
أبدأ عرضي بإدراج قولتين موحيتين : يقول غوته : " لا يأخذ المرء في معرفة شيء إلا إذا كان يحبه ، والمعرفة ستكون من الإحاطة والعمق بقدر ما يكون الحب ، بل الانفعال نفسه أنظمُ قوةً وأحفل حياة ." في حين يقول ليوناردو دافنتشي : " كل وجدان كبير هو ابن لمعرفة كبيرة . " تقدم هاتان القولتان رؤيتين مختلفتين لطرائق الاشتغال التي تتوزع بين إرادة المعرفة والوجدان المحيط بالمعرفة . أي بين المعرفة الصادرة عن العقل والانفعال المرتبط بحب المعرفة ولذة المعرفة نفسها . للوهلة الأولى يبدو بين العقل والانفعال نوع من التناقض لآن العقل يميل إلى البرود والهدوء الفكري والانفعال يميل إلى الاندفاع والمتعة . لكن التراجيديا كلها تتلخص في محاولة إقامة هذا الفصل البائن بين العقل والوجدان ، بين التفكير والانفعال ، بين شروط المعرفة الصورية ، ومطالب الإبداع القلبية . ولعل هذا ما يختصره راسكولنيكوف بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي حين يصرح لصوفيا المومس البريئة : " إن العقل هو ما كان يقودني ، وذلك بالضبط هو ما ضيعني ! " أي أن التفكير البارد الخالي من الوجدان والقائم على التقدير الحسابي هو الذي دفعه إلى ارتكاب الجريمة حين قتل المرابية العجوز .
إذن أعلن منذ الوهلة الأولى أنني لم آت إلى الشعر من الفلسفة بل أتيت إلى الفلسفة من الشعر . وهذا ما وضعني أمام كثير من الثنائيات القائمة على المفارقة : اللغة / الفكر – الجمالي / المنطقي – الخصوصي / الكوني – الخيالي / العقلي – العاطفي / الصوري – الحسي / الوجودي – الصورة / التصور .. ويمكن لهذه الثنائيات أن تمضي إلى ما لانهاية . ووجدتني أمام الإشكال التالي : كيف يمكنني العبور للقفز فوق هذه الثنائيات ؟ هذا التساؤل هو بالأحرى تساؤل فلسفي وليس شعريا ، وهو ينتمي للحدوس الأولية التي بدأت أكونها عن تجربتي الفنية . سيقودني ذلك إلى نوع من الممارسة المتعالية بالتعبير الكانطي أي إلى محاولة تبين الثوابت الأولية التي تؤسس لعملي الإبداعي ومحاولة تبين الخيط الناظم الذي يربط الشعر بالفلسفة .
إن الفلسفة في بداياتها الأولى صيغت شعرا وكانت بمثابة انفعال إنساني بالطبيعة في كونيتها . فأشعار بارمنيدس وهيراقليط التي احتفظ ببعض منها أرسطو شكلت رؤية جديدة في الشعر حيث استغل الشعر لا من أجل السرد الملحمي ورواية الأخبار المتعلقة بالآلهة التي تتحكم في أقدار البشر ، وإنما من أجل تكوين نمط جديد من التفكير يقطع مع التفسير الأسطوري للطبيعة .