oumari4.jpg"لقد مات التأويل ونشأت التأويلات"
"إن الإقرار بأن كل فهم يتضمن حكما مسبقا هو إقرار يمنح المشكلة الهرمينوطيقية قوتها الحقيقية"[1]
ما من شك في أن قضية التأويل هي من أعقد المسائل وأكثرها إثارة للجدل عند القدماء والمحدثين على السواء وذلك لارتباطها بمحاور على غاية من الأهمية وتأثيرها في مواضيع حساسة يتداخل فيها الدنيوي بالمقدس والفقه بالسياسة والأخلاق بالعلم والتنظير بالتطبيق وأزمات السلطة بطموحات الرغبة.
ومن البين أن الحديث عن فكرة التأويل وتطور المفهوم والتطرق إلى مناهج البحث فيه من طرف مختلف الاتجاهات الفكرية مهما تفرقت مشاربها لم يعد أمرا مخفيا ومتعذرا أو مؤجلا بل صار حديث الساعة ومطلبا حيويا وحاجة أكيدة وذلك للأخذ بالأيادي المنتجة وإضاءة عقول الناس حتى يتمكنوا من فهم أمور دنياهم ويتدبروا شؤون عالمهم ولمساعدتهم في سعيهم للكشف عن مواطن الخلل في نظرتهم إلى أنفسهم والى من حولهم وتفادي الوقوع في الأخطاء التفسيرية لنصوصهم وأيضا من أجل شد أزرهم في عملية البحث عن حلول مناسبة لمشاكلهم الصعبة وتحدياتهم المستعصية.
ولا تحاول الهرمينوطيقا بماهي فن في التأويل الوصول إلى الفهم الصحيح للنصوص المقدسة كما يتبادر للأذهان فحسب بل هي تجعل من كل التجارب التي يخوضها الإنسان في حياته نصا وتعمل على تحويل هذه النصوص إلى أفعال وحركات ثورية في التاريخ ومقامات وجود وتتيح فرصة التأمل الناضج والعقلاني لكل دين وتقترح إصلاحا مناسبا للطرق التربوية والمناهج التفسيرية . كما أن هذه الصناعة الشريعة والفكرة اللطيفة تسعى إلى مواكبة التطور الثقافي وتتكيف مع التغير الذي يطرأ على نظرة الإنسان إلى الكون وتدعو إلى ضرورة الانفتاح على المستجدات وتشارك في كل توجه يقصد بناء الحضارة ويرتقي بالفكر نحو معايشة الواقع والتعبير عن جوهر التغيير المادي والنفسي والأخلاقي.

anfasseلقد أفضت موجات الحداثة المتتابعة الى تقدم هائل في العلوم الطبيعية لاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين ، ولم يعد من السهولة بمكان قياس قدرات الأنسان في السيطرة والتحكم بالطبيعة وتجييرها لصالحه .. فضلاً عما تحقق من تقدم ورقي في مضامير الحضارة والثقافة ..  يعد طفرة أفتراقية هائلة عن مرحلة القرون الوسطى .. أنجلت عن تطور نوعي كبير تمخضت عنه (( حياة أجتماعية مترفة تصوغها أنظمة قانونية ونظريات معرفية )) لكن هذا التطور الكبير بأدواته التكنولوجية الجبارة ، لم يخلق التوازن النفسي المطلوب للجنس البشري ، وبالتالي لم يوفر للأنسان بحبوحة السعادة المرتجاة .. رغم هذا الترف والثراء الفاحشين .. أن هذه الأنجازات العلمية كلما حققت تقدماً أكبر كلما أفرخت مخاطر تهدد سعادة الأنسان وتنغص سلامة البيئة .. ذلك أن الأنسان الحداثي أتجه بكليته الى العلوم الطبيعة ، وفي غمرة أنغماسه في مد التقدم التكنولوجي غفل أو تغافل عن المعارف الأخلاقية والفلسفية .. مما أوجب ضآلة في نمو العلوم الأجتماعية إذا ما قيست بالعلوم الفيزيائية .. الأمر الذي قضى بحدوث صدع بين الفلسفة والعلم .. ولعل عجز العلم عن أن يجعل من تقدمه خيراً عميماً للأنسان ، يجنبه آثاراً جانبية مؤذية للأنسانية ، أنما هو وليد ذاك الصدع .. يقول لويس دي بروليه : (( نشأ في القرن التاسع عشر حاجز بين العلماء والفلاسفة . فالعلماء ينظرون نظرة شك الى تأملات الفلاسفة التي كثيراً مابدت لهم وقد أعوزتها الدقة في الصياغة كما أنها تدور حول قضايا عديمة الجدوى ولاحل لها . أما الفلاسفة فلم يعودوا بدورهم مهتمين بالعلوم الخاصة لأن نتائجها كانت تبدو محدودة . ولقد كان هذا التباعد ضاراً بكل من الفلاسفة والعلماء )) .   

vivre-ensemble.jpg" لكي تتكون جماعة أخلاقية يجب أن يخضع كل الأفراد إلى تشريع عمومي واحد ويجب أن يعتبروا القوانين التي توحدهم بوصفها توجيهات من مشرع مشترك"[1].  عمونيل كانط
تعلن الأخلاق والقوانين والسياسة عن قواعد تتعلق بثلاثة سجلات متميزة : الأولى هي الحياة الخاصة بالوعي، والثانية هي الحياة في المجتمع، والثالثة هي الحياة في حضن جماعة مدنية ويعبر عن ذلك اللفظ الإغريقي بوليس الذي يعني مدينة أو دولة ومنه وقع اشتقاق لفظ السياسة. إن الأخلاق هي التي توجه وتتحكم في الحياة الخاصة ويعني أن نتصرف وفق ما يقتضيه الواجب ولا أحد يدفعنا إلى ذلك تحت الإكراه. في حين تتحكم القوانين والسياسة في التصرفات الخارجية للبشر إذ تتكفل القوة بإعادة وضعهم في الطريق المستقيم حتى ولو كان ذلك على غير ما يشتهون وعكس رغباتهم. لكن كيف يمكن التمييز بين القواعد القانونية والقواعد السياسية؟
إن القواعد القانونية تضبط العلاقات بين الأفراد والمجموعات فيما بينهم والصياغة العامة تكون على النحو التالي: "لا تسبب الأذى لغيرك". أما القواعد السياسية فهي على خلاف ذلك تضبط العلاقات بين الفرد والدولة وبين الفرد والمجموعة التي ينتمي إليها ونذكر منها دفع الضرائب وأداء الخدمة العسكرية والواجب المدني. من هذا المنطلق تحدد القوانين الأخلاقية والحقوقية والسياسية شكل الاجتماعية التي ينتمي إليها الأفراد ولو عدنا إلى أرسطو فإننا نجده يميز بين ثلاثة مجموعات طبيعية هي العائلة والقرية والمدينة- الدولة وكل واحدة من هذه المجموعات تمتلك غايتها الخاصة بها ولكن الهدف الأسمى للجميع والذي تعبر عنه بشكل جلي الجماعة السياسية هو خيرية العيش سويا.
إن قواعد الأخلاق والقوانين والسياسة ترسم حدودا لسجلات ثلاثة تضيع فيها حريتنا ، فالقانون يضمن بلا ريب أكثر الأشكال صورية من الحريات بما أنه يحرص على ضبط العلاقة بين الأشخاص وممتلكاتهم.  إن المبدأ الكوني للقانون يقتضي في أن يتطابق كل فعل بشري مع الحق بحيث يسمح لحرية كل فرد بأن تتوافق مع حرية الجميع وبالعكس كل فعل لا يمكن أن يتصالح مع الحرية العامة هو فعل غير عادل.

philo.jpg" لا تزال الأمة حية ما دامت تعاودها ذكريات ماضيها ومالنا والمستقبل إذا لم يكن من ماضينا ما يرسم في نفوسنا المثل الأعلى الذي تمتد نحوه آمالنا غير متناهية. وما حاضرنا إلا خطوة نخطوها من ماضينا إلى مستقبلنا، فلماذا نخطوها إذا كنا لا نتذكر ما وراءنا ولا نأمل فيما أمامنا..."
استهلال:
الاحتفال بمرور قرن على ولادة الفاضل بن عاشور (1909-1970)  اتخذ طابعا فلسفيا عندنا هذه المرة، حيث كان الاتجاه نحو البحث عن الفلسفي فيما كتب الرجل. والمفاجأة حدثت حيث نعثر له على مقالات في الفلسفة الإسلامية من جهة العلوم والاجتهاد والأعلام وأيضا من جهة الحضارة والمدن والجغرافيا والبحوث اللغوية ومراجعة الكتب والمتفرقات والأدب والجامعات. فماهو تصوره لتاريخ الفلسفة عند المسلمين؟ وماهي خصائص الفلسفة التي عثر عليها في القرآن؟ وكيف توصل إليها؟ هل عن طريق الاجتهاد أم من خلال التفسير؟ وكيف نفسر شدة انبهاره بالغزالي؟ وبأي معنى ننسبه إلى الإرث الخلدوني؟ وما السر وراء نظرته إلى الكندي من زاوية علاقته بمدينة بغداد والى بغداد من جهة حضور الكندي فيها؟ هل من ضرورة تقتضي التعريب؟ وماهي المشاكل التي وقعت فيها اللغة العربية؟ وكيف يمكن تجديد النظر فيها؟ ماهي العناصر التي تتكون منها الثقافة الإسلامية؟ وأي دور لفلسفة القرآن في تبويب هذه العناصر؟ ألا يجوز الحديث عن إشارة الشيخ الفاضل إلى مفهوم حضارة اقرأ في مدونته؟ بمن تأثر أكثر؟ هل بالكندي أم بالغزالي؟ وهل كان متكلما أشعريا أم فقيها مالكيا؟ ماهي منزلة الفكر التونسي في هذه الحضارة؟ وضمن أي مجال تتنزل دعوته إلى الوحدة المغاربية؟ هل ضمن فكرة الجامعة الإسلامية أم في اتجاه الوحدة العربية؟ ماهو الدور الذي يلعبه الفقه في توطيد العروة الوثقى للأمة؟ وهل تتوقف قاطرة الإصلاح على استئناف باب الاجتهاد؟ ما سر الحنين الذي يجذبه إلى الدولة الحفصية ومدينة بجاية الجزائرية وصقلية؟ هل يمكن أن نعتبر بن عاشور هو اشراقة من اشراقات العقل المستنير الذي جادت به علينا جامعة الزيتونة المباركة؟
ماهو في ميزان النظر بالنسبة إلينا هو الابتعاد عن هاوية التقليد  والإعراض عن الرجوع القهقرى والإقبال على منهج الاقتداء وأسلوب الربط بين الالتزام الاجتماعي النقابي والموقف الأدبي والنظري.
فلسفة القرآن:

socrate.jpgسقراط ،اسم يكاد جميع المتمدريسين يعرفه ،حتى ولو لم يعرف شيئا عن حياته وفلسفته، وهو عند المتخصصين في الفلسفة من انزلها من السماء الى الأرض ،اي من تفكير مجرد متعالي الى فكر داخل الاسواق ووسط العامة وفي الردهات والاروقة ،منه ينطلقون في تأريخهم للفلسفة ومنه يحددون معناها.
لقد علمنا سقراط ان نعرف انفسنا بأنفسنا،وأن نعرف كلماتنا ،وان نستجوب اليقينيات. ولكن هذا البحث الذي ننجزه يوحي بأننا ننقلب على سقراط،نشك في وجوده التاريخي،في وجوده العيني ،نشك في ان سقراط واجه وناقش السفسطائيين،نشك في ان سقراط مواطن اثيني ،بل من أكثر شخصياتها شهرة . لكننا في حقيقة الأمر نمارس التفلسف السقراطي،نستجوب القينيات ،نشك،وبهاذا مازلنا تلاميذ لسقراط. لكن الا يكون الشك في وجود سقراط مناسبة لتغيير النظرة الكلاسيكية لتاريخ الفلسفة وتطورها؟
لم أقرأ اي كتاب ولم أسمع اي محاضرة أو شخص يشك في وجود سقراط تاريخيا ،لكنني شككت في وجود سقراط ،وكثير من الزملاء شاركوني الفكرة،ولكن لماذا الشك في سقراط دون غيره من الفلاسفة ؟ ربما هو ذلك الحس الذي يكتسبه طالب الفلسفة،ذاك الحس الريبي في كل ما يوحي بتجاوز العقل باعتبار ان شخصية سقراط نفخ فيها كثيرا حتى أصبحت قريبة من الاسطورة ابعد من الانسان العادي.
أقول اني شككت في وجود سقراط التاريخي وقررت ان أحقق في ذلك ،حتى وجدت في أحد كتب طه حسين وهو كتاب "من بعيد" الذي يحكي في أحد فصوله انه كان من بين المشاركين في مؤتمر العلوم التاريخية الذي نظم في بلجيكا، ويحكي أنه ذهب الى لجنة التاريخ العقلي في العصر القديم فأصيب بدهشة عظيمة ولذة أعظم حين سمع أحد الفلاسفة البلجيكيين وهو الاستاذ"دوبريل" الذي ألف كتاب عن تاريخ الفلسفة اليونانية، يزعم فيه أن سقراط شخص خرافي، ولم يعرفه التاريخ، وان خلاصة حكم التاريخ فيه كخلاصة حكم التاريخ في "هوميروس" كلاهما شخص آمن به القدماء وأظهر التاريخ أنه لم يوجد قط،وكلاهما شخص اتخد رمزا لنوع من الادب ،فاتخد هوميروس رمزا لكل الشعر القصصي الذي عرفه اليونان وتنتقلوه قبل القرن السابع ،واتخد سقراط رمزا للفلسفة التي عرفها اليونان وأفتنوا بها منذ آواخر القرن الخامس وطول القرن الرابع قبل المسيح1.ومعروف ان شخصية" هوميروس" شخصية خرافية ،وهو رجل لا نعرف عنه شيئا مؤكدا بل البعض يعتقدون انه كانت هناك مجموعة متعاقبة من الشعراء أطلق عليها هذا الاسم في وقت لاحق2.

الحرية والفلسفةليس في وارد هذه المقاربة توخي النظر في الجذور التي أفضت إلى غياب الفلسفة وما لابسها نظرياً وتاريخياً , على أهمية هذا وخطورته , وليس القصد من وراءها الوقوف على المآلات التي تناتجت عن هذا الغياب في الفضاء الثقافي العربي العام , من غيابٍ كلّي أو شبه كلّي لسلطة العقل ومرجعيته لصالح مرجعيات ما قبل معرفية مُعتمة , تناسلت ولم تزل بما هو أشد ظلاميةً وقتامةً , لدرجة بتنا نلمس فيها التأثيرات الناتجة عن ذلك ونعاين تجلياته في واقع التخلف السياسي والثقافي والاجتماعي العربي الذي نشهده بين ظهرانينا .

   إن هذه المحاولة تروم البحث في ميكانزمات إهمال الفلسفة وتفاعلاتها , وما نتج عنها من تراجعٍ لمكانة التفكير الفلسفي في السياق العربي الراهن  , والذي يشهد بمجمله انكساراً وتعثراً في شتى الأصعدة و المستويات , مما حال بيننا كأمةٍ لم تزل تبحث عن مشروعها النهضوي  وبين التطور والتقدم القومي و الإنساني , وانسحاباً ملحوظاً من ميدان الفكر العلمي بعدما قطع شوطاً طويلاً من الابتكار والإبداع , من المحتّم أننا نستهلك آثاره وتداعياته هاهنا , في الجغرافيا العربية الممتدة شرقاً وغرباً , بدءاً من الأقراص المدمجة ذات الاستخدامات التقنية البسيطة وصولاً إلى الفسفور الأبيض الذي يختص بإذابة الأجساد البشرية !! .

   الإشكالية الأساسية في طرح القضية التي بين أيدينا تتعلق بمدى تأثير الفلسفة في الجمهور العربي ومدى تفاعل الأخير معها , لكن مهلاً , فإعمال النظر في هذا لا ينهض إلا على فرضية وجود فلسفة و إنتاج فلسفي ومشروع فلسفي مستقل وفاعل , وهذا لا يصحّ عربياً , مادامت الفلسفة لم تزل معزولة في جزيرة صغيرة تقبع عند أطراف المحيط المتشظي , ومادامت حرية التفكير الفلسفي أصلاً محظورة و محجورٌ عليها من قبل سُـلط سياسية واجتماعية وثقافوية ترى في الشُغل الفلسفي ممارسة عتيقة ونخبوية انقضى زمنها , إلى جانب نظرةٍ يشوبها التهكم والسخرية , وقد يكون من الطريف هنا أن نذكر أن بعض المصريين يدعونها بـ " الفلسحة " تعبيراً عن روح السخرية التي يتمتع بها ضحايا الابتذال والتسطيح , فضلاً عن أن تلك السُلط غير مكترثة أصلاً بالفكر العلمي ولا مبالية إزاء حالة الفوات الحضاري و الحطام العمومي  بلغة الطيب تيزيني , التي تستبد بالأمة ومشروعها المنتظر , إذ أن لهذه السُلط في مجموعها مصلحة متقاطعة في تأبيد ظاهرة الظلام الفلسفي في المجال العام  , لأنها منتفعة من تغييب الفلسفة وعزلها  , بمعنىً ما أو بآخر , لكونها لا تفكر إلا بما يضمن لها المزيد من احتكار الثروة والسلطة . 

anfasse.org" للبيروني نظريات في علم الطبقات والأزمان الجيولوجية... وتقترب نظرياته في هذه العلوم من النظريات الحديثة... ولم تكن هذه النظريات معروفة عند اليونان ولا منتشرة بين معاصريه. ويمكننا أن نعده لذلك من رواد العلوم الجيولوجية، خاصة وأن هذه الأفكار العلمية الصائبة لم تنتشر في أوربا وتأخذ طريقها إلى أبحاث علماء النهضة كليونارد دافنشي وأمثاله إلا بعد وفاة البيروني بعدة قرون."[1]
 
يبدو أن الفرق بين الفلسفة الغربية والفلسفة العربية الإسلامية عند بعض المؤرخين أن الأولى مبنية على الحوار والتجادل وتاريخها شهد العديد من المراجعات واحتكم إلى منطق الاستيعاب والتجاوز وعرف التراكم والاستمرارية وشهد القطائع والثورات وما رافقها من انكسارات وتحولات، بينما الثانية هي مجرد فلتات للذهن وخواطر وشتات من الآراء متفرقة وتعليقات وشروح متناثرة على نصوص شرقية ومسائل إغريقية لا يوجد بينها رابط منطقي ولم تعريف التبويب والتنظيم ، بل لقد استنتج من ذلك البعض أن الحديث عن تاريخ للفلسفة العربية الإسلامية هو نوع من التجوز والمبالغة وأن هناك فقط فكر أو منظومة من المعارف لم تبلغ من النضج والتماسك والهيكلة التي تسمح لنا بأن نسميها فلسفة واستندوا في ذلك إلى كثرة الانحباسات والتقطعات وغياب التراكم وقلة المجادلة بين المشتغلين بالفلسفة في حضارة إقرأ وفقدان الحوار والمراجعة من طرف اللاحقين على السابقين في المجالات العلمية وعدم وجود مختبرات ومراكز بحثية مشهورة وغياب التقاليد التخصصية وانحصار الاهتمام في الأفراد وافتقاده على صعيد المجموعات. فإلي أي مدى تصح هذه النظرة؟ وكيف يمكن الإسهام في تملك فلسفة الضاد لتاريخها الخاص وفهمها لذاتها ووعيها بأصولها وأسسها وأهدافها؟

anfasse.orgيرى المفكر علي حرب في كتابه (( الماهية والعلاقة ، نحو منطق تحويلي )) أنه بصدد إجتراح منطق أسماه المنطق التحويلي بوصفه نقداً للمنطق الصوري .. ويقوم منطقه على أساس القراءة النقدية التحويلية (( على نحو يتيح إبتكارات مفهومية وصيغ عقلانية مختلفة )) .. من أجل إنتاج إمكانيات جديدة للتفكير تعيد تنظيم العلاقة بين الوعي واللاوعي كما ترتب علائق المفهوم بموضوعه أملاً في ولوج المناطق المحرمة التي لم تطأها هواجس المفكرين .. وهو ينشد من كل ذلك الى إبتداع ممارسات جديدة للفكر تنطوي على علائق مبتكرة بالفكر أي علاقة الفكر بالآخر سواء أكان لغة أو ذاتاً أو معرفة أو شيئاً أو حركة أو منهجاً ... الخ ، وهنا نريد أن نسجل بعض الملاحظات كمناقشة لبعض إطروحاته سيما في الصفحات الأولى من الكتاب إذ يقول : (( إن النشاط الفكري ، هو ضرب من ضروب الممارسة . إنه خبرة وجودية بالمعنى الأصيل للكلمة ، أي هو مراس ذاتي وصناعة للحقيقة بقدر ما هو تجربة حية تصاغ بلغة مفهومية )) .. إن النشاط الفكري هو كفاءة أنطولوجية وليس خبرة وجودية فحسب ، هذه الكفاءة / القدرة متآتية من تأصيل عوامل عديدة منها الخبرة وخزين المعلومات والصفاء العقلي ... الخ ، كما لايمكن إعتباره مراساً ذاتياً بعيداً عن البيئة وحتمياتها وسيروراتها .. فضلاً عن إعتباره معني بصناعة الحقيقة فأمر مشكل إذ إن مهمته البحث عن الحقيقة لإعادة تشكيلها ليس بمعنى نمذجتها بقدرما مايتغيا مقاربة المعنى .. وإضاءة المفهوم . ثم يصف منطقه بأنه : (( يتجاوز منطق الهوية والمطابقة )) .. إن تجاوز الهوية ليس بالأمر المتاح وبالسهولة التي يتم طرحها ، نعم التحرر من تابوهات الهوية والإنطلاق مع إنفتاحها وشفراتها ، وإشتباك تلك الشفرات بشفرات ضدية في عملية ترميز تتعاطى مع المعاني الكلية التي صارت حاجة الفكر الإنساني إليها مسيسة في عصر الجدل التكنولوجي الذي راح يغرق الإنسان في (( أتوماتية لاواعية )) قد تحول إنسان التقدم العلمي والتكنولوجي العظيم الى إنسان جملي مشبع بالهمجية بقدر تشبعه بتكنولوجيا المعلومات والتقنيات المستحدثة . نعم ذلك الإشتغال على علائق المعنى هو الكفيل بالإنعتاق من قيود المطابقة والتحرر من منطق الهوية القار . أما قوله بأهمية إنفتاح الفكر على (( كثافة التجربة وإشتعالات الحدس وألاعيب الدلالة )) ، فإن الفكر الحديث يكاد يغرق في التجريب منذ بيكون حتى تسيّدت التكنولوجيا على االعلم الذي أصبح تابعاً ووليداً لها .. والإهتمام بألاعيب الدلالة والجدل اللفظي ، قد يرى الى حركة الفكر المطلوبة في البيان بدلاً من البرهان ، وهذا الرأي قديم منذ عصر السفسطة .. وجديد حسبما ماظهر من مناهج جمالية كالبنيوية والتفكيكية التي تقوم على أساس اللعب الحر للغة .. وقد تنتهي الى العدمية اللاغائية . فالمنطق التحويلي في نقده للمنطق الصوري ربما كان محقاً ليس بمعنى أن الأول صحيحٌ والثاني خاطيءٌ .. بل ربما كان الثاني يكتسي الكثير من الصحة ، لكنه أي المنطق الصوري غير منتج لأنه فكر دائري تموت فيه الحركة في نقطة البداية .

anfasse.org"إن من يثبت وسط الأخطار ويتصرف حيالها كما يجب لهو أشجع بحق ممن يسلك بثبات في الأوضاع المطمئنة."[1]
لا يمكن الحديث عن الفلسفة إذا ما أهملت الشجاعة لاسيما وأن أهم فضيلة ينبغي أن يتحلى بها الفيلسوف هي أن يكون شجاعا ، وطالما أن هذه  الهيئة الأخلاقية هي من الأمور صعبة التحقيق وترتبط بالمشقة والمكابدة ولذلك ظلت موضع مدح وتعظيم، وقد وضعت الشجاعة منذ القدم جنبا إلى جنب مع الحكمة والعفة والعدالة ولكنها في الفترة الحديثة أصبحت مقترنة بالإرادة والحرية والقوة تقاوم إغراء اللذة وتتغلب على كل تخوف من الألم.
إن أهم مبرر يدعونا إلى الاهتمام بمسألة الشجاعة هو ما نشاهده اليوم بأم أعيننا من استيلاء الكسل والجبن على النفوس وتعمد اختيار القعود والانتظار على الحركة والنشاط وبروز ضعف الشخصية وانحطاط مستوى الارتقاء لدى الأفراد والوقوع فريسة الاستلاب والسعادة الوهمية وفقدان القيمة الذاتية عند كل فرد وتفضيل العيش مع الحشود رغم ما يسببه ذلك من امتثالية للسائد ورضوخ للعادة والاقتناع بحياة القطيع.
إن الشجاعة هي الثبات عند كل خطر وضبط النفس أثناء مواجهة كل محنة وذلك بالانتصار على الخوف واعتماد الجسارة والإقدام والتحلي بقوة الشكيمة ورباطة الجأش والصبر على وقوع الشر وحضور الذهن عند الشدائد وذهاب التشتت عن العقل وحضور التركيز والحصافة والكيس والفطنة في كل موقف عصيب والقدرة على احتمال النوائب وتقلبات الدهر.إن الموقف الشجاع  هو الموقف النقدي الذي يحتكم إليه المرء عند المحاسبة والمراقبة وقول الحق والشهادة على العصر وهو كذلك ما يميز الإنسان وتعوز الحيوان لارتباطها بالقوة الغضبية والإرادة العاقلة التي تجعلها تقاوم الميول.
" إن كثيرا من الأعمال اليومية يحتاج إلى شجاعة لا تقل عن شجاعة الجنود"[2]وإن الشجاعة ترتبط بالسلوك اليومي للبشر وتتنزل مكانة مرموقة في سلم القيم وهي كذلك مبدأ يتقمصه الفرد بشكل منعزل وتؤمن به المجموعات وتسطر على ضوئه طباعها ومزاجها، وعلاوة على ذلك هي مناخ عام يتنفسه الناس في لحظات المنعطفات والتحولات الكبرى التي تمر بها الشعوب وقد تتحول إلى عقيدة مشتركة ورأي جماعي في لحظات المواجهة والتحدي وترتبط بالعزيمة والإرادة. وربما الشعب الفاقد للشجاعة هو الشعب الذي له إرادة ضعيفة أو تكون إرادته سيئة وشريرة وتتغلب عليه انفعالات الجبن والتملق، أما الشعب الشجاع فهو الشعب المغامر الذي يحبذ أفراده التجول والسفر ويهيمن على الطبيعة ويحل مشاكله مع العالم. ولكن يمكن أن نميز بين الشجاعة البدنية والشجاعة الأدبية حيث تتساوى شجاعة الكتاب والعلماء مع شجاعة المحاربين والسياسيين.

ANFASSE"من أول ثقافة العصور القديمة الى آخرها من السهل أن نجد شهادات على الأهمية المعطاة ل"لانهمام بالذات"وربطها بموضوع معرفة الذات." ميشيل فوكو، درس هرمينوطيقا الذات.
استهلال:
لقد اعتقدت الفلسفة لفترة طويلة أن جوهر الإنسان هو نفس ناطقة وأن التفكير والإرادة والحرية هي  أفعال للنفس تتعالى بها على الجسد وتتحكم عن طريقها في الانفعالات وفي أفعال الانسان وأقواله وقد تصورت أن الفكر الواعي هو كل الفكر وأن الذات العارفة هي كل الذات لاسيما وأن الحواس تخدع المرء والغرائز مثلت عقبة أمام اختيار الفعل الارادي الحر وأن الجنون عدو العقل والخيال كله أباطيل وتحريف للحقائق.
 ولقد تعززت مثل هذه الاعتقادات عندما ركزت الفلسفة الحديثة  نفسها على أرضية ميتافيزيقية صلبة وشكلت صورة دغمائية للفكر تؤمن ببداهة الكوجيتو وصدقية الضمان الإلهي وأخلاقية العقل واستقامة الإرادة وتحمل كل كائن المسؤولية الوجودية وتعتبر مشروع اثبات الانية أمرا ممكنا عن طريق المعرفة.
 لكن مع ظهور فلسفة الرجة  وصعود أسهم كاشفي الأقنعة وأقطاب الظنة خاصة مع جنيالوجيا نيتشه والاقتصاد السياسي عند ماركس وعلم التحليل النفسي عند فرويد بدأت الحقيقة تظهر ووقع اكتشاف "مشكل زيف الوعي والوعي باعتباره زيفا" واتضح أن علاقة الانية بالغيرية هي غامضة غموض العلاقة بين الوجود واللاوجود. على هذا النحو تبين أن الوعي لا يمثل إلا القشرة الظاهرية من الشخصية الإنسانية وأن الذات ليست قط من يفعل بل هي وهم خالص وعالمها الباطني مليء بالسراب وبالأنوار الخادعة والأنا أصبح مجرد خرافة ووهما وتلاعبا بالألفاظ وأن الوعي بالحرية يخفي اللاوعي بالتبعية وأن الإنسان ربما لا يكون مسؤولا عن أفعاله طالما أنه مضطهد من قبل أسياد ثلاثة هي متطلبات الواقع الخارجي ورغبات الهُوَ وأوامر الأنا الأعلى وطالما تتنازعه رغبتان متناقضتان الأولى هي التناتوس وتجعله يريد العدم ويحبذ الفناء والثانية هي الايروس وتجعله يريد الوجود ويقبل على الحياة.
 بيد أن الأسئلة التي تطرح الآن وهنا هي : ما المقصود بالأنا؟ كيف تم اكتشاف الذات؟ ما الفرق بين الذات والأنا؟ وما المقصود بالذات الواعية بجميع جوانب وجودها؟ كيف كانت حال الذات بعد ظهور فلسفة الرجة؟ وماهي البراهين التي قدمها كاشفو الأقنعة لثبتوا تبعية الذات وتشققها؟ وما مكانة الوعي على إثر هذا الاكتشاف؟ هل أرست مدرسة الارتياب ثورة في مستوى تعريف كينونة الإنسان؟ ماذا يصنع المرء بنفسه؟ ولأي عمل يخضع نفسه؟ كيف يحكم على أعمال يقوم بها بنفسه ويكون فيها هدفا ومجالا وأداة ؟ ماهو دور الوسيط اللغوي في اكتشاف المرء لنفسه؟ وكيف تكون اللغة هي اطار تحقق الذاتية؟

anfasse.org"يمكن أن يعد سؤال الفلسفة في الإنسان سؤالا استهلاليا وقائما في نفس الآن في أفق كل الأسئلة حتى لكأن تلك الأسئلة تذهل عن ذاتها لو هي ذهلت عن هذا القائم في أفقها جميعا..."[1]
استهلال:
إن البشرية اليوم في أمس الاحتياج إلى إعادة تحديد مفهوم الإنسان، وتسديد النظر إلى منزلته في العالم وقيمته بين الكائنات وتنبيهه إلى الأمانة التي كلف بحملها وشرف نفسه بقبولها وإن اللحظة التاريخية تقتضي إيقاظه من غفوته وجحوده وتحقيق المصالحة بينه وبين ذاته وإعادة وضعه في طريق الرسالة الوجودية السامية وتحميله مسؤولية تبليغها إلى الآخر الإنسان  والإنسان الآخر بتؤدة ومرونة وسماحة وأن يتجنب كل شطط أو لغو أو عسف أو تحيز وأن يعمل على التزود في كل ذلك بالتدرب على الشهود والاستبصار ومراجعة ذاته ونقدها نقدا مبرما .
إن الأوكد في هذا الزمن الرقمي المعولم هو تهيئة الكائن بالبشري لكي يكون جديرا بسكنى العالم وتدريب الطبقة الناشئة على الاعتبار من زمانية وجودها وتاريخية مقامها وتناهي طبعها وتربية الجيل القادم على تقدير كرامة بني آدم والحفاظ عليها والامتناع عن المساس بها، سواء أكان ذلك ثقافيا أم سياسيا أم ماديا، والتشمير على الساعد من أجل الاعتناء بذاته كإنسان موجود مع الآخر ومن أجله وليس ضده ومن أجل نفسه أو في خدمة أية قيمة أخرى متعالية عن وجوده تنحط بمنزلته وتخرب جبلته.
إن المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى هو إعادة بناء النزعة الإنسانية على نحو مختلف عن توصيفاتها الكلاسيكية التي أفرزت الويلات والكوارث والحروب والتي كادت تعصف بالنوع البشري وتشطب وجوده نهائيا من الكون خاصة لما أدى تقديس حرية الفرد إلى حد الاعتداء على قوانين الطبيعة والرغبة في استبدال سمات الخلقة وتغيير الجنس والتنظير للجندر والاستنساخ والحلم بالكائن الأرقى الذي يقهر الشيخوخة ويأتي الخوارق والمعجزات ويتغلب على كل الأمراض الموروثة والأوبئة القاتلة.