إن الحديث عن الكذب يعني في الأساس الإجابة على سؤالين: الأول يتعلق بحقيقته: ما هو الكذب؟ والثاني يقع على المستوى الأخلاقي: هل يجوز الكذب؟ قدم أوغسطين إجابات على هذين السؤالين في اثنين من أعماله المخصصة للكذب: "عن الكذب" (De mendacio) و"ضد الكذب" (Contra mendacium). وقد تناول قبله فلاسفة وكتاب العصور القديمة هذا الموضوع في مؤلفاتهم: أفلاطون والرواقيون في اليونان، وشيشرون وكينتيليان في روما. وتبعهم آباء الكنيسة أيضا، مثل إكليمنضس الإسكندري وأوريجانوس وهيلير أسقف بواتييه والقديس يوانوس كريسوستوموس (أو يوحنا الذهبي الفم)، كل ذلك قبل القديس أوغسطين. وقد تم تخصيص دراسات جزئية لواحد أو أكثر من هؤلاء المؤلفين أو لتيار فكري. ومع ذلك، يبدو أنه لا توجد دراسة ركزت على التطور الكرونولوجي لهذه التيمة لمعرفة ما إذا كانت هناك استمرارية أو ما إذا كان قد حدثت قطيعة في الطريقة التي تحدث بها هؤلاء المؤلفون المختلفون عن الكذب.

إن الغرض من هذا المقال هو إظهار أنه إذا كان لآباء الكنيسة قبل القديس أوغسطين نفس الخطاب تقريبًا حول الكذب مثل المؤلفين الدنيويين، فإن الأمر مختلف بالنسبة لأسقف هيبو. فبعد أن نبين وجهات نظر الكتاب اليونانيين والرومان في الكذب، ثم آراء آباء الكنيسة الذين سبقوا أوغسطين، سنعرض مذهب أسقف هيبو مع إبراز أوجه التشابه والاختلاف مع أسلافه.

1. الكذب من منظور المؤلفين القدماء

إن التعريف الذي قدمه ستوبايوس ونيجيديوس للكذب يعكس التصور الذي كان لدى المؤلفين القدماء عنه. وكلاهما يفرق بين "الكذب" و"قول الكذب". في كتابه "المتفرقات" (Eclogae II، 7)، كتب ستوبايوس يقول: “لا يتمثل الكذب في قول شيء خاطئ، بل في قول الخطإ كذبا وبهدف خداع شخص قريب”. نجيديوس، الذي يشير إليه أولو جيلي في "ليالي العلية" (Nuits attiques)، يكمل هذا التعريف: “بين قول الكذب والكذب، هناك فرق كبير: وهو من يكذب لا يخطئ، يريد أن يخدع؛ ومن يقول الكذب هو نفسه مخدوع". ويضيف نجيديوس ما يلي: “من يكذب يخدع بقدر ما يستطيع، أما من يقول الكذب فلا يخدع، على الأقل عن طواعية”. ويقول مرة أخرى في نفس الموضوع: “على الإنسان الصالح أن يحترس من الكذب، وعلى الإنسان الحذر أن يحترس من قول أكذوبة: الأول يكون إنسان والآخر يبقى دون ذلك”. الكذب، كما عرّفه هذان المؤلفان، يفترض شرطين: الرغبة المتعمدة في الكذب، ونية الخداع. حول هذين العنصرين بنى الكتّاب القدماء أفكارهم حول الأكاذيب.

1.1. أفلاطون والكذب: الكذب الحقيقي والكذب بالكلمات

يميز أفلاطون في كتاب "الجمهورية" بين نوعين من الكذب: الكذب الحقيقي والكذب بالكلمات. الكذب الحقيقي هو الكذب المتعمد الذي يزرع الجهل والخطأ في نفوس المخدوعين: "الكذب العفيف أي جهل روح من وقع خداعه". هذا الكذب مكروه ليس فقط من قبل البشر، ولكن أيضا من قبل الآلهة. ويحدد أفلاطون أيضا أن أخطر كذبة هي تلك التي ترتكب ضد الآلهة: "إنها في الواقع أكبر من كذبة من يعبر عن نفسه بشكل مخادع بطريقة مناسبة، عندما يتحدث عن الكائنات العليا". إن مثل هذه الكذبة ليست سوى تجديف على الآلهة. كما يدين أفلاطون الشاعرين هوميروس وهسيود اللذين قدما تمثيلات غير أخلاقية وغير مقبولة عن الآلهة. منعهم (الشعراء) من تعليم حراس المدينة المستقبليين وأعطي الحكام الحق في فرض رقابة على أعمال الشعراء لأنها تقدم صورة منحرفة عن الطبيعة الإلهية. وفي نفس السياق، يجب التغاضي عن أعمال العنف والقسوة المنسوبة إلى الآلهة، خشية من أن تصبح مصدرا لتقليد الأطفال.

من ناحية أخرى، يستبعد أفلاطون إمكانية الاعتقاد بأن الآلهة يمكن أن تكذب: فالكائن الإلهي لا يمكن أن يكون لديه انحراف ولا إهمال للكذب، لأن فكرة الكذب بحد ذاتها تتعارض مع فكرة الألوهية: "الإلهي والشيطاني هما النفي المطلق للكذب". ومن ثم، فإن الله لا يحتاج إلى الكذب ليمثل، على طريقة الشعراء، الأشياء القديمة في خيالات عالمة، كما لو أنه لا يعرف كيف حدث كل شيء، ولا ليخدع أعداءه لأنه يخشاهم، ولا ليبطل آثار جنون أصدقائه، فليس كل من يوجد في حالة جنون يكون صديقاً لله. ولا يجوز أيضا الاعتقاد بأن الآلهة يمكنها تغيير شكلها.

الترجمة:
تمهيد
حافظ مارتن هيدجر وكرل ياسبرز من عام 1920 إلى عام 1963، على مراسلات وثيقة: أكثر من 150 رسالة، والتي توفر رؤية قيمة لشخصية الرجلين... وقد تم جمع هذه الأمور معًا في هذا العمل الذي نشرته دار غاليمار الباريسية. لذلك، بفضول كبير، نتعمق في قراءة هذه الرسائل: فهي تكشف عن اختلافات عميقة، فلسفية وسياسية، بين المفكرين، اللذين سينجرفان بعيدًا حتى القطيعة...

السياق

وكما يصرح كارل ياسبرز في سيرته الذاتية الفلسفية ، فإن كل شيء يبدأ بعيد ميلاد: عيد ميلاد هوسرل، في فريبورغ. حول الطاولة، بالإضافة إلى هوسرل، تم تقديم زوجته وعدد قليل من الأصدقاء، مارتن هايدجر، على أنهم الطفل الظاهري لكارل ياسبرز وزوجته. يتعاطف الرجلان مع قضية طالب تم رفض قبوله في مدرسة هوسرل بسبب مشاكل إدارية. هذا التضامن ضد النظام الأكاديمي القائم يجمع الرجلين معًا. يزوره كارل ياسبرز وتتقوى الصداقة بينهما وتبدأ المراسلات بينهما. كان كارل ياسبرز حينها يبلغ من العمر 37 عامًا. وهو يكبر هيدجر بست سنوات، وهو أستاذ علم النفس في كلية هايدلبرغ، ويعمل في مستشفى للأمراض النفسية في المدينة.  أما هيدجر فهو أستاذ الفلسفة في جامعة فريبورغ: لقد عاد لتوه إلى التدريس، بعد أن تم تعبئته لمدة عامين خلال حرب 1914-1918. إذا كان هيدجر يخاطبه في البداية باحترام، مثل أحد كبار السن، فإن كارل ياسبرز يريحه بروح الدعابة: ملاحظة أخرى: هل من الممكن أن لا تعطيني لقب "أستاذ"؟ منذ متى بدأنا علاقة فلسفية؟ أم أن ثقتك بي قليلة جدًا؟.

ولادة الصداقة

ثم يتبادل الرجلان وجهات النظر مثل أقرانهما، متحدين في نفس رفض الصعوبات الأكاديمية والجامعية. طلابهم هم أنفسهم أهداف لاتهاماتهم المتبادلة. وهكذا هيدجر: إن رأيي في الطلاب وحتى الطالبات اليوم قد فقد كل تفاؤل: فالأفضل أنفسهم إما هم المستنيرون (الصوفيون الذين استقروا بالفعل في اللاهوت البروتستانتي)  أو على العكس من ذلك، يقعون في الشره المرضي للقراءة والقراءة غير الصحية.  العلم الجامع، أي الذي لا خير فيه. ويشن هيدجر هجمات شرسة على بعضهم: هذا هو الفصل الدراسي الثاني الذي يقضيه كل منا هنا - لا أستطيع أن أقول إنني أعرفه، وهو أمر ليس بالأمر السهل بالنسبة له - ليس لأنه شخص معقد للغاية، ولكن لأنه غير مستقر تمامًا، ومهمل، ومتهور. ربما غير أصيل تماما. عندما وصل هذا الصيف، أصبح متحمسًا تمامًا لهوسرل، كل تافه كان وحيًا، كل صياغة جملة كلاسيكية، قرأ مخطوطات لهوسرل، نسخها ولم يترك جانبه أبدًا، حتى أنه خطط لعمل فلسفي حول اللغة. في بداية هذا الفصل الدراسي، لا بد أن شيئًا ما قد حدث بين الرجلين؛ لقد أصبح هوسرل الآن موضع رفض جذري، والانتقادات التي أعبر عنها تؤخذ بشكل طفولي من جانب واحد. ولا يوجد شيء مفهوم تقريبًا هناك. تحيط به دائرة معينة من الأشخاص العاديين، الذين يجتمعون دائمًا للدردشة، والذين يحاولون التمسك بي، دون أن ينجحوا. يعتقدون أنهم بتكرار الجمل من دروسي قد فازوا. لكنهم لا يلاحظون مدى إحكام سيطرتي عليهم. كما هو الحال في الفصل الدراسي الأخير مع هوسرل، فهو الآن يقسم على مقرري الدراسي الذي لم يفهمه. وقبل كل شيء، يتحدث الرجلان عن "كرة" التعيينات، على أمل الحصول على منصب معين، ويتأسفان عندما يتم منحها لمنافس أكثر سعادة، ويوجهان إليه بعض الانتقادات اللاذعة على طول الطريق. لا شيء سوى كلاسيكي للغاية في مهنة الجامعة.

انطلاقاً من عنوان هذا الكتاب المثير : "المعلم الجاهل خمسة دروس حول التحرر الذهني" لمؤلفه جاك رانسيير، ترجمة: عز الدين الخطابي، الصادر عن: "مؤسسة عبد المحسن القطان مركز القطان للبحث والتطوير التربوي رام الله-فلسطين"، عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2016، أما عن صفحات الكتاب التي تحتوي على المتن المترجم فهو 130 صفحة وفقط، تندرج تحتها حتى مقدمة الطبعة الثانية التي قام بها المركز للكتاب، مع مقدمة الترجمة العربية من إنجاز وسيم الكردي، إضافة إلى مقدمة ثانية عنوانها: <<الجهل في الثقافة العربية الإسلامية-النفري مثالاً>> وهي عبارة عن شِعْرِ مقتبس من (النفري، المواقف والمخاطبات)، والتي تحيل -من وجهة نظري- إلى أن هناك سبقاً عربيا أو تأصيلاً عربياً لمفهوم الجهل في الثقافة العربية الإسلامية نلمسه في متن النفري في كتابه وأشعاره "المواقف والمخاطبات"، رغم أنه بعد قراءة الكتاب يتبين للقارئ أن هناك فرقا كبيرا بين جهل النفري و المعلم الجاهل، عنوان الكتاب!
وبالعودة دائماً إلى عنوان الكتاب، الذي سرعان ما يثير إنتباه أي قارئ جيد، أو مهتم بحقل التربية والتعليم والتكوين، فعندما نقول المُعَلِّمِ هو العَارِفُ، والقَارِئُ، والمُثَقَّفُ، والعَالِمُ، ورَسُولُ المَعْرِفَةِ والعِلْمِ عملاً بقول الشاعر: "قُم للمُعَلِّمِ وَوَفِّهِ التَّبْجِيلاَ، كاد المُعَلِّمُ أن يكون رَسُولاً." أنذاك نكون جميعاً متفقين على أن المعلم المقدس في ضوء ثقافتنا العربية الإسلامية يستحق كل ذلك وأكثر، لكن عندما يتجرأُ جاك رانسيير ويعنون كتابه الشهير ب "المعلم الجاهل" فهذا يتطلب منا نحن كقراء ومهتمين التساؤل عن ماذا يقصد جاك رانسيير بالمعلم الجاهل؟ لأن في هذا القول مساسا بقُدْسِيَّةِ المُعَلِّمِ، حتى عندما نقرأ في خلفية الكتاب التي عن هذا الكتاب:
"في سنة 1818 ساهم جاكوطو في زرع بذور ثورة بيداغوجية في أوروبا العالِمَةُ. فهو لم يكتف بتعليم اللغة الفرنسية لطلبة من منطقة الفلاماند دون تقديم أي درس، بل شرع أيضاً في تعليم ما يجهله، مطلقا بذلك شعار "التحرر الذهني".
وقدم جاك رانسيير في هذا الكتاب تحليلاً عميقاً لأطروحات هذا البيداغوجي المتميز، وأنعش ذاكرتنا بفلسفة منسية، دافعة عن التكافؤ بين ذكاء البشر أينما وجدوا. وهو ما تلخصه هذه القولة لجوزيف جاكوطو: "إن التعليم مثل الحرية، فهو يؤخذ ولا يمنح."
أما عن محتويات الكتاب، فهو يضم خمسة فصول، لكل منها عنوان رئيسي يتميز به عن الفصل الأخر، وكل فصل يحتوي عناوين فرعية مهمة جداً، عبارة عن كلمات مفتاحية تساعد في فهم الأطروحة الماكرو للكتاب وخطوطه العريضة أو بمثابة بوصلة ومفاتيح لفهم الكتاب، أما عن العناوين الرئيسية للفصول الخمسة، فهي كالتالي:
الفصل الأول: مغامرة فكرية.
الفصل الثاني: درس الجاهِلِ.
الفصل الثالث: منطق المُتَسَاوِينَ.
الفصل الرابع: مجتمع الاحتقار.
الفصل الخامس: المُحَرِّرُ وَقِرْدُهُ.

ادموند هوسرل 1859- 1938 جيكوسلوفاكي المولد. درس الفلسفة على يد استاذه الفيلسوف السويسري فرانز برينتانو مخترع مصطلح الوعي القصدي بالفلسفة والذي اخذه عنه هوسرل وتم توظيف المصطلح بمعّية كل من سارتر وهيدجر وميرلوبونتي وفلاسفة الوجودية الذين استهواهم مصطلح الوعي القصدي في ادانتهم لكل من ديكارت وكانط. يعرّف هوسرل الوعي القصدي (انه خاصية كل شعور ان يكون شعورا بشيء). ولا اعتقد انه من غير البديهيات ان لا يكون لكل شعور موضوع يدركه.

الحقيقة التي اشرت لها في مقال سابق لي ان مصطلح الوعي القصدي ومصطلح الوعي الخالص كلاهما مصطلحان فلسفيان كاذبان ومزيفان سواء في ألاحتكام للمعرفة المجردة أوفي ألاحتكام للعلم التجريبي الطبيعي.. وذكرت سابقا واشير له هنا اذا كان ديكارت قال في الكوجيتو ان مجرد تفكير العقل كاف لاثبات الوجود الانطولوجي للانسان. والمأخذ الذي ادين به ديكارت من كل من هب ودب انه لم يذكر موضوع تفكير العقل بماذا ؟ (انا افكر اذن انا موجود).

 سبق لي وقلت إن ديكارت لم يكن مخطئا ولا ساذجا فلسفيا كون الحمولة النوعية لتفكير العقل هو ملازمة موضوع تفكيره له بمعنى ينعدم تفكير العقل حين لا يجد موضوعا يفكر به له معنى ودلالة معرفية.. ولا يمكن لتفكير عقلي ينبني عليه تحقق الوجود الذاتي للانسان ادراكيا بمعزل عن التفكير بما له معنى يدركه العقل وهو موضوع الوعي. حين تقول انا افكر وتسكت .فهذا يكون تحصيل حاصل انك تفكر بشيء اي بموضوع يهمك انت وحدك ولا يهم غيرك في ادراكه ومعرفته. الوعي بصورة عامة للمصطلح هو ان يكون إنفراديا يلازمه هدفه القصدي.

هنا كما سأوضحه لاحقا من الخطأ التفكير انه يوجد ثلاثة انواع من الوعي – يرجى مراجعة مقالتي السابقة حول هذا التمييز الذي ساوضحه هنا ايضا -  الوعي كمصطلح فلسفي عام، والوعي القصدي الذي يلازمه هدفه،وثالثا الوعي الخالص بمعنى الوعي المتسامي صوفيا فوق محدودية الادراك العقلي الواقعي. رأيي المثبت لا يوجد بالفلسفة سوى الوعي العام.

ديكارت كما هو معلوم عرّف العقل الفلسفي بمعنى خطاب التفكير او ما يسمى اللوغوس. وليس العقل البايولوجي الذي هو ما تحتويه الجمجمة من الدماغ والمخ والنخاع الشوكي وشبكة الاعصاب. العقل الفلسفي التجريدي الذي قصده ديكارت هو  جوهر خالد خلود النفس في تعبيره اللغوي عن المدركات والموضوعات والاشياء.  العقل جوهر خالد ماهيته التفكير المعرفي.

فاز "شات جي بي تي" بشعبية جارفة منذ اللحظة الأولى التي ظهر فيها للعلن بفضل قدراته الواسعة على توليد النصوص من بضعة أسئلة توجّه إليه، فضلًا عن سرعة الاستجابة التي تشعرك كأنك تتحدث مع شخص حقيقي يجلس في الطرف المقابل من المحادثة.
هذه المزايا دفعت بعض المستخدمين إلى الاعتقاد بأن "شات جي بي تي" هو نموذج ذكاء اصطناعي خارق لا يملك أي نقاط ضعف، ولكن هذا الأمر أبعد ما يكون عن الحقيقة، إذ إن قدرات النموذج قاصرة في العديد من الجوانب المتنوعة. وفي ما يلي 5 نقاط ضعف تعبر عن أوجه القصور في "شات جي بي تي".
1- الافتقار إلى الحس السليم
رغم أن "شات جي بي تي" يمتلك وصولًا واسعًا إلى تشكيلة كبيرة من المعلومات في مختلف القطاعات، فإن هذا لا يعني أن إجاباته دائمًا ما تكون صحيحة، ويعود السبب في ذلك إلى كونه معتمدًا على قواعد بيانات الإنترنت المفتوحة من أجل البحث عن الإجابات المناسبة وتقديمها، لذا يختلط الأمر في بعض الأحيان وتختلط المعلومات مع بعضها بعضا.
بالطبع حاولت "أوبن إيه آي" تخطّي هذا القصور في الإصدارات الحديثة من "شات جي بي تي"، إلا أنها تظهر بشكل عشوائي مع المستخدمين ولا يمكن توقع ظهورها، لذا لا ينصح بالاعتماد على "شات جي بي تي" أو أي نموذج ذكاء اصطناعي في المعلومات الدقيقة التي تتطلب خبراء مثل المعلومات الطبية أو السياسية الحديثة أو حتى أخذ النصح في المواقف الحياتية.
2- قيود على التعامل مع أكثر من أمر في وقت واحد
يستطيع "شات جي بي تي" استقبال عدد من المهام المختلفة خلال الرسالة الواحدة، إذ لا يوجد حاجز أمام هذا الأمر، ولكن النتيجة في العادة تكون مقتصرة على المهمة الأولى دون البقية، وكلما زاد تعقيد السؤال والمهام الخاصة به تكون النتيجة غير مرضية.
بالطبع، يمكن التغلب على هذا القيد بتفكيك المهام المعقدة إلى مهام أخرى صغيرة، وذلك بفضل قدرات "شات جي بي تي" على فهم تذكر الرسائل السابقة وإعادة استخدامها في الإجابة عن الأسئلة والتحديات الجديدة.

مقدمة
"سيكون القرن الحادي والعشرون روحانيًا أو لن يكون كذلك." يبدو أن الصيغة الشهيرة المنسوبة زورا إلى أندريه مالرو صحيحة: الأديان ليست مدفونة ومنسية في عالم يهيمن عليه التقدم، بل إنها تتكيف بل وتتكاثر. ولكن لماذا لا يكتفي الله برفض الموت، ويفعل هذا جيدًا؟ "لقد مات الله (توقيع: نيتشه)." إلى صيغة الفيلسوف الشهيرة، التي تكررت مرات عديدة على مدى قرن من الزمان، سعد شخص ماكر مجهول بإضافة هذا التصحيح: "لقد مات نيتشه (توقيع: الله)." ومنها الفعل: إن إعلان موت الله كان سابقًا لأوانه إلى حد كبير. لقد كان من المعتقد، لمدة قرن من الزمان، أن التاريخ يدين الدين. لقد اتفق علماء الاجتماع والمؤرخون والفلاسفة، من ماكس فيبر إلى مارسيل غوشيه ، على تشخيص "تحرر العالم من الوهم"، على الكسوف الذي لا رجعة فيه للحضور الإلهي في العالم المعاصر. منذ القرن التاسع عشر، كان يُعتقد أن العلم سيحل محل الخرافات بشكل لا يمكن علاجه، وأن التكنولوجيا ستحل محل السحر، وأن الطب سوف يطيح بالصلاة، وأن السياسة سوف تكون لها الأسبقية على المسيحية، وما إلى ذلك. يبدو أن كل شيء يدين الدين. وتميل الحقائق إلى تأكيد التشخيص: ففي معظم البلدان الغربية، كنا نشهد تراجعاً مستمراً في المشاركة الدينية وعلمنة الدول التدريجية. باختصار: الدين لا يستطيع مقاومة الحداثة. بل إن نظرية "العلمنة" شارك فيها معظم المتخصصين، وهو أمر نادر في العلوم الإنسانية. ومع ذلك، لمدة ثلاثين عامًا على الأقل، كان على علماء الاجتماع مواجهة الحقائق: لقد كانوا مخطئين. ويتجلى ذلك في الانبعاث العالمي لجميع أشكال التدين: صحوة الإسلام وصعود الإنجيلية البروتستانتية في جميع أنحاء العالم ، وإحياء المسيحية وانتشار الديانات الجديدة في أوروبا من الشرق. ، انبعاث الأديان في الصين ، وتكاثر الكنائس في أفريقيا، وظهور الشامانية الجديدة بين الأمريكيين الأصليين... في كل مكان، في آسيا، في أفريقيا، في أمريكا اللاتينية أو في الشمال، بقدر ما وتكثر في أوروبا الطوائف والحركات الدينية الجديدة. بينما تكافح الكنيسة الكاثوليكية للعثور على الدعوات الكهنوتية، على الأقل في أوروبا القديمة، يظهر المعلمون والوعاظ والقساوسة في كل مكان... رجال الأعمال في مجال الخلاص يحققون ثروات في جميع خطوط العرض.

لماذا عاد الله؟

يعترف بيتر ل. بيرغر بهذا بصراحة: "إن فكرة أننا نعيش في عالم علماني هي فكرة خاطئة. إن العالم اليوم متدين بشدة كما كان دائمًا." بالنسبة لهذه الشخصية العظيمة في علم اجتماع الأديان، فإن نظرية العلمنة - التي ساهم فيها إلى حد كبير من خلال أبحاثه السابقة - "خاطئة في الأساس". ولذلك بقي معالجة المشكلة من الأعلى إلى الأسفل. لقد شكلت صحوة الدين تحديا للفكر بشكل عام، ولعلم الاجتماع بشكل خاص. في كتابه "خلع السحر عن العالم"(1)، جمع بيرغر مجموعة من المتخصصين لدراسة التجديد الديني: من التأثير السياسي للإنجيلية البروتستانتية إلى ديناميكيات الإسلام، ومن الأهمية المتزايدة للدبلوماسية البابوية إلى يوحنا بولس الثاني ( انتخب عام 1978) لانتشار الأديان في الصين. وفي الخلفية هذا السؤال: لماذا عاد الله؟

هذا العمل الجماعي هو مجرد واحد من العديد من الأعمال التي تراكمت على مدى السنوات القليلة الماضية حول مكانة الدين في الولايات المتحدة، وحول انتشار الإسلام الراديكالي، وحول التقدم العالمي للطوائف. كل هذه الأدبيات، بمجرد وضعها في منظورها الصحيح، تقترح بعض الإجابات المحتملة على سؤال "عودة الله". إذا كانت الأديان تولد من جديد وتتجدد باستمرار، وإذا بدت وكأنها تمتزج بشكل جيد مع الحداثة، فذلك لأنها تستجيب للتوقعات الفردية والاحتياجات الجماعية التي لم يعرفها أي مجتمع حتى الآن. وهذه التطلعات ذات عدة مستويات: أيديولوجية سياسية، وأخلاقية، واجتماعية، وهوية، ومجتمعية، ووجودية، ومادية، وحتى علاجية. لاحظ بشكل عابر أن هذه التوقعات غالبًا ما تكون متشابكة مثل قطع اللغز، مما يجعل أي تصنيف خطيرًا.

تشكل فلسفة أرتير شوبنهاور (1788-1860) الدينية جسدًا وثيقًا، يمكن القول إنه لا ينفصل، مع فلسفته في الفن وفلسفته في الأخلاق. من خلال نشره، بعد أكثر من ثلاثين عامًا من كتابه "العالم كإرادة وتمثيل"، عن الدين (1851)، يقدم شوبنهاور استئنافًا متفرقًا ولكن أمينًا لأطروحات عمله الرئيسي. إن عصر "المنعزل في فرانكفورت" يزيد من حدة خطابه حول آلام العالم المتعددة الأوجه، وهو الكابوس الذي يجب على كل ضمير أن يحاول الاستيقاظ منه - من خلال إنكار نفسه. في عهد البشر، يستعير هذا الجهد للتخلي الجذري الشخصيات الدينية في الغرب والشرق: هل يكتسب هؤلاء مع ذلك مكانًا مشروعًا في الفلسفة؟

من المعلوم أن شوبنهاور هو فيلسوف التشاؤم ومن المعلوم ايضا أن التشاؤم عنده هو ثمرة الوضوح. إذا كان شوبنهاور نفسه لم يحدد فلسفته أبدًا من خلال التشاؤم، فإن الشعور العام المستوحى من نظرية الوجود هو الذي طوره في العالم كإرادة وكتمثيل. ومع ذلك، يعتقد بعض معاصريه أن رغبة شوبنهاور في الاعتراف به وكذلك الاستمتاع بمجده المتأخر يكشفان أنه لم يعيش كمتشائم حقيقي. التشاؤم ينشأ من الوعي بالمعاناة. يفترض شوبنهاور أن المعاناة والموت يجعلان جميع المخلوقات بائسة. ومع ذلك، فإن حالة الإنسان هي الأسوأ. إن اعترافه بوجود المعاناة والموت في كل مكان يزيد من تفاقم محنته، بينما تأخذ الحيوانات الحياة كما هي. لذا، فإن حاجة الإنسان الميتافيزيقية في الأساس - أي حاجته إلى فهم العالم وفهم وجوده - ولهذا السبب فإن مصيره يزداد سوءًا. بالنسبة لشوبنهاور، فإن الحياة البشرية تتكون أساسًا من المعاناة. وعندما لا يعاني الإنسان يشعر بالملل. ومن أجل تجنب الملل يقامر ويشرب وينغمس في الإسراف والمكائد والسفر. ويخلص الفيلسوف إلى القول: “إن الحياة تتأرجح مثل البندول، من اليمين إلى اليسار، من المعاناة إلى الملل؛ وهذان هما العنصران اللذان صنع منهما باختصار” (العالم كإرادة وكتمثيل). تصل المعاناة في بعض الأحيان إلى حد أن العقل البشري ينسى الواقع ليحافظ على نفسه، وهذا يؤدي إلى الجنون، عندما يستبدل العقل الذكريات المؤلمة بالخيال. وأخيرا، فإن بؤس الحالة الإنسانية واضح أيضا من الناحية التاريخية والعالمية. يظهر تدمير بومبي، على سبيل المثال، أن الطبيعة غير مبالية برفاهية البشرية. ولهذا السبب لم يكن شوبنهاور مهتمًا بالسياسة. يرتبط تشاؤم شوبنهاور بالطبيعة البشرية. التشاؤم ينشأ بشكل أكثر دقة من العقل. في الواقع، يعتقد شوبنهاور أن امتلاك العقل هو ميزة مختلطة. إن القدرة على التفكير المفاهيمي والاستطرادي هي بالتأكيد أساس الفرق بين الإنسان والحيوان. ولكنه في الوقت نفسه يعرض الإنسان لعذابات وجنون تحصن الحيوانات ضده. يوضح الفيلسوف: «بالنسبة للحيوان الذي لا يفكر، يمكن أن يبدو العالم والوجود كأشياء تفهم نفسها؛ على العكس من ذلك، بالنسبة للإنسان، هذه مشكلة يتخيلها بوضوح حتى أكثر الناس جهلًا وضيق الأفق في ساعات وضوحهم” (العالم كإرادة وكتمثيل). إن استخدامات العقل على وجه التحديد هي التي تزيد من معاناة الإنسان. وإذا كان العقل مصدر المعرفة واليقين والحقيقة، فهو أيضًا، كما يعترف شوبنهاور، مصدر الشك والارتباك والخطأ. من خلال العقل، يستطيع البشر التواصل بطرق أكثر تعقيدًا وتعقيدًا من الحيوانات، لكن هذه القدرة تجعلهم أيضًا قادرين على الخداع والإخفاء والتضليل، وهو ما لا تستطيع الحيوانات فعله. علاوة على ذلك، فإن اللغة أداة بدائية للغاية بحيث لا يمكنها ترجمة التجربة المباشرة للواقع وكذلك الحدس. وفوق كل شيء، أخيرًا، لا يزال العقل يجعل الإنسان غير سعيد لأنه ينقله خارج الحاضر. يؤكد شوبنهاور أن مصائب الماضي والقلق بشأن المستقبل يسببان معاناة كبيرة، ويتم تبرير التشاؤم في النهاية بغرور الرغبة. ويكمن هذا التبرير في نظرية الإرادة لشوبنهاور. ومن هذا المنظور، فإن المعاناة موجودة في كل مكان لأن العالم عبارة عن إرادة، تُعرَّف بأنها الجوهر الحميم للحياة، والقوة التي تحرك كل الأشياء. الآن، هذه القوة عمياء: فهي لا تسعى إلى تحقيق أي هدف؛ إنها لا تتبع أي خطة. إنها راضية بتأكيد ديمومتها من خلال تحريك جميع الكائنات، بما في ذلك البشر. إذا كان الانزلاق نحو الجنون والعنف والقسوة والهمجية أمرًا لا مفر منه، فذلك ببساطة لأنه يعبر عن ميول لا يمكن تجاوزها للطبيعة البشرية. تشرح الإرادة بشكل خاص منطق الرغبة. بمجرد إشباع رغبته، لا يشبع الإنسان؛ ويتحول ميله إلى شيء آخر، فيظل العقل في توتر الرغبة. يقول شوبنهاور: «الرغبة بطبيعتها هي المعاناة؛ الرضا يولد الشبع بسرعة؛ وكان الهدف وهميا. الحيازة تسلب جاذبيتها؛ تولد الرغبة من جديد بشكل جديد، ومعها الحاجة؛ وإلا فهو اشمئزاز، وفراغ، وضجر، وأعداء أقسى من الحاجة” (العالم كإرادة وتمثيل). ومع ذلك، فإن الحياة ليست محنة كاملة. ومن خلال الكشف الصادق عن القوى التي تحدد الوجود، فإن الخطاب الفلسفي يقلل من معاناة الإنسان. لذلك يعتقد شوبنهاور، على نحو متناقض، أن تشاؤمه يمكن أن يريح قرائه. فاذا كانت الاديان تجلب الرجاء في الخلاص فهل يمكن القول بأن فلسفة شوبهاور الدينية قد تخلصه من التشاؤم؟

الملخص التنفيذي للبحث:

يعيش الإنسان وهو يعتقد أنه يملك وعيا بذاته والذي تم التعبير عنه من خلال تاريخ الفلسفة ب "الأنا"، كما يعتقد كذلك أنه من خلال الوعي بالذات يتحقق له الوعي بالمحيط الخارجي، بل والوعي بجميع علاقاته مع الآخرين/الأغيار، ومعنى هذا أن الإنسان يعتقد أنه على وعي بكل ما يصدر عنه من أفعال وتصرفات وسلوكات وممارسات، لدرجة أنه مع ديكارت اعتبرنا أنفسنا وذواتنا أسيادا على الطبيعة بل وعلى أنفسنا أيضاً نتحكم فيها ونطوعها لخدمتنا، ولهذا كانت مقولة الحداثة هي "الإنسان سيد نفسه فيما يقول ويفعل." ولكن مع فرويد اكتشفنا أن بعض السلوكات والتصرفات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والممارسات التي نقوم بها أثناء حالات الغضب والانفعال والقلق، أو حتى بعض الأحلام الصادرة عنا أثناء النوم ما هي سوى تعبير عن جانب مجهول وغامض من حياتنا الداخلية النفسية الغير مفهومة بتاتا، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن ذلك الوعي بالذات ليس واضحا وبديهيا ومائزا كما عبر عن ذلك ديكارت، وأن الإنسان في نهاية المطاف ليس هو السيد على نفسه وعلى الطبيعة وعلى الآخرين، بل مع فرويد أصبحنا نقول أن مجمل أفعالنا وأفكارنا ليست كلها صادرة عن وعينا وإرادتنا الذاتية الحرة كما عبر عن ذلك كانط، الذي يجعل من الإرادة الحرة هي القائدة للذات، بل إن جزءاً كبيراً مغموراً منها يرجع إلى فرضية اللاشعور أو اللاوعي، وفي هذا إشارة حثيثة إلى تلك الحياة النفسية اللاواعية التي لها رابطة وطيدة وعميقة بتاريخ الفرد منذ نعومة أظافره وطفولته المبكرة.

إشكالية البحث:

كيف يتحكم الوعي واللاوعي في السلوك الإنساني؟ ما الذي يجعل فرضية اللاوعي فرضية ضرورية ومشروعة وموضوعية؟ هل معطيات الوعي كافية لتحديد الشخص السوي؟ هل الأنا محكوم باللاوعي أم هو مركز الكون أم سيد ذاته؟ أين تتمثل ضرورة ومشروعية الاشتغال بفرضية اللاوعي؟ ما هي طبيعة العلاقة بين الوعي واللاوعي من خلال تمفصلات : الهو -الأنا- الأنا الأعلى في تشكيل الجهاز النفسي؟ بأي معنى يعتبر الحلم متنفسا للرغبة؟ هل الرغبة حاجة لا يفي بها الواقع ولا تستوعبها ممكناته؟

ألا تكشف بعض سلوكاتنا أثناء حالات الغضب والانفعال والقلق، أو الأحلام الصادرة عنا أثناء النوم عن جانب غامض من حياتنا النفسية؟ ألا يدل ذلك على أن الوعي ليس واضحا وشفافا بما فيه الكفاية، وأن الإنسان في نهاية الأمر ليس سيد نفسه؟ ما هي مشكلة علاقة الوعي باللاوعي: ما الذي يتحكم في الحياة النفسية: هل الوعي أم اللاوعي؟ ما هو الفن في تصور فرويد؟ هل يمكن إعتبار الشخصية بناءً دينامياً؟ لماذا لا يعتبر فرويد الأنا هو أساس حقيقة الشخصية ومقومها الأساسي؟ كيف نزع فرويد مركزية الأنا وتقويض تطابقه؟ ما هي أنماط الشخصية غير السوية؟ ما هي صفعات التحليل النفسي للأنا الذاتية ؟ ما تصور فرويد للدولة؟ هل يمكن إعتبار الأنا الأعلى هو نفسه الضمير الأخلاقي؟ هل يعتبر تصور فرويد مقنعاً من حيث تطابقه مع مبادئ العقل أو الواقع الإجتماعي أو العلم ؟ لماذا الحرب؟

  • في جَوَازِيَّةِ فرضية اللاّشعور أو اللاّوعي:

<< يُعْتَرَضُ علينا من سائر النَّواحِي في الحَقِّ في إِفْتِرَاضِ حياةٍ نَفْسِيَّةٍ لاَوَاعِيَّةٍ، وفي الاشتغال على نَحْوٍ عِلْمِيٍّ استناداً على هذا الْإِفْتِراضِ.

وبوسعنا أن نرد على هذا الاعتراض بالقول إن فرضيةُ اللاَّوَعْيِ هي فرَضِيَّة ضَرُوريَّة ومَشْرُوعَةٌ، وإننا نتوفر على عدد من الحُجَجِ تؤكد وجود اللاَّوَعْيِ. >> [1]

ويضيف أيضاً: << إن فرضية اللاَّوَعْيِ ضرورية لأن معطيات الوَعْيِ ناقِصَةٌ جداً.

ذلك أنه كثيراً ما تَحْدُثُ لدى الإنسان السَّوِيِّ والمَرِيضِ على حَدِّ سواء جملة من الأفعال النفسية التي تستلزم، من أجل تفسيرها، أفعالا نفسية أخرى لا تَحْظَى بِاعْتِرَافِ الوَعْيِ.

وإن هذه الأفعال النفسية اللاَّوَاعِيَةُ لا تتمثَّلُ فَحسبُ، في الهَفَوَاتِ والأَحلامِ عند الإنسان السَّوِيٍّ، وكل ما نسميه بالأعراض النَّفسيةِ والظَّواهرِ القَسْرِيةِ بالنسبة للْإِنْسانِ المَريضِ، بل إن تجربتنا اليومية الأكثرَ حَمِيمِيَّة تضعنا أمام أفكار تخْطُرُ لنا من غير أن نعرف مصدرها أي أمام خلاصات تَفْكِيرٍ تَظَل مُفَكّكَةً وغير قابلةٍ للفَهمِ، إذا ما أصررنا على الزَّعْم بأنه ينبغي أن ندرك عن طريق الوَعْيِ كل ما يجري فينا من أفعال نَفْسِيَّةٍ. >> [2]

يعتقد الكثير من الناس أن حياتهم كلها مخططة وأن أيًا كان ما يفعلونه، فإن نفس الأشياء ستحدث حتمًا، كما لو كان الشخص يجذب أنواعًا معينة من الأحداث أو أن شخصين خلقا بالضرورة على حب بعضهما البعض، أو كره نفسك. لقد أحدثت هذه الفكرة فساداً في السلوك، لأنها تجعل الإنسان يتخلى عن نفسه. ما الفائدة من فرض الأمور إذا كانت لا بد أن تحدث كما هو مكتوب على ألواح القدر؟ وهذا ما أطلق عليه لايبنتز مغالطة الحجة الكسولة. لقد آمن اليونانيون منذ فترة طويلة بفكرة القدر. ومع ذلك، في ذلك الوقت، كان بإمكاننا التشكيك في هذه الفكرة، من خلال تطوير الحجة التالية: إذا أخبرنا شخصًا ما أن مصيبة معينة ستحدث له، فسوف يفعل كل شيء لتجنبها، الأمر الذي سيعدل المستقبل. . لذا فإن المعلومات عما سيحدث لنا ستكون كافية لتجنب ما كان يعتبر قاتلاً. لكن كاتب التراجيديا اليوناني سوفوكليس كتب مأساة تهدف إلى إثبات أن أنصار القدر ما زالوا على حق. هذه المأساة التي تحمل عنوان أوديب الملك، تحكي قصة طفل تنبأت له العرافات بأنه سيقتل أباه ويمارس الحب مع أمه. ولمنع والديه من حدوث ذلك، تركا ابنهما بجانب النهر، ونشأ بعيدًا عن والديه. وهذا الاحتياط هو الذي سيجعل التنبؤ حقيقة، لأن أوديب الملك لم يكن يريد قتل أبيه أو ممارسة الحب مع أمه، ولكن لأنه نشأ بعيداً عن والديه، لم يتمكن من التعرف عليهما عندما وجد نفسه وجهاً لوجه. ليواجه أباه، ثم أمه، ففعل ما تنبأت به النبوءات. لذا فإن المعلومات عما سيحدث لنا، لا تجعلنا نتجنب ما هو متوقع، بل على العكس تغرقنا فيه... ولهذا السبب ظلت فكرة القدر صامدة لعدة قرون. لكن إذا كانت معلومات هذا التوقع لم تمنع القدر من التحقق، بل على العكس عجلت أوديب نحو مصيره، فذلك لأنه لم يكن كاملا. ولو كان الأمر كاملاً لكان أوديب قد عرف أن هذا الشخص هو والده وأن اخرى هي أمه، ولتأكد من أن الأمر لم يحدث بهذه الطريقة. ولذلك لا يوجد قدر في هذا العالم، طالما أن لدينا كل العناصر التي تمكننا من مواجهته. بالإضافة إلى مأساة سوفوكليس، غالبا ما يستخدم أنصار فكرة القدر الحتمية كحجة للتبرير. والحقيقة أن هذه الفكرة الأخيرة، والتي تتوافق مع الاكتشافات العلمية، تخبرنا أنه إذا تلقى شخص ما بلاطة على رأسه، فذلك لأنه قرر أن يسلك طريقًا معينًا في لحظة معينة لأن شخصًا آخر قد حدد له موعدًا أو لأنها اضطر للذهاب إلى العمل. إذا سقط البلاط عند مرور الشخص، فذلك يرجع إلى عملية التآكل البطيئة والعاصفة التي حدثت في اليوم السابق. وهكذا فإن لكل حدث سبباً، ومعرفة الأسباب الكاملة تجعل من الممكن التنبؤ بالمستقبل بدقة ملحوظة من الحاضر، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هناك مصيراً في العالم. هذا الكائن العليم الذي يعرف تمامًا حالة الكون في الوقت الحاضر والذي يمكنه التنبؤ بالمستقبل، يُسمى "شيطان لابلاس" على اسم عالم كان من مؤيدي الحتمية. لكن هذه النظرية العلمية لا علاقة لها بفكرة القدر، حتى لو بدت لها نفس الطبيعة. تخبرنا الحتمية أن الأسباب نفسها تنتج دائمًا نفس النتائج، في حين أن فكرة القدر، أي القدرية، تخبرنا أنه مهما كان الحدث السابق، فإن التأثير سيكون دائمًا هو نفسه، أي التأثير الذي تنبأ به القدر. ووفقا للنظرية الحتمية، يمكننا تعديل المستقبل، ويكفي تعديل الأسباب لتعديل النتائج. من ناحية أخرى، وفقا للقدرية، مهما فعلنا، فإن نفس التأثير سيتبع دائما، وهو ما يتعارض مع إنجازات العلم الحديث. كيف أنه في عصرنا هذا، بداية القرن الحادي والعشرين، لا يزال هناك أشخاص يؤمنون بفكرة القدر، وأن هؤلاء يتمتعون بهذه الشعبية؟

يشكل الجسد محوراً قوياً في فكر ميشيل فوكو. في عام 1963، قدم كتاب «ولادة العيادة» نفسه باعتباره تاريخا للتوزيعات المكانية التي تجريها النظرة الطبية على الأجسام. إنما بعد ذلك في السبعينيات، وخاصة عندما أعطى التحول الجينيالوجي الذي أحدثه فوكو للجسد أهمية أساسية: شكل الأخير آنذاك نقطة البداية لتحقيق كان يرتكز على التجربة الجسدية للسجن، في نفس الوقت ظهر، في نهاية هذا التحقيق، كدعم وهدف لسلطة أعيد تعريفها. ولكن من الضروري التأكيد على أن الجسد يظهر في هذا البحث بشكل ثانوي، كمفهوم نسبي دائما: نسبي بالنظر إلى المعرفة المأخوذة من الأجساد المعرضة للنظر، ونسبي قبل كل شيء بالنظر إلى السلطة التي تخترق هذه الأجساد وتشكلها كموضوعات لهذه المعرفة.
لكن من خلال هذه النسبية أيضا استقطب الجسد جوانب مختلفة من كتابات فوكو، مثل كمون لم يلج إليه إلا جزئيا ومن خلال تحقيقات متتالية، دون أي ادعاء يالكشف عنه في حقيقته.
هذا الوضع الغامض للجسد، الذي يبدو أساسيا وثانويا في نفس الوقت، والذي كشف عنه البحث ولم يلج إليه، يجب إلحاقه منذئذ بصعوبة داخلية في هذا الأفهوم. إن تحديد هذه الصعوبة يشكل مساهمة فوكو الأساسية في الفهم الفلسفي للجسد، وفي الوقت نفسه يشير إلى موقع مشكلة أساسية تؤثر على تأويل عمله.
تتمثل لفتة فوكو في اعتبار الأجساد سطحا لطبع سلطة حقيقتها الوحيدة هي العمليات التي تجريها عليها. لكن في المقابل، لا يمكن القبض على الأجساد إلا بالشكل المحدد الممنوح لها من خلال سلطة لا يمكنها الهروب منها. لذلك فإن كل شيء يحدث كما لو أن الجسد والسلطة يكيف كل منهما الآخر بشكل متبادل، والمشكلة التي تتبع ذلك هي مشكلة حقيقة الأجساد خارج السلطة، ولكن أيضًا مشكلة فعاليتها المحتملة ضد السلطة.
من هنا يمكن رؤية هذه المشكلة من ثلاث وجهات نظر. الصعوبة مفاهيمية في المقام الأول. منذ السبعينيات، جنح فوكو إلى تعريف الجسد والسلطة بشكل متبادل، بحيث لا يمكن فصل حداثة تصوره للجسد عن إعادة صياغة أفهوم السلطة. في هذه الصياغة، ليست السلطة جسدية فقط من حيث أن تعريفها يتم من خلال "ميكرو-فيزياء " محايثة للجسد الاجتماعي، بعيدا عن نموذج دولتي، ولكنها تفرز أيضا أجسادا فردية تمارس عليها وتندمج فيها.
بين السلطة المحددة بجسديتها والأجساد الفردية المتأثرة بالسلطة، يطرح السؤال حول التمييز الذي يمكن أن يأتي لتحديد أفهوم الجسد ويمنع من تماهيه بشكل صارم مع أفهوم السلطة.
من محايثة السلطة للجسد تنتج أيضا صعوبة أنطولوجية. وبقدر ما لا تصبح الأجساد مرئية إلا في الشكل المحدد الممنوح لها من خلال استثمارها من قبل السلطة، فإن الأخيرة تظهر في الواقع كشرطها الإبستيمي. فمن خلال السلطة تصبح الأجساد في تعددها متاحة بشكل موضوعي للمعرفة.
يقترح ماتيو بوت-بونفيل تصور التعريف المعياري للجسد باعتباره "علة وجود تعددية الأجساد الأقدم منها، وهي تعددية تمنع بالتالي اعتبار الصيغ المختلفة للفردية الحديثة بديهية، مرضية ونهائية". ومنذ ذلك الحين، يطرح السؤال مع ذلك حول الأساس الأنطولوجي المحتمل للأجساد باعتبارها ركيزة للسلطة. لمتابعة القياس الكانطي الذي افتتحه ماتيو بوت-بونفيل، ألا يمكننا في الواقع التأكيد على أن الأجساد تشكل علة وجود للسلطة؟ عندها لن يتم إنتاج الأجساد بواسطة السلطة بنفس الطريقة التي يتم بها إنتاج الفرد الذي يجعل المعرفة الموضوعية بهذه الأجساد ممكنة؛ أو أن الذات هي التي تجعل من الممكن عودة انعكاسية إلى نفسها. ومع ذلك، يفترض مثل هذا المنظور أن يكشف عند فوكو، خلافا للموقف الاسمي الذي يدعيه، عن حيوية يمكن للإلهام النيتشوي الذي يدعم التحول الجينيالوجي أن يسندها.
إن مناقشة هذا التجذر الحيوي للسلطة يغذي عددا معينا من الاستخدامات المعاصرة لفوكو. كما أنه يلقي الضوء على التأويل الذي اقترحه دولوز، منذ نشر "إرادة المعرفة"، لهذا التمفصل بين السلطة والحياة، من خلال إعطاء هذه الأخيرة أولوية وجودية بالنظر إلى السلطة.

    حينما نتحدث عن الإنسان، نتحدث بشكل مباشر عن مجموع الشروط التي تشرطه وتحده أثناء الفعل والسلوك، هذا الأخير هو ما يجعله مميزا عن الحيوان العادي الذي لا يفعل وينفعل بشكل غريزي فقط، ولهذا نجعل من الفعل الأخلاقي والقيمي الفعل المائز للإنسان كإنسان والذي يرتقي به من مستوى البهامة  La bête إلى مستوى القيمة الغائية Une valeur de finalité

ولعل معنى كل هذا أن للفعل الإنساني بعدا بمثابة شرط غائي هو البعد الأخلاقي والقيمي، حيث يصبح للإنسان شرط يشكل مُثُلاً أخلاقية سامية هي التي تعمل على توجيه وعقلنة سلوكاته كما تنظمها في خيط ناظم يجمع علاقته مع الآخرين.

لهذا تشكل الأخلاق مجموع القيم والمعايير والمبادئ والسنن والقواعد والأطر التي تتضمن القيم الإيجابية والمثل العليا السامية التي تشكل المستوى الأول الكابح للنوازع الشريرة والعدوانية Agressivité  المتأصلة لدى بني البشر، ففي مقابل الإنسان ككائن أخلاقي وقيمي بطبعه، هناك إنسان ذئب لأخيه الإنسان بتعبير توماس هوبز، أو إنسان مريض بالعدوانية بتعبير سيغموند فرويد، كما أننا نحاول دائماً أن نشترط في علاقتنا ونفترض الغير الذي هو أنا ليس أنا بتعبير جون بول سارتر، أن نفترض وجوده بمعنى أن نفعل الخير لأجله، ونتجنب الشر والإذاية لأجله أيضاً.

ولهذا إن كان طموح هذا الإنسان هو التحرر من كل الدوافع الغريزية التي تغرزه وهي فطرية فيه، كان عليه الدخول إلى هذا العالم الميتافيزيقي بمعنى المتعالي، والذي هو عالم مجرد سامي نطلق عليه إسم عالم الأخلاق والقيم أو عالم مملكة الغاياتRoyaume des finalité بتعبير كانط، وذلك كي يغدو هذا المتوحش-الإنسان كائناً أخلاقياً قيمياً، مع مراعاة كونه كائناً عاقلاً طبيعياً بتعبير كل من أرسطو وكانط ورسو.

ولكل هذا نجد أن القيم الأخلاقية هي الفرامل الحقيقية التي تفرمل وتكبح نزوة الإنسان من خلال منحه القواعد المعيارية الملائمة للتصرف، وتجيب عن سؤال كانط ماذا يجب علي أن أفعل ؟ ب يجب عليك فعل كذا وكذا وكذا ... إلى آخره، كي لا تسقط في هيمنة الأهواء والنزوات وما قد يصدر عنها من عنف تجاه غيرك من جنسك.

لهذا يعمل مبحث الأخلاق والقيم على حماية الإنسان وتماسك المجتمع وتلاحمه، والحفاظ على الوجود، من خلال تأكيد بعض القيم وترسيخها، وتحديد الواجبات التي على فرد القيام بها سواء نحو ذاته أو نحو مجتمعه الذي يحتوي أغياره.