صوت ارتطام الباخرة بحافة المرسى على سواحل هافونغ، تلك المدينة الفيتنامية الساحلية القابعة في الشمال، هز الجميع. كان وصول الباخرة إيذانا بوصول دفعة جديدة من المجندين المجلوبين من دول شمال إفريقيا لخوض غمار حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
صراخ وعويل ونداءات بلغات متداخلة وأصوات تأتي من كل ناحية. لم أع ما أفعل. سرت مع السائرين أرتطم بهذا ويدفعني ذلك. ها نحن أخيرا في رصيف ميناء هافونغ، مدينة كُتب لأقدامنا أن تصافح ترابها، وقُدّر لها أن تشهد وصول وجوه غريبة لتصفعها رياح جنوب شرق آسيا القاسية. الملابس الجديدة الفضفاضة وحلاقة الشعر والحذاء ذو الساق حولتني فجأة إلى كائن غريب لا أعرفه، هل أنا الطاهر أم خياله؟ ودون وعي مني صرت أهذي بأسماء من عرفتهم في القرية أو بين الحقول. أسمع هتافات عالية ووقع أحذية موقعة تتحرك بسرعة في اتجاهات متعاكسة. الوجوه أقنعة والعيون مبحلقة في الفراغ، تيه وامتداد رهيب للزمن والمكان، وحشة وخوف وأوامر بلغات غريبة يبرطم بها جنرالات توشح أكتافهم نجوم تتلألأ فتعشي الأبصار.

ما تصوّرتُ لحظة أنّ تلك الليلة ستكون طويلة إلى ذلك الحدّ...! و ما كنتُ لأتخيّل قطّ أنّ تلك الليلة ستنهش حياتي فتكون أطول من عمري كلّه ..!
حين عدتُ إلى قريتي في ذلك الصّيف الثقيل بعد عام طويل من العمل في بلاد الغربة ، وجدتُ أمي قد نحَفَتْ بشكل لافت و أصبحتْ غير قادرة على تناول طعامها فقد تآكلتْ أسنانها ولم يبق منها سوى جذور سوداء ، انقبض قلبي حين فتحتْ فمها أمامي كطفلة صغيرة ،وأخذت تشير بسبّابتها إلى ما بقي من أضراسها ، لقد شاخت كثيرا ولم يبق من روحها إلا رائحتها الشامخة ، وسط وشاحها الأخضر الذي تربطه بإحكام تحت ذقنها ، يُشرق وجهُها النديّ زهرةً باسمة كصباحات الصّيف أو كأمواج البحر ، أو كطلْعٍ ثَلْجيّ لنخلة شامخة ...لطالما جابهتْ الألم و الرّياح بصمت الآلهة !!
لكن هذا اليوم ذُهلتُ عندما رأيتُ أسنانها ، فبدون تردّد وبسرعة اتصلتُ بطبيبها في مدينة صفاقس الدّكتور " وديع المسدي" الذي طلب مني بصوته البهيج كعادته ألاّ أعرضها على طبيب أسنان إلا بعد أن أراجعه هو في مصحة ابن النفيس بمدينة صفاقس خاصة وأنها قد تعرّضت إلى علاج إشعاعي منذ بضعة سنوات للقضاء على ورم خبيث خلف أنفها .
كانت علاقتي بالدكتور متينة جدّا لقد كنّا نتناقش في كل شيء ، كان دائما يطالع كتبا طبيّة باللغة الانجليزية و يعدّ نفسه للهجرة إلى أمريكا بعد أن هرب من عنصرية الفرنسيين القذرة التي تنخر قاع أعرق مستشفياتهم ، كان يقول لي دائما إنه لا يمتلك دهاء اجتماعيا رغم كفاءته و خبرته العالمية لأنه لا يعرف كيف يكذب ، هو طبيب يقول الحقيقة كما هي و تلك أكبر مشكلة يعاني منها ، كانت نقاشاتنا عادة تستغرق الوقت الذي تتلقّى فيه أمي العلاج الإشعاعي ، و لكن الرائع في كل ذلك هو علاقته بوالدتي والتي ما إن رآها في المصحة في ذلك اليوم حتى قام من مكتبه وعانقها ثم قال لها بكل حبّ ، والفرح يشعّ من عينيه بصوته البهيج الضاحك :

عندما أفقت من قيلولتي، لم أشعر برغبة في النهوض من سريري. لم أكن أشعر أبدًا بالاسترخاء ولا بالسعادة. كان جسدي كله متعرقا، فالحرارة كانت في ذلك اليوم من شهر يوليوز كأنه لفحة من جهنم. تنهيدة تسللت من بين ضلوعي دون إذن مني. الهواء الساخن المتسرب من شباك غرفتي أثار شهيتي للماء، مددت يدي إلى طاولة صغيرة جانب السرير وتناولت قنينة زجاجية وارتشفت رشفة ما زدت عليها لكون الماء قد صار دافئا لا يروي ظمأ. بعدما كنت متكورا على نفسي، طرفاي العلويان يشدان على طرفي السفليين من ركبتي اللتين قربتهما من بطني، تماما في وضعية جنين، غيرت وضعي فبقيت مستلقيا على ظهري، لأني شعرت بضيق حيث لم تكن نفسيتي مرتاحة بما يكفي، ربما كنت مهموما من شيء مجهول، أو ربما كان ينبغي علي اتخاذ قرار في مسألة ما ولم أدر كيف. في لحظة وأنا مغمض العينين شعرت وكأني جسد بلا روح، قد فقد مخي بوصلة تفكيره، وضاعت من ذاكرتي قنوات الذكريات. أي حيلة كانت ستنقذني للوصول إلى ماهية اللحظة وتحديد تواجدي طبقا للظروف الزمنية والمكانية. بقيت مغمض العينين، كجثة هامدة والعرق يتصبب مني، بلا مبادرة، أية مبادرة. لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا على هذه الحالة التي توقف فيها كل شيء، حالة شبيهة بعدم الوجود.

كانت جالسة على كرسي، خجولة، نظراتها مضطربة، تراقب حركات رجليها النحيلتين. تخبئ يديها تحت ابطيها حتى ينتعشا بحرارة جسدها الصغير. كان يوما باردا جدا، فصل شتاء بدون أمطار. حلت محله برودة تصطك معها الاسنان وترتعش معها الأبدان. ظلت جالسة لا تتحرك وأمامها صينية متوسطة الحجم من الخبز البلدي. مررت من امامها دون أن أنتبه اليها. كنت في حديث مطول مع صديقتي. فجأة، وأنا أبحث عن هاتفي في حقيبتي، لأنني أكره أن أنساه، لقد صار جزءا من حياتي اليومية. قالت لي صديقتي، بصوت حزين: انظري، ما هذا الظلم. فتاة مكانها في المدرسة ليس هنا وسط هذا الجو البارد وتحاول المسكينة أن تبيع القليل من الخبز.
لم تنته معركة البحث عن هاتفي، والتفت حيث توجد الفتاة، اندهشت ثم قلت لصديقتي: أظن أنني أعرفها. ابتسمت صديقتي ولست أدري لماذا. اقتربت من الفتاة، رأسها كاد أن يقتلع من مكانه من شدة الانحناء. ثم رفعته ببطء ونظرت الي بخجل شديد، خجل ممزوج بالحزن والفرح. وأعادت لف شالها على رأسها ووجهها حتى لا تتأثر بقوة البرودة التي تشل كل حركة او ربما حتى لا يتعرف عليها أحد.

صار الوقوف أمام البحر دأبها منذ دهر، لا تفارقه إلا لتعود إليه، تفتح ذراعيها وتجري نحوه كالمتأهبة لاحتضان هذا المدى المائي الأزرق الرحب الرهيب، تتعطر بأنفاسه وتتطهر من أدران الحياة بمائه العذب وترتق جراح نفسها برائحته النقية الطاهرة وتطهر جراحات روحها بملوحته. هي تدرك أن أعماق البحر نقية عفيفة لا تقبل الغرباء، تلفظهم وتتخلص من بقاياهم، تحافظ على نقائها وطهرها. تعلمت أن البحر عفيف وعنيف، تتخلص أحشاؤه من كل غريب. يكشف أسراره ويبسطها أمام الجميع، لا يأبه لعيون العابرين المتطفلين والفضوليين.
تجوب الشاطئ جيئة وذهابا. تتوقف أحيانا لتملأ رئتيها بالهواء الرطب، ثم تنحني لتخط بعض الحروف والتواريخ على الرمال الندية. تتأمل تلك الحروف والأرقام مليا، تدور حولها، تتفرسها من كل الجهات، تحاول قراءتها مقلوبة، تقف بينها والماء لتحميها من الموج المندفع. لا تريد لتلك الحروف أن تُمحى. لكن الماء مخادع، يتسرب بمكر يلتهم تلك الحروف بلطف وقسوة، يبدأ بقضمها شيئا فشيئا، يغور في النتوءات، لا تراه العين، يترك آثاره على حبات الرمل فتتلاشى تلك الحروف. ثم يتوغل بين الحروف فيُفنيها. ثم يعود القهقرى ليتطهر من جريمته ويتلاشى بين أحضان والده.

"ر- س" فنان مشهور، في النحت له صولات وجولات،قرأ كثيراً عن أشهر النحاتين،قلد بعضهم في البدايات ولكنه سرعان ما ثار على آخرين في النهايات، آخذهم على رسم الرؤوس تحديداً. ولكي ينفرد عنهم، انبرى ينحت تماثيل بديعة، يتفنن في تشكيلها، دون رأس، كان يقول: " كل شيء إلا الرأس، الرأس سبب كل النزاعات."
تنتابه حالات سهوم، ورؤى في النهار وهو ينحت.. مرة ظل مدة طويلة يشتغل على "جسد" أتعبه نحتُه، لم يسعفه في تشكيله غير شوق ممزوج بأصباغ حنين الشعراء، إلى أنِ استوى التمثال أخيراً على شكل جذع دون رأس، دون ذراعيْن، دون ساقين، وفي فورة التماهي مع التمثال الذي أرهقه أياماً، وقبل أن يكتمل على الصورة التي يعشق، يسمع صوتاً يهتف له في الصالة، اللكنة إسبانية لبيكاسو، قال له مُستنكراً :
"تمثالك! هل هو من المريخ ؟!.. أسبغ عليه صفات الكائن البشري، هذه نصيحتي لك".

- هل قررتَ أين ستدفن؟
- نعم، في المقبرة القديمة. هناك على الأقل سوق أسبوعي يؤنسني ضجيج باعته. أكره صمت المدافن لأنه يزيد الوضع بؤسا.
- ومن قال أنك ستشعر بالوحدة؟
بدا الأمر نكتة قبل شهر، أما الآن فهي تُجري معي الترتيبات اللازمة للرحيل. دنيا بنت كلب! ولأنني ابن ناس فبطن الأرض خير من ظهرها هذه الأيام. طمأنت جاراتها بأنها أعراض شيخوخة مزمنة، وأن ثلاثين عاما من العشرة تشهد على لحظات جنوني. تأوهت إحداهن وهي تسرد فجيعة الترمل. الوحدة سم زعاف ينهش قلبها منذ رحيله.
- من يذهب للموت برجليه؟
- أنا !
طرقت باب جلول الفأر، وجددت وصيتي للمرة العشرين بأن يضع أسفل اللحد حجارة مبلطة. إلى أن ينخر الدود عظامي فمن حقي الاستمتاع بنومة هادئة. وبعد أن ينصرف المشيعون يتولى بيديه اللئيمتين غرس نبتة صبار عند رأسي. أرجو أن ينغرز شوكها في لحوم السكارى والمشردين، ويخدش أكف الطامعات في خيوط كفني، لجلب الحبيب ورد المطلقة.

في الطريق إلى بيروت كان السيد صلاح محشورًا بين السائق والراكب البدين الذي يجلس على طرف المقعد الأمامي. كان صباحًا مدلهمًا، ولم يكن ثمة رفاهية انتظار ظروف سفر أفضل بسبب التزام العمل في بيروت.
كان المقعد الخلفي كذلك مكتظًا، فقد شغلته سيدة كهلة وثلاثة أطفال وصبية جميلة تبدو في بداية العشرينيات.
لم يكن صلاح وسيمًا، وكانت لحيته التي أطلقها منذ فترة بعد التزامه الديني تزيد عدم جاذبيته خصوصًا، وأنه لم يكن يحسن العناية بها.
بعد تجاوز الحدود السورية وبعد تمكنه من التكيف مع الوضع المزعج في مقعده، وبعد أن غط الأطفال الثلاثة في النوم، التقت عيناه بعيني الصبية العشرينية في المقعد الخلفي. أجال النظر بسرعة في المكان لكي يتأكد أن أحدًا لا يراقبه، فوجد السائق مشغولًا عنه بأغنية فيروز التي ترافقهم منذ تجاوزهم حاجز التفتيش. أما البدين فقد كان منهمكًا بطريقة منفّرة في تناول العدد الكبير من السندويشات التي يبدو أنه جلبها من منزله. ولم تكن السيدة الكهلة في المقعد الخلفي نائمة، ولكنها كانت تغالب النعاس الشديد.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة