لمح فردة حذاء مقلوبة أمام باب الصالون . منذ كان طفلا ، كلما مر بصندل ، أو بَلْغَة ، أو حذاء مقلوب ، إلا وطلبوا منه تعديله ، وإعادته إلى وضعه الطبيعي . لم يسأل الكبار لماذا يتضايقون من ذلك .
عندما أصبح رجلا بدأ هو الآخر يتضايق من الأحذية المقلوبة ، ويطلب من يمر بجانبها بأن يعيدها إلى وضعها الطبيعي ، دون أن يعلم سبب ذلك .
بعد سنين طويلة ، اكتشف بأن الناس تتذمر من الأحذية المقلوبة ، لأنها تعتقد بأنها تجلب النحس والشؤم والخصومة لأهل البيت ، وتُغضب السماء ، وتمنع البركة من دخول المنازل.
قال لنفسه :
ـ والآن ، بعد أن عرفت السبب ، وزال العجب ، هل ستنهض لتعديل وضع الحذاء ؟

مرت كل هذه السنين وأنا أعتق الحب في قلبي، ظنا منها اني قد سلوت عنها، ولكن هل ينسى القلب من احب، والحقيق به اكثر انه لا ينسى الذين احبوه، قد صُمْتُ عن الحب منتظرا ان يطلع عليَّ هلالها، منتظرا سُقياها كي تبتل عروقي بشراب الحب.
كنا صغيرين والحب يضم قلبينا بخيطه السماوي الصافي كفراشات لطيفة في بستان زاهي، في كل مرة يجمعنا الرصيف أحس بنظراتها تخترقني، آه لو كانت تستطيع ان تقرأ ذلك النقش على اطلال قلبٍ غابت عنه يمامته منذ زمن بعيد، آه لو كانت تستطيع ان تقرأ ذلك الرسم الفرعوني، انه الحب المعتق والعشق المسجى في البردي، النقش الازلي العريق.

هل يمكن للإنسان أن يتأقلم مع الفشل، نعم وهذا هو الصواب، فاعتياده يفتح له باب الصبر والمثابرة، والمحاولة ولو كانت مئة مرة، فطالما هناك ليل هناك نهار، والأسود يليه الأبيض، وبدل أن تصبح سلاحا ذا حدين يتناوب حداه على انتزاع انسانيتك، لتصبح إنساناً عديم الضمير، أو مومياء.
حسنا إني أقبل أن أكون مغناطيس الفشل، لكن هل بهذه النتيجة انطوى كتاب الأقدار، لا وألف لا، ففكرة الفشل تُمررك لفشل آخر، لتصبح لاعباً احتياطياً في نزال غير متكافئ، متى مر الفشل أمامك، ورأى سُحنتك الخائفة استضافك على مائدته، ليهمس لك أن تستعد للفشل المقبل.

استهلال:
هي بعض من رواية، تدور أحداثها في زمن غير الزمن، وفي وطن غير الوطن، وهي تطمح في جمعها أنْ تحرّك في كلّ إنسيّ ما يخْشى من سواكن آلامه وجراحه، تلك التي، قد زعم اندمالها، و هي التي لا تندمل . هي بعض رواية تحاول اقتطاع نسيج، ترديدا لرجْع صدى صوت المرء الخافت، حين يغرق في ظلمة نفسه، عندما تنوء به عزائمه، وتنكسر اشرعته على صخور شرائع واقعه المرّ، مرارة علقم لم يستسغه في كل مرّة حاول فيها، ولكنّه كان يفشل. رواية وليست كذلك، ولكنّها هي ترسم أحداثا لا تقع . وقد تقع حين تنغرس الذّات المنهكة في تربة يأسها وفشلها، حياء الخجل، أو شجاعة الخوف حين ينعدم الأمل في خلاص لا يأتي بقدر ما ننتظره، هي تطمح الى بناء جدار لمداراة وهن يلازمها كثوب تلحّف الجسد حتى صار منه وهو ليس منه، آدمي يطلب إنسيته ولا يدركها وهي منه كالجلد من العظم، نشدانا لممكن يقبل أو لا يأتي، ولكن ربما صوْنا لشرف تليد" لم يرقْ حوله دم"[1]..

هذا الاعتراف ليس خطيرا أبدا، فقط هو يشبه فراشة تراود شمعة، فراشة تراود شعلة نار، من أين تأتي الفراشة اللطيفة بالشجاعة لتراود النار المشتعلة. فالفراشة مليئة بكل أسباب الضعف. إن اللطافة هي الشيء الحاد، هي شجاعة الفراشة وهي تسوق نفسها الى معانقة النار المقدسة.
الحب شيء غريب، الحب هو تلك النار المقدسة التي تروم الفراشة اللطيفة أن تغتسل من ينابيعها. نار تنبع من المحبوبين، كل منهما فراشة ونار، فراشة لذاتهم ونار المحب الفراشة الذي يحاول ان يقترب متوجسا.
من أنتِ كي لا يكون الأمر أشبه برجم الغيب! فلأسمك، والاسم عنوان البيت، عنوان البرقية، كي اتمكن من مخاطبتك، في اللحظة التي أسميك افصلك عن ذاتي كي اراك في غير مرآتي ولتكسري انت مرآتك لتري جمالك الحقيقي فيّ.

كان افتتاح عيادة الدكتور صفوان النَّفسيَّة حدثا هامَّا، وضرورة مُلحَّة، فالحرب أكلتِ الأخضر واليابس.
أدمى الحزن قلوب المساكين، كثر المُتسوِّلون، شاعتِ السَّرقة، وتسيَّد الفاسدون.
انتشرتِ أدواء الرُّوح بشكل رهيب، عمَّ القلقُ القلوب، وسكن الخوفُ النُّفوس.
توتَّر الشَّعب، انفصم البعض، وتغلَّب الفرح المفرط على آخرين، دون سبب وجيه.
تجاوزتِ السَّاعةُ التَّاسعة صباحا بقليل، استقبل الطبيب مريضَه الأوَّل، استلقى على أريكة الفحص، وعرض معاناته:
- تصوَّر يا طبيب، أنا أعمل طالب مساعدة، مُرخَّص لي بالعمل من البلديَّة.
أجني يوميا عشرة آلاف ليرة تقريبا، أدفع منها ألف ليرة ضريبة، بينما يحصل المُتسوِّل غير المُرخَّص على ضعفي دخلي، ولا يدفع قرشا واحدا للخزينة .

لم يكن تواجدي في ذلك المساء البعيد صدفة عابرة،كنت عازماً على تشييعه ومصراً عليه،لذلك لم أعدل عن قراري ولم أخضع لرغبات الصحب بالعدول بعد أن آلمني كثيراً مشهد تشييعه اليتيم الى مثواه الأخير،أربعة رجال يحملون على كواهلهم الضعيفة نعشا خشبيا بلا سقف،جوانبه البالية تلطخها خربشات باهتة وكتابات قديمة لم تفلح عيناي في قراءة محتواها الغامض،يمضون به مسرعين عبر شارع خاوٍ من الناس،يتسابقون للوصول الى مقبرة ليس على مشارفها الجرداء أي أثر لقبر أو لشاهدة قبر،ليس سوى حفرة تفغر فمها الأسود في وجه السماء،يتوقف المشيعون عندها ويطرحون التابوت على الأرض،تمتد كفا الحفار الغليظتان الى الجوف الخشبي المفتوح،حيث رأس الميت المقطوع ينام مستسلماً في بركة الدم المتخثرة،تنتزعانه من لزوجتها فيتصاعد بخار الدم الأرجواني،مخلفاً وراءه جسداً نحيفاً تستره أسمال قديمة بالية،يراقب الرجال الرأس المقطوع ويحزنهم إنكسار الوجه المستسلم بوداعة بين يديّ الحفار القبيح،تعتريهم الشفقة عليه وتسري عدوى الأنكسار الى إفئدتهم القاسية،تتراخى مشاعرهم الصلبة وتتندى عواطفهم اليابسة،حتى يعيدها الى ما كانت عليه صوت الحفار المشروخ :

كانَ الوقتُ ظهيرةَ يوم تموزيّ تُحرقُ شمسُه الصفيحَ والحديد خرجتُ لأستظلّ بشجرة توتٍ عملاقة وُجدت خطأً في صحراء بلادي,وبلادي كلُّها صحراء لا ماءَ ولاخضرةَ ولا وجهَ حسن,زوّادتي التمرُ واللبن والخمرُ.
آنَ وضعتُ خطوتي الأولى على عتبة الصحراء اختفت الأفاعي و النمورُ والضباع,كأنّي خارجٌ من صفحات التاريخ ....شبيهُ كلكامش وعُطيل أو الشنفرى,كأني رجلٌ من المطّاط:لا الماءُ يبلّله ولا الأرضُ تتحمّلُ قفزتَه وصلتُ إلى بلاد تحطُّ النوارسُ فوقَ يساره والحمائمُ فوقَ يمينه,أتنفّسُ مع الأشجار وأتموّجُ مع الأنهار,أتيتُ زحّافاً من بلاد كنتُ أراقصُ الأفاعي فيها أضعُ يدي في أفواهها ملتقطاً السمومَ والأحجارَ المتوهّجة....تلسعني,فتموتُ هي,أجعلُ أجسادَها حطباً لمدفأتي الحديد يجتمعُ حولَها الأولادُ والأحفادُ الهاربون من زمهرير الشمال, وأنتم لا تعرفون شيئاً عن الشمال و زمهريره,إن حدّثتكم عنه صيفاً لبحثتم عن الجحور والكهوف التجاءً من صفعات الهواء وألواح الثلج التي ترتطم بالوجوه.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة