لم يكن في الجوار غيرها ليخدش الباب في ساعة متأخرة. يبدو أن المطر داهمها في كرتون زيت تبرع به الجار لإيوائها. رقة هذا الكائن تأسر سكان العمارة، لكن صغارهم لا يهتمون بالفرق بين دمية وقطة. آثار السلك الذي ربطها به أنذال صغار بادية على رقبتها. تموء وهي تتمسح بسروال نومه. لعلها جائعة!
سارع إلى المطبخ بحثا عما تبقى من سندويتشات الغذاء. معذرة يا صغيرتي، فالحرم المصون غاضبة في بيت العائلة. الشقة برأيها أضيق من كرتونك، ولا تليق بشاعر رأسماله في الحقيقة كومة أحاسيس، ونسخ أعماله الملقاة في أرجاء الغرفة.
هل يليق بشاعر مثلك أن تحاصره امرأة في زوايا أربع من الطوب والإسمنت؟ قدرك أن تتفجر دفئا ورقة لتذيب صقيع الحياة. هكذا أنتم أيها الشعراء! ثم انصرفوا إلى حيواتهم يديرونها بخبث ومكابرة، غير عابئين بسطوره الممددة على صفحات الجرائد.
شاعر.. ثم ماذا؟

تجمعوا عشاء في الزقاق المحاذي لبيت العريس. غمغم أحدهم مستنكرا قبل أن يمد يده لجيبه، ويدفع ثمن بضع قوالب من السكر ل"أعراب"، خامسهم الذي يملك الدكان كما يملك رقابهم كل آخر شهر. سحب أعراب من جيب سترته قارورة عطر يباهي بها بقية المفلسين.
ماذا لو أجّل عرسه لحين استلام الرواتب؟ غمغم ثانيهم مستنكرا، لكُنا أمطرناه عطرا وأشياء أخرى يُعز بها العريس عند الامتحان فلا يُهان!
لم يجدوا بابا ليطرقوه فتنحنح أعراب وتقدم. رائحة البخور امتزجت بروائح الدجاج المحمر والعطور الرخيصة. أزعجهم منظر الصبية وهم يلهون بأحذية الضيوف، لكن ما باليد حيلة. على أحدهم أن يتورد حياء وهو يسأل عن فردة حذائه قبل الانصراف.

خرج "بَّا إبراهيم" في ذلك الصباح البارد الذي كان ينذر بجو قارس يستوطن كل أرجاء المدينة. يجر عربته الكئيبة وراءه، يضع على رأسه طاقية تشكو الفقر والحاجة، باهتة تحميه من لسعات البرد. يتقدم بصعوبة وهو يجر العربة ويقف ليستريح كأنه جرى أميالا. ضعيف البنية التي أكلها الزمن وحولها الى جسد شبح. برجليه حذاء كبير الحجم وثقيل، ربما كان صدقة من أحد أو وجده مرميا على الطريق. تسمع خطواته عن بعد.
" بَّا إبراهيم" رجل مسالم وقنوع وطيب جدا، حتى إنه يمكنه أن يبيعك النعناع دون أن يطالبك بالمقابل. لا يعير اهتماما لتقلبات الجو، كأنه يتحدى بجسده الهزيل سخرية الطبيعة منه. يخاف كثيرا عندما يرى "المقدم" قادما نحوه، يعرق ويلتفت يمنة ويسارا كأنه يستنجد بأحد. يقول له المقدم "كم مرة قلت لك، لا تغير مكانك". يحني رأسه ويستعطفه ألا يأخذ منه عربته التي هي مصدر رزقه. يهدده أنه في المرة القادمة لن يتراجع عن قراره.

جلس على خوانه الخشبيِّ العتيق، قوي البنية رغم أعوامه الثمانين، مكشوف الرأس، تغطي وجهه المجعد لحية بيضاء كثيفة، يرتدي كعادته قميصا أزرقا خفيفا، وبنطلونا كحليا عاديا.
حدثني حامد عن البقعة الوادعة، التي هُجِّر أجداده منها، احتلَّها اللصوص، فصارت مملكة لهم، لأكثر من قرن ونصف من الزمن، ولم تندثر إلا قبل ستين عاما تقريبا.
غدا أغلب ساكنيها من آكلي السحت، وشذاذ الآفاق، وقاطعي الطرق، وأصدقاء لهم راضين بفعلهم، ومنتفعين منهم، وساكتين عنهم، وبعض الخائفين والمترددين.
خضعت الرواية لتكذيب الكثيرين إلى حدِّ الإنكار، فمتى بنى السارقون حواضرا، وأين كانت عنهم السلطات المتعاقبة؟!
بدأت الأحداث عام 1820، فقد كان حامد "الجدُّ" نائما، وحيدا في بيت أهله شبه المهجور.

أعطني شارة لتساعد هذا الغريب
أعطني وردة كي أحل الطلاسم
قبل المغيب
أعطني نجمة واحدة
دلني كيف أمسك بالقلب ليلا
وأغتصب الرجفة الواعدة
بزق من الخمر والحب والأصدقاء
الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة في قصيدة عن مدينة قسنطينة
حين نزلت إلى قسنطينة بعد غياب استطال ثلاثين عاما كانت تترد د في ذهني قصيدة الشاعر عزالدين المناصرة في مدينته الثانية قسنطينة التي عاش بها زمنا ودرس بجامعتها، كنت مثله أسال أين ابن باديس ومالك حداد وكاتب ياسين ؟ وأين ذلك الصخب الذي تفجر زمنا نشوة وشعرا وفنا وفكرا ،وأين القسنطينيات اللائي كن يتماوجن كسنابل القمح على إيقاع فرقة "العيساوة" في المسرح الجهوي في ليالي رمضان؟

كانا يتقاطعان كل صباح، فيحيي أحدهما الآخر ثم يواصل كل منهما طريقه ويمضيان في اتجاهين متعاكسين، وتظل كلماتها تدغدغ مسامه إلى أن يبلغ باب المؤسسة التي يشتغل فيها.
كلمتان ليس إلا فعلتا فيه هذا الفعل، أسرتاه وشدتاه إليها. في صوتها عذوبة وفي لحنها انسيابية فريدة، رقة ودفء وحنان. كلمتان تنثرهما في حياء فوق أديمه الجاف فتزهران دون انتظار زمن الإزهار، تتمردان على كل النواميس الطبيعية، تتحديان برودة الطقس وارتفاع درجات الحرارة، لا تخضعان لقوانين الفصول. كلمتان متمردتان تبوح بهما دون أن ترفع عينيها عن الأرض. لم ير عينيها يوما ولم يتأمل تفاصيل وجهها، يكفيه صوتها، هذا المغناطيس الآسر.
استعاض عن بصره بأذنيه منذ فقد حاسة البصر إثر تعرضه لمرض أصاب عينيه في عامه الثاني، فقَدَ بصره كله في لحظة واحدة، لم تفلح معه حبات بذور الحرمل التي أُرغِم على ابتلاعها، ولم تنفع معه التمائم التي علقتها والدته له على رقبته أو فوق أثوابه. ورضي بوضعه الجديد وكان لزاما عليه أن يرضى. كان أحب الأصوات إليه صوت أمه حين تناديه لتخرجه من وحدته وعجزه، تؤنسه تلك الكلمات القليلات التي تذكره كل مرة أنه ليس وحيدا في البيت وفي هذه الدنيا، وأن هناك من يرافقه ويراقبه ويرعاه. وحين غاب ذاك الصوت ظل وحيدا ولم تحتفظ مخيلته سوى بذلك الرجع من ذلك النغم الشجي الذي كلما استعادته ذاكرته الموبوءة انفجرت عيناه دموعا لا يحاول أن يداريها. يريد أن يبوح للعالم أنه ظل وحيدا منذ رحيل الغالية من الحياة.

انتظرت قدومها طويلا، وحين أتت بسنواتها الأربعين كانت ضاجة بالحياة والأنوثة، مفعمة بالأمل، مقبلة على المرح المتفلت من بين الأصابع، تلهج بالفرح الذي تلحظه عيناها السابحتان في لجج من الخيلاء من وراء الغيوم الداكنة. لم تعد تحفل للحزن واليأس، ولا بمشاهد الدم المتناثر والدمار والخراب.
تحدق في شاشة جوالها، تتصفح الفايسبوك وتكتفي بقراءة العناوين دون الغوص في التفاصيل، مملة صارت تلك الأشياء في حياتها، لا ترغب في الغوص بين تلافيف الأخبار ولا أن تتوه بين ثناياها. تكره التحليل والعمق. حسبها أنها ترمق الصور بعينين طافحتين بالأمل والتفاؤل. تحضن الحياة تماما كما تحضن أم رضيعها حبا وعطفا وخوفا.

ذات آخر نهار، سبق الليل المغيب إليّ. فكنت ألمح السحب سوداء، دكناء، تراقصها الريح، فتعبث بها في اتجاهات شتّى منذرة بهطول المطر. كنت قد نزلت للتّو من مكتبتي الخاصة إلى الشارع اقتنص لحظة امتلاء وتوهج بعد أن كنت منكبا على مواجهة هول الورقات البيضاء ورعبها. محاولا حلّ اشكالية التوفيق بين وجوديّة متعالية وروحانيّة محايثة، ذلك أني عندما أصاب بدوار لولبيّ وأشعر بغثيان تفاهة اليومي الروتيني الذي كان يصادفني بين الفينة والأخرى.
اشتاق إليك صديقي ، فأقصدك، اطلب منك المواساة والجلوس في ورشتك، أراقبك عن قرب وأنت تلاطف الحديد أو آخذك في نزهة قصيرة كما كنّا قد تعودنا على ذلك، فتقبل دوما رغم ارهاق العمل الذي كان باديا على وجهك. كنت لا تطيل معي التجوال وبسرعة تودعني لتتركني للضياع الذي يؤول بي دوما لأجدد التأمّل لعلي أجد فيّ مسالك ملغمة هداي.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة