسمح لنا بمعرفة أننا قد حققنا هذه الأهداف، ولا يترتب على ذلك بأي حال من الأحوال أنه لا يمكن أن تكون هناك مواقف فلسفية أكثر عقلانية وأكثر تبريرا وأكثر تماسكا أو تأييدا من غيرها يمكن، بالنسبة لهذه الأنواع من الأسباب، الاتفاق عليها.

الترجمة:
" سوف أتوصل، كما هو متوقع، إلى نتيجة مفادها أن ما بعد الحداثة، وهو آخر من الحداثة، لا يمكن تعريفه في سياق خطابنا "الحديث"، ولا ينبغي أن يكون من العبث تمامًا أن نضع موضع التساؤل ما الذي يشكل الفصل بين الحداثي وما بعد الحداثي - ذلك هو ما يكمن وراء إمكانية حديثنا عن الحديث أصلاً. وبالمثل، من الضروري التعامل مع آخر آخر من الحداثة، أي ما قبل الحداثة، والذي تم تعريف الحداثة أيضًا في كثير من الحالات بالإشارة إليه. هذه السلسلة – ما قبل الحداثة – الحداثة – ما بعد الحداثة – قد توحي بترتيب زمني. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن هذا النظام لم ينفصل أبدًا عن التكوين الجيوسياسي للعالم. وكما هو معروف جيدًا الآن، فإن هذا المخطط التاريخي للقرن التاسع عشر يوفر منظورًا يمكن من خلاله فهم موقع الأمم والثقافات والتقاليد والأعراق بطريقة منهجية. على الرغم من أن المصطلح الأخير لم يظهر حتى وقت قريب إلى حد ما، إلا أن الاقتران التاريخي الجيوسياسي بين ما قبل الحداثة والحديث كان أحد الأجهزة التنظيمية الرئيسية للخطاب الأكاديمي. إن ظهور المصطلح الثالث والغامض، ما بعد الحداثي، ربما لا يشهد على انتقال من فترة إلى أخرى بقدر ما يشهد على تحول أو تحول في خطابنا نتيجة لذلك عدم قابلية الجدل المفترضة للمزاوجة التاريخية الجيوسياسية الحديثة. وما بعد الحداثة أصبحت مشكلة متزايدة. وبطبيعة الحال، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الطعن في صحة هذا الاقتران. ومع ذلك، فمن المثير للدهشة أنها تمكنت من النجاة من العديد من التحديات، ومن المبالغة في التفاؤل أن نعتقد أنها أثبتت أخيراً عدم فعاليتها. سواء باعتبارها مجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية أو باعتبارها التزام المجتمع بقيم مختارة، لا يمكن أبدا فهم مصطلح "الحداثة" دون الإشارة إلى هذا المزاوجة بين ما قبل الحداثة والحديث. تاريخياً، كانت الحداثة في المقام الأول معارضة لسابقتها التاريخية؛ ومن الناحية الجيوسياسية، فقد تم مقارنته مع غير الحداثة، أو بشكل أكثر تحديدًا، مع غير الغرب. وهكذا كان الاقتران بمثابة مخطط استطرادي يتم بموجبه ترجمة المسند التاريخي إلى مسند جيوسياسي والعكس صحيح. يتم طرح الموضوع من خلال إسناد هذه المسندات، وبفضل وظيفة هذا الجهاز الخطابي، يتم تمييز نوعين من المجالات بشكل مميز؛ الغرب الحديث وغير الغربي ما قبل الحداثي. بطبيعة الحال، هذا لا يعني أن الغرب لم يكن أبدًا في مراحل ما قبل الحداثة أو أن اللاغرب لا يمكن تحديثه أبدًا: فهو ببساطة يمنع إمكانية التعايش المتزامن بين غرب ما قبل الحداثة واللاغرب الحديث. إن الفحص السريع لهذا النوع من الحداثة يشير بوضوح إلى وجود قطبية معينة أو تشوه بين الطرق الممكنة لفهم العالم تاريخيًا وجيوسياسيًا. لا يوجد سبب متأصل يجعل المعارضة الغربية/غير الغربية تحدد المنظور الجغرافي للحداثة، باستثناء حقيقة أنها تخدم بالتأكيد في تأسيس الوحدة المفترضة للغرب، وهي إيجابية غامضة ولكنها مهيمنة، والتي نميل إلى اعتبار وجودها منح لمثل هذا الوقت الطويل. وغني عن القول أن الغرب توسع وتحول بشكل اعتباطي خلال القرنين الماضيين. إنه اسم لموضوع يجمع نفسه في الخطاب ولكنه أيضًا موضوع يتكون بشكل خطابي؛ ومن الواضح أنه اسم يرتبط دائمًا بتلك المناطق والمجتمعات والشعوب التي تبدو متفوقة سياسيًا أو اقتصاديًا على المناطق والمجتمعات والشعوب الأخرى. في الأساس، إنه مثل اسم "اليابان"، الذي يُقال إنه يشير إلى منطقة جغرافية، أو تقليد، أو هوية وطنية، أو ثقافة، أو عرقية، أو سوق، وما إلى ذلك، ولكن على عكس جميع الأسماء الأخرى المرتبطة بالخصائص الجغرافية، كما أنه يعني ضمناً رفض ترسيم حدودها الذاتية؛ إنها تدعي أنها قادرة على الحفاظ على دافع لتجاوز كل التفاصيل، إن لم يكن تجاوزها فعليًا. وهذا يعني أن الغرب لا يكتفي أبدًا بما يعترف به الآخرون؛ يتم حثه دائمًا على الاقتراب من الآخرين من أجل تغيير صورته الذاتية دون توقف؛ فهو يبحث باستمرار عن نفسه في خضم التفاعل مع الآخر؛ لن يكتفي أبدًا بالاعتراف به ولكنه يرغب في الاعتراف بالآخرين؛ إنها تفضل أن تكون موردًا للاعتراف بدلاً من أن تكون متلقيًا له. باختصار، يجب على الغرب أن يمثل لحظة الكونية التي تندرج تحتها التفاصيل.

مقدمة
دعونا نجرؤ على طرح سؤال وحشي: ما هو الشيء الأصلي في فلسفة هيدجر؟ ومن المفارقة أن هذا السؤال نادراً ما يتم تناوله بشكل مباشر، حيث يتم اعتبار الإجابة أمراً مسلماً به. في الواقع، نظرًا لأن هيدجر أثر بشكل مباشر على جزء كبير من فلسفة القرن العشرين، يبدو من الواضح أن فلسفته شكلت ثورة غير مسبوقة داخل المفهوم الفلسفي. وهذا الاضطراب معترف به ضمنيًا من قبل مؤيدي المفكر ومنتقديه. في الواقع، فإن الوقت الذي أمضاه الأخير في تعقب آثار النازية في أصغر أركان العمل لا يكون منطقيًا إلا إذا اعتبر هايدجر مفكرًا مهمًا. بين هذين القطبين المتضادين اللذين يلتقيان في نقطة واحدة، يقف مؤرخو الفلسفة، الذين يتتبعون الرحلة، ويوضحون النصوص، ويجمعون التفاسير، وباختصار يمنحون هيدجر مكانته "الكلاسيكية". ولكن، بعيدًا عن هذا الإجماع الضمني، يبقى أن نحدد سبب كونه أحد أهم الفلاسفة. ومن هنا سؤالنا: كيف يكون هيدجر مفكراً أصيلاً؟ ولا شك أن من المناسب هنا توضيح استخدام مصطلح "الأصلي". من المؤكد أن الأصل يفترض "الجديد"، ولكن هذا "الجديد" لا يجب أن يُفهم فقط على أنه ما لم يُقال أو يُسمع من قبل. إن "الجديد" من أجل "الجديد"، رغم أنه يستطيع أن يصنع الموضة، فإنه لا يصنع الفلسفة. إذا كان الأمر كذلك، فإن الأمر سيكون ببساطة مسألة دراسة جميع الفلاسفة الذين يعتبرون عظماء وتأليف سلسلة من الافتراضات التي لم يدعمها أحد من قبل (العدد له تأثيرات؛ اللانهاية، لون واحد). باختصار، في مصطلح "الأصلي" يجب أن يكون لأصل الكلمة صدى: فالأصل، باعتباره ما يؤسس تاريخًا جديدًا أولاً، يقدم إمكانيات جديدة. هذا هو ما عرَّفه موريس ميرلو بونتي بالتأسيس، أي أنه "تلك الأحداث التي تقع في تجربة ما والتي تمنحها أبعادًا دائمة فيما يتعلق بها سيكون لسلسلة كاملة من التجارب الأخرى معنى، ستشكل تكملة أو قصة يمكن التفكير فيها". وهكذا، قام ديكارت وكانط بتعديل مسار الفلسفة بشكل لا يمكن إنكاره، وشكلوا تاريخها، وحولوا مشاكلها، وباختصار فتحوا طريقًا جديدًا من خلال إعادة تصميم موقع الفلسفة بالكامل (كوجيتو، أحكام تركيبية قبلية). مثل الثورات العلمية، فإن الفلسفة الأصلية، في لحظة معينة، هي الفلسفة التي تخلق زلزالًا بالطرق المعتادة للتعامل مع المشكلات، وتعيد تشكيل مشهد التخصص بشكل دائم. دعنا نقول ذلك باستخدام استعارة مستعارة من تكتونية الصفائح. إن الخيارات الفلسفية، في لحظة معينة، تشبه الأطباق الكبيرة (المثالية/الواقعية، التجريبية/العقلانية، الموضوعية الدلالية/مثالية الأفعال، وما إلى ذلك). يتم تحريك هذه اللوحات من خلال حركات نسبية معينة متقاربة (العقلانية/المثالية أو التجريبية/الواقعية)، أو متباعدة (المثالية/المادية) ولكنها أيضًا ذات حدود متغيرة. ومن ثم تحدث الزلازل، مما يؤدي إلى تعديل الفضاء. ويصبح السؤال إذن: ما هي المحاور التوجيهية التي قام بها هيدجر والتي أنتجت إعادة تشكيل للفلسفة على قدر كبير من الأهمية لدرجة أنها شرعت من بعده في مسارات أخرى؟

إنه ليصح ربط الوجود بمفردات تنم حمولتها الدلالية عن الرعب والهول، فالبُرثن هو مخالب السَّبُع أو الطَّير الجارح، ولا أدري متى سمعت هذا اللفظ، كما لا أدري في أي مكان تلقته قوتي السمعية ولكني أعي جيدا وأدرك متى وعته قوتي المفكرة كلما هجم على وجودها مخلب من المخالب، أوليس أكثر ضرار عليها من التنافس على كينونتها، التي جادت بها قوانين الوجود ونزوعاته المتغيرة؟ بلا شك لا يوجد مثل ذلك في الأحياء، سيما إذا كانت هذه القوة الثابتة ذات عوالم لا تحدها النطاقات، وليس يجدي نفعا مهما حاولت رصد ملامح ما تكابده لكي تقف كأشجار الصفصاف التي لا تنبت في أجنابها الأغصان المخفية لبهائها.
ولا ريب في أن مخالب النسر بالذات إذا غُرست في جسم من الأجسام الحية من الضروري أن يُتّبع وجودها وعدمه بقوة المخلب وقوة دافعيته آنذاك، فهو أمر محسوم بالنظر إلى العلاقة الواقعة بين هذا المخلب وما تومئ به المعاني التي نستشفها من ذكره، فكيف إذا رأيناه ينزل على كائن حي، لا غرو أن يصبح في دائرة العدم والوجود، يدور بينها حينا ويرنو إلى جهة منها حينا آخر، دون أن يكون له في ذلك محمل من القدرة على القرار والتنفيذ.
كما ليس يهم أي مخلب هو الأقوى أو الذي له تأثير على غيره، نعم لا يهم نوع المخلب، هل الذي للأسد أم الذي للنسر؟ لا يهم، المهم هو أن هذا المخلب لا يجود بالحياة، مثلما لا يعطي وجودا؛ إذ ينفيه، فهو من هنا يدخل ضمن 'النفي' و'عدم الوجود'، و'الإيجاد" أيضا، ألا ترى الشيء الذي يَعدم الوجود بالرغم من أنه لا يوجِد؛ فهو حتما لا يعطي 'الإيجاد'، وهل 'الإيجاد' إلا من جنس 'عدم الوجود'.
إنه لا أدل على عدم الوجود من كلمة 'المخلب' أو 'البُرثن'، مهما بحثنا في معاني الوجود من جميع أجناس الجهات التعريفية؛ لغة، واصطلاحا...إلخ، طالما أن الدلالة المرئية تطابق بشكل محسوس، عدم الوجود، مطابقة تذوق الشاعر لشعره آن الانتهاء منه، وبحق، تظل في نظري الدلالة الصادقة هي الدلالة المحسوسة الشاعرية، فلا علاقة لها بالترادف والاصطلاح، وإن كانت اللغة في الواقع ابتداء ترجع فيما ترجع إليه في نشوء الكلمات والألفاظ إلى الشعور، ولقد كنت أظن أن 'المخلب' هو الدال الحقيقي على ذلك، إلى أن أدركت مرادفه 'البرثن' فزاد هذا اللفظ اثباتا لما اعتقدته من هذه الدلالة.

في مقولة لكانط اوردها الباحث القدير حاتم حميد محسن في مقالته المنشورة على موقع صحيفة المثقف تاريخ 23/12/  2023 تحت عنوان (صفحات من تاريخ الفيلسوف فريدريك هيجل ) ان كانط قال :( العالم الواقعي لا يمكن معرفته ابدا) واضاف كانط( لا يمكننا معرفة العالم الخارجي كما هو (في ذاته) ونحن لا يمكننا ابدا معرفة العالم كما يتقرر باذهاننا لاعطائنا تجربة عنه).

دقة صواب العبارة هو في تعبير كانط انه لا يمكننا ابدا معرفة العالم الخارجي كما تدركه حواسنا في اختلافه التام عما هو يتقرر باذهاننا. لسبب تلاقي ازدواجيتي خداع الحواس وخداع اللغة في عدم التعبير الصحيح عن معرفة عالمنا الخارجي وليس ادراكه فقط. فالاوليات الحسية الواصلة من الاحساسات الى الدماغ تكون حتما مشوشة غير متماسكة وغامضة ولا تسهل للدماغ عملية التعامل معها معرفيا. فيحصل هنا ما يعرف بتضليل العقل الذي عبّر عنه كانط استحالة معرفتنا الحقيقية لعالمنا الخارجي.

هذه العبارة هي صياغة ثانية بنفس المعنى حينما قسّم كانط العالم الخارجي ب(النومين) الشيء الممكن ادراكه بالحواس وليس الشيء الممكن معرفته بالعقل. (والفينومين) هو الذي لا يمكننا لا ادركه ولا حتى معرفته. واعتبر الفلاسفة ان ما لا يمكننا ادراكه ولا معرفته ماعدا صفاته الخارجية انما هو الجوهراو الماهية في الاشياء التي يصعب التعامل في معرفته لانه لا يكون موضوعا مستقلا يدركه العقل بوضوح ولا يعيه وعيا معرفيا.