رحل الى المدينة التي طالما حلم بها. ترك أهله وقريته يبكون رحيله. رفض أن يلتفت الى الوراء حتى لا يحن الى دموع أمه المريضة ووهن والده.
عند كل ليلة، لما كانوا يتحلقون حول مائدة العشاء، التي لا تعرف من العشاء سوى بعض الزيتون الأسود وكسرة خبز يبست من كثرة الانتظار وصينية شاي. كان عند كل رشفة، يظل مطأطئ الرأس كأنه يحمل مشاكل الدنيا على كتفيه ويطلق آهات متتالية تفر من سجن صدره.
تسأله امه التي اقعدها المرض منذ مدة:
-مالك؟ قل بسم الله وكل. ستفرج ان شاء الله.
رفع اليها بصره وكله حزن وشفقة وحسرة. تنهد وهمس كأنه يخاف أن يسمعه أحد:
-الحل الوحيد هو الرحيل الى المدينة.

سُئِلُ مرّة كيف ينحت كيانه؟ أجاب: بالاعتدال في نزعة التملّك..
***
شعر بسعادة لا تُوصف بنقلته إلى قريّة ريفيّة تميّزت بهدوئها وبمناظرها الطبيعيّة الفاتنة، وما ترجاه وجده: ذلك أن هذا المكان مدعاة للتأمّل والتركيز ومساعد لإنجاز بحثه الجامعيّ بكلّ عزم وثبات. والأهم أنّه وجد نفسه يقيم علاقات مع أهلّها الذين حافظوا على قيمهم البدوية الصافية فأفاضوا عليه بكرم الضيافة واستطاع بالسكينة والاطمئنان اللتين هما أهم خصاله أن يترف كناسك زاهد متفرغ للكتابة بأحاسيس مرهفة فينساب قلمه معبرا عن افكاره بانتظام حيث أنّه في كل أسبوع يخيط حبكة الخواطر الذاتية.
وأحيانا كان فيما يكتب وصف دقيق لتفاصيل الحياة اليوميّة وما يصادفه من مواقف أو أحداث في هذه القرية ولم يكن ليترك الفرصة تمرّ دون تدوينها ولهذا التزم بينه وبين نفسه أن يستمر في التأليف ولا يكتفي بذلك بل قرر ان يبعث ما يكتبه من خواطر وتأملاّت شاردة تملّ شتات ذكرياته إلى ركن ثقافي ليتم نشرها في كل أسبوع. وكانت الغاية كما صرح لي بذلك ذات يوم أنّها طريقة من خلالها لا يقطع صلته بأناس عرفهم قبل نقلته وتمتنت علاقته بهم وحدثني عن صدى اقبال البعض منهم بشراء الجريدة للإطلاع على ما يكتب حتى لا تنقطع اخباره عنهم.

انتهت المذبحة وتحولت ساحات آسفي إلى مشهد من مشاهد الحروب الكبرى، جثث للفرسان والنساء والأطفال والخيول، وفوقها طيور جارحة كانت في الانتظار. صمت لا تجرحه سوى رياح خريفية متأخرة وبكاء خفي يتلوه نواح بعيد.
صاح البرّاح باسم القائد عيسى بن عمر العبدي، وهو يعْبُرُ الساحة ودروبها، ان أهل الفتنة والسيبة من أولاد زيد قد نالوا العقاب الذي يستحقونه.
دخل القصبة مُنتشيا وغاضبا، رمى سلهامه الأبيض الملطخ بالدم في المدخل، فأسرع تابعه يلتقطه من الأرض. توقف فجأة أمام مدخل القبة ملتفتا لا ينظر إلى أحد وصاح، كأنما استفاق من غفلة ضائعة: حويدّه الغدّارة .. حَضْروها ليا دابا.

نمتُ نصفَ قرن,وفقتُ الآنَ لأُفيق احتفالاتِنا بيوم الشعر العالميّ في بيوت عامودا الطين,تلك التي تمكثُ في الأطراف بعيدةً عن لصوص النهار وحرافيش البعث.من خلال الشعر تعرّفتُ على ماركس السرياليّ,ومن خلال رياض صالح الحسين عرفتُ حسين مروة,ومن خلال محمد الماغوط دخلتُ عالمَ الثورة ولن أخرج منه,فالحياةُ ثورة دائمة"لأنّها فكرة,والفكرةُ لا تنتهي أو تموت,بل تجدّد".الشعرُ علّمني أن أثورَ على الذات والآخر.الذاتُ تودُّ البقاءَ في تعاليمها المُغلقة,فأوّلُ الثورة على الذات هو كسرُها والابتعادُ عنها لتصبح الذاتُ هي الآخر"الكأسُ أجملُ مكسورةً ممّا هي معافاة".والدي كان مَعلماً في الفقه واللغة ومُعلّماً في تفسير الشعر وتفكيكه,أتذكّرُ تعاليمَه وأتلمّسُه الآن حين يشرح بيتاً واحداً لعدّة ساعات لابن الفارض,فأخرجُ من جلسة أبي,وكُلّي روحانياتٌ ومواقفُ ومخاطبات,من تلك الجلسات تعلّمتُ النظم الكلاسيكيّ موسيقياً,وتعلّمتُ النظم التفعيليّ في الثانويّة,ثرتُ على النظمين تيمّناً بمكتبة أخي محمد عفيف التي كانت تضمُّ سعدي يوسف وبريفير وسان جون بيرس وأدونيس,في مناخ رطب كنتُ أقرأُ أدونيس,فخَطَفَ والدي الكتاب مني ليعيده إليّ قائلاً:"أنت تقرأُ أدونيس دونَ أن تفهمَه".للأمانة لا أفهمُه حتى الآن.فلماذا أفهمُ ما يُقال؟.

هذه الفرحة التي كانت قلوبنا إليها ظمأى، قلّصتها في قلبي غصّة. أقول "قلبي"، أجد الكلمة وحدها مناسبة.
جذور الغصة ترسخت في العمق على مسافة أربعين سنة ونيف... عمق سحيق ..
كم هي جميلة وهران...
الكورنيش أو Front De Mer قِبلتنا كل مساء. يبدو بهيجا وهو يشرع صدره الدائري على زرقة المتوسط من عل، تفتح المقاهي والمقشدات ذراعيها لنسائمه اللطيفة وهي تستقبل مرتاديها من كل الفئات والأعمار، العاشقين لمتعة اللقاء والشائقين إلى أطباق الأحاديث الشهية التي لا تنتهي... منهم أبي وبعض أخوالي وأقارب وأصدقاء جدد وقدماء من المدينة...

حين بلغت بنا الحافلة قمة الجبل، بعد رحلة شاقة مخيفة مرعبة، هدأت نفوسنا وسكن رعبنا. وأوقف المادري المحرك، فعم السكون واستحالت الحافلة جثة هامدة بلا حراك بعد أن كانت ضاجة بالهدير والأزيز، ولم نعد نسمع سوى أصواتنا المتناثرة يتردد صداها بين هذه الفجاج السحيقة.
كان المكان الذي اختاره لنا المادري لنتخلص فيه من وعثاء السفر منبسطا فوق القمة الجبلية العالية، بقعة فسيحة سواها عجوز أرميني وهيأها وظل يؤجرها للعابرين، فقد بنى فيها ما يشبه دورة المياه والمقهى. وحدثنا المادري أن أحد المسافرين عثر عليه ميتا ذات صيف لفه في إزار قديم، بعد أن استولى على ما كان معه من مال، ثم دحرجه من الجهة الجنوبية للجبل حيث الصخور الناتئة والهوة السحيقة، فتدحرج ما يزيد عن الميلين ولم يُعثر على جثته، فلا أحد يعلم أأكلته الذئاب أم ابتلعته الأرض. والمادري رجل مديد القامة طوحت به المقادير من مكان إلى مكان حتى استقر في مدينتنا انتدبته إحدى الشركات السياحية ليقود حافلة يجوب بها البلاد طولا وعرضا يعرّف السياح عن وطن لا يعرف أبناؤه أكثر تفاصيله. يحمل في جعبته حكايات لا تنفد، عاش بعضها، ورسم بخياله أكثرها.

استيقظ كعادته قبل الجميع. تأبط حذاءه القديم وسرواله المتآكل من كثرة الاستعمال وفتح باب البيت ببطء شديد وهو يتمنى في قرارة نفسه الا يخرج أصواته المزعجة بسبب الصدأ الذي استوطنه منذ مدة. اتكأ على الحائط، وترك رجليه الهزيلين يبحثان عن طريقهما بين فتحتي سرواله الواسع والعجوز. ولبس حذاءه الدي صار يئن من كثرة المشي وانطلق كالريح، لا يلوي على شيء سوى أن يصل في الموعد المحدد الذي اعتاد أن يكون فيه كل يوم. جالسا على تلك الربوة، وحيدا، يراقب زرقة المياه ويستمتع بمرور الباخرة الفاخرة التي تتلألأ بأضوائها كأنها نجوم تسبح في سماء صافية في يوم من أيام الصيف. يجلس بهدوء، وينتظر. ملامحه تحكي في لحظة، الفرح والحزن والمتعة معا. كمن خبر الدنيا وتكالبت عليه المآسي والأحزان. ينتظر ويخلو بنفسه في عالم الباخرة البعيدة، ويرى نفسه يتجول بكل خفة كأنه من أهلها. الكل يحترمه ويسلم عليه ويتمنى له مقاما طيبا. وهو يتحرك بخفة متناهية كفراشة تزهو بألوانها أيام فصل الربيع. ترتسم الابتسامات على ملامح وجه الطفولي الذي هاجمته تجاعيد الزمن قبل الأوان.

"سكاب"، يقول جدي الشاعر، حصان عِلق، لا يُعار ولا يُباع، الحبل فوق غاربه، يظل يصهل، وينتظر صاحبه دون جدوى؛ جرب ركوبَه أطفال كثيرون، لكنه بقوة يلفظهم،ويطيح بهم فوق الأرض، تصدر عنهم أنّات،فلا تحملهم أرجلُهم من جديد بعد ذلك،إلاّ بعد إسعافات.
وفي يوم مختلف،ظهر"حنظلة" مُنسلاً من رسومات ناجي العلي، مسح على ظهر"سكاب"، وشوش في أذنه بكلام ،فحرك رأسه، وحمحم،جثا كما الجمل،صعد "حنظلة وطار الحصان إلى عالم الألوان..
عاد حنظلة،بعد جولة دامت ساعات بصورة غير التي غادر بها البلدة حكى لنا نحن- أقرانَه- بأن "سكاب" طاف به بلاداً غريبة،الناس فيها مختلفون،هم كثيرون ويتحدثون لغات مختلفة،ومع ذلك يتفاهمون ،يكرهون اليباب،ويحبون، بدلاً عن ذلك، رائحة التراب، لا يشغلهم غير عشق النبات، يحرثون الأرض، ويغرسون الأزهار،والرياحين،ولا يصادرون الألوان في البساتين، لا يتنخمون أمام الناس، للظل عندهم، في النفوس ،مسقط ، وللون فتنة، وللضوء كُوات..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة