إن الحديث عن الكذب يعني في الأساس الإجابة على سؤالين: الأول يتعلق بحقيقته: ما هو الكذب؟ والثاني يقع على المستوى الأخلاقي: هل يجوز الكذب؟ قدم أوغسطين إجابات على هذين السؤالين في اثنين من أعماله المخصصة للكذب: "عن الكذب" (De mendacio) و"ضد الكذب" (Contra mendacium). وقد تناول قبله فلاسفة وكتاب العصور القديمة هذا الموضوع في مؤلفاتهم: أفلاطون والرواقيون في اليونان، وشيشرون وكينتيليان في روما. وتبعهم آباء الكنيسة أيضا، مثل إكليمنضس الإسكندري وأوريجانوس وهيلير أسقف بواتييه والقديس يوانوس كريسوستوموس (أو يوحنا الذهبي الفم)، كل ذلك قبل القديس أوغسطين. وقد تم تخصيص دراسات جزئية لواحد أو أكثر من هؤلاء المؤلفين أو لتيار فكري. ومع ذلك، يبدو أنه لا توجد دراسة ركزت على التطور الكرونولوجي لهذه التيمة لمعرفة ما إذا كانت هناك استمرارية أو ما إذا كان قد حدثت قطيعة في الطريقة التي تحدث بها هؤلاء المؤلفون المختلفون عن الكذب.
إن الغرض من هذا المقال هو إظهار أنه إذا كان لآباء الكنيسة قبل القديس أوغسطين نفس الخطاب تقريبًا حول الكذب مثل المؤلفين الدنيويين، فإن الأمر مختلف بالنسبة لأسقف هيبو. فبعد أن نبين وجهات نظر الكتاب اليونانيين والرومان في الكذب، ثم آراء آباء الكنيسة الذين سبقوا أوغسطين، سنعرض مذهب أسقف هيبو مع إبراز أوجه التشابه والاختلاف مع أسلافه.
1. الكذب من منظور المؤلفين القدماء
إن التعريف الذي قدمه ستوبايوس ونيجيديوس للكذب يعكس التصور الذي كان لدى المؤلفين القدماء عنه. وكلاهما يفرق بين "الكذب" و"قول الكذب". في كتابه "المتفرقات" (Eclogae II، 7)، كتب ستوبايوس يقول: “لا يتمثل الكذب في قول شيء خاطئ، بل في قول الخطإ كذبا وبهدف خداع شخص قريب”. نجيديوس، الذي يشير إليه أولو جيلي في "ليالي العلية" (Nuits attiques)، يكمل هذا التعريف: “بين قول الكذب والكذب، هناك فرق كبير: وهو من يكذب لا يخطئ، يريد أن يخدع؛ ومن يقول الكذب هو نفسه مخدوع". ويضيف نجيديوس ما يلي: “من يكذب يخدع بقدر ما يستطيع، أما من يقول الكذب فلا يخدع، على الأقل عن طواعية”. ويقول مرة أخرى في نفس الموضوع: “على الإنسان الصالح أن يحترس من الكذب، وعلى الإنسان الحذر أن يحترس من قول أكذوبة: الأول يكون إنسان والآخر يبقى دون ذلك”. الكذب، كما عرّفه هذان المؤلفان، يفترض شرطين: الرغبة المتعمدة في الكذب، ونية الخداع. حول هذين العنصرين بنى الكتّاب القدماء أفكارهم حول الأكاذيب.
1.1. أفلاطون والكذب: الكذب الحقيقي والكذب بالكلمات
يميز أفلاطون في كتاب "الجمهورية" بين نوعين من الكذب: الكذب الحقيقي والكذب بالكلمات. الكذب الحقيقي هو الكذب المتعمد الذي يزرع الجهل والخطأ في نفوس المخدوعين: "الكذب العفيف أي جهل روح من وقع خداعه". هذا الكذب مكروه ليس فقط من قبل البشر، ولكن أيضا من قبل الآلهة. ويحدد أفلاطون أيضا أن أخطر كذبة هي تلك التي ترتكب ضد الآلهة: "إنها في الواقع أكبر من كذبة من يعبر عن نفسه بشكل مخادع بطريقة مناسبة، عندما يتحدث عن الكائنات العليا". إن مثل هذه الكذبة ليست سوى تجديف على الآلهة. كما يدين أفلاطون الشاعرين هوميروس وهسيود اللذين قدما تمثيلات غير أخلاقية وغير مقبولة عن الآلهة. منعهم (الشعراء) من تعليم حراس المدينة المستقبليين وأعطي الحكام الحق في فرض رقابة على أعمال الشعراء لأنها تقدم صورة منحرفة عن الطبيعة الإلهية. وفي نفس السياق، يجب التغاضي عن أعمال العنف والقسوة المنسوبة إلى الآلهة، خشية من أن تصبح مصدرا لتقليد الأطفال.
من ناحية أخرى، يستبعد أفلاطون إمكانية الاعتقاد بأن الآلهة يمكن أن تكذب: فالكائن الإلهي لا يمكن أن يكون لديه انحراف ولا إهمال للكذب، لأن فكرة الكذب بحد ذاتها تتعارض مع فكرة الألوهية: "الإلهي والشيطاني هما النفي المطلق للكذب". ومن ثم، فإن الله لا يحتاج إلى الكذب ليمثل، على طريقة الشعراء، الأشياء القديمة في خيالات عالمة، كما لو أنه لا يعرف كيف حدث كل شيء، ولا ليخدع أعداءه لأنه يخشاهم، ولا ليبطل آثار جنون أصدقائه، فليس كل من يوجد في حالة جنون يكون صديقاً لله. ولا يجوز أيضا الاعتقاد بأن الآلهة يمكنها تغيير شكلها.